الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (1)
…
وتوجيهه لقراءة يهدي ذكر قراءة حمزة والكسائي (يَهْدِى) كَيَرْمِي، وهو إما لازم بمعنى يهتدي
كما هو أحد استعمالات فعل الهداية على المعول عليه، أو متعد أي لا يهدي غيره، ورجح هذا بأنه الأوفق بما قبل فإن المفهوم منه نفي الهداية لا الاهتداء، وقد يرجح الأول بأن فيه توافق القراءات معنى وتوافقها خير من تخالفها (2).
الأمثلة التطبيقية على القاعدة:
1 -
قراءة " مالك ":
قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (3).
اختلف القراء في قراءة (مَالِكِ)(4) وبناء عليه اختلفوا في معناها:
وقد ساق ابن عاشور هذا الاختلاف في تفسيره فقال: " وقوله (ملك) قرأه
(1) سورة يونس، الآية (35).
(2)
انظر روح المعاني / الألوسي، ج 5، ص 107.
(3)
سورة الفاتحة، الآية (3).
(4)
انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 104، وإتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر / الدمياطي، ص 162، والبدور الزاهرة / عبد الفتاح القاضي، ص 13.
الجمهور بدون ألف بعد الميم.
وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف (مالك) بالألف.
ثمّ فسّر ابن عاشور كلا القراءتين فقال: " فالأول: صفة مشبهة صارت اسماً لصاحب المُلك (بضم الميم).
والثاني: اسم فاعل من ملك إذا اتصف بالمِلك (بكسر الميم) وكلاهما مشتق من مَلَك، فأصل مادة ملك في اللغة ترجع تصاريفها إلى معنى الشد والضبط كما قاله ابن عطية، ثم يتصرف ذلك بالحقيقة والمجاز، والتحقيق والاعتبار، وقراءة (ملك) بدون ألف تدل على تمثيل الهيئة في نفوس السامعين لأن المَلِك بفتح الميم وكسر اللام هو ذو المُلك بضم الميم والمُلك أخص من المِلك، إذ المُلك بضم الميم هو التصرف في الموجودات والاستيلاء ويختص بتدبير أمور العقلاء وسياسة جمهورهم وأفرادهم وموَاطنهم فلذلك يقال: مَلِك الناس ولا يقال: مَلك الدواب أو الدراهم، وأما المِلك بكسر الميم فهو الاختصاص بالأشياء ومنافعها دون غيره " (1).
ثم يذكر ابن عاشور ما يؤكد هذه القاعدة حيث قال بعد أن ذكر القراءتين: " وقد تصدى المفسرون والمحتجون للقراءات لبيان ما في كل من قراءة (ملك) بدون ألف وقراءة (مالك) بالألف من خصوصيات بحسب قَصْر النظر على مفهوم كلمة ملك ومفهوم كلمة (مالك)، وغفلوا عن إضافة الكلمة إلى يوم الدين، فأما والكلمة مضافة إلى يوم الدين فقد استويا في إفادة أنه المتصرف
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 175.
في شؤون ذلك اليوم دون شبهة مشارك. ولا محيصَ عن اعتبار التوسع في إضافة (ملك) أو (مالك) إلى (يوم) بتأويل شؤون يوم الدين. على أن (مالك) لغة في (ملك) ففي «القاموس» : «وكأمير وكتف وصاحب ذُو الملك» (1).
وممن استحضر هذه القاعدة من المفسرين وذهب إلى ما ذهب إليه ابن عاشور ابن عطية والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي
…
(2) ومفهوم قولهم جميعا أنه وإن كان لكل كلمة أو قراءة خاصية إلا أنهما يعودان لمعنى واحد وهو الملكية.
أما الطبري فقد رجّح قراءة (ملك) وذكر تعليلاً على ذلك سيأتي (3).
حجة أصحاب القول الأول وهم الذين يرون الأخذ بكلا القراءتين وأن القراءتين متوافقتان في المعنى:
قال الرازي: " والجواب: إن الله تعالى مالك الموجودات، وملكها، بمعنى أنه تعالى قادر على نقلها من الوجود إلى العدم، أو بمعنى أنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة، وهذه القدرة ليست إلا لله تعالى، فالملك الحق هو الله سبحانه وتعالى، إذا عرفت أنه الملك الحق فنقول: إنه الملك ليوم الدين وذلك لأن
(1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 1، ص 175
(2)
انظر المحرر الوجيز، ج 1، ص 69، والتفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 207، الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 1، ص 157، البحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 136، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 212، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 22، روح المعاني/ اللوسي، ج 1، ص 86، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 248.
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 76.
القدرة على إحياء الخلق بعد موتهم ليست إلا لله، والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس ليس إلا لله، فإذا كان الحشر والنشر والبعث والقيامة لا يتأتى إلا بعلم متعلق بجميع المعلومات وقدرة متعلقة بجميع الممكنات، ثبت أنه لا مالك ليوم الدين إلا الله " (1).
وقال القرطبي: "اختلف العلماء أيما أبلغ: ملك أو مالك؟ والقراءتان مرويتان عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر "(2).
