الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
الأولى إعمال اللفظ بكلا معنييه الحقيقي والمجازي متى أمكن
صورة القاعدة:
إذا كان المقام صالحا لإرادة المعنى الحقيقي والمجازي، بأن لم يكن المعنى الحقيقي قاطعاً، ولم يكن الصارف عن الحقيقي قاطعا في الصرف، فإنه من الأولى العمل بكلا القولين.
شرح مفردات القاعدة:
الحقيقة لغة: من فعيلة، من حق الشيء بمعنى ثبت، وأحققت الشيء أي أوجبته، وتحقق عنده الخبر أي صح (1).
اصطلاحاً: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له، فيشمل هذا الوضع: اللغوي والشرعي والعرفي والاصطلاحي (2).
المجاز لغة: هو مفعول من الجواز الذي هو التعدي، كما يقال جزت موضع كذا أي جاوزته وتعديته، أو من الجواز الذي هو قسيم الوجوب والامتناع، وهو راجع إلى الأول لأن الذي لا يكون واجباً ولا ممتنعاً، يكون متردداً بين الوجود والعدم، فكأنه ينتقل من هذا إلى هذا (3).
(1) انظر لسان العرب، ج 3، ص 258، مادة: حقق.
(2)
إرشاد الفحول / الشوكاني، ج 1، ص 94.
(3)
انظر لسان العرب / ابن منظور، ج 2، ص 418، مادة: جوز، والمحصول في علم أصول الفقه / الرازي، ج 1، ص 293.
اصطلاحاً: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة (1).
وقد اختلف علماء السلف والخلف جميعاً في وقوع المجاز في القرآن على قولين:
القول الأول:
جواز وقوع المجاز في القرآن، وقد ذهب إليه بعض الفرق، مثل المعتزلة والجهمية والأشاعرة، وكذلك بعض علماء أهل السنة والجماعة.
ومن أوائل من قال بالمجاز شيخ العربية سيبويه، فقد قال في كلامه على قوله تعالى:{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (2): فالليل والنهار لا يمكران ولكن الذي يمكر فيهما هو الناس وهذا على سبيل التجوز (3).
وأول من عرف عنه أنه تكلم بهذا المصطلح (المجاز) أبو عبيد معمر بن المثنى.
وقال ابن قدامة: " من منعه - أي المجاز في القرآن- فقد كابر، ومن سلم وقال لا أسميه مجازاً، فهو نزاع في عبارة لا فائدة في المشاحة فيه "(4).
ثم ابن قتيبة وهو من أوائل من عالجه بوصفه مصطلحا علميا بلاغيا وذلك في كتابه (تأويل مشكل القرآن) فقد قال: "المجاز أسلوب من أساليب العرب تعبر به عن المعاني"، وقال أيضا:"وقد تبين لمن عرف اللغة أن القول يقع فيه المجاز"،
(1) إرشاد الفحول / الشوكاني، ج 1، ص 95.
(2)
سورة سبأ، الآية (33).
(3)
الكتاب / سيبويه، ج 1، ص 176.
(4)
روضة الناظر وجنة المناظر / ابن قدامة المقدسي، ج 1، ص 64.
ومما قال أيضا: "من أنكر المجاز شبهتهم أن ذلك دربا من الكذب فلو أُخِذ بكلامهم هذا لكان أكثر كلامنا كذبا"(1).
المذهب الثاني:
منع المجاز في القرآن، وقد ذهب إلى هذا القول الظاهرية وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وأبو إسحاق الإسفراييني، وقالوا إن التقسيم في الكلام إلى حقيقة ومجاز كلام محدث.
ومنع هؤلاء العلماء جميعاً المجاز، لأن معناه: صرف الكلام عن حقيقته، الذي قد يكون وسيلة للتأويل والانحراف في تفسير كلام الله عز وجل عن مراده، إلا أن المتأمل لأقوال بعض المانعين نجدهم قيدوا استعمال المجاز في القرآن بشروط، كتعذر حمل الكلام على الحقيقة وغيرها (2)، كما قال الرازي:" وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلام عن المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة "(3).
ووضع شرطين للجواز بقول المجاز وهما:
1 -
أن يكون منقولاً عن معنى وضع اللفظ بإزائه.
2 -
أن يكون النقل لمناسبة بين الأصل والفرع (4).
(1) تأويل مشكل القرآن / ابن قتيبة، ص 169 - 171.
(2)
انظر مجموع الفتاوى، ج 5، ص 16، وبدائع الفوائد / ابن القيم، ج 3، ص 533، والإتقان/ السيوطي، ج 2، ص 77.
(3)
التفسير الكبير / الفخر الرازي، ج 10، ص 614.
(4)
انظر نهاية الإيجاز في دراسة الإعجاز / الرازي، ص 81.
وأضاف ابن القيم شرطين آخرين هما:
1 -
بيان امتناع إرادة الحقيقة.
2 -
الجواب عن الدليل الموجب لإرادة الحقيقة.
ثم قال: " فمن لم يقم بهذه الأمور الأربعة كانت دعواه صرف اللفظ عن ظاهره دعوى باطلة "(1).
القول الراجح في المجاز:
وقوع المجاز في القرآن، وأظن المسألة والله أعلم كما قال ابن قدامة لفظية، لا تأثير لها في المعنى.
