الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نَظَرِ إمَامِهِ أَوْ عَكْسُهُ الْعَمَلُ بِالْمَرْجُوحِ فِي نَظَرِهِمَا مَعًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَإِنْ قُلْت قَوْلُ شِهَابِ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا الْحُكْمُ وَالْفُتْيَا بِمَا هُوَ مَرْجُوحٌ فَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ. . . إلَخْ مَعَ قَوْلِهِ أَوَّلَ الْكِتَابِ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ وَلَا مَعْرِفَةِ أَدِلَّةِ الْقَوْلَيْنِ إجْمَاعًا تَدَافَعَ وَتَنَاقَضَ كَمَا تَوَهَّمَهُ الْقَاضِي بُرْهَانُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَبْصِرَتِهِ وَبَيَانِهِ بِأَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. . . إلَخْ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِأَحَدِهِمَا ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفٍ يَنْظُرُ فِي الرَّاجِحِ مِنْهُمَا.
[تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَتَسَاوَتْ وَعَجَزَ عَنْ التَّرْجِيحِ]
وَقَوْلُهُ إذَا تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَتَسَاوَتْ وَعَجَزَ عَنْ التَّرْجِيحِ. . . إلَخْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِغَيْرِ الرَّاجِحِ إلَّا بَعْدَ إمْعَانِ النَّظَرِ هَلْ فِي الْقَوْلَيْنِ رَاجِحٌ أَوْ لَا حَتَّى يَعْجِزَ وَيَحْصُلَ التَّسَاوِي.
قُلْت لَا تَدَافُعَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَلَا تَنَاقُضَ لِأَنَّ مَا كُلِّفَ فِيهِ بِالنَّظَرِ إنَّمَا هُوَ حَيْثُ يَكُونُ فِي الْقَوْلَيْنِ رَاجِحٌ وَمَرْجُوحٌ وَالْمُقَلِّدُ أَهْلٌ لِلتَّرْجِيحِ، وَحَيْثُ أَجَازَ الْحُكْمَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فَرَضَ الْقَوْلَيْنِ مُتَكَافِئَيْنِ لَا رَاجِحَ فِيهِمَا فِي نَظَرِهِ فَلَا تَدَافُعَ لِعَدَمِ شَرْطِهِ الَّذِي هُوَ اتِّحَادُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
فَإِنْ قُلْت قَوْلُهُ أَمَّا الْحُكْمُ وَالْفَتْوَى بِمَا هُوَ مَرْجُوحٌ فَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ فَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِالْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِهِ وَأَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا عِنْدَهُ وَمُدَافَعٌ لَهُ قُلْت الَّذِي حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَمَنْعِهِ إنَّمَا هُوَ أَنْ لَا يُفْتِيَ بِالرَّاجِحِ فِي نَظَرِهِ وَلَا فِي نَظَرِ مُقَلِّدِهِ وَإِمَامِهِ مَعًا وَاَلَّذِي جَوَّزَ فِيهِ الْحُكْمَ وَالْفَتْوَى بِالْمَرْجُوحِ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ رَاجِحًا فِي نَظَرِ مَتْبُوعِهِ مَرْجُوحًا فِي نَظَرِهِ هُوَ فَلَمْ يَخْرُجْ فِي مَحَلِّ الْجَوَازِ عَنْ الرَّاجِحِ جُمْلَةً وَفِي مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ قَدْ خَرَجَ عَنْهُ جُمْلَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قُلْت قَدْ نَصَّ ابْنُ رُشْدٍ صَاحِبُ الِاسْتِظْهَارِ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ الْمُقَلِّدَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ الْمُسْتَفْتِيَ عَلَى قَوْلٍ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى مَا لَيْسَ بِأَفْضَلَ وَإِنَّمَا الْمُفْتِي الْمُقَلِّدُ بِمَثَابَةِ مَنْ عِنْدَهُ وَصِيَّةٌ فِي بَيْتِهِ لِأَقْوَامٍ شَتَّى فَعَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَ كُلَّ مَنْ لَهُ عِنْدَهُ وَصِيَّةٌ مِنْ وَصِيَّتِهِ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَوْ تَرَكَ فَنَقُولُ هَذَا خِلَافٌ لِمَا قَدَّمْته وَمُبَايِنٌ لِمَا قَرَّرْته وَأَتْمَمْته قُلْت لَا مُخَالَفَةَ فِيهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ وَمَحْمَلُ هَذَا عَلَى الْمُقَلِّدِ الصِّرْفِ الَّذِي لَا حَظَّ لَهُ فِي مَدَارِك التَّرْجِيحِ لِأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّفَ مَا لَيْسَ مِنْ وَظِيفَتِهِ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ النَّهْيِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَهَذَا بَيِّنٌ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ.
وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ الَّذِي الْكَلَامُ الْآنَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي جَوَابِهِ عَلَى حِكَايَةِ الْخِلَافِ مِنْ غَيْرِ إشَارَةٍ إلَى أَطْرَافِ التَّرْجِيحِ وَتَمْيِيزِ الْمَشْهُورِ وَالصَّحِيحِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ وَاخْتِيَارُ ابْنِ الصَّلَاحِ وَحَكَى الْبَاجِيُّ وَالْقَرَافِيُّ وَالشَّاطِبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَظَاهِرُ فَتْوَى الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ الْأَصْبَهَانِيِّ الْجَوَازُ لِأَنَّهُ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ لَهُ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ لَا هُوَ مُمْسِكُهَا وَلَا هُوَ مُطَلِّقُهَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ قَائِلُونَ يُؤْمَرُ
بِالْإِنْفَاقِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الطَّلَاقِ فَلَمْ تَفْهَمْ الْمَرْأَةُ قَوْلَهُ فَأَعَادَتْ، وَقَالَتْ رَجُلٌ لَهُ زَوْجَةٌ لَا هُوَ مُمْسِكُهَا وَلَا هُوَ مُطَلِّقُهَا، فَقَالَ لَهَا يَا هَذِهِ قَدْ أَجَبْتُكِ عَنْ مَسْأَلَتُكِ وَأَرْشَدْتُكِ إلَى طَلِبَتِكِ وَلَسْتُ بِسُلْطَانٍ فَأَمْضِيَ وَلَا قَاضٍ فَأَقْضِيَ وَلَا زَوْجٍ فَأُرْضِيَ فَانْصَرِفِي فَانْصَرَفَتْ الْمَرْأَةُ وَلَمْ تَفْهَمْ جَوَابَهُ وَسُئِلَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ الْمُفْتِي يُخْبِرُ الْمُسْتَفْتِيَ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ.
فَأَجَابَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْمُسْتَفْتِيَ إذَا اسْتَفْتَى الْمُفْتِيَ فَيُخْبِرُهُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ فِي أَيِّ الْأَقْوَالِ شَاءَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ أَبَا مُصْعَبٍ وَابْنَ وَهْبٍ فِي مَجْلِسٍ وَغَيْرَهُمَا كَذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَقْصِدَ أَيَّهُمَا شَاءَ فَيَسْأَلُهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْمَلَ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَهُمْ أَحْيَاءٌ أَوْ يَخْتَارَ مَا ثَبَتَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ قُلْتُ لِأَبِي مُحَمَّدٍ فَمَا تَقُولُ أَنْتَ فِي ذَلِكَ قَالَ أَمَّا مَنْ فِيهِ فَضْلُ الِاجْتِهَادِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلُ الِاخْتِيَارِ قَلَّدَ رَجُلًا يَقْوَى فِي نَفْسِهِ فَاخْتِيَارُ الرَّجُلِ كَاخْتِيَارِ الْقَوْلِ انْتَهَى.
قُلْت: وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْقَوْلِ بِجَوَازِ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ الْمَيِّتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ وَغَيْرِهِ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَحَكَى الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ؛ لِأَنَّ الْمَذَاهِبَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ أَصْحَابِهَا، وَلِهَذَا يُعْتَدُّ بِهَا عِنْدَهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ، وَقَالَ شَرَفُ الدِّينِ التِّلْمِسَانِيُّ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ وَلَا هُوَ مَذْهَبٌ لَهُ وَلَا يَنْسُبُ لَهُ قَوْلًا فِي الْحَالِ وَفَائِدَةُ تَدْوِينِ الْمَذَاهِبِ وَنَقْلُ الْأَقْوَالِ مَعْرِفَةُ طُرُقِ الْإِرْشَادِ وَكَيْفِيَّةِ بِنَاءِ الْحَوَادِثِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَمَعْرِفَةُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ انْتَهَى.
قُلْت وَبَعْدَ تَسْلِيمِ الْقَوْلِ أَيْضًا بِجَوَازِ فُتْيَا مَنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ الشَّائِعُ الْفَاشِي فِي زَمَانِنَا هَذَا وَقَبْلَهُ إذْ لَا مُجْتَهِدَ فِيهِ فِيمَا بَلَغَنَا وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَآفَاقِ الْبِلَادِ وَالْمُخْتَارُ إنْ كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مَآخِذِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ أَهْلًا لِلنَّظَرِ فِيهَا بِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى التَّفْرِيغِ عَلَى تِلْكَ الْمَآخِذِ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ وَالْمُنَاظَرَةِ جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَإِلَّا فَلَا وَفِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ مِنْ شَرْحِ التَّلْقِينِ لِلْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الَّذِي يُفْتِي فِي هَذَا الزَّمَانِ أَقَلُّ مَرَاتِبِهِ فِي نَقْلِ الْمَذْهَبِ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَبْحَرَ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى رِوَايَاتِ الْمَذْهَبِ وَتَأْوِيلِ الْأَشْيَاخِ لَهُمَا وَتَرْجِيحِهِمْ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ اخْتِلَافِ ظَوَاهِرَ وَاخْتِلَافِ مَذَاهِبَ وَتَشْبِيهِهِمْ مَسَائِلَ قَدْ سَبَقَ إلَى النَّفْسِ تَبَاعُدُهَا وَتَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ مَسَائِلَ وَمَسَائِلَ قَدْ يَقَعُ فِي النَّفْسِ تَقَارُبُهَا وَتَشَابُهُهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا بَسَطَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْقَرَوِيِّينَ فِي كُتُبِهِمْ وَأَشَارَ إلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ؛ فَهَذَا لِعَدَمِ النُّظَّارِ يَقْتَصِرُ عَلَى نَقْلِهِ عَنْ الْمَذْهَبِ اهـ.
وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ الصِّرْفُ الْعَاجِزُ عَنْ مَدَارِكِ التَّرْجِيحِ وَأَدِلَّةِ التَّشْهِيرِ وَالتَّصْحِيحِ وَهَذَا الَّذِي تَوَجَّهَ إلَيْهِ غَرَضُ
سُؤَالِكُمْ وَصَرِيحُ إشَارَتِكُمْ وَفِي مَعْنَاهُ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ ذَلِكَ وَلَا يَعْلَمُ بِجَهْلِهِ مَا هُنَالِكَ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَذْهَبٌ مُعَيَّنٌ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ لَهُ مَذْهَبٌ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ لَهُ أَنْ يَتَخَيَّرَ، وَيُقَلِّدَ أَيَّ مَذْهَبٍ شَاءَ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنَاهُمَا عَلَى أَنَّ الْعَامِّيَّ وَالْمُقَلِّدَ الصِّرْفَ هَلْ لَهُمَا مَذْهَبٌ أَمْ لَا أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا مَذْهَبَ لَهُمَا لِأَنَّ الْمَذْهَبَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ يَعْرِفُ الْأَدِلَّةَ فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ شَاءَ مِنْ شَافِعِيٍّ أَوْ مَالِكِيٍّ أَوْ حَنْبَلِيٍّ.
وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْقَفَّالِ أَنَّ لَهُ مَذْهَبًا لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي يَنْتَسِبُ إلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ وَرَجَّحَهُ عَلَى غَيْرِهِ أَيْضًا فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمُوجِبِ اعْتِقَادِهِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَالِكِيًّا وَلَا غَيْرَهُ وَلَا مُخَالِفَ إمَامِهِ وَعَكْسُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَامِّيُّ وَالْمُقَلِّدُ الصِّرْفُ مُنْتَسِبًا إلَى مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ الْمُزَكَّى وَبَنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الْعَامِّيَّ هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ يَأْخُذُ رُخَصَهُ وَعَزَائِمَهُ أَمْ لَا أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَبِهِ قَطَعَ أَبُو الْحُسَيْنِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَوْ جَازَ اتِّبَاعُ أَيِّ مَذْهَبٍ شَاءَ لَأَفْضَى إلَى أَنْ يَلْتَقِطَ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ مُتَّبِعًا هَوَاهُ مُتَخَيِّرًا بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالتَّجْوِيزِ وَفِي ذَلِكَ انْحِلَالُ رُتْبَةِ التَّكْلِيفِ بِخِلَافِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَمْ تَكُنْ الْمَذَاهِبُ الْوَافِيَةُ بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ حِينَئِذٍ، وَقَدْ مَهَّدْت وَعَرَّفْت فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي اخْتِيَارِ مَذْهَبٍ يُقَلِّدُهُ عَلَى التَّعْيِينِ قَالَ وَنَحْنُ نُمَهِّدُ لَهُ طَرِيقًا يَسْلُكُهُ فِي اجْتِهَادِهِ سَهْلًا فَنَقُولُ أَوَّلًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَ فِي ذَلِكَ مُجَرَّدَ التَّشَهِّي وَالْمَيْلِ لِمَا وَجَدَ عَلَيْهِ آبَاءَهُ وَلَيْسَ لَهُ التَّمَذْهُبُ بِمَذْهَبِ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَإِنْ كَانُوا أَعْلَمَ وَأَعْلَى دَرَجَةً مِمَّنْ بَعْدَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَرَّغُوا لِتَدْوِينِ الْعِلْمِ وَضَبْطِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مَذْهَبٌ مُحَرَّرٌ مُقَرَّرٌ وَإِنَّمَا قَامَ بِذَلِكَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ النَّاقِلِينَ لِمَذْهَبِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَالتَّابِعِينَ الْقَائِمِينَ بِتَمْهِيدِ أَحْكَامِ الْوَقَائِعِ قَبْلَ وُقُوعِهَا النَّاهِضِينَ بِإِيضَاحِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ اهـ.
فَإِذَا وَقَعَ التَّفْرِيعُ عَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِ ذَلِكَ لِلْعَامِّيِّ وَالْمُقَلِّدِ الصِّرْفِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَتَّفِقَ كَلِمَةُ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ الَّذِي قَلَّدَهُ الْعَامِّيُّ أَوْ الْمُقَلِّدُ الصِّرْفُ أَوْ لَا فَإِنْ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى الْمُسْتَفْتِي عَلَيْهَا فَلَا إشْكَالَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ وَتَبَايَنَتْ مِنْهُمْ الْأَقْوَالُ وَلَمْ يَطَّلِعْ هَذَا الْمُقَلِّدُ عَلَى أَرْجَحِيَّةِ قَوْلٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا لِلْمُتَقَدِّمِينَ فَاخْتُلِفَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى عِدَّةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَأْخُذُ بِأَغْلَظِهَا فَيَأْخُذُ بِالْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَقِيلٌ.
ثَانِيهَا: يَأْخُذُ بِأَخَفِّهَا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ.
ثَالِثُهَا: يُتَحَيَّرُ فَيَأْخُذُ بِقَوْلِ أَيِّهِمْ شَاءَ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَاخْتِيَارُ
ابْنِ الصَّبَّاغِ فِي الشَّامِلِ لَكِنْ فِيمَا إذَا تَسَاوَى الْقَائِلَانِ فِي نَفْسِهِ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَدْ نَزَلْت بِالسُّلْطَانِ أَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الْحَقِّ حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ ابْنَ مَرْمُورٍ فَرَغِبَ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ فَتَرَكَ قَتْلَهُ فَأَرْسَلَ إلَى الْفَقِيهَيْنِ الْمُعَظَّمَيْنِ أَبِي الْفَضْلِ رَاشِدٍ الْوَلِيدِ وَابْنِ يُوسُفَ الْجُزُولِيِّ فَاقْتَضَى نَظَرُ الْفَقِيهِ رَاشِدٌ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى السُّلْطَانِ مَا فِي الْأَحْكَامِ لِابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ فَيَخْتَارُ مَا شَاءَ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَكْثَرِهِمْ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ السَّبْعَةِ.
خَامِسُهَا: أَنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي الْأَوْثَقِ فَيَأْخُذُ بِقَوْلِ الْأَعْلَمِ الْأَوْرَعِ وَيَبْحَثُ عَنْ الْأَرْجَحِ مِنْ الْقَائِلِينَ فَيَعْمَلُ بِهِ فَإِنَّهُ حُكْمُ التَّعَارُضِ، وَقَدْ وَقَعَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ السَّمْعَانِيِّ وَابْنِ الصَّلَاحِ وَنَصَّ عَلَى مِثْلِهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقِبْلَةِ وَعِنْدَ هَذَا إمَّا أَنْ يَظْهَرَ الرُّجْحَانُ مُطْلَقًا أَوْ لَا يَظْهَرَ مُطْلَقًا أَوْ يَظْهَرَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَإِنْ ظَهَرَ مُطْلَقًا بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْقَائِلِينَ أَعْلَمَ وَأَدْيَنَ وَجَبَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ الرُّجْحَانُ مُطْلَقًا فَهَذَا بَعْضٌ مِمَّا أَحَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِي الْأُصُولِيِّينَ وُجُودَهُ عُرْفًا فَإِنْ فُرِضَ وُقُوعُهُ خُيِّرَ الْمُسْتَفْتِي وَإِنْ ظَهَرَ الرُّجْحَانُ مِنْ وَجْهٍ فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الدِّينِ وَتَفَاوَتَا فِي الْعِلْمِ فَقَالَ قَوْمٌ يُخَيَّرُ وَالْحَقُّ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْأَعْلَمِ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ فَإِنْ تَسَاوَوْا فِي الْعِلْمِ وَتَفَاوَتُوا فِي الدِّينِ وَجَبَ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْأَدْيَنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعْلَمَ وَالْآخَرُ أَدْيَنَ قَالُوا يُرَجَّحُ قَوْلُ الْأَدْيَنِ وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَ الْأَعْلَمِ أَرْجَحُ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الَّذِي يُطَّلَعُ بِهِ عَلَى دَلَائِلِ الْأَحْكَامِ دُونَ الدِّينِ وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ تَعَدُّدِ الْقَائِلِينَ وَأَمَّا مَعَ اتِّحَادِ الْقَائِلِ وَاخْتِلَافِ الْقَوْلِ فَالْعَمَلُ بِالْمَرْجُوعِ إلَيْهِ دُونَ الْمَرْجُوعِ عَنْهُ إنْ عَلِمَ التَّارِيخَ لِأَنَّ الْمَرْجُوعَ إلَيْهِ نَاسِخٌ وَالْمَرْجُوعَ عَنْهُ مَنْسُوخٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ فِي الْفَرْضِ قَوْلًا يُفْتِي بِهِ أَوْ يَحْكُمُ خِلَافًا لِعِزِّ الدِّينِ وَظَاهِرُ الْأَجْوِبَةِ وَإِنْ جَهِلَ التَّارِيخَ تَسَاقَطَا وَعَلَى قَوْلِ عِزِّ الدِّينِ فَالتَّخْيِيرُ هُنَا أَحْرَى وَأَوْلَى وَهَذَا مَعَ عَدَمِ اطِّلَاعِ الْمُقَلِّدِ الصِّرْفِ عَلَى أَرْجَحِيَّةٍ مَنْصُوصَةٍ، وَأَمَّا مَعَ اطِّلَاعِهِ عَلَيْهَا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ عَلَى مَا رَجَّحَهُ أَحْبَارُ الْأَئِمَّةِ فَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي التَّرْجِيحِ وَتَبَايَنُوا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّصْحِيحِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ الرُّجُوعُ إلَى صِفَاتِ الْمُرَجِّحِينَ فَيَقِفُ مَعَ تَشْهِيرِ الْأَعْلَمِ الْأَدْيَنِ إنْ كَانَ لِظُهُورِ الرُّجْحَانِ ثُمَّ كَذَلِكَ عَلَى مَا مَرَّ فِي التَّرْجِيحِ بِصِفَاتِ الْقَائِلِينَ وَالنَّاقِلِينَ وَيُعْلَمُ الْأَعْلَمُ وَالْأَدْيَنُ بِظُهُورِ آثَارِ الصَّلَاحِ وَإِقْبَالِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَضِدُّهُ بِآثَارِ الْفُجُورِ وَإِعْرَاضِ النَّاسِ عَنْهُ.
وَفِي إقْلِيدِ الْإِقْلِيدِ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ عَنْ مَالِكٍ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَعَلَى ذَلِكَ اعْتَمَدَ شُيُوخُ الْأَنْدَلُسِ وَإِفْرِيقِيَّةَ إذَا تَرَجَّحَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَقَالَ الْأَبْيَانِيُّ لَيْسَ فِي أَصْحَابِ مَالِكٍ مَنْ عَرَفَ مَذْهَبَهُ مِثْلَ مَا عَرَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
وَفِي أَحْكَامِ الْقَاضِي بْنِ
الْمُطَرِّفِ الشَّعْبِيِّ قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْمُطَرِّفِ بْنِ بِشْرٍ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْفَتْوَى بِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَاضْطَرَبَتْ فُتْيَاهُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ وَبِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ حَقِيقٌ بِالنَّكِيرِ عَلَيْهِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِهِ.
وَفِي الطُّرَرِ عَلَى التَّهْذِيبِ لِأَبِي الْحَسَنِ الطَّنْجِيِّ قَالُوا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيهَا فَإِنَّهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيهَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ فِيهَا لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَقَوْلُ غَيْرِهِ فِيهَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي غَيْرِهَا وَذَلِكَ لِصِحَّتِهَا قَالَ بُرْهَانُ الدِّينِ فَتَقَرَّرَ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ إذَا كَانَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَالْمَشْهُورُ فِي اصْطِلَاحِ الْمَغَارِبَةِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ وَالْعِرَاقِيُّونَ كَثِيرًا مَا يُخَالِفُونَ الْمَغَارِبَةَ فِي تَعْيِينِ الْمَشْهُورِ وَيُشْهِرُونَ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ عَمَلُ الْمُتَأَخِّرِينَ اعْتِبَارُ تَشْهِيرِ مَا شَهَّرَهُ الْمِصْرِيُّونَ وَالْمَغَارِبَةُ.
وَعَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ صَالِحٍ إنَّمَا يُفْتِي بِقَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فِي النَّازِلَةِ فَبِقَوْلِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَبِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيهَا وَإِلَّا فَبِقَوْلِهِ فِي غَيْرِهَا وَإِلَّا فَبِقَوْلِ الْغَيْرِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَإِلَّا فَأَقَاوِيلِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ.
وَفِي أَخْبَارِ أَسَدٍ مِنْ مَدَارِكِ الْقَاضِي قَالَ سَحْنُونٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُدَوَّنَةِ فَإِنَّهَا كَلَامُ رَجُلٍ صَالِحٍ وَرِوَايَتُهُ، وَكَانَ يَقُولُ إنَّ الْمُدَوَّنَةَ مِنْ الْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ تُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ عَنْ غَيْرِهَا وَلَا يُجْزِئُ غَيْرُهَا عَنْهَا، أَفْرَغَ الرِّجَالُ فِيهَا عُقُولَهُمْ وَشَرَحُوهَا وَبَيَّنُوهَا فَمَا اعْتَكَفَ أَحَدٌ عَلَى الْمُدَوَّنَةِ وَدِرَاسَتِهَا إلَّا عَرَفَ ذَلِكَ فِي وَرَعِهِ وَزُهْدِهِ وَمَا عَدَاهَا إلَى غَيْرِهَا إلَّا عَرَفَ ذَلِكَ وَلَوْ عَاشَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَمَدًا مَا رَأَيْتُمُونِي أَبَدًا وَفِي أَوَّلِ مُقَدِّمَاتِ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ هَذِهِ الْمُدَوَّنَةَ تَدُورُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ وَابْنِ الْقَاسِمِ الْمِصْرِيِّ الْوَلِيِّ الصَّالِحِ وَسَحْنُونٍ وَكُلُّهُمْ مَشْهُورٌ بِالْإِمَامَةِ وَالْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَفِي فَصْلِ التَّطَوُّعَاتِ مِنْ شَرْحِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ مُتَأَخِّرِي الشُّيُوخِ كَانُوا إذَا نُقِلَتْ لَهُمْ مَسْأَلَةٌ مِنْ غَيْرِ الْمُدَوَّنَةِ مُوَافِقَةٌ لِمَا فِيهَا عَدُوُّهُ خَطَأً فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْمُدَوَّنَةِ خِلَافَ مَا فِي غَيْرِهَا وَفِيهِ أَيْضًا بَيَانُ الْمَشْهُورِ وَتَمْيِيزُهُ عَنْ الشَّاذِّ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ، فَإِنَّ أَهْلَ زَمَانِنَا إنَّمَا يَقُولُونَ فِي فَتْوَاهُمْ عَلَى الْمَشْهُورِ إذَا وَجَدُوهُ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْمَازِرِيُّ رحمه الله بَعْدَ أَنْ شَهِدَ لَهُ بَعْضُ أَهْلِ زَمَانِهِ بِوُصُولِهِ إلَى دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ أَوْ مَا قَارَبَ رُتْبَتَهُ وَمَا أَفْتَيْت قَطُّ بِغَيْرِ الْمَشْهُورِ وَلَا أُفْتِي، وَأَهْلُ قُرْطُبَةَ أَشَدُّ فِي هَذَا وَرُبَّمَا جَاوَزُوا فِيهِ الْحَدَّ.
