الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَمْنُوعٌ، وَقِيلَ إنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْأَوْلَى عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ وَهُوَ مِنْ بَابِ الْوَرَعِ فَالْأَوَّلُ مِنْ الْأَقْوَالِ نَقَلَهُ الشَّيْخُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَالثَّانِي هُوَ مُخْتَارُهُ وَالثَّالِثُ مُخْتَارُ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَالثَّانِي هُوَ الَّذِي عَضَّدَهُ الْقَوَاعِدُ الْأُصُولِيَّةُ، وَعَلَيْهِ بَنَى - حُجَّةُ الْإِسْلَامِ - الْغَزَالِيُّ وَالْإِمَامُ الْمَازِرِيُّ وَنَصَّ عَلَى أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ الْمَشْهُورِ أَوْ مَا رَجَّحَهُ شُيُوخُ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ مِنْ ضَعْفِ الْعِلْمِ وَقِلَّةِ الدِّينِ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ وَالتَّحْقِيقُ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلًا غَيْرَ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا فَقَدْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَهَلَكَ فِي بَيِّنَاتِ الطَّرِيقِ فَالْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنٌ عِنْدَ كُلِّ عَالِمٍ مُتَمَكِّنٍ.
وَإِذَا اطَّلَعَ الْمُقَلِّدُ عَلَى خِلَافٍ فِي مَسْأَلَةٍ تَخُصُّهُ وَفِيهَا قَوْلٌ رَاجِحٌ بِشُهْرَةٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ غَيْرِهِمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ عَلَى الرَّاجِحِ وَلَا يُفْتِي بِغَيْرِهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ قَادِحَةٍ وَالْتِزَامِ مَفْسَدَةٍ وَاضِحَةٍ وَقَدْ اسْتَوْعَبْت الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى بِمِنْهَاجِ الْبَرَاعَةِ فِي الْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُفْتِينَ وَقَضَاءِ الْجَمَاعَةِ وَاَللَّهُ جل جلاله الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ وَالْمُثِيبُ عَلَيْهِ بِحُسْنِ الثَّوَابِ وَكَتَبَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِكْرِيٍّ لَطَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ اهـ. مِنْ الْمِعْيَارِ وَنَصُّ السُّؤَالِ الْمُجَابِ بِهَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ مَسْأَلَةُ التَّقْلِيدِ الصَّرْفِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ ضَرْبٌ مِنْ التَّرْجِيحِ بَلْ مَعَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَقَاوِيلِ أَئِمَّةِ مَذْهَبِ إمَامِهِ وَمَعْرِفَةِ الْمَشْهُورِ مِنْهَا بِوَاسِطَةِ الشَّارِحِينَ وَالْمُتَأَوِّلِينَ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمُقَلِّدَ تُعْرَضُ لَهُ مَسْأَلَةٌ تَخُصُّهُ فِي دِينِهِ أَوْ فِي بَعْضِ مُعَامَلَاتِهِ وَقَدْ حَفِظَ مِنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ فِيهَا قَوْلَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ وَرُبَّمَا وَافَقَ كُلٌّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ قَوْلَ صَحَابِيٍّ وَعَلِمَ هَذَا الْمُقَلِّدُ الْمَشْهُورَ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَ الْمَشْهُورِ فِي مَسْأَلَةٍ أَوْ يُفْتِي بِهِ بِقَصْدِ التَّوْسِعَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مُسْتَنِدًا فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَاءِ السَّهْلَةِ» وَالْأَخْذُ بِالرُّخَصِ مَحْبُوبٌ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وَفَرْضُ النَّازِلَةِ أَنَّ هَذَا الْمُقَلِّدَ لَمْ يَقْصِدْ تَتَبُّعَ رُخَصِ مَذْهَبِ إمَامِهِ فِي كُلِّ نَازِلَةٍ تَنْزِلُ بِهِ بَلْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ النَّوَازِلِ وَرُبَّمَا قَلَّدَ غَيْرَ الْمَشْهُورِ فِي وُقُوعِ نَازِلَتِهِ.
