الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
المآخذ على منهج ابن عاشور في الترجيح
1 -
إهماله لبعض القواعد الترجيحية والتي نصّ عليها في تفسيره في باب الأسماء والصفات، وذلك لتبنيه مذهبا بدعيا في العقيدة ، وهو المذهب المنسوب إلى أبي الحسن الشعري، فنجده لا يكتفي بحكاية المذهب، بل يناصره، ويجمع الأدلة لتأييده وتقرير أفكاره.
ومن ذلك: إهماله العمل بالقاعدة الترجيحية والتي كان يرجح بها، كقاعدة: " الأصل إطلاق اللفظ على ظاهره مالم يأتي دليل يصرفه عن ذلك. والتي ترجح إثبات الصفات على ظاهرها
ومن ذلك: دلالة قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} (1) نفى ابن عاشور صفة العجب لله تعالى ، حيث يقول:" وقرأ حمزة والكسائي وخلف (بَلْ عَجِبْتُ) بضم التاء للمتكلم فيجوز أن يكون المراد: أن الله أسند العجب إلى نفسه. ويُعرَف أنه ليس المراد حقيقةَ العجب المستلزمة الروعة والمفاجأة بأمر غير مترقب بل المراد التعجيب أو الكناية عن لازمه، وهو استعظام الأمر المتعجب منه. وليس لهذا الاستعمال نظير في القرآن ولكنه تكرر في كلام النبوة منه قوله صلى الله عليه وسلم " إن الله ليعجب من رجلين يَقتُل أحدهُما الآخرَ يدخلان الجنة يقاتل هذا في
(1) سورة الصافات، الآية (12).
سبيل الله فيُقتل ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد " (1) بهذا اللفظ ، يعني ثم يسلم القاتل الذي كان كافراً فيقاتل فيستشهد في سبيل الله". (2) وسيأتي الحديث عن مثل هذه الأمثلة مفصلاً في مبحث أثر عقيدة ابن عاشور في صياغة القواعد والترجيح بها من الفصل السابع.
2 -
رجّح ابن عاشور بين بعض القراءات الصحيحة صراحة وكان الأولى أن يأخذ بها جميعاً دون ترجيح أحدها على الأخرى وإن كان هذا قليلا جداً في تفسيره، والغالب عليه عدم الترجيح بين القراءات المتواترة، ولكن لما أنه وقع في تفسيره، أحببت أن أنبه عليه
ومن أمثلة ذلك: ترجيحه قراءة الصاد على السين في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (3) حيث قال: " وقد قرأ باللغة الفصحى (بالصاد) جمهور القراء وقرأ (بالسين) ابن كثير في رواية قنبل، والقراءة بالصاد هي الراجحة لموافقتها رسم المصحف وكونها اللغة الفصحى "(4).
3 -
نقله من الكتاب المقدس التوراة والإنجيل المحرفة في بيان كلام الله فيقول: (وجاء في سفر كذا)، وحمل قصص القرآن على ما ورد فيها،
(1) أخرجه النسائي في المجتبى، كتاب الجهاد، باب اجتماع القاتل والمقتول في سبيل الله في الجنة، ج 6، ص 38، ح- 3165.
(2)
التحرير والتنوير، ج 11، ص 96.
(3)
سورة الفاتحة، الآية (6).
(4)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 190.
وحاول التوفيق بينه وبينها مما يُشعر بثقته فيها، مع أنه ذكر الإجماع على تحريفه (1) ومن الأمثلة على ذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (2).
حيث ذهب عامة المفسرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن المسخ في هاتين الآيتين كان مسخاً حقيقياً وصورياً ، مسخت قلوب المعتدين في السبت، ومسخت صورهم قردة، أي أجسامهم تحولت من الصور البشرية إلى صورة القردة، بقدرة الله القادر على كل شيء قدير، فقد قال لهم: كونوا فكانوا (3).
في حين شذّ ابن عاشور وغيره عن تفسير الجماعة في الآية حيث ذهب إلى أن المسخ كان معنوياً لا حقيقياً وصورياً، مسخت قلوبهم فقط مستنداً في ذلك إلى أنه لم يرد مسخ في كتب تاريخ اليهود، حيث قال بعد إيراده قول الجمهور وقول مجاهد:" والعبرة حاصلة على كلا الاعتبارين، والأول أظهر في العبرة؛ لأن فيه اعتبارهم بأنفسهم واعتبار الناس بهم بخلاف الثاني، والثاني أقرب للتاريخ؛ إذ لم ينقل مسخ في كتب تاريخ العبرانيين، والقدرة صالحة للأمرين "(4).
(1) ابن عاشور ومنهجه في التفسير / عبد الله الريس، رسالة ماجستير، ج 2، ص 656.
(2)
سورة البقرة، الآية (65).
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 382، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 470.
(4)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 544.
وقد ردَّ هذا القول جميع المفسرين المحققين؛ لأجل مخالفته لظاهر القرآن الكريم، وشذوذه عن قول عامة المفسرين.
قال الطبري: " وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف. وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبيهم:{أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} (1).، وأن الله تعالى ذِكْره أصعَقَهم عند مسألتهم ذلك ربهم، وأنهم عبدوا العجل، فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة فقالوا لنبيهم:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (2) فابتلاهم بالتيه. فسواء قائل قال: هم لم يمسخهم قردة، وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير - وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم - من الخلاف على أنبيائهم، والنكال والعقوبات التي أحلها الله بهم. ومن أنكر شيئا من ذلك وأقر بآخر منه، سئل البرهان على قوله، وعورض -فيما أنكر من ذلك- بما أقر به، ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح.
هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه. وكفى دليلا على فساد قول، إجماعها على تخطئته " (3).
ومما يدل أيضاً لى أن المسخ كان حقيقياً وحسياً ظاهر النص في الآيتين المذكورتين: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ
(1) سورة النساء، الآية (153).
(2)
سورة المائدة، الآية (24).
(3)
جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 382.
كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}.
وكذلك ما ثبت في الحديث الصحيح أنه سيكون مسخ في هذه الأمة، ففي حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً: والله ما كذبني سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم يعني الفقير لحاجة فيقولوا ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة. "(1).
والمبحث الخامس من الفصل الثاني في هذا البحث يُظهر مدى اهتمامه بالكتب المقدسة.
4 -
خالف إجماع العلماء في بعض المسائل الفقهية، ومن ذلك ربا الفضل فقد ذهب إلى جوازه فقال عند تفسيره لقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) بعد أن ذكر الأحاديث الواردة في الربا قال: " فلأجل هذه الأحاديث الستة أثبت الفقهاء ثلاثة أنواع للربا في اصطلاح الشرع:
…
الأول: ربا الجاهلية وهو زيادة على الدين لأجل التأخير.
…
الثاني: ربا الفضل وهو زيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وعُبادة بن الصامت.
…
الثالث: ربا النسيئة وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخّراً. وزاد المالكية نوعاً رابعاً: وهو ما يؤول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيّل على الربا ....
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأشربة، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، ج 5، ص 2123، ح- 5268.
(2)
سورة البقرة، الآية (275).
وعندي أنّ أظهر المذاهب في هذا مذهب ابن عباس، وأنّ أحاديث ربا الفضل تحمل على حديث أسامة " إنّما الربا في النسيئة " ليجمع بين الحديثين " (1).
وترجيحه هذا معارض بأمرين:
الأول: رجوع ابن عباس رضي الله عنه عن القول بجواز ربا الفضل، وقد نقل رجوعه الحازمي في الاعتبار، روى بسنده عن حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنه يقول: " إنما كنت أفتي فيه برأيي وقد تركته، وذلك أن أسامة بن زيد رضي الله عنه حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا ربا إلا في الدين)(2)(3)
…
.
…
الثاني: إن الإجماع منعقد على تحريم ربا الفضل، وقد نقل الإجماع جماعة من العلماء منهم: ابن المنذر (4)، والنووي (5)، وابن حزم (6)، وابن قدامة (7)، وابن، وابن قيم الجوزية (8) .. وإذا حصل الإجماع فلا تجوز مخالفته.
وكذلك مسألة عدة الأمة المتوفى عنها زوجها فقد حكى العلماء الإجماع فيها ورجّح ابن عاشور خلافه فقال: " وإن إجماع فقهاء الأسلام على تنصيف عدة الوفاة في الأمة المتوفى زوجها لمن معضلات المسائل الفقهية، فلنا أن ننظر
(1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 89.
(2)
أخرجه ابن أبي عوانة في مسنده، ج 3، ص 387، ح- 5421.
(3)
انظر ابن عاشور ومنهجه في التفسير / عبد الله الريس، ج 2، ص 624، رسالة ماجستير.
(4)
الإجماع / ابن المنذر، ص 117 - 118.
(5)
شرح مسلم / النووي، ج 11، ص 9.
(6)
المحلى / ابن حزم، ج 8، ص 468.
(7)
المغني / ابن قدامة، ج 4، ص 3.
(8)
أعلام الموقعين / ابن القيم، ج 2، ص 1552.
إلى حكمة مشروعية عدة الوفاة، وإلى حكمة مشروعية التنصيف لذي الرق، فيما نصف له فيه حكم شرعي، فنرى بمسلك السبر والتقسيم أن عدة الوفاة إما أن تكون لحكمة تحقق النسب أو عدمه، وإما أن تكون لقصد الإحداد على الزوج، لما نسخ الإسلام ما كان عليه أهل الجاهلية من الإحداد حولاً كاملاً، أبقى لهن ثلث الحول، كما أبقى للميت حق الوصية بثلث ماله، وليس لها حكمة غير هذين؛ إذ ليس فيها ما في عدة الطلاق من حكمة انتظار ندامة المطلق، وليس هذا الوجه الثاني بصالح للتعليل؛ لأنه لا يظن بالشريعة أن تقرر أوهام أهل الجاهلية، فتبقي منه تراثاً سيئاً، ولأنه قد عهد من تصرف الإسلام إبطال تهويل أمر الموت والجزع له، الذي كان عند الجاهلية عرف ذلك في غير ما موضع من تصرفات الشريعة، ولأن الفقهاء اتفقوا على أن عدة الحامل من الوفاة وضع حملها، فلو كانت عدة غير الحامل لقصد استبقاء الحزن لاستوتا في العدة، فتعين أن حكمة عدة الوفاة هي تحقق الحمل أو عدمه، فلننقل النظر إلى الأمة نجد فيها وصفين: الإنسانية والرق، فإذا سلكنا إليهما طريق تخريج المناط، وجدنا الوصف المناسب لتعليل الاعتداد الذي حكمته تحقق النسب هو وصف الإنسانية؛ إذ الحمل لا يختلف حاله باختلاف أصناف النساء وأحوالهن الاصطلاحية أما الرق فليس وصفاً صالحاً للتأثير في هذا الحكم، فالوجه أن تكون عدة الوفاة للأمة كمثل الحرة، وليس في تنصيفها أثر، ومستند الإجماع قياس مع وجود الفارق " (1)
…
.
(1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 443.