وقال السيوطي: " وأما المجاز فالجمهور أيضا على وقوعه فيه ، وأنكره جماعة منهم الظاهرية وابن القاص من الشافعية (2) وابن خويز منداد من المالكية (3)
(1) بدائع الفوائد / ابن القيم، ج 4، ص 1009.
(2)
هو أحمد بن أحمد بن عبد العزيز بن القاص أبو جعفر بن أبي نصر الفقيه المقرئ الزاهد، قرأ القرآن بالروايات على أبي بكر أحمد بن علي بن بردان الحلواني وعلى أبي الخير المبارك بن الحسين الغسال، وقرأ المذهب الشافعي على القاضي أبي سعد، كان أحد عباد الله الصالحين منقطعاً إلى الطاعة مشتغلاً بالزهد والعبادة ملازماً لمسجده لا يخرج منه إلا إلى صلاة الجمعة منقطعاً أو جنازة، ولد سنة ست وتسعين وأربع مائة ، وتوفي سنة ثلاث وسبعين وخمس مائة. (الوافي بالوفيات / صلاح الدين الصفدي، ج 6، ص 226).
(3)
محمد بن علي بن إسحاق بن خويز منداد ويقال خوازمنداد الفقيه المالكي البصري يكنى أبا عبد الله، وصنف كتبا كثيرة منها كتابه الكبير في الخلاف، وكتابه في أصول الفقه، وكتابه في أحكام القرآن، وعنده شواذ عن مالك واختيارات وتأويلات لم يعرج عليها حذاق المذهب، ولم يكن بالجيد النظر ولا بالقوي في الفقه، وطعن ابن عبد البر فيه أيضا، وكان في أواخر المائة الرابعة.
(لسان الميزان / الذهبي ، ج 5، ص 291).
وشبهتهم: أن المجاز أخو الكذب ، والقرآن منزه عنه ، وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير ، وذلك محال على الله تعالى، وهذه شبهة باطلة ، ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شطر الحسن فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة ، ولو وجب خلو القرآن من المجاز وجب خلوه من الحذف والتوكيد وتثنية القصص وغيرها " (1).
وقال الشوكاني: "المجاز واقع في لغة العرب عند جمهور أهل العلم"(2).
أما عن موقف شيخ الإسلام ابن تيمية في المجاز فما نقل عنه مضطرب في هذا الباب، أو هو قال به في فترة من حياته ثم رجع عنه نظراً لاستفحال أمر المعطلة والمؤولة الذين دخلوا من باب المجاز على آيات الصفات وعطلوها، وقد ورد عن شيخ الإسلام ما يثبت القول به ، وإن لم ينص على اسمه.
ومما تقدم تبين لنا أن الدافع لإنكار من أنكر المجاز هو امتداد القول به لآيات الصفات ومن ثم وقع الخبط والخلط والضلال في ذلك، مع أن المذهب الحق هو أنها خارجة عن ذلك ، فإذا استثني ذلك يرتفع الخلاف ويصبح المجاز أسلوبا سائغا من أساليب العربية، سواء سمي مجازا أو أسلوبا من أساليب العرب في بيانها ، فيكون الخلاف في ذلك خلافا في اللفظ والاصطلاح لا في التعبير والتطبيق، وكونه يأخذ اسم المجاز أضبط وأدق وأدعى لمعرفة مجاريه وأوديته ودواعي القول به
…
.
(1) الإتقان / السيوطي، ج 2، ص 77.
(2)
إرشاد الفحول/ الشوكاني، ج 1، ص 99.
ولقد اعتنى ابن عاشور بهذه القاعدة، وبين في المقدمة التاسعة من تفسيره أهمية البلاغة ودورها في أساليب العرب، وأن القرآن من بلاغته تحتمل ألفاظه الكثير من المعاني، ما لم يمنع من ذلك مانع شرعي أو لغوي، وأن اللغة العربية تتمتع بمميزات جعلتها لغة القرآن، ومنها أنها أوفر اللغات مادة وأقلها حروفاً، وأفصحها لهجة، وأكثرها تصرفاً في الدلالة على غرض المتكلم، ثم أشار إلى أنه يجب أن يحمل المشترك في القرآن على ما يحتمله من المعاني سواء المعاني الحقيقية أم المجازية (1) حيث يقول:
" فمختلف المحامل التي تسمح بها كلمات القرآن وتراكيبه وإعرابه ودلالته من اشتراك وحقيقة ومجاز وصريح وكناية وبديع ووصل ووقف إذا لم تفض إلى خلاف المقصود من السياق يجب حمل الكلام على جميعها "- إلى أن يقول -: " وقد كان المفسرون غافلين عن تأصيل هذا الأصل ، فلذلك كان الذي يرجح معنى من المعاني التي يحتملها لفظ آية من القرآن يجعل غير ذلك المعنى ملغى ، ونحن لا نتابعهم على ذلك بل نرى المعاني المتعددة التي يحتملها اللفظ بدون خروج عن مهيع الكلام العربي البليغ، معانيَ في تفسير الآية ، فنحن في تفسيرنا هذا إذا ذكرنا معنيين فصاعداً فذلك على هذا القانون ، وإذا تركنا معنى مما حمل بعض المفسرين عليه في آيات من القرآن فليس تركنا إياه دالاً على إبطاله، ولكن قد يكون ذلك لترجح غيره، وقد يكون اكتفاء بذكره في تفاسير أخرى تجنبا للإطالة "(2).
(1) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 97.
(2)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 97 - 100.