[كَيْفِيَّةَ التَّقْلِيدِ]
فَإِنْ قُلْتُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ لِهَذَا الْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ شَاءَ مِنْ عُلَمَاءِ مَذْهَبِ إمَامِهِ فَبَيِّنُوا لَنَا كَيْفِيَّةَ التَّقْلِيدِ وَهَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ وَالتَّشَهِّي بِمَا يُوَافِقُ غَرَضَهُ وَلَا حَرَجَ عَلَى الْمُكَلَّفِ إذَا وَافَقَ غَرَضَهُ الْعِلْمُ وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» وَيَشْهَدُ لَهُ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ ظَوَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ فِي تَفَارِيعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ مَنْ قَلَّدَ عَالِمًا فَقَدْ بَرِئَ مَعَ اللَّهِ وَقَوْلُهُمْ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ
وَرُبَّمَا نَكَّتَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ حَجَّرْت وَاسِعًا إذَا جَرَى عَلَى الْمَشْهُورِ فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِ وَقَوْلُهُمْ فِي الْخَصْمَيْنِ إذَا تَرَاضَيَا بِتَقْلِيدِ غَيْرِ الْمَشْهُورِ فَإِنَّ رِضَاهُمَا بِهِ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَيَرْفَعُ رِضَاهُمَا الْخِلَافَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ بِالْكُلِّيَّةِ
وَتَصِيرُ الْمَسْأَلَةُ حِينَئِذٍ فِي حَقِّهِمَا إجْمَاعِيَّةً لَا سِيَّمَا مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِ إمَامِ هَذَا الْمُقَلِّدِ وَمَبْنَاهُ مُرَاعَاةُ الْخِلَافِ وَلَمْ يَزَلْ أَعْلَامُ الْعُلَمَاءِ رضي الله عنهم وَعَنْكُمْ - يَتَسَاهَلُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا لَا سِيَّمَا بَعْدَ النُّزُولِ أَوْ لَا سَبِيلَ إلَى تَخْيِيرِ هَذَا الْمُقَلِّدِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُجْتَهِدِ
وَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَقْوَى الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُ وَأَرْجَحِهَا فِي نَظَرِهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْهَا دَلِيلًا يُوَافِقُ غَرَضَهُ فَكَذَلِكَ هَذَا إذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا بِقَوْلِ الْأَعْدَلِ وَالْأَعْلَمِ مِنْهُمَا فِي نَظَرِهِ أَوْ غَايَةُ ذَلِكَ أَنْ يَنْدُبَ إلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْأَعْدَلِ وَالْأَعْلَمِ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ وَاتِّبَاعِ الْأَفْضَلِ هَذَا غَيْرُ مَا أَفْتَى بِهِ عِزُّ الدِّينِ وَإِنْ قُلْتُمْ بِعَدَمِ تَقْلِيدِ غَيْرِ الْمَشْهُورِ أَلْبَتَّةَ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ تَقْلِيدُ الْأَعْلَمِ عَلَى مَا حَكَاهُ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ وَمَعَ الْقَوْلِ أَيْضًا بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَكُلُّ الرُّخَصِ صَوَابٌ وَلَا دَرَكَ عَلَى الْمُكَلَّفِ إذَا انْتَقَلَ مِنْ صَوَابٍ إلَى صَوَابٍ وَقَدْ أَفْرَدَ لِهَذَا الْمَعْنَى الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كِتَابًا فِي مُوَافَقَاتِهِ كَمَا فِي عِلْمِكُمْ يَقْتَضِي مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ أَنَّ الْمُقَلِّدَ أَوْ الْمُفْتِي لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ إلَّا بِالْمَشْهُورِ قَالَ الْبَاجِيُّ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ فِي مَنْعِ الْفُتْيَا بِغَيْرِ الْمَشْهُورِ قَالَ وَالْمُقَلِّدُ مِثْلُهُ وَرُبَّمَا حَكَى الْإِجْمَاعَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ وَنَحْوُهُ عَنْ ابْنِ حَزْمٍ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِيهِ هُوَ مَرْدُودٌ بِفُتْيَا الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ الْوَرِعِ الْمِصْرِيِّ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَكَذَا يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ أَبِي جَمْرَةَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ اللَّهِ إلَّا بِالْمَشْهُورِ وَفُتْيَا الْمَازِرِيِّ حَيْثُ أَفْتَى بِمَنْعِ اقْتِضَاءِ الطَّعَامِ عَنْ ثَمَنِ الطَّعَامِ وَقَدْ أَوْجَبَ إجْمَاعَاتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَفَتَاوِيهِمْ حَيْرَةً عَظِيمَةً فَاكْشِفُوا بِفَضْلِكُمْ مَا غَشَّى أَبْصَارَنَا كَشَفَ اللَّهُ عَنْ قُلُوبِكُمْ حُجُبَ الْغَفْلَةَ وَأَمَدَّ أَبْصَارَكُمْ وَبَصَائِرَكُمْ بِنُورٍ مِنْ لَدُنْ أَطْوَلِ أَيَّامِ الْمُهْلَةِ.