حجة أصحاب القول الثاني وهم الذي اختاروا قراءة (ملك) بدون ألف بعد الميم وبنوا عليه معناها:
قال الطبري: " وأولى التأويلين بالآية وأصح القراءتين في التلاوة عندي التأويلُ الأول، وهي قراءةُ من قرأ "مَلِكِ" بمعنى "المُلك". لأن في الإقرار له بالانفراد بالمُلك، إيجابًا لانفراده بالمِلْك، وفضيلة زيادة المِلك على المالك، إذْ كان معلومًا أن لا مَلِك إلا وهو مالكٌ، وقد يكون المالكُ لا ملكًا.
وبعدُ، فإن الله جلّ ذكره، قد أخبر عبادَه في الآية التي قبل قوله:{مَالِكِ} (3) أنه مالكُ جميع العالمين وسيَّدهم، ومُصلحُهم، والناظرُ لهم، والرحيم بهم في الدنيا والآخرة، بقوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (4).
(1) التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 207.
(2)
الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 156.
(3)
سورة الفاتحة، الآية (3)
(4)
سورة الفاتحة، الآية (1 - 2).
وإذْ كان جلّ ذكره قد أنبأهم عن مِلْكه إيَّاهم كذلك بقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فأولى الصّفات من صفاته جل ذكره أن يَتْبَع ذلك ما لم يحْوِه قوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، مع قرب ما بين الآيتين من المواصَلة والمجاورة، إذْ كانت حكمتُه الحكمةَ التي لا تشبهها حِكمةٌ، وكان في إعادة وصفه جلّ ذكره بأنه {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} إعادةُ ما قد مضى من وصفه به في قوله:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، مع تقارب الآيتين وتجاوز الصفتين. وكان في إعادة ذلك تكرارُ ألفاظ مختلفة بمعان متفقة، لا تفيد سامع ما كُرِّر منه فائدةً به إليها حاجة. والذي لم يحْوِه من صفاته جلّ ذكره ما قبل قوله:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، المعنى الذي في قوله:(مَلِك يوم الدين)، وهو وصْفه بأنه الملِك.
فبيِّن إذًا أن أولى القراءتين بالصواب، وأحقّ التأويلين بالكتاب، قراءة من قرأه (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، بمعنى إخلاص المُلك له يوم الدين، دون قراءة من قرأ (مالك يوم الدين) الذي بمعنى أنه يملك الحكمَ بينهم وفصلَ القضاء، متفرِّدًا به دون سائر خلقه (1).
وقال الرازي: " وحجة من قال أن الملك أولى من المالك وجوه:
الأول: أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكاً أما الملك لا يكون إلا أعظم الناس وأعلاهم فكان الملك أشرف من المالك.
(1) جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 76.
الثاني: أنهم أجمعوا على أن قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ} (1) لفظ الملك فيه متعين، ولولا أن الملك أعلى حالاً من المالك وإلا لم يتعين.
الثالث: الملك أولى لأنه أقصر، والظاهر أنه يدرك من الزمان ما تذكر فيه هذه الكلمة بتمامها، بخلاف المالك فإنها أطول، فاحتمل أن لا يجد من الزمان ما يتم فيه هذه الكلمة هكذا نقل عن أبي عمرو، وأجاب الكسائي بأن قال: إني أشرع في ذكر هذه الكلمة فإن لم أبلغها فقد بلغتها حيث عزمت عليها، نظيره في الشرعيات من نوى صوم الغد قبل غروب الشمس من اليوم في أيام رمضان لا يجزيه، لأنه في هذا اليوم مشتغل بصوم هذا اليوم، فإذا نوى صوم الغد كان ذلك تطويلاً للأمل، أما إذا نوى بعد غروب الشمس فإنه يجزيه؛ لأنه وإن كان ذلك تطويلاً للأمل إلا أنه خرج عن الصوم بسبب غروب الشمس، ويجوز أن يموت في تلك الليلة، فيقول: إن لم أبلغ إلى اليوم فلا أقل من أكون على عزم الصوم، كذا ههنا يشرع في ذكر قوله مالك فإن تممها فذاك وإن لم يقدر على إتمامها كان عازماً على الإتمام وهو المراد" (2).
حجة أصحاب القول الثالث وهم الذين اختار قراءة (مالك) بالألف وبنوا عليه معناها:
قال الرازي: حجة من قرأ مالك وجوه:
(1) سورة الناس، الآية (1 - 2).
(2)
انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 207. .
الأول: أن فيه حرفاً زائداً فكانت قراءته أكثر ثواباً.
الثاني: أنه يحصل في القيامة ملوك كثيرون، أما المالك الحق ليوم الدين فليس إلا الله. الثالث: المالك قد يكون ملكاً وقد لا يكون، كما أن الملك قد يكون مالكاً وقد لا يكون فالملكية والمالكية قد تنفك كل واحدة منهما عن الأخرى إلا أن المالكية سبب لإطلاق التصرف، والملكية ليست كذلك فكان المالك أولى.
الرابع: أن الملك ملك للرعية، والمالك مالك للعبيد، والعبد أدون حالاً من الرعية، فوجب أن يكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية، فوجب أن يكون المالك أعلى حالاً من الملك.