قُلْت أَشَارَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ وَرُبَّمَا جَاوَزُوا فِيهِ الْحَدَّ إلَى مَا قَالَ الْبَاجِيُّ إنَّهُ كَانَ فِي سِجِلَّاتِ قُرْطُبَةَ لَا يُخْرَجُ عَنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَا وُجِدَ وَلِلْأُسْتَاذِ الطُّرْطُوشِيِّ الْفِهْرِيِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ اعْتِرَاضٌ طَوِيلٌ اسْتِقْصَاؤُهُ وَذِكْرُ مَا رَدَّ بِهِ عَلَيْهِ يَخْرُجُ إلَى الْبُعْدِ عَنْ غَرَضِ الْكِتَابِ.
وَفِي ابْنِ عَرَفَةَ لَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَحْكَامِ قُضَاةِ الْعَصْرِ إلَّا مَا لَا يُخَالِفُ الْمَشْهُورَ وَمَذْهَبَ الْمُدَوَّنَةِ.
وَفِي بَعْضِ فَتَاوَى شَيْخِنَا وَسَيِّدِنَا أَبِي الْفَضْلِ قَاسِمٍ الْعُقْبَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا نَصُّهُ يُنْظَرُ فِي الْحَكَمِ
الَّذِي عَدَلَ عَنْ الْمَشْهُورِ إلَى الشَّاذِّ فَإِنْ حَكَمَ بِهِ لِمَظِنَّةِ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ نُقِضَ حُكْمُهُ وَإِنْ حَكَمَ بِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ الشَّاذُّ إلَّا أَنَّهُ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ مِمَّنْ يُدْرِكُ الرَّاجِحَ وَالْمَرْجُوحَ وَهَذَا يَعِزُّ وُجُودُهُ مَضَى حُكْمُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ زُجِرَ عَنْ مُوَافَقَةِ مِثْلِ هَذَا وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْ الْقَضَاءِ إنْ لَمْ يَنْزَجِرْ فَإِنَّ الْإِمَامَ الَّذِي قَدَّمَهُ وَاَلَّذِي قُدِّمَ لِلْحُكْمِ بَيْنَهُمْ إنَّمَا يَرْضَوْنَ مِنْهُ الْحُكْمَ بِالْمَشْهُورِ اهـ.
قُلْت لَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْحُكْمَ يُفْسَخُ إذَا حُكِمَ بِالشَّاذِّ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّرْجِيحِ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ لِابْنِ عَرَفَةَ فَوْقَهُ.
وَفِي بَعْضِ فَتَاوَى شَيْخِنَا مَا نَصُّهُ لَا يَنْبَغِي لِمُفْتٍ أَنْ يُفْتِيَ فِيمَا عَلِمَ الْمَشْهُورَ فِيهِ إلَّا بِالْمَشْهُورِ وَكَذَلِكَ حُكَّامُ زَمَانِنَا فَقَدْ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَهُوَ فِي الْعِلْمِ هُنَالِكَ مَا أَفْتَيْتُ قَطُّ بِغَيْرِ الْمَشْهُورِ وَإِذَا كَانَ الْمَازِرِيُّ وَهُوَ فِي طَبَقَةِ الِاجْتِهَادِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْفَتْوَى بِالْمَشْهُورِ وَلَا يَرْضَى حَمْلَ النَّاسِ عَلَى خِلَافِهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ لِمَنْ يُقَصِّرُ عَنْ تَلَامِذَتِهِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى الشَّاذِّ هَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي.
وَفِي فَتَاوَى صَالِحٍ بِجَايَةِ الشَّيْخِ أَبِي زَيْدٍ سَيِّدِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَاغِلِيسِيِّ مَا نَصُّهُ: " لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَتَقَلَّدُ غَيْرَ الْمَشْهُورِ الَّذِي عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْفُتْيَا مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَلْتَعْمَلْ عَلَى جَادَّةِ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ وَاحْذَرْ مُخَالَفَتَهُمْ وَقَدْ قَالَ الْمَازِرِيُّ لَا أُفْتِي بِغَيْرِ الْمَشْهُورِ وَلَا أَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ قَلَّ الْوَرَعُ وَالتَّحَفُّظُ عَلَى الدِّيَانَةِ وَكَثُرَ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ وَيَتَجَاسَرُ عَلَى الْفَتْوَى فِيهِ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَوْ فُتِحَ لَهُمْ بَابٌ فِي مُخَالَفَةِ مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ لَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ وَهُتِكَ حِجَابُ الْمَذْهَبِ وَهَذَا مِنْ الْمُفْسِدَاتِ الَّتِي لَا خَفَاءَ بِهَا وَهَذَا فِي زَمَانِهِ فَانْظُرْ فِي أَيِّ زَمَانٍ أَنْتَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اُنْظُرْ كَيْفَ لَمْ يَسْتَجِزْ هَذَا الْإِمَامُ الْعَالِمُ وَهُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَى إمَامَتِهِ وَجَلَالَتِهِ الْفَتْوَى بِغَيْرِ مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ وَلَا بِغَيْرِ مَا عَرَفَ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةٍ مَصْلَحِيَّةٍ ضَرُورِيَّةٍ إلَى أَنْ قَلَّ الْوَرَعُ وَالدِّيَانَةُ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَنْتَصِبُ لَبْثَ الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى فَلَوْ فُتِحَ لَهُمْ هَذَا الْبَابُ لَانْحَلَّتْ عُرَى الْمَذْهَبِ بَلْ جَمِيعُ الْمَذَاهِبِ لِأَنَّ مَا وَجَبَ لِلشَّيْءِ وَجَبَ لِمِثْلِهِ وَظَهَرَ أَنَّ تِلْكَ الضَّرُورَةَ الَّتِي اُدُّعِيَتْ فِي السُّؤَالِ لَيْسَتْ بِضَرُورَةٍ اهـ.
فَإِنْ قُلْت فَمَا بَالُ الْمَازِرِيِّ لَمْ يُبَالِ بِهَذَا الِاعْتِرَاضِ وَلَا وَقَفَ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ وَأَفْتَى بِالشَّاذِّ وَهُوَ رِوَايَةُ الدَّاوُدِيِّ عَنْ مَالِكٍ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِضَعْفِهَا وَشُذُوذِهَا فِي مَسْأَلَةِ اسْتِحْقَاقِ الْأَرْضِ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ وَخُرُوجِ الْإِبَّانِ وَخَالَفَ الْمَعْهُودَ مِنْ عَادَتِهِ مِنْ الْوُقُوفِ مَعَ الْمَشْهُورِ وَمَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ وَالْجُمْهُورُ.
قُلْت لِلتَّشْدِيدِ عَلَى الظَّلَمَةِ وَالْمُتَعَدِّينَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ، وَهُوَ مَأْلُوفٌ فِي الشَّرْعِ وَقَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ وَمِنْهُ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ غَيْرُ نَظِيرٍ وَقَدْ أَتَيْت فِي بَعْضِ مَا قَيَّدْت مِنْ هَذَا الْمُصَنَّفِ عَلَى الْكَثِيرِ وَالْجَمِّ الْغَفِيرِ فَإِنَّا قَدْ
اسْتَفَدْنَا مِنْ النُّصُوصِ الْمَجْلُوبَةِ فَوْقَ هَذَا أَنَّ الْفُتْيَا بِغَيْرِ مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِ الصِّرْفِ لَا تَجُوزُ فَمَا حُكْمُ الْفُتْيَا بِغَيْرِ مَذْهَبِ مَالِكٍ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ مِنْ مُقَلِّدِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ وَالْأَنْدَلُسِ.
قُلْت قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ فَتْحُ الْبَابِ بِالْفُتْيَا فِي إقْلِيمِنَا بِغَيْرِ مَذْهَبِ مَالِكٍ لَا يُسَوَّغُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ سَحْنُونٌ وَالْحَارِثُ لَمَّا وَلِيَا الْقَضَاءَ فَرَفَعَا جَمِيعَ خِلَفِ الْمُخَالِفِينَ وَمَنَعَا الْفَتْوَى بِغَيْرِ مَذْهَبِ مَالِكٍ فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ الْمَنْعُ وَتَأْدِيبُ الْمُفْتِي بِهِ بِحَسَبِ حَالِهِ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ ذَلِكَ اهـ.
وَفِي آخِرِ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ وَأَوَّلِ مَدَارِكِ الْقَاضِي وَاللَّفْظُ لِلْمَدَارِكِ وَفِي كِتَابِ الْحَاكِمِ الْمُسْتَنْصِرِ إلَى الْفَقِيهِ أَبِي إبْرَاهِيمَ وَكَانَ الْحَاكِمُ مِمَّنْ طَالَعَ الْكِتَابَ وَنَقَّرَ عَنْ أَخْبَارِ الرِّجَالِ تَنْقِيرًا لَمْ يَبْلُغْ فِيهِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ وَكُلُّ مَنْ زَاغَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ مِمَّنْ رِينَ عَلَى قَلْبِهِ وَزُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، وَقَدْ نَظَرْت طَوِيلًا فِي أَخْبَارِ الْفُقَهَاءِ وَقَرَأْت مَا صُنِّفَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَلَمْ أَرَ مَذْهَبًا مِنْ الْمَذَاهِبِ غَيْرَهُ أَسْلَمَ مِنْهُ وَأَنَّ فِيهِمْ الْجَهْمِيَّةَ وَالرَّافِضَةَ وَالْخَوَارِجَ وَالْمُرْجِئَةَ وَالشِّيعَةَ إلَّا مَذْهَبَ مَالِكٍ مَا سَمِعْت أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ يَتَقَلَّدُ مَذْهَبَهُ قَالَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ فَالِاسْتِمْسَاكُ بِهِ نَجَاةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى اهـ.
وَلِغَيْرِهِ عَنْ الْخَلِيفَةِ الْحَاكِمِ الْمُسْتَنْصِرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَنْ خَالَفَ مَذْهَبَ مَالِكٍ بِالْفَتْوَى وَبَلَغَنَا خَبَرُهُ أَنْزَلْنَا بِهِ مِنْ النَّكَالِ مَا يَسْتَحِقُّهُ وَجَعَلْنَاهُ عِبْرَةً لِغَيْرِهِ فَقَدْ اخْتَبَرْت فَوَجَدْت مَذْهَبَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَفْضَلَ الْمَذَاهِبِ وَلَمْ أَرَ فِي أَصْحَابِهِ وَلَا فِيمَنْ تَقَلَّدَ بِمَذْهَبِهِ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَلْيَسْتَمْسِكْ النَّاسُ بِهَذَا وَلْيُنْهَوْا أَشَدَّ النَّهْيِ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِمَذَاهِبِ جَمِيعِ الْمُخَالِفِينَ لَهُ اهـ. ثُمَّ لَا يَجُوزُ لِهَذَا الْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ إلَّا بِالنَّصِّ لَا بِالنَّظَرِ وَالْقِيَاسِ وَقَدْ جَاءَ مَنْ كَذَبَ عَلَى عَالِمٍ فَكَأَنَّمَا كَذَبَ عَلَى الرَّسُولِ وَمَنْ كَذَبَ عَلَى الرَّسُولِ فَكَأَنَّهُ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ.