قَالَ صَاحِبُ الْمِعْيَارِ فَأَجَبْتُهُ بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ خَيْرِ خَلْقِهِ وَخَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ خَيْرِ صَحْبٍ وَأَكْرَمِ أَوْلِيَائِهِ صَلَاةً وَسَلَامًا يَدُومَانِ بِدَوَامِ الدَّهْرِ وَنَجِدُ بَرَكَتَهُمَا فِي هَذِهِ وَيَوْمَ لِقَائِهِ أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا الْأَخُ فِي اللَّهِ - شَرَحَ اللَّهُ لِلْعِلْمِ النَّافِعِ صَدْرِي وَصَدْرَكَ وَرَفَعَ فِي الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ قَدْرِي وَقَدْرَكَ وَيَسَّرَ لِلْخَيْرَاتِ أَمْرِي وَأَمْرَك وَضَاعَفَ لَدَيْهِ أَجْرِي وَأَجْرَك - فَإِنِّي أُمَهِّدُ لَك قَبْلَ الْخَوْضِ فِي تَتَبُّعِ أَلْفَاظِ السُّؤَالِ وَالشُّرُوعِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْمَبَاحِثِ وَالْأَحْوَالِ مُقَدَّمَةً عَلَيْهَا الْمَدَارُ وَالِاعْتِمَادُ وَبِتَحْصِيلِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ يَتَبَيَّنُ الْغَرَضُ وَيُسْتَفَادُ فَأَقُولُ مُعْتَصِمًا بِاَللَّهِ وَمُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَمُتَبَرِّئًا مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَيْهِ: لَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ الْمُنْتَسِبِ إلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَذَاهِبِ وَأَصْحَابِ الْآرَاءِ وَالْمَقَالَاتِ الْمَرْوِيَّةِ
الْمَسْمُوعَةِ الثَّابِتَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ ذَاتِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالِ أَنْ يَتَخَيَّرَ فَيَعْمَلَ أَوْ يُفْتِيَ أَوْ يَحْكُمَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ قَبْلَ النَّظَرِ فِي التَّرْجِيحِ وَإِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي تَعْيِينِ الْمَشْهُورِ وَالصَّحِيحِ إنْ كَانَ الْمُقَلِّدُ أَهْلًا لِلنَّظَرِ فِي طُرُقِ التَّرْجِيحِ وَإِدْرَاكِ مَدَارِك التَّقْدِيمِ وَالتَّصْحِيحِ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالِ إنْ كَانَتْ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ أَنْ لَا يَعْمَلَ أَوْ يُفْتِيَ أَوْ يَحْكُمَ إلَّا بِالرَّاجِحِ عِنْدَهُ وَفِي الدَّلِيلِ لَهُ عَاضِدٌ وَأَنْ يَخْتَارَ أَوْفَقَ الْمَذَاهِبِ وَالْأَقْوَالِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ وَلَا الْتِفَاتٍ إلَى جِنْسِ التَّرْجِيحِ وَنَوْعِهِ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ نُصْرَةِ الْأَوَّلِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْك التَّمَسُّكُ بِالْأَخِيرِ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ نَاسِخٌ وَالسَّابِقَ مَنْسُوخٌ فِي نَظَرِ الْأَئِمَّةِ وَالشُّيُوخِ.