الخامس: أن الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك باختيار أنفسهم، أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه عن كونه مملوكاً لذلك المالك باختيار نفسه، فثبت أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية.
السادس: أن الملك يجب عليه رعاية حال الرعية، قال عليه الصلاة والسلام وكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، ولا يجب على الرعية خدمة الملك. أما المملوك فإنه يجب عليه خدمة المالك وأن لا يستقل بأمر إلا بإذن مولاه، حتى إنه لا يصح منه القضاء وة والشهادة وإذا نوى مولاه السفر يصير هو مسافراً، وإن نوى مولاه الإقامة صار هو مقيماً؛ فعلمنا أن الانقياد والخضوع في المملوكية أتم منه في كونه رعية، فهذه هي الوجوه الدالة
على أن المالك أكمل من الملك" (1).
قال القرطبي: " وقيل (مالك) أبلغ؛ لأنه يكون مالكاً للناس وغيرهم؛ فالمالك أبلغ تصرفاً وأعظم؛ إذ إليه إجراء قوانين الشرع، ثم عنده زيادة التملك"(2).
القول الراجح:
هو ما ذهب إليه ابن عاشور هو الأخذ بكلا القراءتين لأنهما متواترتان ، وأن الأصل في معنييهما يعود إلى شيء واحد.
ومن قال بأن لكل قراءة معنى أو مزية، أو فيها زيادة على الأخرى فنحن لا نصادمه، والأمر في ذلك واسع، ولكن ما نرفضه هو تقديم قراءة متواترة على أخرى مثلها، أو الأخذ بقراءة ورد الأخرى.
قال ابن عطية: " وفي الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما قرؤوا «ملك يوم الدين» بغير ألف، وفيه أيضاً أنهم قرؤوا «مالك يوم الدين» بألف.
قال أبو بكر: والاختيار عندي «ملك يوم الدين» لأن «الملك» و «المالك» يجمعهما معنى واحد وهو الشد والرّبط كما قالوا: ملكت العجين أي شددته إلى غير ذلك من الأمثلة، والملك أفخم وأدخل في المدح، والآية إنما نزلت بالثناء والمدح لله سبحانه، فالمعنى أنه ملك الملوك في ذلك اليوم، لا ملك لغيره " (3).
(1) التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 205.
(2)
الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 156.
(3)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 69.
ومما تقدم تبين لنا مدى تطبيق ابن عاشور لهذه القاعدة وهي (الأصل توافق القراءات في المعنى) كما أن المثال السابق دليل واضح على استحضار ابن عاشور للقاعدة المتقدمة وهي أن (القراءات المتواترة حق كلها).
2 -
قراءة " الصابئين":
اختلف العلماء في قراءة الصابئين وبالتالي اختلفوا في معناها (2):
قال ابن عاشور: " وأما قوله: (والصابئين) فقرأه الجمهور بهمزة بعدَ الموحدة على صيغة جمع صَابئ بهمزة في آخره.
وقرأه نافع وحده بياء ساكنة بعد الموحدة المكسورة على أنه جمع صَاببٍ منقوصاً.
ثم فسَّر ابن عاشور كل قراءة بقوله: " فأما على قراءة الجمهور، فالصابئون لعله جمع صابئ ، وصابئ لعله اسم فاعل صَبَأ مهموزاً أي ظهر وطلع، يقال صَبَأ النجم أي طلع.
(1) سورة البقرة، الآية (62).
(2)
انظر هاتين القراءتين في التيسير / الداني، ص 74، ومتن الشاطبية / الشاطبي ، ص 70 ، والنشر في القراءات العشر / ابن الجزري، ج 2، ص 162 ..
وأما على قراءة نافع فجعلوها جمع صاب مثل رام على أنه اسم فاعل من صبا يصبو إذا مال قالوا: لأن أهل هذا الدين مالوا عن كل دين إلى دين عبادة النجوم ، ولو قيل لأنهم مالوا عن أديان كثيرة إذ اتخذوا منها دينهم كما ستعرفه لكان أحسن " (1).
ولقد استحضر ابن عاشور هذه القاعدة في تفسيره وذلك يتبين من رده للمعنى الآخر وهو الميل وهذا بناءً على القاعدة الحاضرة في ذهنه وهي (أن الأصل توافق القراءات في المعنى أو تقاربهما).
أما الطبري فقد اقتصر على القراءة بالهمز، ولم يذكر القراءات الأخرى.
في حين نجد معظم المفسرين منهم ابن عطية، والقرطبي، وأبو حيان، والشوكاني والألوسي، والقاسمي قد ذكروا كلا القراءتين ومعناهما، ولم يعقبوا على ذلك.
أما الرازي فقد ذكر كلا القراءتين، واختار قراءة الهمز، وذلك بناءً على معناها (2)، وإليك التفصيل:
حجة أصحاب القول الأول وهم الذين يرون أن القراءتين متوافقتان في المعنى:
حجتهم في ذلك أن الأصل توافق القراءات في المعنى.
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 533.