وَفِي مَدْخَلِ ابْنِ طَلْحَةَ مَا نَصُّهُ " وَإِذَا رَجَعَ إلَى مُقَلِّدٍ رُجُوعَ اضْطِرَارٍ كَرَجُلٍ يَذْكُرُ الْمَسَائِلَ كَمَنْ يَحْفَظُ الْمُدَوَّنَةَ وَالْعُتْبِيَّةَ وَالْوَاضِحَةَ وَالْمَوَّازِيَّةَ وَمَا جَمَعَ مِنْهَا كَالنَّوَادِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ اسْتَفْتَى مِثْلَ هَذَا فَالْفَرْضُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُفْتِيَ فِي مَسْأَلَةٍ حَتَّى تَنْزِلَ حَسْبَمَا هِيَ فِي دِيوَانٍ مِنْهَا فَيَكْتُبُ الْجَوَابَ عَنْهَا حَاكِيًا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ حَرْفٍ وَلَا نُقْصَانِ حَرْفٍ لَا فِي بِسَاطٍ وَلَا عُرْفٍ فَيَكُونُ كَمَنْ يُخْرِجُ الْوَصِيَّةَ مِنْ دَاخِلِ الدَّارِ إلَى رَجُلٍ عِنْدَ الْبَابِ فَإِذَا زَادَ أَوْ نَقَصَ فَالْفَرْضُ عَلَيْهِ السُّكُوتُ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ فَاتَهُ وَالِاجْتِهَادَ فَاتَهُ اهـ.
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ إذَا لَمْ يَجِدْ مَسْأَلَةً بِعَيْنِهَا وَنَصِّهَا مَسْطُورَةً فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْعَقْلِ فِيهَا قِيَاسًا إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ السُّطُورِ وَإِنْ اعْتَقَدَهُ مِنْ قَبِيلِ قِيَاسٍ لَا فَارِقَ لِأَنَّ الْقَاصِرَ مُعَرَّضٌ لَأَنْ يَعْتَقِدَ مَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَتِمُّ فِي حَقِّ مَنْ عَرَفَ مَوَارِدَ الشَّرْعِ، وَمَصَادِرَهُ اهـ.
وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْفَرْقِ
الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ قَوَاعِدِ شِهَابِ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا يَكْشِفُ الْغُمَّةَ وَيَشْفِي الْغَلِيلَ وَمِنْهَا وَمِمَّا قَدَّمْنَاهُ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمِ جَرَاءَةِ أَهْلِ هَذَا الْوَقْتِ عَلَى الْفَتْوَى وَتَحَامُلِهِمْ عَلَى الْمَذْهَبِ بِمَا تَأْبَاهُ الدِّيَانَةُ وَالتَّقْوَى عَصَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكُمْ مِنْ مُتَابَعَةِ الْهَوَى وَمَنَّ عَلَيْنَا وَإِيَّاكُمْ بِجَنَّةِ الْمَأْوَى. وَلْنَرْجِعْ بَعْدَ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ الشَّافِيَةِ الْجَامِعَةِ الْكَافِيَةِ إلَى تَتَبُّعِ أَلْفَاظِ السُّؤَالِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْمَبَاحِثِ وَالْأَقْوَالِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ نَعْتَصِمُ مِنْ كُلِّ مَا يَصِمُ: أَمَّا قَوْلُكُمْ فَهَلْ يَجُوزُ لِهَذَا الْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَ الْمَشْهُورِ فِي مَسْأَلَةٍ أَوْ يُفْتِيَ بِهِ بِقَصْدِ التَّوْسِعَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مُسْتَنِدًا فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» وَلَفْظُهُ عليه الصلاة والسلام «بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ» وَالْأَخْذُ بِالرُّخَصِ مَحْمُودٌ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُقَلِّدَ بَعْدَ اطِّلَاعِهِ عَلَى الرَّاجِحِ أَوْ الْأَرْجَحِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ وَيَقْتَصِرَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ وَالْعَمَلِ وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ الْقَاضِي الْمُحَقِّقِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ التُّونُسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ الشَّاذَّ وَيَعْمَلَ بِهِ فَإِنَّهُ قَالَ الْقَوْلُ الشَّاذُّ قَدْ يَنْصُرُهُ الْفَقِيهُ وَيَخْتَارُهُ وَيُقَلِّدُهُ الْعَامِّيُّ انْتَهَى.
وَلَكِنْ ذَكَرَ ابْنُ مُزَيْنٍ عَنْ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ كُلُّ مَا قَالَ رَجُلٌ قَوْلًا وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ يُتَّبَعُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] قَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَإِنْ قَالَ قُصُورِي وَقِلَّةُ عِلْمِي تَحْمِلُنِي عَلَى التَّقْلِيدِ قِيلَ لَهُ أَمَّا مَنْ قَلَّدَ فِيمَا نَزَلَ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ عَالِمًا يُتَّفَقُ لَهُ عَلَى عِلْمِهِ فَيُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ عَمَّا يُخْبِرُهُ بِهِ فَمَعْذُورٌ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ وَأَدَّى مَا لَزِمَهُ فِيمَا نَزَلَ بِهِ لِجَهْلِهِ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ عَالِمٍ فِيمَا جَهِلَهُ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْمَكْفُوفَ يُقَلِّدُ مَنْ يَثِقُ بِخَبَرِهِ فِي الْقِبْلَةِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَتَهُ هَلْ تَجُوزُ لَهُ الْفَتْوَى فِي شَرَائِعِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَحْمِلُ غَيْرَهُ عَلَى إبَاحَةِ الْفُرُوجِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَاسْتِرْقَاقِ الرِّقَابِ وَإِزَالَةِ الْأَمْلَاكِ وَتَصْيِيرِهَا إلَى غَيْرِ مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ بِقَوْلٍ لَا يَعْرِفُ صِحَّتَهُ وَلَا قَامَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّ قَائِلَهُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ وَأَنَّ مُخَالِفَهُ فِي ذَلِكَ رُبَّمَا كَانَ الْمُصِيبَ بِمَا خَالَفَهُ فِيهِ
فَإِنْ أَجَازَ الْفَتْوَى لِمَنْ جَهِلَ الْأَصْلَ وَالْمَعْنَى بِحِفْظِهِ لِلْفُرُوعِ لَزِمَهُ أَنْ يُجِيزَهُ لِلْعَامَّةِ وَكَفَى بِهَذَا جَهْلًا وَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَقَالَ تَعَالَى {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَا لَمْ يُتَبَيَّنْ وَلَا يُسْتَيْقَنُ فَلَيْسَ بِعِلْمٍ وَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا انْتَهَى فَتَأَمَّلْ قَوْلَ أَبِي عُمَرَ وَلَكِنْ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ فَإِنَّ فِيهِ دَلِيلًا وَاضِحًا أَنَّ مَنْ ذَكَرْت
لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ غَيْرَهُ عَلَى حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَا أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ اللَّهِ أَحَدًا مِنْ الْأَنَامِ وَظَاهِرُهُ وَإِنْ أَفْتَى بِالْمَشْهُورِ فَكَيْفَ بِالشَّاذِّ الَّذِي سَأَلْت عَنْهُ، وَقَدْ أَوْجَبَ بَعْضُ مَنْ تَقَدَّمَ زَمَانَنَا هَذَا مِنْ الْمَشَايِخِ عُقُوبَةَ الْمُفْتِي الْمُقَلِّدِ إنْ خَالَفَ الْمَشْهُورَ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ فِي النَّهْيِ عَنْ الْعَوْدِ وَعَلَّلَهُ فِي تَعَلُّقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ فِي الْعَمَلِ بِالْمَشْهُورِ
وَقَالَ وَإِنْ ارْتَكَبْتَ الشَّاذَّ فِي الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ أَجْنَبِيٍّ فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَتْ وَظِيفَتُك سَرْدَ الرِّوَايَاتِ وَتَعْيِينَ الْمَشْهُورِ فَحَمْلُك السَّائِلَ عَلَى الشَّاذِّ غِشٌّ لَهُ فِي أَمْرٍ دِينِيٍّ فَعُقُوبَتُهُ أَكْثَرُ وَأَوْجَبُ مِنْ عُقُوبَةِ النَّاسِ فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ قَالَ وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ تَجُوزُ لَهُ الْفُتْيَا مِنْ أَهْلِ التَّقْلِيدِ، وَقَدْ اقْشَعَرَّتْ الْبِلَادُ مِنْهُ انْتَهَى، وَهَذَا كُلُّهُ لَا مَزِيدَ فِيهِ عَلَى مَا اُسْتُفِيدَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ النُّقُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ إلَّا مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَالْأَدَبِ الْوَجِيعِ وَلِلْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمَسْأَلَةِ إمْلَاءٌ عَرِيضٌ لَوْلَا الْإِطَالَةُ وَالْخُرُوجُ عَنْ غَرَضِ الِاخْتِصَارِ لَجَلَبْنَاهُ وَأَمَّا قَوْلُكُمْ وَالْأَخْذُ بِالرُّخَصِ مَحْبُوبٌ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ فِي الرُّخَصِ الْمَعْهُودَةِ الْعَامَّةِ كَالْقَصْرِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْفِطْرِ فِيهِ وَالْجَمْعِ فِي السَّفَرِ وَلَيْلَةِ الْمَطَرِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا تَتَبُّعُ أَخَفِّ الْمَذَاهِبِ وَأَوْفَقِهَا لِطَبْعِ الصَّائِرِ إلَيْهَا وَالذَّاهِبِ فَمِمَّا لَا يَجُوزُ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مَحْبُوبًا مَطْلُوبًا قَالَهُ الرِّيَاشِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ بَيَانُ الْعِلْمِ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ إنْ أَخَذْت بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيك الشَّرُّ كُلُّهُ قَالَ أَبُو عُمَرَ هَذَا إجْمَاعٌ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ أَيْضًا الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ تَتَبُّعَ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فِسْقٌ لَا يَحِلُّ.
وَعَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ مَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ بَعْضِ الْأَمْصَارِ لَمْ أَجْرَحْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَاذًّا مَا لَمْ يَأْخُذْ بِكُلِّ مَا وَافَقَهُ مِنْ كُلِّ قَائِلٍ وَعَلَّلَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَأَبُو عُمَرَ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْعِ تَتَبُّعِ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ بِأَنَّهُ مُؤَدٍّ إلَى إسْقَاطِ التَّكْلِيفِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا صَارَ الْمُكَلَّفُ فِي كُلِّ نَازِلَةٍ عَنَّتْ لَهُ يَتَتَبَّعُ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ وَكُلَّ قَوْلٍ وَافَقَ فِيهَا هَوَاهُ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ التَّقْوَى وَتَمَادَى فِي مُتَابَعَةِ الْهَوَى وَنَقَضَ مَا أَبْرَمَهُ الشَّرْعُ وَأَخَّرَ مَا قَدَّمَهُ قَالَ وَقَدْ أَدَّى إغْفَالُ هَذَا الْأَصْلِ إلَى أَنْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ لَا يُفْتِي قَرِيبَهُ أَوْ صَدِيقَهُ بِمَا يُفْتِي بِهِ غَيْرَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ اتِّبَاعًا لِغَرَضِهِ وَشَهْوَتِهِ أَوْ لِغَرَضِ ذَلِكَ الْقَرِيبِ وَذَلِكَ الصَّدِيقِ، وَلَقَدْ وُجِدَ هَذَا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ فَضْلًا عَنْ زَمَانِنَا، وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ إنْ أَخَذْت بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيك الشَّرُّ كُلُّهُ قَالَ فَمِنْ هُنَا قَالُوا زَلَّةُ الْعَالِمِ مَضْرُوبٌ بِهَا الطَّبْلُ انْتَهَى.
قَالَ أَبُو عُمَرَ شَبَّهَ الْعُلَمَاءُ زَلَّةَ الْعَالِمِ بِانْكِسَارِ السَّفِينَةِ لِأَنَّهَا إذَا غَرِقَتْ غَرِقَ مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيْلٌ
لِلْأَتْبَاعِ مِنْ عَثَرَاتِ الْعَالِمِ قِيلَ كَيْفَ ذَلِكَ قَالَ يَقُولُ الْعَالِمُ شَيْئًا بِرَأْيِهِ ثُمَّ لَمْ يَجِئْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَتْرُكُ قَوْلَهُ ذَلِكَ ثُمَّ يَمْضِي فِي الِاتِّبَاعِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ أَيْضًا تُسْتَعْظَمُ شَرْعًا زَلَّةُ الْعَالِمِ وَتَصِيرُ صَغِيرَتُهُ كَبِيرَةً مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَفْعَالُهُ وَأَقْوَالُهُ جَارِيَةً فِي الْعَادَةِ عَلَى مَجْرَى الِاقْتِدَاءِ فَإِذَا حُمِلَتْ زَلَّتُهُ عَنْهُ قَوْلًا كَانَتْ أَوْ فِعْلًا لِأَنَّهُ مَوْضِعُ مَنَارٍ يُهْتَدَى بِهِ فَإِنْ عُلِمَ كَوْنُ زَلَّتِهِ صَغِيرَةً فِي أَعْيُنِ النَّاسِ وَجَسَرَ عَلَيْهَا النَّاسُ تَأَسِّيًا بِهِ وَتَوَهَّمُوا فِيهِ رُخْصَةً عَلِمَ هُوَ بِهَا وَلَمْ يَعْلَمُوهَا هُمْ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ وَإِنْ جُهِلَ كَوْنُهُ زَلَّةً فَأَحْرَى أَنْ يُحْمَلَ عَنْهُ مَحْمَلُ الْمَشْرُوعِ وَذَلِكَ كُلُّهُ رَاجِعٌ عَلَيْهِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي مِنْ أَعْمَالٍ ثَلَاثَةٍ قَالُوا وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَلَّةِ عَالِمٍ وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ وَهَوًى مُتَّبَعٍ» وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ زَلَّةُ عَالِمٍ وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ اهـ.