فَإِنْ قُلْتَ إذَا وَجَبَ إعْمَالُ الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ نَاسِخًا وَإِهْمَالُ الْمَرْجُوعِ عَنْهُ لِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا فَمَا فَائِدَةُ تَدْوِينِ الْأَئِمَّةِ لِلْأَقْوَالِ الَّتِي رَجَعَ عَنْهَا الْمُجْتَهِدُ إذَا كَانَتْ هَذِهِ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَهُمْ قُلْت فَائِدَةُ تَدْوِينِهَا أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَذْهَبَ إلَيْهَا الْمُجْتَهِدُ أَوْ مَنْ بَلَغَ رُتْبَةَ التَّرْجِيحِ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ عَلَى مَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَإِنْ جَهِلَ تَسَاقُطًا إنْ لَمْ يُمَيِّزْ الْأَرْجَحَ مِنْهُمَا بِقَوَاعِدِ مَذْهَبِ إمَامِهِ وَأُصُولِهِ وَإِنْ مَيَّزَهُ بِقَوَاعِدِهِ الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِيهَا بِوَجْهٍ وَلَا حَالٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ فِي عَمَلِهِ وَقَضَائِهِ، وَفَتْوَاهُ.
وَالدَّلِيلُ لِذَلِكَ وُجُودُهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَحُمَاتِهِ، وَفَعَلَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا مِنْ الْكِتَابِ، وَتَلَقَّاهُ مِنْهُ الشَّيْخَانِ الشَّامِخَانِ بِالْقَبُولِ أَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ وَأَمَّا أَنْ يَعْمَلَ أَوْ يُفْتِيَ أَوْ يَحْكُمَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْوُجُوهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ وَلَا تَقْيِيدٍ بِالْمَشْهُورِ وَالصَّحِيحِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ وَلَا يَجُوزُ فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ أَثِمَ بِلَا نِزَاعٍ وَجَهِلَ وَخَرَقَ سَبِيلَ الْإِجْمَاعِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الَّذِي حَكَى عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ الْمَالِكِيُّ مِنْ فُقَهَاءِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ غَيْرَ مُسْتَسِرٍّ إنَّ الَّذِي لِصَدِيقِي عَلَيَّ إذَا وَقَعَتْ لَهُ حُكُومَةٌ أَنْ أُفْتِيَهُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي تُوَافِقُهُ، وَحَكَى عَمَّنْ يُوثَقُ بِهِ أَنَّهُ وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ فَأَفْتَى فِيهَا وَهُوَ غَائِبٌ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ بِمَا يَضُرُّهُ فَلَمَّا أَعَادَهَا لَهُمْ قَالُوا لَهُ مَا عَلِمْنَا أَنَّهَا لَك وَأَفْتَوْهُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي تُوَافِقُهُ
قَالَ الْبَاجِيُّ وَلَوْ اعْتَقَدَ هَذَا الْقَائِلُ مِثْلَ هَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ مَا اسْتَجَازَهُ وَلَا اسْتَجَازَهُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وَلَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَصِحُّ لِلْحَاكِمِ وَلَا لِلْمُفْتِي أَنْ يَرْجِعَ فِي حُكْمِهِ أَوْ فَتْوَاهُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ بِالصُّحْبَةِ أَوْ الْإِمَارَةِ أَوْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ إنَّمَا التَّرْجِيحُ بِالْوُجُوهِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَكُلُّ مَنْ اسْتَمَرَّ عَلَى تَقْلِيدِ قَوْلٍ غَيْرِ مُحَقَّقٍ أَوْ رَجَّحَ بِغَيْرِ مَعْنًى مُعْتَبَرٍ فَقَدْ خَلَعَ الرِّبْقَةَ وَاسْتَنَدَ إلَى غَيْرِ شَرْعٍ عَافَانَا اللَّهُ مِنْ النَّارِ
وَقَدْ زَادَ الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ حَتَّى صَارَ الْخِلَافُ فِي الْمَسَائِلِ مَعْدُودًا مِنْ حُجَجِ الْإِبَاحَةِ وَوَقَعَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ مِنْ