(2)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 367، ، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 157. والتفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 535، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 439، البحر المحيط /أبو حيان، ج 1، ص 401، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 434، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 94، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 278،
قال ابن عاشور: " وليس هو من صبا يصبو إذا مال؛ لأن قراءة الهمز تدل على أن ترك تخفيف الهمز في غيرها تخفيف؛ لأن الأصل توافق القراءات في المعنى "(1).
حجة أصحاب القول الثاني وهم الذين يرون أن الصابئين بمعنى الخارجين وبنوا هذا المعنى على القراءة أو العكس
…
:
قال الطبري: و"الصابئون" جمع"صابئ"، وهو المستحدث سوى دينه دينا، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره، تُسَميَّه العرب:"صابئاً ". يقال منه: "صبأ فلان يصبأ صبْأ". ويقال: "صبأت النجوم": إذا طلعت."وصبأ علينا فلان موضع كذا وكذا"، يعني به: طلع (2).
قال الفارسي: " يقال صبأت على القوم بمعنى طرأت، فالصابئ التارك لدينه الذي شرع له إلى دين غيره، كما أن الصابئ على القوم تارك لأرضه ومتنقل إلى سواها "(3).
وذهب الرازي إلى أن المعنى المراد من الصابئين هو: الخارجين؛ أي الخارج من دين إلى دين، وبناء على ذلك اختار قراءة الهمز وقال: إنها الأكثر وإلأقرب إلى معنى التفسير (4).
كما أن الذين أخذوا بهذه القراءة إنما اختاروها لأنها على الأصل.
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 533.
(2)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 367.
(3)
الحجة / الفارسي، ج 1، ص 309.
(4)
انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 535.
ومن ذلك قول ابن عاشور وقد تقدم: " وليس هو من صبَا يصبو إذا مال لأن قراءة الهمز تدل على أن ترك تخفيف الهمز في غيرها تخفيف لأن الأصل توافق القراءات في المعنى "(1).
حجة أصحاب القول الثاني وهم الذين يرون أن (الصابئين) بمعنى مائلين:
وهم الذين يرون أن الصابئين من صبا يصبو إذا مال وبنوا هذا المعنى على القراءة التي اختاروها وهي الصابين بدون همز، وهذا قول نافع ولذلك لم يهمز (2).
القول الراجح:
هو ما ذهب إليه ابن عاشور من أنه ليس هناك خلاف أصلاً بين القراءتين ، وإنما القراءة الثانية بدون همز من باب التسهيل، فيكون المعنى في كلاهما على الأصل وهو الهمز، وهذا يدل على مدى استحضاره للقاعدة.
وهذا الذي يراه ابن عاشور نجده واضحاً عند الشاطبي في قوله:
وَفي الصَّابِئِينَ الْهَمْزَ وَالصَّابِئُونَ خُذْ وَهُزْؤاً وَكُفْؤاً في السَّوَاكِنِ (فُـ) صِّلَا.
أي خذ الهمز فيهما لأنه الأصل (3) ..
3 -
قراءة " لامستم ":
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
(1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 1، ص 533.
(2)
انظر النكت والعيون / الماوردي، ج 1، ص 133.
(3)
إبراز المعاني من حرز الأماني / أبو شامة ،ج 1 ، ص 442.
الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (1)
اختلفت قراءات القراء في كلمة (لَامَسْتُمُ)(2) وقد ساق هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره فقال: " وقرأ الجمهور "لامستم" بصيغة المفاعلة؛ وقرأه حمزة والكسائي وخلف " لمستم "بدون ألف، ورجّح ابن عاشور أن القراءتين بمعنى واحد فقال: " وهما بمعنى واحد على التحقيق، ومن حاول التفصيل لم يأت بما فيه تحصيل، وأصل اللّمس المباشرة باليد أو بشيء من الجسد " (3).
وهذا المثال يدل على استحضار ابن عاشور لهذه القاعدة.
وقد ذهب إلى ذلك جميع من اعتمدتهم من المفسرين (4).
أما الخلاف الواقع بين المفسرين في معناها فذلك بناءً على اختلاف القراءات فيما يبدو لي حيث اختلفوا هل المراد بقوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} الجماع،
(1) سورة النساء، الآية (43).
(2)
فمنهم من قرأها (لا مستم) ومنهم من قرأها (لمستم)، والقراءتان متواترتان. انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 234، والتيسير / الداني، ص 96، ومتن الشاطبية / الشاطبي ، ص 90 ، والبدور الزاهرة / عبد الفتاح القاضي، ص 87.
(3)
التحرير والتنوير، ج 3، ص 66.
(4)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 5، ص 130، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 58، والتفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 89، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 5، ص 266، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 268، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 4، ص 43، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 470، وروح المعاني / الألوسي، ج 3، ص 41، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 3، ص 131.
فتكون الآية نصاً في جواز التيمم للجنب، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، أو المراد بذلك مجرد اللمس باليد، وهو المس الذي يكون لشهوة.
حجة أصحاب القول الأول وهم الذين يرون أن القراءتين متوافقتان في المعنى:
قال ابن عطية: "وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم (لامستم) ، وقرأ حمزة والكسائي (لمستم) وهي في اللغة لفظة قد تقع للمس الذي هو الجماع، وفي اللمس الذي هو جس اليد والقبلة ونحوه، إذ في جميع ذلك لمس، واختلف أهل العلم في موقعها هنا: فمالك يقول: اللفظة هنا على أتم عمومها تقتضي الوجهين، فالملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم، لأن اللمس نقض وضوءه "(1).