قُلْت وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ لِمُفْتٍ وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَسَاهَلَ وَيَتَمَاسَكَ بِالشَّبَهِ طَلَبًا لِلتَّرْخِيصِ عَلَى مَنْ يَرُومُ ضَرَّهُ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ هَانَ عَلَيْهِ دِينُهُ وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ. قَالَ أَمَّا إذَا صَحَّ قَصْدُ الْمُفْتِي فَاحْتَسَبَ فِي تَلَطُّفِهِ حَيْثُ لَا شُبْهَةَ فِيهَا وَلَا تَجُرُّهُ إلَى مَفْسَدَةٍ لِيُخَلِّصَ بِهِ الْمُسْتَفْتِيَ مِنْ وَرْطَةِ يَمِينٍ أَوْ نَحْوِهَا فَذَلِكَ حَسَنٌ جَمِيلٌ اهـ.
قُلْت وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِثْلُ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ إنْ فَعَلْتِ كَذَا فَأَنْت طَالِقٌ ثَلَاثًا وَخَافَ الْحِنْثَ فِي زَوْجَتِهِ بِالثَّلَاثِ فَلِلْمُفْتِي أَنْ يَقُولَ لَهُ خَالِعْهَا قَبْلُ ثُمَّ لَا يَلْزَمُكَ إلَّا وَاحِدَةٌ وَلَك مُرَاجَعَتُهَا قَبْلَ الْفِعْلِ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ مِنْ التَّرْخِيصِ وَالْحِيَلِ الَّتِي لَمْ تُخَالِفْ قَانُونَ الشَّرْعِ وَقَاعِدَتَهُ وَقَالَ الْقَرَافِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَنْبَغِي إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا فِيهِ تَشْدِيدٌ وَالْآخَرُ فِيهِ تَخْفِيفٌ أَنْ يُفْتِيَ الْعَامَّةَ بِالتَّشْدِيدِ وَالْخَوَاصَّ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ بِالتَّخْفِيفِ وَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ الْفُسُوقِ وَالْخِيَانَةِ فِي الدِّينِ وَالتَّلَاعُبِ بِالْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَرَاغِ الْقَلْبِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِجْلَالِهِ وَتَقْوَاهُ وَعِمَارَتِهِ بِاللَّعِبِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالتَّقَرُّبِ لِلْخَلْقِ دُونَ الْخَالِقِ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ صِفَاتِ الْغَافِلِينَ اهـ.
لَا يُقَالُ الْإِجْمَاعُ الَّذِي حَكَيْته عَنْ ابْنِ حَزْمٍ وَأَبِي عُمَرَ يُنْتَقَضُ وَيُرَدُّ بِقَوْلِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي بَعْضِ فَتَاوِيهِ وَلِلْعَامِّيِّ أَنْ يَعْمَلَ بِرُخَصِ الْمَذَاهِبِ وَإِنْكَارُ ذَلِكَ جَهْلٌ مِمَّنْ أَنْكَرَهُ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالرُّخَصِ مَحْبُوبٌ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فَإِنْ قُلْنَا بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فَكُلُّ الرُّخَصِ صَوَابٌ وَلَا يَجُوزُ إنْكَارٌ وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِذَلِكَ فَالصَّوَابُ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الْعَزِيمَةِ وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ الْأَخْذَ بِالْعَزِيمَةِ تَوَرُّعًا وَاحْتِيَاطًا وَاجْتِنَابًا لِمَظَانِّ الرِّيَبِ اهـ لَا سِيَّمَا وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ هَذَا مِمَّنْ لَا يَتَقَرَّرُ اتِّفَاقٌ مَعَ مُخَالَفَتِهِ بِاعْتِبَارِ
رَأْيِهِ وَرِوَايَتِهِ كَمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ الثِّقَةُ الْعَدْلُ الضَّابِطُ الْمُحَقِّقُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَرَفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. لِأَنَّا نَقُولُ ابْنُ حَزْمٍ وَأَبُو عُمَرَ قَدْ حَكَيَا الْإِجْمَاعَ وَمُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ وَعِزُّ الدِّينِ لَمْ يُبَيِّنْ بِفَتْوَاهُ الْمُسْتَنَدَةَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَأْيًا رَآهُ فَتَفَرَّدَ بِهِ أَوْ لَازِمَ قَوْلٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قُوَّةِ كَلَامِهِ وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ إحْدَاثُ قَوْلٍ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ بَاطِلًا لِتَضَمُّنِهِ تَخْطِئَةَ الْأُمَّةِ وَتَخْطِئَتُهَا مُمْتَنِعَةٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَسَوَاءٌ قُلْنَا انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطٌ أَمْ لَا. لَا يُقَالُ إجْمَاعَاتُ أَبِي عُمَرَ مَدْخُولَةٌ وَقَدْ حَذَّرَ النَّاصِحُونَ مِنْهَا وَمِنْ اتِّفَاقَاتِ ابْنِ رُشْدٍ وَاحْتِمَالَاتِ الْبَاجِيِّ وَاخْتِلَافِ اللَّخْمِيِّ. لِأَنَّا نَقُولُ غَايَةُ هَذَا نِسْبَةُ الْوَهْمِ إلَى أَبِي عُمَرَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَإِنْ سَلِمَ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَازَلَةِ فَمَا الَّذِي جَرَّحَ إجْمَاعَ ابْنِ حَزْمٍ لَا سِيَّمَا وَالشُّيُوخُ يَقُولُونَ أَصَحُّ الْإِجْمَاعَاتِ إجْمَاعَاتِهِ لَا يُقَالُ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ مِنْ أَوْعَبِ كُتُبِ الْإِجْمَاعِ إجْمَاعُ الْحَافِظِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُ الْأَفْضَلِيَّةَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْإِجْمَاعِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا إجْمَاعُ ابْنِ حَزْمٍ هَذَا فَأَيْنَ أَنْتَ مِمَّا نَقَلْت عَنْ الْأَشْيَاخِ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا أَثْبَتَ ابْنُ عَرَفَةَ لِإِجْمَاعِ ابْنِ الْقَطَّانِ مَزِيَّةَ الْإِيعَابِ وَالِاسْتِقْصَاءِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الْمَزِيَّةِ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْإِجْمَاعِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ حُصُولُهَا لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى تَنْدَرِجَ الْأُضْحِيَّةُ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَيْضًا فَابْنُ عَرَفَةَ إنَّمَا قَالَ مِنْ أَوْعَبِهَا وَلَمْ يَقُلْ أَوْعَبُهَا نَعَمْ لَوْ نَقَلَ عِزُّ الدِّينِ مَا بِهِ أَفْتَى رِوَايَةً عَنْ مُتَقَدِّمٍ لَصَحَّ نَقْضُ الْإِجْمَاعِ وَخَرْقُهُ بِهَا لِأَنَّهُ ثِقَةٌ ضَابِطٌ رَاسِخُ الْقَدَمِ وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ ثُمَّ الْمَفْهُومُ مِنْ قُوَّةِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ - أَنَّ الْمُمْتَنِعَ إنَّمَا هُوَ تَتَبُّعُ رُخَصِ كُلِّ الْمَذَاهِبِ لَا الْوَاحِدِ وَالتَّحْقِيقُ أَنْ لَا فَرْقَ إلَّا أَنَّ مَا عَلَّلُوا بِهِ الْمَنْعَ مِنْ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ التَّكْلِيفِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا إنَّمَا يَظْهَرُ كُلَّ الظُّهُورِ فِي الْأَوَّلِ لَا الثَّانِي لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَدْ تَكُونُ مَمْنُوعَةً فِي مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ بِاتِّفَاقٍ وَجَائِزَةً فِي غَيْرِهِ بِاتِّفَاقٍ أَوْ بِاخْتِلَافٍ فَلَوْ جَوَّزْنَا تَتَبُّعَ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ لَأَفْضَى إلَى لِمَا قَالُوهُ لِأَنَّ مَا تَتَّفِقُ فِيهِ الْمَذَاهِبُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ وَلَا كَذَلِكَ تَتَبُّعُ رُخَصِ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ أَخَفُّ مَفْسَدَةً مِنْ الْأَوَّلِ وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُقَلِّدَ إمَّا أَنْ لَا يَطَّلِعَ عَلَى أَرْجَحِيَّةِ الْأَشَدِّ وَالْأَخَفِّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَوْ يَطَّلِعَ فَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ فَالْحُكْمُ مَا مَرَّ مِنْ التَّخْيِيرِ أَوْ التَّرْجِيحِ بِالْأَعْلَمِ أَوْ بِالْأَكْثَرِ أَوْ بِالْأَشَدِّ وَالْأَثْقَلِ وَإِنْ اطَّلَعَ عَلَى أَرْجَحِيَّةِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي جَانِبِ الْأَخَفِّ أَوْ فِي جَانِبِ الْأَثْقَلِ فَإِنْ كَانَتْ فِي جَانِبِ الْأَشَدِّ وَالْأَثْقَلِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ إلَّا لِعَارِضٍ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا خِلَافًا لِعِزِّ الدِّينِ وَإِنْ كَانَتْ فِي جَانِبِ الْأَخَفِّ جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ وَالْأَوْلَى ارْتِكَابُ الْأَشَدِّ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَبْرَأُ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ وَإِنْ اخْتَلَفَ الرُّجْحَانُ وَتَفَاضَلَ الْمُرَجَّحُونَ أَوْ تَكَافَئُوا فَعَلَى مَا مَرَّ هُنَالِكَ وَهُنَا.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ فَإِنْ
قُلْتُمْ لِهَذَا الْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ شَاءَ مِنْ عُلَمَاءِ مَذْهَبِ إمَامِهِ فَبَيِّنُوا لَنَا كَيْفِيَّةَ التَّقْلِيدِ هَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ وَالتَّشَهِّي بِمَا يُوَافِقُ غَرَضَهُ وَلَا حَرَجَ عَلَى الْمُكَلَّفِ إذَا وَافَقَ غَرَضُهُ الْعِلْمَ. فَجَوَابُهُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ وَسَعَةٌ وَجَائِزٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ النَّاظِرُ فِي أَقَاوِيلِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ خَطَأٌ فَإِذَا بَانَ لَهُ أَنَّهُ خَطَأٌ لِمُخَالَفَتِهِ نَصَّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَسَعْهُ اتِّبَاعُهُ فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ جَازَ لَهُ اسْتِعْمَالُ قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ صَوَابَهُ مِنْ خَطَئِهِ وَصَارَ فِي حَيِّزِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُقَلِّدَ الْعَالِمَ إذَا سَأَلَتْهُ عَنْ شَيْءٍ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ وَجْهَهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهَذَا قَوْلٌ يُرْوَى مَعْنَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ سَأَلْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِيمَا لَمْ يَجْهَرْ فِيهِ فَقَالَ إنْ قَرَأْت فَلَكَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ لَمْ تَقْرَأْ فَلَكَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُسْوَةٌ.
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مَا بَرِحَ الْمُفْتُونَ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُحِلُّ هَذَا وَيُحَرِّمُ هَذَا فَلَا يَرَى الْمُحَرِّمُ أَنَّ الْمُحَلِّلَ هَلَكَ بِتَحْلِيلِهِ وَلَا يَرَى الْمُحَلِّلُ أَنَّ الْمُحَرِّمَ هَلَكَ بِتَحْرِيمِهِ.