الزَّمَانِ الِاعْتِمَادُ فِي جَوَازِ الْفِعْلِ عَلَى كَوْنِهِ مُخْتَلَفًا فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا بِمَعْنَى مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ فَإِنَّ لَهُ نَظَرًا آخَرَ حَتَّى كَانَ رَأَى قَوْمٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ زَمَانَنَا هَذَا فَضْلًا عَنْ زَمَانِنَا اتَّخَذُوا الرِّجَالَ دَرِيئَةً لِأَهْوَائِهِمْ وَأَهْوَاءِ مَنْ يَمِيلُونَ إلَيْهِ وَمَنْ رُغِّبَ إلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَإِذَا عَرَفُوا غَرَضَ بَعْضِ هَؤُلَاءِ حُكْمًا أَوْ فُتْيَا أَوْ تَعَبُّدًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ بَحَثُوا عَنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا حَتَّى يَجِدُوا الْقَوْلَ الْمُوَافِقَ لِلسَّائِلِ وَأَفْتَوْا بِهِ زَاعِمِينَ أَنَّ الْحُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ ثُمَّ مَا زَالَ هَذَا الْأَمْرُ يَسْتَطِيرُ فِي الْأَتْبَاعِ وَأَتْبَاعِهِمْ حَتَّى لَقَدْ حَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُولُ كُلُّ مَسْأَلَةٍ ثَبَتَ فِيهَا لِأَحَدِ الْعُلَمَاءِ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ شَذَّ عَنْ الْجَمَاعَةِ أَوْ لَا فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ جَائِزَةٌ قَالَ وَهَذَا الِاضْطِرَابُ كُلُّهُ مُسْتَنَدُهُ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِأَعْمَالِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَإِنْ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهَا وَالْوُقُوفُ مَعَ الرِّجَالِ دُونَ التَّحَرِّي لِلْحَقِّ وَمِثْبَارُ ذَلِكَ التَّوَغُّلُ فِي التَّعْظِيمِ وَلَقَدْ حَكَى مُذَيِّلُ تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ عَنْ الْحَلَّاجِ أَنَّ أَصْحَابَهُ بَالَغُوا فِي التَّبَرُّكِ بِهِ حَتَّى كَانُوا يَتَمَسَّحُونَ بِبَوْلِهِ وَيَتَبَخَّرُونَ بِعَذِرَتِهِ حَتَّى ادَّعَوْا فِيهِ الْأُلُوهِيَّةَ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا انْتَهَى.
قُلْت وَمِثْلُ مَا حَكَى الْفَرْغَانِيُّ حَكَى الْخَطِيبُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ الرَّحَّالُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَرْزُوقٍ التِّلْمِسَانِيُّ فِي شَرْحِهِ لِعُمْدَةِ الْأَحْكَامِ قَالَ شَاهَدْت بِمِصْرَ بَعْضَ جَهَلَةِ الْعَوَامّ الْأَغْبِيَاءِ يَنْتِفُونَ شَعْرَ حِمَارِ شَيْخِنَا الْفَقِيهِ الْعَلَّامَةِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الْبَهَارِسِ أَيَّامَ تَجَرُّدِهِ لِلْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ وَتَرْكِهِ الْإِفَادَةَ وَالتَّعْلِيمَ انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ أَيْضًا التَّصْمِيمُ عَلَى اتِّبَاعِ الْعَوَائِدِ وَإِنْ فَسَدَتْ أَوْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلْحَقِّ وَالِاتِّبَاعِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَالْأَشْيَاخُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ هُوَ التَّقْلِيدُ الْمَذْمُومُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 23] الْآيَةِ وَقَالَ {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 24] وَقَالَ {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء: 72]{أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: 73] فَنَبَّهَهُمْ عَلَى وَجْهِ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ فَاسْتَمْسَكُوا بِمُجَرَّدِ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ فَقَالُوا {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74] وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إيَّاكُمْ وَالِاسْتِئْثَارَ بِالرِّجَالِ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنْ كُنْتُمْ وَلَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَبِالْأَمْوَاتِ لَا بِالْأَحْيَاءِ فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى عَمَلِ أَحَدٍ أَلْبَتَّةَ حَتَّى يَتَثَبَّتَ فِيهِ وَيَسْأَلَ عَنْ حُكْمِهِ.