حجة أصحاب القول الثاني وهم القائلون بأن المقصود باللمس هو اللمس باليد وبنى بعضهم هذا المعنى على القراءة "لمستم":
قالوا: إن اللمس حقيقة في الجس باليد، والأصل حمل الكلام على حقيقته لأنه الراجح (2).
كما أن من حجتهم في ذلك أن اللمس لا ينقض الطهارة، وبما أن الله عز وجل يقول:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} دل ذلك على أن المقصود بالملامسة اللمس باليد فقط، لأن الجماع يتطلب الغسل، ولكن هذا القول يرده:
(1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 58.
(2)
انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 3، ص 130.
الأحاديث الدالة على جواز التيمم من الجماع.
حجة أصحاب القول الثالث وهم القائلون بأن اللمس هو الجماع وبنوا هذا المعنى على قراءة " لامستم":
حيث قالوا: إن لامستم أبلغ من لمستم (1).
كما أنهم احتجوا على أن المعني باللمس هنا الجماع لوروده في غير هذه الآية بمعناه، فدل على أنه من كنايات التنزيل.
قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (2)، وقال تعالى:{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (3)، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} قال: الجماع (4)، وروى ابن جرير عنه قال: إن اللمس والمس والمباشرة: الجماع ولكن الله يكني ما شاء بما شاء (5).
القول الراجح:
ماذكره ابن عاشور من أن الأصل توافق القراءات في المعنى كما تقدم.
قلت: وهذا اللمس الذي يستوجب التيمم هو اللمس بشهوة، وقد انتهى
(1) النكت والعيون / الماوردي، ج 1، ص 491.
(2)
سورة البقرة، الآية (237).
(3)
سورة الأحزاب، الآية (49).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، ج 3، ص 44.
(5)
جامع البيان / الطبري، ج 5، ص 123.
تحقيق العلماء في لمس المرأة أنه لا ينقض الوضوء إلا إذا كان بشهوة ، وكان الملامس يعرف من نفسه أنه يخرج منه مذي باللمس، وأما إذا لم يؤد اللمس إلى خروج المذي، فلا ينقض اللمس الوضوء، وبذلك يتبين أن المقصود من اللمس في الآية هو ما كان بشهوة ، وبالتالي لا فرق في المعنى بين القراءتين.
قال الطبري بعد أن ذكر القراءتين: " وهما قراءتان متقاربتا المعنى، لأنه لا يكون الرجل لامساً امرأته إلا وهي لامسته اللمس في ذلك يدل على معنى اللماس، واللماس على معنى اللمس من كل واحد منهما صاحبه، فبأي القراءتين قرأ ذلك القارئ فمصيب لاتفاق معنييهما "(1).
وقال الرازي: "واعلم أن هذا القول أرجح من الأول- أي القول بأن اللمس التقاء البشرتين سواءً كان بجماع أو غيره-، وذلك لأن إحدى القراءتين هي قوله تعالى: (أو لمستم النساء) واللمس حقيقته المس باليد، فأما تخصيصه بالجماع فذاك مجاز، والأصل حمل الكلام على حقيقته. وأما القراءة الثانية وهي قوله: (أو لامستم) فهو مفاعلة من اللمس، وذلك ليس حقيقة في الجماع أيضاً، بل يجب حمله على حقيقته أيضاً، لئلا يقع التناقض بين المفهوم من القراءتين المتواترتين "(2).
ويؤكد هذا القاسمي بقوله: " ومما يؤكد بقاء اللمس على معناه الحقيقي قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ
(1) جامع البيان / الطبري، ج 5، ص 130.
(2)
التفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 89.
لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (1) أي جسوه، ومنه ما ثبت في الصحيحين:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة "(2) وهو يرجع إلى الجس باليد" (3).
4 -
قراءة " تلووا":
اختلف القراء في قراءة "تلووا"(5) وبناءً عليه حصل الخلاف بين المفسرين في معناها، وإليك التفصيل:
(1) سورة الأنعام، الآية (7).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب بيع الملامسة، ج 2، ص 754، ح- 2037، ومسلم في صحيحه، كتاب البيوع، باب إبطال بيع الملامسة والمنابذة، ج 3، ص 1151، ح-1511.
(3)
انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 3، ص 131.
(4)
سورة النساء، الآية (135).
(5)
فمنهم من قرأها تلْووا، ومنهم من قرأها تلُوا، والقراءتين متواترتين. انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 238، والتيسير / الداني، ص 97، ومتن الشاطبية / الشاطبي ، ص 91 ، والنشر في القراءات العشر / ابن الجزري، ج 2، ص 190، والبدور الزاهرة / عبد الفتاح القاضي، ص 84.