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ اجْتَمَعْنَا عِنْدَ ابْنِ هُبَيْرَةَ فِي جُمْلَةٍ مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ فَجَعَلَ يَسْأَلُهُمْ حَتَّى انْتَهَى إلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ فَيَقُولُ لَهُ قَالَ فُلَانٌ كَذَا، وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا فَقَالَ لَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ قَدْ سَمِعَ الشَّيْخُ عِلْمَ الْوَاعِينَ بِرَأْيٍ وَالْحُجَّةُ لِهَؤُلَاءِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» قَالَ أَبُو عُمَرَ وَهَذَا مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ قَدْ رَفَضَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلُ النَّظَرِ عَلَى أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ مُتَقَدِّمِينَ وَمُتَأَخِّرِينَ يَمِيلُونَ إلَيْهِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا الْبَابِ فَمَرَّةً قَالَ أَمَّا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَآخُذُ بِقَوْلِ مَنْ شِئْت مِنْهُمْ وَلَا أَخْرُجُ عَنْ قَوْلِ جَمِيعِهِمْ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُنِي النَّظَرُ فِي أَقَاوِيلِ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ فَمَنْ دُونَهُمْ قَالَ أَبُو عُمَرَ جَعَلَ لِلصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ لِغَيْرِهِمْ وَأَظُنُّهُ مَالَ إلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِلَى نَحْوِ هَذَا كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَذْهَبُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الصَّيْرَفِيُّ: قُلْت لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْأَلَةٍ هَلْ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَنْظُرَ فِي أَقْوَالِهِمْ لِنَعْلَمَ مَعَ مَنْ الصَّوَابُ مِنْهُمْ فَتَتَبَّعْهُ فَقَالَ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت كَيْفَ الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ تُقَلِّدُ أَيَّهُمْ أَحْبَبْت قَالَ أَبُو عُمَرَ لَمْ يَرَ النَّظَرَ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ خَوْفًا مِنْ التَّطَرُّقِ إلَى النَّظَرِ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَصْحَابِي
كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» فَجَوَابُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا يَحْسُنُ اسْتِدْلَالُكُمْ بِهِ بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْبَزَّارِ فَلَا لِأَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَهُ ضَعِيفٌ قَالَ لِأَنَّهُ رُوِيَ مِنْ قِبَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ وَأَهْلُ الْعِلْمِ قَدْ سَكَتُوا عَنْ رِوَايَةِ حَدِيثِهِ وَعَلَى صِحَّتِهِ فَقَدْ قَالَ الْمُزَنِيّ مَعْنَاهُ عِنْدِي فِيمَا نَقَلُوهُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم وَشَهِدُوا بِهِ عَلَيْهِ فَكُلُّهُمْ ثِقَةٌ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ لَا يَجُوزُ عِنْدِي غَيْرُ هَذَا وَأَمَّا مَا قَالُوا فِيهِ بِرَأْيِهِمْ فَلَوْ كَانُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ كَذَلِكَ مَا خَطَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَا أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَا رَجَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى قَوْلِ صَاحِبِهِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ وَلَيْسَ هَذَا الصَّحِيحَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنْفَرِدِينَ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ جَهِلَ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ سَبِيلَهُ فَالتَّقْلِيدُ لَازِمٌ لَهُ بِأَمْرِ أَصْحَابِهِ أَنْ يَقْتَدِيَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ إذَا تَأَوَّلُوا تَأْوِيلًا سَائِغًا جَائِزًا مُمْكِنًا فِي أُصُولٍ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَجْمٌ جَائِزٌ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ الْعَامِّيُّ الْجَاهِلُ بِمَعْنًى يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ دِينِهِ وَكَذَا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ مَعَ الْعَامَّةِ اهـ.
فَعَلَى قَوْلِ الْبَزَّازِ وَتَفْسِيرُ الْمُزَنِيِّ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ مَا فِي اسْتِدْلَالِكُمْ بِالْحَدِيثِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عُمَرَ تَفْسِيرُهُ فَالِاسْتِدْلَالُ نَاهِضٌ لَكِنَّهُ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا مَيْزَ مَعَهُ وَلَا بَصَرَ.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ ظَوَاهِرُ إطْلَاقَاتِهِمْ فِي تَعَارِيفِهِمْ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ مَنْ قَلَّدَ عَالِمًا فَقَدْ بَرِئَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُمْ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ فَجَوَابُهُ أَنَّ أَبَا عُمَرَ قَالَ الِاخْتِلَافُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِمَّنْ عَلِمْته مِنْ فُقَهَاءِ الْأَعْصَارِ إلَّا مَنْ لَا بَصَرَ لَهُ وَلَا مَعْرِفَةَ عِنْدَهُ وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِ اهـ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ الشَّاطِبِيِّ وَابْنِ الصَّلَاحِ صَدْرَ هَذَا الْجَوَابِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ فَرَاجِعْهُ ثَمَّةَ وَطَالِعْهُ تَطَّلِعْ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ مَنْ قَلَّدَ عَالِمًا فَقَدْ بَرِئَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَعْنُونَ بِشُرُوطِهِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي التَّنْقِيحَاتِ نَقْلًا عَنْ الرِّيَاشِيِّ فَانْظُرْهَا. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: وَكَقَوْلِهِمْ أَيْضًا فِي الْخَصْمَيْنِ إذَا رَضِيَا بِتَقْلِيدِ غَيْرِ الْمَشْهُورِ فَإِنَّ رِضَاهُمَا بِهِ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَيَرْفَعُ الْخِلَافَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَصِيرُ الْمَسْأَلَةُ حِينَئِذٍ فِي حَقِّهِمَا إجْمَاعِيَّةً فَجَوَابُهُ أَنَّ الْقَوْلَ الشَّاذَّ حُجَّةٌ لِمَنْ قَلَّدَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ الْحُقُوقِ الدِّينِيَّةِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَغَيْرِهِمَا وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ وَرَعِ الْعُدُولِ الْأَقْوِيَاءِ فِي نَيْلِ الثَّوَابِ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ تَعْزِيرٌ وَلَا حَدٌّ وَإِنَّ أَمْرَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى حَدَّهُ وَتَعْزِيرَهُ إذَا أَقَرَّ بِالتَّعَمُّدِ لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يُدْرَأُ كَمَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إنَّ رِضَا الْخَصْمَيْنِ بِالشَّاذِّ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِ الْحَاكِمِ إلَخْ فَكَلَامٌ صَحِيحٌ، وَالْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَكِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَنْزِعَ أَحَدُهُمَا.
وَأَمَّا إنْ نَزَعَ أَحَدُهُمَا عَنْ رِضَاهُ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ وَتَرَاضِيهِمَا أَوَّلًا بِتَقْلِيدِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يُصَيِّرُهُ كَقَوْلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ وَخَالَفَ
ابْنُ لُبَابَةَ وَابْنُ الْعَطَّارِ وَغَيْرُهُمَا فَقَالُوا لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا حُكْمُ الْحَاكِمِ، وَكَذَلِكَ اُخْتُلِفَ إذَا كَانَ فِي النَّازِلَةِ قَوْلَانِ هَلْ يُجَوِّزُ الْفَتْوَى مَنْ سَبَقَ إلَيْهَا مِنْ الْخَصْمَيْنِ أَمْ لَا يُجَوِّزُهَا أَحَدٌ عَلَى الْآخَرِ إلَّا بِحُكْمٍ يَرْضَيَانِ بِهِ أَوْ السُّلْطَانِ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ فِيمَا لَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي وَأَمَّا إذَا كَانَ التَّقْلِيدُ فِيمَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءٌ كَمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ وَالْقَوَاعِدِ وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَالنَّصِّ الصَّرِيحِ فَلَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ لِعَدَمِ صِحَّةِ التَّقْلِيدِ إلَّا إذَا كَانَ لَهَا مُعَارِضٌ رَاجِحٌ عَلَيْهَا أَعْنِي لِلْقَوَاعِدِ، وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ الصَّرِيحِ فَإِنَّهُ يَتِمُّ التَّقْلِيدُ وَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ إذَا كَانَ عَلَى وَفْقِ مُعَارِضِهَا الرَّاجِحِ إجْمَاعًا كَالْقَضَاءِ بِصِحَّةِ عَقْدِ الْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالسَّلَمِ وَالْحَوَالَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ وَالنُّصُوصِ وَالْأَقْيِسَةِ لَكِنْ لَهَا أَدِلَّةٌ خَاصَّةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقَوَاعِدِ وَالنُّصُوصِ وَالْأَقْيِسَةِ، وَأَمَّا قَوْلُكُمْ لَا سِيَّمَا مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِ إمَامِ هَذَا الْمُقَلِّدِ مُرَاعَاةً لِلْخِلَافِ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْقَوْلَ بِمُرَاعَاةِ الْخِلَافِ قَدْ عَابَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَشْيَاخِ الْمُحَقِّقِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ مِنْهُمْ أَبُو عِمْرَانَ وَأَبُو عُمَرَ وَعِيَاضٌ قَالَ عِيَاضٌ الْقَوْلُ بِمُرَاعَاةِ الْخِلَافِ لَا يُعَضِّدُهُ الْقِيَاسُ وَكَيْفَ يَتْرُكُ الْعَالِمُ مَذْهَبَهُ الصَّحِيحَ عِنْدَهُ وَيُفْتِي بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ الْمُخَالِفِ لِمَذْهَبِهِ هَذَا لَا يَسُوغُ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ التَّرْجِيحِ وَخَوْفِ فَوَاتِ النَّازِلَةِ فَيَسُوغُ لَهُ التَّقْلِيدُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ انْتَهَى.
وَاخْتَارَ هَذَا أَيْضًا بَعْضُ الشُّيُوخِ أَهْلُ الْمَذْهَبِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ دَلِيلَيْ الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مُتَعَارِضَيْنِ يَقْتَضِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضِدَّ مَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ، وَهُوَ مَعْنَى مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ وَبِمُرَاعَاتِهِ قَالَ اللَّخْمِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْقَضَاءُ بِالرَّاجِحِ لَا يَقْطَعُ حُكْمَ الْمَرْجُوحِ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ يَجِبُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ» قَالَ وَهَذَا مُسْتَنَدُ مَالِكٍ فِيمَا كَرِهَ أَكْلَهُ فَإِنْ حَكَمَ بِالتَّحْلِيلِ لِظُهُورِ الدَّلِيلِ وَأَعْطَى الْمُعَارِضَ أَثَرَهُ فَتَبَيَّنْ مَسَائِلَهُ تَجِدْهَا عَلَى مَا رَسَمْت لَك وَمَعْنَى مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَّصِفَ بِأَعْمَالِ الصَّالِحِينَ وَصِفَاتِ الْأَبْرَارِ مِنْ تَوَقِّي الشُّبُهَاتِ رَاعَى قَوْلَ مَنْ قَالَ بِالتَّحْرِيمِ وَتَبَرَّأَ مِنْ الشُّبُهَاتِ، وَقِيلَ إنَّمَا يُرَاعَى الْخِلَافُ إذَا كَانَ قَوِيًّا وَلَا يُرَاعَى إذَا كَانَ شَاذًّا ضَعِيفًا. ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَاَلَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْإِمَامَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا يُرَاعِي مِنْ الْخِلَافِ مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ وَإِذَا حَقَّقَ فَلَيْسَ بِمُرَاعَاةٍ لِلْخِلَافِ أَلْبَتَّةَ وَإِنَّمَا هُوَ إعْطَاءُ كُلٍّ مِنْ دَلِيلَيْ الْقَوْلَيْنِ حُكْمَهُ مَعَ وُجُودِ التَّعَارُضِ انْتَهَى.
وَاخْتَلَفَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي ذَلِكَ فَمَرَّةً لَمْ يُرَاعِهِ جُمْلَةً، وَمَرَّةً رَاعَى الْقَوِيَّ، وَلَمْ يُرَاعِ الشَّاذَّ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ مَحْمَلَةُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَآخِذَ وَأُصُولًا ثُمَّ إذَا قُلْنَا بِمُرَاعَاةِ الْمَشْهُورِ وَحْدَهُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فَمَا الْمَشْهُورُ اخْتَلَفُوا
فِيهِ فَقِيلَ مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَشْهُورِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَأَصْلُهُ لِابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وَقَدْ أَجَازَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الصَّلَاةَ عَلَى جُلُودِ السِّبَاعِ إذَا ذُكِّيَتْ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى خِلَافِهِ وَأَبَاحَ مَا فِيهِ حَقٌّ تُوفِيهِ مِنْ غَيْرِ طَعَامٍ قَبْلَ قَبْضِهِ وَأَجَازَ أَكْلَ الصَّيْدِ وَإِنْ أَكَلَتْ الْكِلَابُ مِنْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ وَلَمْ يُرَاعِ فِي ذَلِكَ خِلَافَ الْجُمْهُورِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاعَى عِنْدَهُ الدَّلِيلُ لَا كَثْرَةُ الْقَائِلِ انْتَهَى. وَقِيلَ الْمَشْهُورُ مَا كَثُرَ قَائِلُهُ وَعَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ تَزِيدَ نَقَلَتُهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَقُولُ إنَّهُ يُرَاعَى الْمَشْهُورَ وَالصَّحِيحَ قَبْلَ الْوُقُوعِ خِلَافًا لِصَاحِبِ الْمُقَدِّمَاتِ تَوَقِّيًا وَاحْتِرَازًا كَمَا فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَفِي قَلِيلِ النَّجَاسَةِ عَلَى رِوَايَةِ الْمَدَنِيِّينَ وَبَعْدَهُ تَبَرِّيًا وَإِنْفَاذًا كَأَنَّهُ وَقَعَ أَوْ فُتْيَا لَا فِيمَا يُفْسَخُ مِنْ الْأَقْضِيَةِ وَلَا يُقَلَّدُ مِنْ الْخِلَافِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُرَاعَى الْخِلَافُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ الْحُكْمُ لَا يُرَاعَى فِيهِ إلَّا الْمَشْهُورُ مُطْلَقًا وَقِيلَ لَا يُرَاعَى مِنْ الْخِلَافِ إلَّا الْمَشْهُورُ وَفِي الْإِمْضَاءِ بَعْدَ الْوُقُوعِ يُرَاعَى فِيهِ مَا دُونَهُ فِي الشُّهْرَةِ وَأَحْرَى الْمَشْهُورُ وَفِي دَرْءِ الْحَدِّ يُرَاعَى فِيهِ كُلُّ خِلَافٍ لِغَرَضِ الشَّارِعِ فِي الشَّبَهِ وَكَوْنِ حَقِّ الْآدَمِيِّ أَقْوَى مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
ثُمَّ إذَا قُلْنَا بِمُرَاعَاةِ الْخِلَافِ مُطْلَقًا أَوْ الْمَشْهُورِ فَهَلْ ذَلِكَ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ أَوْ خَاصٌّ بِالْمُجْتَهِدِ فِيهِ قَوْلَانِ وَهَلْ مُرَاعَاتُهُ أَيْضًا مُطْلَقَةٌ سَوَاءٌ قُلْنَا بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ أَوْ إنَّمَا ذَلِكَ إذَا قُلْنَا بِتَصْوِيبِ كُلِّ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَلَا يُرَاعَى أَصْلًا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْمُتَأَخِّرِينَ وَلِلثَّانِي مَيْلُ الْأَكْثَرِ ثُمَّ شَرْطُ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ أَيْضًا عِنْدَ الْقَائِلِ بِهَا أَنْ لَا يَتْرُكَ الْمَذْهَبَ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ زَوَاجًا مُخْتَلَفًا فِيهِ، وَمَذْهَبُهُ فِيهِ وَمَذْهَبُ إمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ أَنَّهُ فَاسِدٌ ثُمَّ يُطَلِّقُ فِيهِ ثَلَاثًا فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَلْزَمُهُ فِيهِ الطَّلَاقُ وَلَا يَتَزَوَّجُهَا إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ فَلَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ لَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ إنَّمَا هُوَ لِاعْتِقَادِ فَسَادِ نِكَاحِهِمَا، وَنِكَاحُهُمَا عِنْدَهُ صَحِيحٌ، وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ فَاسِدٌ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانُ مَذْهَبَهُ مُرَاعَاةً لِمَذْهَبِ غَيْرِهِ يُرِيدُ أَنَّ مَنْعَهُ مِنْ تَزْوِيجِهَا أَوَّلًا إنَّمَا هُوَ مُرَاعَاةٌ لِلْخِلَافِ وَفَسْخِهِ ثَانِيًا لَوْ قِيلَ بِهِ كَانَ مُرَاعَاةً لِلْخِلَافِ.
أَيْضًا فَلَوْ رُوعِيَ الْخِلَافُ فِي الْحَالَيْنِ مَعًا لَكَانَ تَرْكًا لِلْمَذْهَبِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، قَالَهُ ابْنُ بَشِيرٍ عَنْ بَعْضِ الْقَرَوِيِّينَ وَرَدَّ ابْنُ عَرَفَةَ قَبُولَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنِ بَشِيرٍ قَوْلَ الْقَرَوِيِّ بِوُضُوحِ مُخَالَفَتِهِ وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ الْمَذْهَبِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ فِرْقَةِ الْفَسْخِ، وَفِرْقَةِ الطَّلَاقِ وَالْحُكْمِ لِفِرْقَةِ الْفَسْخِ بِاللَّغْوِ فِي إيجَابِ بَعْضِ مَا يُوجِبُ وَقْتَ تَجْدِيدِ عَقْدِ النِّكَاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ الْمَفْسُوخِ نِكَاحُهُمَا عَلَى نِكَاحِ الزَّوْجَةِ زَوْجًا آخَرَ فَضْلًا عَنْ كُلِّهِ وَالْحُكْمِ لِفِرْقَةِ الطَّلَاقِ بِنَقِيضِ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنَّ كُلَّ
مَنْ طَلَّقَ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ عَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِ طَلَاقِهِ أَنَّهُ إنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهَا مِنْ الطَّلَاقِ إلَّا تَمَامُ الثَّلَاثِ عَلَى الطَّلَاقِ الَّذِي أَوْقَعَهُ، وَإِذَا كَمُلَ الْوَاقِعُ مِنْهُ الثَّلَاثَ لَزِمَ حُرْمَتُهَا عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ سَوَاءٌ اجْتَرَأَ وَتَزَوَّجَهَا أَوْ لَا وَلَوْ كَانَتْ جَرَاءَتُهُ عَلَى تَزْوِيجِهَا بِلَا زَوْجٍ فِي طَلَاقِهِ إيَّاهَا ثَلَاثًا فِي نِكَاحِهِ الْفَاسِدِ تُوجِبُ لَغْوَ طَلَاقِهِ الثَّلَاثَ لَزِمَ ذَلِكَ فِي طَلَاقِهِ إيَّاهَا فِيهِ طَلْقَةً إذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ زَوْجٍ أَنْ لَا يُفْسَخَ نِكَاحُهُ إيَّاهَا قَبْلَ زَوْجٍ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ضَرُورَةً عَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِ طَلَاقِهِ فِيهِ وَإِلَّا صَارَ طَلَاقُهُ غَيْرَ لَازِمٍ وَالْفَرْضُ لُزُومُهُ هَذَا خَلَفٌ.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ وَلَمْ يَزَلْ أَعْلَامُ الْعُلَمَاءِ رضي الله عنهم يَتَسَاهَلُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا لَا سِيَّمَا بَعْدَ الْوُقُوعِ وَالنُّزُولِ إلَى آخِرِ مَا نَقَلْتُمْ عَنْ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ وَفِي الْكَلَامِ عَلَى فُصُولِ السُّؤَالِ وَفِي مُرَاجَعَتِهِ غُنْيَةٌ عَنْ التَّكْرَارِ وَالْإِعَادَةِ جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى، وَإِيَّاكُمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَفِي أَجْوِبَةِ ابْنِ رُشْدٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الْوَاقِعَةِ فِي رَسْمِ الْعِتْقِ مِنْ سَمَاعِ عِيسَى مِنْ كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ نَحْوُ مَا ذَكَرْتُمْ. وَنَصُّهُ " تَصَفَّحْت السُّؤَالَ وَوَقَفْت عَلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ دُونَ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ خَرَجَ أَوْ وَكَّلَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي سَمَاعِ وَنَوَازِلِ أَصْبَغَ مِنْ كِتَابِ الْبَضَائِعِ وَالْوَكَالَاتِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْحَاكِمُ لَمْ يُخْطِئْ فَقَدْ تَسَاهَلَ فِي ذَلِكَ الْحُكَّامُ لِلِاخْتِلَافِ الْحَاصِلِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ وَإِنْ قُلْتُمْ بِعَدَمِ تَقْلِيدِ الْمَشْهُورِ أَوْ الرَّاجِحِ أَلْبَتَّةَ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ ذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الْعَامَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ. وَأَمَّا مَا احْتَجَجْتُمْ بِهِ لِتَقْلِيدِ غَيْرِ الْمَشْهُورِ مِنْ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ عَلَى مَا حَكَاهُ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ فَلَا يَنْهَضُ كُلَّ النُّهُوضِ إذْ الْقَائِلُ أَنْ يَقُولَ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ تَقْلِيدِ الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى مِنْ الْقَوْلَيْنِ عَدَمُ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِي الْأَوَّلِ مَظِنَّةُ الرُّجْحَانِ وَفِي الثَّانِي تَحْقِيقُهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إلْغَاءِ الْأَضْعَفِ إلْغَاءُ الْأَقْوَى لِأَنَّا نُجَوِّزُ مَعَ كَوْنِهِ أَعْلَمَ وَأَدْرَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَرْجُوحًا وَإِنْ كَانَ هَذَا التَّجْوِيزُ مَرْجُوحًا لَكِنَّهُ كَافٍ فِي تَصَوُّرِ الْفَارِقِ وَلِأَنَّ أَدْنَى تَجْوِيزٍ يَمْنَعُ مِنْ الْجَزْمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَعَلَيْكُمْ فِي جَعْلِ الرَّاجِحِ قَسِيمَ الْمَشْهُورِ مُنَاقَشَةً لَا تَخْفَاكُمْ إنْ قُلْنَا إنَّ الْمَشْهُورَ مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِيهِ عَلَى مَا مَرَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ وَمَعَ الْقَوْلِ أَيْضًا بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ. فَجَوَابُهُ إنَّا وَإِنْ قُلْنَا بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَكِنَّ الْخَطَأَ يُمْكِنُ بِالْغَفْلَةِ عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ وَبِالْحُكْمِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ وَبَذْلِ الْجَهْدِ وَالْأَعْلَمُ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ وَبِهَذَا احْتَجَّ أَبُو حَامِدٍ لِمَذْهَبِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ شُيُوخِ الْأُصُولِيِّينَ وَفِي مَنْعِ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ وَلِأَجْلِ هَذَا التَّجْوِيزِ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ عَنْ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَتَجَاسَرْ الشَّيْخُ
أَبُو الطَّاهِرِ بْنُ يُسْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِهِ لِلُمَعِ الشِّيرَازِيَّةِ عَلَى الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ بِبِنَاءِ هَذَا الْخِلَافِ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ أَوْ وَاحِدٍ كَمَا تَجَاسَرَ عَلَيْهِ عِزُّ الدِّينِ وَإِنَّمَا عُبِّرَ بِلَفْظِ هَلْ الْمُقْتَضِي عَدَمُ الْجَزْمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ أَنَّ الْأَئِمَّةَ إنْ اخْتَلَفُوا هَلْ عِنْدَ اللَّهِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ تَرْجِعُ إلَيْهِ الظُّنُونُ فَيُصِيبُهُ بَعْضُهُمْ وَيُخْطِئُهُ آخَرُونَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ أَوْ لَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ حُكْمٌ ظَاهِرٌ وَلَا مَغِيبٌ سِوَى مَا يَظُنُّهُ كُلُّ فَقِيهٍ أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ فَيُخَاطِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى حِينَئِذٍ بِأَنَّ هَذَا حُكْمِي عَلَيْكَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ.
وَهَذَا الْمَذْهَبُ الثَّانِي هُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْهُذَيْلِ وَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمَازِرِيِّ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي الْمَسَالِكِ وَالْمَحْصُولِ وَابْنِ بَشِيرٍ وَابْنِ رُشْدٍ فِي الْأَجْوِبَةِ وَالْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّوَوِيِّ وَعِيَاضٍ فِي الْإِكْمَالِ وَأَبِي حَامِدٍ فِي الْمُسْتَصْفَى قَالَ أَبُو حَامِدٍ لَا يَتَنَاظَرُ فِي الْفُرُوعِ إلَّا الضَّعِيفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَظُنُّ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا وَحِكَايَةُ الْمَازِرِيِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الْأَئِمَّةِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْفُرُوعِ الظَّنِّيَّةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ الْأَحْكَامَ تَابِعَةً لِلظُّنُونِ وَالظُّنُونُ هِيَ الْمُثْمِرَةُ لَهَا وَالْأَحْكَامُ هِيَ الثَّمَرَةُ كَالْمَعْلُومِ فِي كَوْنِهَا تَابِعَةً لِلْمَعْلُومِ عَلَى أَيِّ حَالٍ صَادَفَتْهُ تَعَلَّقَتْ بِهِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ لِابْنِ فُورَكٍ وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَاخْتِيَارُ سَيْفِ الدِّينِ الْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِمَا.
وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ التَّخْطِئَةُ وَالتَّصْوِيبُ وَرَأَيْت لِبَعْضِ شُيُوخِ الْأُصُولِيِّينَ مَا نَصُّهُ " لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْحُذَّاقِ مِنْ شُيُوخِ الْمَالِكِيِّينَ وَنُظَّارِهِمْ مِنْ الْبَغْدَادِيِّينَ مِثْلِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ وَأَبِي بَكْرٍ الطَّيَالِسِيِّ وَمَنْ دُونَهُمْ كَأَبِي الْفَرَجِ الْمَالِكِيِّ وَأَبِي الطَّيِّبِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمُنْتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الشُّيُوخِ وَالْمِصْرِيِّينَ الْمَالِكِيِّينَ كُلٌّ يَحْكِي أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ إذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّأْوِيلُ مِنْ نَوَازِلِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْحَقَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ قَالَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا حَكَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَفِيمَا حَكَاهُ الْحُذَّاقُ مِنْ أَصْحَابِهِمْ مِثْلُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ وَمُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ وَمَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُمْ مِثْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرَاذِعِيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْجُرْجَانِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ رَأَيْنَا وَشَاهَدْنَا وَالْحُجَّةُ لِهَذَا الْقَوْلِ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَخْطِئَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَنَظَرُ بَعْضِهِمْ فِي أَقْوَالِ بَعْضٍ وَتَعَقُّبُهَا فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُمْ كُلُّهُمْ عِنْدَهُمْ صَوَابًا مَا فَعَلُوا ذَلِكَ، وَقَالَ أَشْهَبُ سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ مَا الْحَقُّ إلَّا وَاحِدٌ قَوْلَانِ مُخْتَلِفَانِ لَا يَكُونَانِ صَوَابًا مَعًا مَا الْحَقُّ وَالصَّوَابُ إلَّا وَاحِدٌ
وَبِهِ يَقُولُ اللَّيْثُ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:
إثْبَاتُ ضِدَّيْنِ مَعًا فِي حَالٍ
…
أَقْبَحُ مَا يَأْتِي مِنْ الْمُحَالِ
وَلَوْ كَانَ الصَّوَابُ فِي وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفِينَ مَا خَطَّأَ السَّلَفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي اجْتِهَادِهِمْ وَقَضَايَاهُمْ أَوْ فَتْوَاهُمْ وَانْظُرْ كَيْفَ صَرَّحَ بِأَنَّ الصَّوَابَ تَصْوِيبُ الْوَاحِدِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَالِكٌ الْإِمَامُ وَهُوَ اخْتِيَارُ فَخْرِ الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ وَعَلَى هَذَا فَالْقَوْلَانِ فِي تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ أَوْ وَاحِدٍ صَحِيحَانِ وَأَمَّا قَوْلُكُمْ وَرُبَّمَا حَكَى الْإِجْمَاعَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ وَنَحْوُهُ عَنْ ابْنِ حَزْمٍ. فَجَوَابُهُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا حَكَى الْإِجْمَاعَ الَّذِي أَشَرْتُمْ إلَيْهِ عَلَى مَنْعِ التَّرْجِيحِ بِغَيْرِ الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا كَتَرْجِيحِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِالصُّحْبَةِ وَالْإِمَارَةِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ وَاَلَّذِي حَكَى ابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى امْتِنَاعِهِ وَرَدَّهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِفَتْوَى عِزِّ الدِّينِ إنَّمَا هُوَ فِي تَتَبُّعِ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَبَيْنَهُمَا مِنْ الْبَوْنِ مَا لَا يَخْفَاكُمْ وَلْيَكُنْ هَذَا آخِرَ مَا ظَهَرَ تَقْيِيدُهُ جَوَابًا عَنْ السُّؤَالِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَلَهُ الْمِنَّةُ بِكُلِّ حَالٍ انْتَهَى، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
(مَا قَوْلُكُمْ) فِي شَافِعِيٍّ حَضَرَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَحَصَلَ لَهُ انْقِطَاعٌ فِي الرِّيفِ فَدَرَسَ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَتَلَقَّهُ عَنْ شَيْخٍ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَوْ لَا أَفِيدُوا الْجَوَابَ.
فَأَجَبْتُ بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّدْرِيسُ وَلَا الْفَتْوَى عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ اعْتِمَادًا عَلَى مَا فِي الْكُتُبِ إذْ فِيهَا فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ مُحْتَاجَةٌ لِقُيُودٍ لَا تُعْلَمُ إلَّا مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ وَفِيهَا فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ مُقَيَّدَةٌ لَا مَفْهُومَ لِقُيُودِهَا وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا مِنْهُمْ وَفِيهَا عِبَارَاتٌ كَثِيرَةٌ ظَاهِرُهَا غَيْرُ مُرَادٍ وَفِيهَا مَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ غَامِضَةٌ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهَا إلَّا بِالتَّلَقِّي وَفِيهَا فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْمَشْهُورِ وَفِيهَا فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ جَرَى الْعَمَلُ بِخِلَافِهَا وَفِيهَا فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الْعُرْفِ وَفِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ فَالْمُعْتَمِدُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَلَقٍّ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ إبَاحَةِ فَرْجٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِرَاقَةِ دَمٍ عَصَمَهُ اللَّهُ وَإِزَالَةِ مِلْكٍ أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَضِدِّهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا تُحْصَى قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ رُشْدٍ لَا يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يُعْنَ بِالْعِلْمِ وَلَا سَمِعَهُ وَلَا رَوَاهُ الْجُلُوسُ لِتَعْلِيمِهِ الْمُوَطَّأَ وَلَا غَيْرَهُ مِنْ الْأُمَّهَاتِ وَلَوْ كَانَتْ مَشْهُورَةً وَلَوْ قَرَأَهَا وَتَفَقَّهَ عَلَى الشُّيُوخِ فِيهَا وَحَمَلَهَا إجَازَةً فَقَطْ جَازَ أَنْ يُعَلِّمَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الشُّيُوخِ مِنْ مَعَانِيهَا وَأَنْ يُقْرِئَهَا إذَا صَحَّحَ كِتَابَهُ عَلَى رِوَايَةِ شَيْخِهِ انْتَهَى.
وَقَالَ أَيْضًا وَالْعَمَلُ بِمَا فِي الْكُتُبِ لِمَنْ لَا يَدْرِي لَا يُنَجِّي مِنْ الْخَطَأِ فِيهِ لِوُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّ النَّازِلَةَ لَا يَجِيءُ بِهَا نَصُّ الْكِتَابِ إلَّا نَادِرًا وَأَكْثَرُ مَا يَجِيءُ شَبِيهٌ بِهَا وَبِتِلْكَ الْمُشَابَهَةِ يَغْلَطُ بَعْضُ النَّاسِ فَيَكْتُبُ عَلَيْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ الْمَعْنَى وَيُخْرِجُهَا عَنْ سَبَبِهَا لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْأُصُولِ الَّتِي قَالَهَا الْقَوْمُ فَيَخْرُجُ عَنْ
الْأَصْلِ وَيَقَعُ فِي الْخَطَأِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ انْتَهَى.
وَسُئِلَ ابْنُ رُشْدٍ أَيْضًا هَلْ يُسْتَفْتَى مَنْ قَرَأَ الْكُتُبَ الْمُسْتَعْمَلَةَ مِثْلَ الْمُدَوَّنَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ دُونَ رِوَايَةٍ أَوْ كُتُبَ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّتِي لَا تُوجَدُ لَهَا رِوَايَةٌ أَمْ لَا.
فَأَجَابَ مَنْ قَرَأَهَا عَلَى الشُّيُوخِ وَأَحْكَمَ مَعَانِيَهَا وَفَهِمَ أُصُولَهَا بِمَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَأَحْكَمَ وَجْهَ الْقِيَاسِ وَعَرَفَ النَّاسِخَ مِنْ الْمَنْسُوخِ وَسَقِيمَ السُّنَّةِ مِنْ صَحِيحِهَا وَفَهِمَ مِنْ اللِّسَانِ مَا يَعْرِفُ بِهِ الْخِطَابَ جَازَتْ فَتْوَاهُ فِيمَا يَنْزِلُ مِنْ الْمَسَائِلِ بِاجْتِهَادِهِ مِمَّا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ هَذِهِ الدَّرَجَةَ لَا تَجُوزُ لَهُ الْفَتْوَى فِي النَّوَازِلِ بِرَأْيِهِ إلَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ عَالِمٍ بِرِوَايَةٍ فَيُقَلِّدُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ ثُمَّ قَالَ وَإِنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي قِرَاءَتِهِ فَلَا يَحِلُّ اسْتِيفَاؤُهُ وَلَا تَجُوزُ لَهُ الْفَتْوَى انْتَهَى.
وَقَالَ الْإِمَامُ سَحْنُونٌ مُدَوِّنُ الْمُدَوَّنَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ اشْتَرَى كُتُبَ الْعِلْمِ أَوْ وَرِثَهَا ثُمَّ أَفْتَى بِهَا وَلَمْ يَعْرِضْهَا عَلَى الْفُقَهَاءِ أُدِّبَ أَدَبًا شَدِيدًا انْتَهَى.
وَقَالَ غَيْرُهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ عُوقِبَ بِالسَّوْطِ وَقَدْ قَالَ رَبِيعَةُ التَّابِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِبَعْضِ مَنْ يُفْتِي هَاهُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنْ السُّرَّاقِ انْتَهَى.
وَذَكَرَ الْقَاضِي حَدِيثًا مَرْفُوعًا «لَا يُفْتِي أُمَّتِي الصَّحَفِيُّونَ وَلَا يُقْرِئُهُمْ الْمُصَحِّفُونَ» قَالَ مَالِكٌ لَا يُفْتِي الْعَالِمُ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ أَهْلًا لِلْفُتْيَا قَالَ سَحْنُونٌ يُرِيدُ الْعُلَمَاءَ قَالَ ابْنُ هُرْمُزَ وَيَرَى هُوَ نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَبَّابُ تَعْلِيمُ النَّاسِ مِنْ الرِّسَالَةِ وَالْجَلَّابِ وَنَحْوِهِمَا لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ عَلَى أَحَدٍ لَا يَنْبَغِي انْتَهَى. وَقَالَ أَيْضًا الَّذِي يُفْتِي النَّاسَ بِمَا يَرَى فِي الْكُتُبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الشَّيْخِ لَا يَحِلُّ لَهُ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ وَسَوَاءٌ وَجَدَ غَيْرَهُ أَمْ لَا انْتَهَى، وَالْجُمْلَةُ فَيُنْهَى هَذَا الرَّجُلُ عَنْ التَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَشَدَّ النَّهْيِ فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ أُدِّبَ أَدَبًا شَدِيدًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَا قَوْلُكُمْ) فِي ثَوَابِ عَمَلِ الصَّبِيِّ هَلْ هُوَ لَهُ خَاصَّةً أَوْ لَهُ وَلِأَبَوَيْهِ أَوْ لِأَبَوَيْهِ خَاصَّةً وَهَلْ عَلَى السَّوَاءِ أَوْ التَّفَاوُتِ بَيِّنُوا.
فَأَجَبْتُ بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ ثَوَابَ عَمَلِ الصَّبِيِّ لَهُ خَاصَّةً وَلِوَالِدَيْهِ ثَوَابُ التَّسَبُّبِ فِيهِ قَالَ الْحَطَّابُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِ الْيَوَاقِيتِ فِي الْمَوَاقِيتِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْبُلُوغَ لَيْسَ شَرْطًا فِي ذَلِكَ أَيْ خِطَابِ النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ وَأَنَّ الصَّبِيَّ يُنْدَبُ لَهُ وَيَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الْمَنْدُوبَاتِ إذَا فَعَلَهَا لِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ وَقِيلَ إنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ وَلَا هُوَ مُخَاطَبٌ بِنَدْبٍ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ الْمُخَاطَبُ الْوَلِيُّ وَأَمْرُ الصَّبِيِّ بِالْعِبَادَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِصْلَاحِ كَرِيَاضَةِ الدَّابَّةِ لِحَدِيثِ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ حَدِيثَ الْخَثْعَمِيَّةِ أَخَصُّ مِنْ هَذَا فَيُقَدَّمُ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ اهـ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ إنَّ الصَّغِيرَ لَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ وَتُكْتَبُ لَهُ الْحَسَنَاتُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ، وَقَالَ الْحَافِظُ