فَإِنْ قُلْت الِاخْتِلَافُ رَحْمَةٌ لِلتَّوَسُّعِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْوُقُوفِ مَعَ الْمَشْهُورِ أَوْ الْمُوَافِقِ لِلدَّلِيلِ أَوْ الرَّاجِحِ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ تَحْجِيرٌ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ وَمَيْلٌ بِالنَّاسِ إلَى الْحَرَجِ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
قُلْت قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَهَذَا خَطَأٌ كُلُّهُ وَجَهْلٌ بِمَا وَقَعَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ
فَإِنَّ عَامَّةَ الْأَقْوَالِ الْجَارِيَةِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ إنَّمَا تَدُورُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالْهَوَى لَا يَعْدُوهُمَا
فَإِذَا عَرَضَ الْعَامِّيُّ نَازِلَتَهُ عَلَى الْمُفْتِي فَهُوَ قَائِلٌ لَهُ أَخْرِجْنِي مِنْ هَوَايَ وَدُلَّنِي عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ فَلَا يُمْكِنُ وَالْحَالُ هَذِهِ أَنْ يَقُولَ لَهُ فِي مَسْأَلَتِكَ قَوْلَانِ فَاخْتَرْ لِشَهْوَتِكَ أَيَّهُمَا شِئْت فَإِنَّ مَعْنَى هَذَا تَحْكِيمُ الْهَوَى دُونَ الشَّرْعِ وَلَا يُنَجِّيهِ مِنْ هَذَا أَنْ يَقُولَ مَا فَعَلْت إلَّا بِقَوْلِ عَالِمٍ لِأَنَّهُ حِيلَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْحِيَلِ الَّتِي نَصَبَتْهَا النَّاسُ وِقَايَةً عَنْ الْقِيلِ وَالْقَالِ وَشَبَكَةً لِنَيْلِ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَتَسْلِيطٌ مِنْ الْمُفْتِي لِلْعَامِّيِّ عَلَى تَحْكِيمِ الْهَوَى بَعْدَ أَنْ طَلَبَ مِنْهُ إخْرَاجَهُ عَنْ هَوَاهُ وَرَمَى فِي عَمَايَةٍ وَجَهْلٍ بِالشَّرِيعَةِ وَغَشَّ فِي النَّصِيحَةِ انْتَهَى وَقَالَ أَبُو عَمْرو بْنُ الصَّلَاحِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم مِنْهُمْ مُخْطِئٌ وَمُصِيبٌ فَعَلَيْكَ بِالِاجْتِهَادِ وَقَالَ لَيْسَ كُلُّ مَا قَالَ نَاسٌ فِيهِ تَوْسِعَةٌ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ لَا تَوْسِعَةَ فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى ظُهُورِ الرَّاجِحِ وَفِيهِ تَوْسِعَةٌ بِمَعْنَى أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلِاجْتِهَادِ مَجَالًا فِيمَا بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يُقْطَعُ بِهِ بِقَوْلٍ يَتَعَيَّنُ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِي خِلَافِهِ
وَفِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الْمُقَلِّدَ إذَا وَجَدَ الْمَشْهُورَ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْهُ فَإِنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ وَالْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ التَّشَهِّي وَالْحُكْمُ بِمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ فَإِنْ قُلْت ظَاهِرُ قَوْلِهِ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الْمُقَلِّدَ إذَا وَجَدَ الْمَشْهُورَ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ فِي طُرُقِ التَّرْجِيحِ وَلَهُ قُوَّةٌ عَلَى إدْرَاكِ مَدَارِكِهَا أَمْ لَا وَأَنْتَ قَدْ جَعَلْت مَوْرِدَ الْحُكْمِ فِي الْمُقَلِّدِ الْحَائِزِ لِطُرُقِ التَّرْجِيحِ الْمُدْرِكِ لِمَدَارِكِ الرَّاجِحِ مِنْ الْمَرْجُوحِ.