قال ابن عاشور: " قرأ الجمهور: (تَلْوُوا) بلام ساكنة وواوين بعدها، أولاهما مضمومة فهو مضارع لَوَى، واللّي: الفَتل والثَّنْي. وتفرّعت من هذا المعنى الحقيقي معان شاعت فساوت الحقيقة، منها: عدول عن جانب وإقبالٌ على جانب آخر ، فإذا عُدّي بعن فهو انصراف عن المجرور بعن، وإذا عديّ بإلى فهو انصراف عن جانب كان فيه، وإقبالٌ على المجرور بعلى، قال تعالى:{ولا تَلْوُون على أحد} (1) أي لا تعطفون على أحد.
ومن معانيه: لوى عن الأمر تثاقل، ولوى أمره عنّي أخفاه، ومنها: ليّ اللسان، أي تحريف الكلام في النطق به أو في معانيه، وتقدّم عند قوله تعالى:{يَلْوُون ألسنتهم بالكتاب} (2)، وقولِه:{ليَّا بألسنتهم} (3) في هذه السورة. فموقع فعل (تَلووا) هنا موقع بليغ لأنّه صالح لتقدير متعلِّقِه المحذوف مجروراً بحرف (عن) أو مجروراً بحرف (على) فيشمل معاني العدول عن الحقّ في الحكم، والعدول عن الصدق في الشهادة، أو التثاقل في تمكين المحقّ من حقّه وأداء الشهادة لطالبها، أو الميْل في أحد الخصمين في القضاء والشهادة. وأمّا الإعراض فهو الامتناع من القضاء ومن أداء الشهادة والمماطلة في الحكم مع ظهور الحقّ، وهو غير الليّ كما رأيت.
وقرأه ابن عامر، وحمزة، وخلف:(وأن تَلُوا) بلام مضمومة بعدها واو
(1) سورة آل عمران، الآية (153).
(2)
سورة آل عمران، الآية (78).
(3)
سورة النساء، الآية (46).
ساكنة فقيل: هو مضارع وَلِيَ الأمرَ، أي باشره " (1).
ومما يدل على استحضار ابن عاشور لهذه القاعدة في تفسيره فإنه بعد أن ذكر القراءة الثانية والمعنى المترتب عليها قال: " فالمعنى: وإن تلوا القضاء بين الخصوم فيكون راجعاً إلى قوله: (أن تعدلوا) ولا يتّجه رجوعه إلى الشهادة، إذ ليس أداء الشهادة بولاية. والوجه أنّ هذه القراءة تخفيف (تَلْوُوا) نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فالتقى واوان ساكنان فحذف أحدهما، ويكون معنى القراءتين واحداً "(2).
وممن أيضا من المفسرين لا يرون هذا المعنى الآخر من القراءة الثانية الطبري إلا أنه ضعّف القراءة به حيث قال: " وهذا معنى إذا وجّه القارئ قراءته على ما وصفنا، إليه خارج عن معاني أهل التأويل، وما وجّه إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون، تأويلَ الآية. فإذْ كان فساد ذلك واضحًا من كلا وجهيه، فالصواب من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} اللي" الذي هو مطل " (3).
أما ابن عطية فقد احتمل المعنيين من القراءة حيث قال: "وذلك يحتمل أن يكون أصله «تلئوا» على القراءة الأولى، همزت الواو المضمومة كما همزت في أدؤر، وألقيت حركتها على اللام التي هي فاء «لوى» ثم حذفت لاجتماع
(1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 228.
(2)
التحرير والتنوير، ج 3، ص 228.
(3)
جامع البيان / الطبري، ج 5، ص 377.
ساكنين، ويحتمل أن تكون «تلوا» من قولك ولي الرجل الأمر " (1).
وقريب منه الرازي، والقرطبي إلا أنهما ساقا قول النحاس والزجاج ومقتضى قولهما أن القراءة الثانية يؤول معناها إلى القراءة الأولى كما ذكر ابن عاشور، وهذا التفصيل ذكره أبو حيان والشوكاني، والألوسي.
أما ابن كثير والقاسمي فلم يتطرقا لذكر هذه القراءات واكتفيا بالمعنى الأول وهو التحريف وتعمد الكذب (2).
حجة أصحاب القول الأول وهم الذين يرون أن القراءتين متفقتان في المعنى:
قال النحاس: " زعم بعض النحويين أن من قرأ (تلُوا) فقد لحن، لأنه لا معنى للولاية ها هنا ، وليس يلزم هذا ولكن تكون (تلوا) بمعنى (تلووا) وذلك أن أصله (تلووا) فاستثقلت الضمة على الواو بعدها واو أخرى، فألقيت الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين، وهي كالقراءة بإسكان اللام وواوين، ذكره مكي "(3).
وقال الزجاج: " المعنى على قراءته (وإن تلووا) ثم همز الواو الاولى فصارت
(1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 123.
(2)
انظر التفسير الكبير /الرازي، ج 4، ص 242، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 5، ص 412، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 386، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 4، ص 310، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 524، وروح المعاني / الألوسي، ج 3، ص 162، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 3، ص 372.
(3)
معاني القرآن / النحاس، 2، ص 213 - 215.
(تلؤوا) ثم خففت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام فصارت (تلوا) وأصلها (تلووا) فتتفق القراءتان على هذا التقدير" (1).