قُلْت قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ أَوْ الْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ التَّشَهِّي وَالْحُكْمُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً وَيُشِيرُ إشَارَةً لَائِحَةً أَنَّ فَرْضَ الْكَلَامِ عِنْدَهُ فِيمَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلنَّظَرِ وَالتَّرْجِيحِ فَيَحْتَمِلُ إذْ ذَاكَ قَوْلُهُ إذَا وَجَدَ الْمَشْهُورَ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بِمَا قَوَّى دَلِيلَهُ فِي نَظَرِهِ وَتَرَجَّحَ عِنْدَهُ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ التَّرْجِيحِ فِي وِرْدِهِ وَصَدْرِهِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَجَدَ الْمَشْهُورَ مِمَّا شَهَرَهُ غَيْرُهُ وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْهِرُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الْمُسْتَنْبَطُ لِلْحُكْمِ نَفْسِهِ فَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُهُ فِي التَّشْهِيرِ كَمَا قَلَّدَهُ فِي نَفْسِ الْقَوْلِ وَإِنْ كَانَ تَشْهِيرُ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِ لَا لِلْمُجْتَهِدِ نَفْسِهِ بَلْ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي مَذْهَبِهِ وَيُشْهِرُونَ مِنْ أَقْوَالِهِ الَّتِي حَفِظُوهَا عَنْهُ مَا قَوِيَ دَلِيلَهُ عِنْدَ هَذَا الْمُشْهِرِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى هَذَا الْمُقَلِّدِ الْمُتَأَخِّرِ تَقْلِيدُ هَذَا الَّذِي سَبَقَهُ بِالنَّظَرِ وَالتَّفْتِيشِ فِي أَقْوَالِ الْإِمَامِ الَّذِي اشْتَرَكَ مَعَهُ فِي تَقْلِيدِهِ فِي الْأَحْكَامِ أَوْ يَكُونُ هَذَا الْمُتَأَخِّرُ لَمَّا كَانَتْ لَهُ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى التَّرْجِيحِ فِي أَقْوَالِ مُقَلِّدِهِ وَيُمَيِّزُ بِهَا الْمَشْهُورَ وَالصَّحِيحَ صَارَ هَذَا الْمُتَأَخِّرُ اللَّاحِقُ مُسَاوِيًا لِلْمُتَقَدِّمِ
السَّابِقِ فِي تَشْهِيرِ قَوْلٍ مِنْ الْأَقْوَالِ فَلَا يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ هَذَا السَّابِقِ بِحَالٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ إذَا نَظَرَ مِثْلَ نَظَرِهِ قَدْ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ غَيْرُ مَا تَرَجَّحَ عِنْدَ السَّابِقِ فَلَا يَصِحُّ لَهُ تَقْلِيدُهُ إذْ الْقُدْرَةُ عَلَى الْيَقِينِ تَمْنَعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَعَلَى الِاجْتِهَادِ تَمْنَعُ مِنْ التَّقْلِيدِ وَهَذَا فَرَضْنَاهُ قَادِرًا عَلَى التَّرْجِيحِ فِي أَقْوَالِ إمَامِهِ فَلَا يُقَلِّدُ فِيهِ غَيْرَ إمَامِهِ.