حجة أصحاب القول الثاني، وهم الذين اختاروا قراءة (تَلْوُوا) بلام ساكنة وواوين بعدها، ورتبوا عليها المعنى:
قال الطبري: " لَيُّ الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه، وذلك تحريفه إياها بلسانه، وتركه إقامتها، ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له، وعمن شهد عليه؛ وإنما قلنا: هذا التأويل أولى بالصواب، لأن الله جل ثناؤه قال: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} كونوا قوامين بالقسط شهداء الله"، فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء " (2).
حجة أصحاب القول الثالث، وهم الذين قرأوا (تَلُو) ورتبوا عليه معناها:
وهي قراءة ابن عامر وحمزة وخلف، ورتبوا عليها المعنى وهو الولاية أي تلوا أمور الناس وهذا للولاة والحكام (3).
القول الراجح:
هو ما ذهب إليه ابن عاشور من الأخذ بكلا القراءتين؛ وذلك لأنهما متواترتان، غير أن معنى القراءة الثانية يعود إلى نفس معنى القراءة الأولى فتكون
(1) معاني القرآن / الزجاج، ج 2، ص 118
(2)
جامع البيان / الطبري، ج 5، ص 377.
(3)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 123.
القراءتين متفقتان في المعنى.
أما ردّ القراءة الثانية فهذا غير جائز؛ لأنه ردٌ لقراءة متواترة.
قال أبو حيان: " لحّن بعض النحويين قارئ هذه القراءة يعني قراءة (تلُو) بضم اللام -: قال: لا معنى للولاية هنا، وهذا لا يجوز لأنها قراءة متواترة في السبع، ولها معنى صحيح وتخريج حسن"(1).
ويجلي ذلك ما ذكره علماء اللغة.
قال أبو علي الفارسي: "حجة من قال تلووا بواوين من لوى أن يقول: ما ذكرتم أن الدلالة وقعت عليه في قراءتكم (تلُوا) بواو واحدة فيستغنى به، ولا ينكر أن يتكرر اللفظان لمعنى واحد "(2).
5 -
قراءة يضاعف:
اختلف القراء في قراءة " يُضَاعَفْ "، وقد ساق هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره فقال: "قرأ الجمهور (يضاعَف) بتحتية في أوله للغائب وفتح العين مبنياً للنائب ، ورفع (العذابُ) على أنه نائب فاعل.
(1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 368.
(2)
الحجة للقراء السبعة / أبو علي الفارسي، ج 2، ص 95.
(3)
سورة الأحزاب، الآية (30).
وقرأه ابن كثير وابن عامر (نضَعِّف) بنون العظمة وبتشديد العين مكسورة ونصب (العذابَ) على المفعولية؛ فيكون إظهار اسم الجلالة في قوله بعده: (وكان ذلك على الله يسيراً) إظهاراً في مقام الإضمار.
وقرأه أبو عمرو ويعقوب (يُضَعَّف) بتحتية للغائب وتشديد العين مفتوحة. ومفاد هذه القراءات متّحِدُ المعنى على التحقيق " (1).
ومن هذا المثال نلحظ تطبيق ابن عاشور في تفسيره لهذه القاعدة حيث أنه بعد أن ذكر القراءات الواردة فيها ذكر أن معناها واحد.
وموقف ابن عاشور من هذه القراءات، في أنها متحدة في المعنى هو ما ذهب إليه بعض المفسرين ومنهم الطبري حيث رد قول من فرّق بين قراءة يضاعف ويضعف، إلا أنه رجّح قراءة الجمهور وردّ ما عداها وهذا ما عهدناه منه في طريقته في الترجيح بين القراءات (2).
وكذلك ممن ذهب من المفسرين إلى أن القراءات متحدة في المعنى: ابن عطية والقرطبي، وأبو حيان، والشوكاني (3).
أما الرازي، وابن كثير و، القاسمي والشنقيطي فلم يتطرقوا لذكر القراءات في كلمة يضاعف في هذه الآية.
(1) التحرير والتنوير، ج 10، ص 319.وهذه القراءات متواترة. انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 521، والتيسير / الداني، ص 179 ، ومتن الشاطبية / الشاطبي ، ص 142.
(2)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 179.
(3)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 382، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 14، ص 170، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 221، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 276.
وذكرها الألوسي ولم يرجح قراءة أو معنى قراءة على أخرى (1).
حجة أصحاب القول الأول وهم الذين يرون أن القراءات متفقة في المعنى:
قال النحاس: فرق أبو عمرو بين " يضاعف ويضعف " قال: " يضاعف " للمرار الكثيرة.
و" يضعف " مرتين، وقرأ " يضعف " لهذا.
وقال أبو عبيدة: " يضاعف لها العذاب " يجعل ثلاثة أعذبة.
قال النحاس: التفريق الذي جاء به أبو عمرو وأبو عبيدة لا يعرفه أحد من أهل اللغة علمته، والمعنى في " يضاعف ويضعف " واحد، أي يجعل ضعفين، كما تقول: إن دفعت إلى درهما دفعت إليك ضعفيه، أي مثليه، يعني درهمين.
ويدل على هذا {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (2) ولا يكون العذاب أكثر من الأجر.
وقال في موضع آخر {آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} (3) آتهم ضعفين من العذاب " أي مثلين.
وروى معمر عن قتادة " يضاعف لها العذاب ضعفين " قال: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة (4).
(1) انظر روح المعاني / الألوسي، ج 11، ص 180.
(2)
سورة الأحزاب، الآية (31).
(3)
سورة الأحزاب، الآية (68).
(4)
انظر معاني القرآن / النحاس، ج 5، ص 343.
حجة أصحاب القول الثاني وهم الذين اختاروا قراءة (يُضَاعَف) وبنوا عليها معناها:
وهذه قراءة الجمهور وهم: نافع وعاصم وحمزة والكسائي (1). وذكر أبو عبيدة أن معنى يضاعف على هذه القراءة مضاعفة العذاب مرات، حيث يقول:" يضاعف للمرار الكثيرة ويضعف مرتين "(2).
وضعف هذا المعنى الطبري، وكذلك ابن عطية، والألوسي.
قال ابن عطية: وكون الأجر مرتين مما يفسد هذا القول؛ لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة (3).
حجة أصحاب القول الثالث وهم الذين اختاروا قراءة (يُضَعَّفْ) وبنوا عليها المعنى:
وهذه قراءة أبي عمرو (4)، قال الطبري بعد أن ذكر قراءته: " إنه قرأها كذلك تأولاً منه في قراءته أنِّ يضعف، بمعنى تضعيف الشيء مرة واحدة، وذلك أن يجعل الشيء شيئين، فكأن معنى الكلام عنده: أن يجعل عذاب من يأتي من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بفاحشة مبينة في الدنيا والآخرة، مثلي عذاب سائر النساء غيرهن،
(1) انظر الحجة للقراء السبعة / أبو علي الفارسي، 3، ص 283. .
(2)
مجاز القرآن / أبو عبيدة، ج 2، ص 137.
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 21، ص 178، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 382، وروح المعاني / الألوسي، ج 11، ص 180. .
(4)
انظر التيسير / الداني، ص 179.
ويقول: أنَّ يضاعف بمعنى أن يجعل الشيء إلى الشيء مثلاه، حتى يكون ثلاثة أمثاله فكأن معنى من قرأ يضاعف عنده كان أن عذابها ثلاثة أمثال عذاب غيرها من النساء من غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك اختار يضعف على يضاعف (1).
حجة أصحاب القراءة الثالثة (نُضَعِّفْ) في اختيارهم لها:
وهذه قراءة ابن كثير وابن عامر (2).
قال أبو علي الفارسي: " من قال نُضَعِّفْ فالفعل مسند إلى ضمير اسم الله تعالى"(3).
القول الراجح
إن القراءات متحدة في المعنى كما ذكر ابن عاشور، وهو قول عدد كثير من العلماء.
ومنهم الطبري فإنه بعد أن ذكر قول أبي عمرو بن العلاء وأبي عبيدة مَعمَر بن المثنَّى أن بين ضاعف وضَعَّف فرقاً، فأما ضاعف فيفيد جعْل الشيء مِثْلَيْه فتصير ثلاثة أعْذِبة، وأما ضَعَّف المشدّد فيفيد جَعْل الشيء مثله، قال الطبري:"وهذا التفريق لا نعلم أحداً من أهل العلم ادعاه غيرهما"(4).
وقال أبو علي الفارسي: " ضاعف وضعّف، بمعنى فيما حكاه سيبويه"(5).
(1) جامع البيان / الطبري، ج 21، ص 178.
(2)
انظر النشر / ابن الجزري، ج 2، ص 261. .
(3)
الحجة للقراء السبعة / الفارسي، ج 3، ص 283. .
(4)
جامع البيان / الطبري، ج 21، ص 178.
(5)
الحجة للقراء السبعة / الفارسي، ج 3، ص 283. .
ونظائر هذه الأمثلة كثيرة في تفسيره منها: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
=
1 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125) قال ابن عاشور بعد أن ذكر القراءات الواردة في قوله: (واتخذوا): " فمآل القراءتين واحد ". (انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 711).
2 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: 58) قال ابن عاشور بعد أن ذكر القراءة في الكفار: " ومآل القراءتين واحد ". (انظر التحرير والتنوير، ج 4، ص 242).
3 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة: 103)، قال ابن عاشور بعد أن ذكر القراءات الواردة في (صَلَاتَكَ) قال: " والقراءتان سواء. (انظر التحرير والتنوير، ج 6، ص 24).
4 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} (النمل: 89)، حيث قال ابن عاشور بعد أن ذكر القراءات الواردة في كلمة (فزع):" فاتحدت القراءتان معنى لأن إضافة المصدر وتنكيره سواء في عدم إفادة العموم فتعين أنه فزع واحد "(انظر التحرير والتنوير، ج 10، ص 53).
5 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى: 30) قال ابن عاشور بعد أن ذكر القراءتين الواردة في كلمة: (فَبِمَا كَسَبَتْ) قال: " وكلتا القراءتين سواء ". (انظر التحرير والتنوير، ج 12، ص 100).