وَفِي السُّؤَالِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ فِي تَمْيِيزِ الْفُتْيَا عَنْ الْأَحْكَامِ وَتَصَرُّفَاتِ الْقَاضِي وَالْإِمَامِ لِلشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا نَصُّهُ: هَلْ يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ لَا يَحْكُمَ إلَّا بِالرَّاجِحِ عِنْدَهُ أَوْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا عِنْدَهُ. جَوَابُهُ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ أَوْ يُفْتِيَ إلَّا بِالرَّاجِحِ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِالْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِهِ وَأَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا عِنْدَهُ مُقَلِّدًا فِي رُجْحَانِ الْقَوْلِ الْمَحْكُومِ بِهِ إمَامَهُ الَّذِي يُقَلِّدُهُ فِي الْفُتْيَا وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ وَالْفُتْيَا فَحَرَامٌ إجْمَاعًا نَعَمْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ إذَا تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَتَسَاوَتْ وَعَجَزَ عَنْ التَّرْجِيحِ هَلْ يَتَسَاقَطَانِ أَوْ يَخْتَارُ وَاحِدًا مِنْهُمَا يُفْتِي بِهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فَعَلَى الْقَوْلِ أَنَّهُ يَخْتَارُ أَحَدَهُمَا يُفْتِي بِهِ يَخْتَارُ أَحَدَهُمَا يَحْكُمُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ أَرْجَحَ عِنْدَهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْفُتْيَا شَرْعٌ عَامٌّ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَالْحُكْمُ يَخْتَصُّ بِالْوَقَائِعِ الْجُزْئِيَّةِ فَإِذَا جَازَ الِاخْتِيَارُ فِي الشَّرَائِعِ الْعَامَّةِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ فِي الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَهَذَا مُقْتَضَى الْفِقْهِ وَالْقَوَاعِدِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يُتَصَوَّرُ الْحُكْمُ بِالرَّاجِحِ وَغَيْرِ الرَّاجِحِ وَلَيْسَ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى لَكِنْ بَعْدَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ وَالْعَجْزِ عَنْ التَّرْجِيحِ وَحُصُولِ التَّسَاوِي وَأَمَّا الْفُتْيَا وَالْحُكْمُ بِمَا هُوَ مَرْجُوحٌ فَمُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ انْتَهَى.
فَانْظُرْ وَتَأَمَّلْ قَوْلَ الْقَرَافِيُّ رحمه الله كَيْفَ مَنَعَ الْمُجْتَهِدَ مِنْ الْحُكْمِ وَالْفُتْيَا إلَّا بِالرَّاجِحِ عِنْدَهُ وَأَجَازَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُفْتِيَ أَوْ يَحْكُمَ بِالْمَشْهُورِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا عِنْدَهُ وَلَا صَحِيحًا فِي نَظَرِهِ مَعَ كَوْنِهِ أَهْلًا لِلنَّظَرِ وَعَارِفًا بِطُرُقِ التَّرْجِيحِ وَأَدِلَّةِ التَّشْهِيرِ وَالتَّصْحِيحِ فَإِذَا نَظَرَ وَرَجَحَ عِنْدَهُ غَيْرُ الْمَشْهُورِ جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِغَيْرِ الرَّاجِحِ عِنْدَهُ إنْ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَ إمَامِهِ وَإِنْ كَانَ شَاذًّا مَرْجُوحًا فِي نَظَرِهِ لِكَوْنِهِ يُقَلِّدُ فِي تَرْجِيحِ الْمَشْهُورِ إمَامَهُ الَّذِي قَلَّدَهُ فِي الْفَتْوَى.
فَإِنْ قُلْت لَفْظُ الْجَوَازِ يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ عَلَى الْمُقَلِّدِ مِنْ مُفْتٍ أَوْ عَالِمٍ أَنْ يُقَلِّدَ إمَامَهُ فِي رُجْحَانِ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالٍ وَلَوْ رَجَحَ عِنْدَهُ الْإِمَامُ الْقَائِلُ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ تَقْلِيدُهُ لِهَذَا الْإِمَامِ فِي أَصْلِ الْقَوْلِ لَازِمًا بَلْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَهُ أَوْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ، وَإِنْ كَانَ الْغَيْرُ مَفْضُولًا فِي اجْتِهَادِهِ حَسْبَمَا هُوَ مُخْتَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فَيَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِغَيْرِ الرَّاجِحِ قَضَاءً وَفَتْوَى إذْ لَا زَائِدَ فِي الْمَشْهُورِ سِوَى الرُّجْحَانِ قُلْت لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِغَيْرِ الرَّاجِحِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْعَمَلِ عَلَى الْمَرْجُوحِ عِنْدَهُ الرَّاجِحُ فِي