الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
الأصل عدم النسخ ما لم يقم دليل
صحيح صريح على خلاف ذلك
صورة القاعدة:
إذا تنازع المفسرون في تفسير آية من كتاب الله، فمدّّّّعٍ عليها النسخ، ومانع منه، فأصح الأقوال المنع منه، إلا بثبوت التصريح بنسخها، أو انتفاء حكمها من كل وجه، وامتناع الجمع بينها وبين ناسخها. أو كان انتفاء الحكم في بعض الأوجه دون بعض، كالتخصيص ونحوه (1).
شرح مفردات القاعدة:
الأصل:
لغة: قال ابن منظور: "الأصل: أسفل كل شيء وجمعه أصول"(2).وقال ابن فارس: "الهمزة والصاد واللام ثلاثة أصول متباعد بعضها من بعض، أحدها أساس الشيء "(3).
اصطلاحا: الأصل هو ما ينبني عليه غيره" (4).
الدليل:
لغة: قال ابن منظور: "الدليل ما يستدل به. والدليل: الدال. وقد دله على
(1) قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 1، ص 72.
(2)
لسان العرب / ابن منظور، ج 1، ص 155، مادة: أصل.
(3)
معجم مقاييس اللغة / ابن فارس، ص 62.
(4)
التعريفات / الجرجاني، ص 45.
الطريق يدله دلالة ودلولة. والدليل: الذي يدلك " (1).
اصطلاحا: الدليل هو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري (2).
النسخ:
لغة: له إطلاقان:
1 -
الإزالة، يقال نسخت الشمس الظل أي أزالته، ونسخت الريح آثار الديار: غيرّتها.
2 -
النقل، يقال نسخت الكتاب أي نقلت مافيه إلى آخر (3).
اصطلاحاً: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه (4)، وهناك تعريفات أخرى ذكرها العلماء من أرجحها: أنه رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم عنه بخطاب متأخر عنه لكونه جامعا مانع، اختاره الغزالي (5).
شرح التعريف: أن يكون هناك حكم قد ثبت بخطاب شرعي متقدم فيأتي خطاب آخر من الشارع فجأة وهو متأخر عن الأول فيرفع ذلك الحكم.
(1) لسان العرب / ابن منظور، ج 4، ص 394، مادة: دلل.
(2)
أصول الفقه الميسر / سميح عاطف الزين، ص 297.
(3)
انظر لسان العرب / ابن منظور، ج 14، ص 121، مادة نسخ، والصحاح / الجوهري، ج 2، ص 312.
(4)
الموافقات في أصول الشريعة /إبراهيم بن موسى الشاطبي، ج 3، ص 108.
(5)
انظر المستصفى في علم الأصول / الغزالي، ص 86، وقريب منه تعريف ابن عاشور. انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 657.
مثل: إن الله حكم بأن عدة المرأة المتوفى عنها زوجها حول كامل وذلك بخطاب شرعي وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) بعد ذلك بزمن يرفع هذا الحكم بخطاب متأخر عنه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (2) فالرفع هو: إزالة ذلك الحكم على وجه لولا هذا الحكم لبقي مستمرا وثابتا يعمل به؛ فالنسخ إذن: قطع لدوام الحكم فجأة لا بيان مدة انتهاء مدته.
وذكر ابن عاشور التعريف اللغوي للنسخ فقال: إنه يطلق على معنيين:
الأول: إزالة الشيء بشيء آخر كقولهم: نسخت الشمس الظل.
الثاني: الإزالة فقط دون تعويض كقولهم: نسخت الريح الأثر، وعلى الإثبات لكن على إثبات خاص وهو إثبات المزيل.
وذكر ابن عاشور أن الراغب الأصفهاني اقتصر على المعنى الأول أي إزالة صورة وإثبات غيرها عوضها (3).
(1) سورة البقرة، الآية (240).
(2)
سورة البقرة، الآية (234).
(3)
انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 656.
ومسألة جواز النسخ بلا بدل وقع فيها خلاف بين العلماء، حيث قال جماعة لا يجوز النسخ بلا بدل، ومنهم الشافعي، والجمهور على خلافه، والراجح ما ذهب إليه جمهور العلماء من جواز النسخ في الأحكام الشرعية ببدل وبغير بدل. انظر فتح المنان في نسخ القرآن / علي حسن العريض، ص 17.
وانتقد ابن عاشور الراغب الأصفهاني في تعريفه للنسخ بأنه مجرد الإثبات فقال:
"وأما أن يطلق على مجرد الإثبات فلا أحسبه صحيحا في اللغة، وإن أوهمه ظاهر كلام الراغب وجعل منه قولهم: نسخت الكتاب إذا خططت أمثال حروفه في صحيفتك إذ وجدوه إثباتا محضا، لكن هذا توهم لأن إطلاق النسخ على محاكاة حروف الكتاب إطلاق مجازي بالصورة، أو تمثيلية الحالة بحالة من يزيل الحروف من الكتاب الأصلي إلى الكتاب المنتسخ ، ثم جاءت من ذلك النسخة قال تعالى:{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) وقال: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (2) وأما قولهم الولد نسخة من أبيه فمجاز على مجاز.
ولا يطلق النسخ على الزوال بدون إزالة فلا تقول نسخ الليل النهار؛ لأن الليل ليس بأمر وجودي بل هو الظلمة الأصلية الحاصلة من انعدام الجرم المنير " (3).
(1) سورة الجاثية، الآية (29).
(2)
سورة الأعراف، الآية (154).
(3)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 657.
وأما عن موقف ابن عاشور من النسخ الاصطلاحي فقد قال: " المعروف عند الأصوليين بأنه: رفع الحكم الشرعي بخطاب، فخرج التشريع المستأنف إذ ليس برفع، وخرج بقولنا: الحكم الشرعي رفع البراءة الأصلية بالشرع المستأنف، إذ البراءة الأصلية ليست حكما شرعيا بل هي البقاء على عدم التكليف الذي كان الناس عليه قبل مجيء الشرع، بحيث إن الشريعة لا تتعرض للتنصيص على إباحة المباحات إلا في مظنة اعتقاد تحريمها، أو في موضع حصر المحرمات أو الواجبات فالأول نحو قوله:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (1) في التجارة في الحج، حيث ظن المسلمون تحريم التجارة في عشر ذي الحجة كما كانت عليه الجاهلية بعد الانصراف من ذي المجاز، ومثال الثاني قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (2) بعد ذكر النساء المحرمات وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (3).
لحصر وجوب الإمساك في خصوص زمن النهار، وفهم من قولهم في التعريف:(رفع الحكم) أن ذلك الحكم كان ثابتا لولا رفعه ، وقد صرح به بعضهم ، ولذلك اخترنا زيادة قيد في التعريف وهو: رفع الحكم الشرعي المعلوم دوامه بخطاب يرفعه.
(1) سورة البقرة، الآية (198).
(2)
سورة النساء، الآية (24).
(3)
سورة البقرة، الآية (187).
ليخرج عن تعريف النسخ رفع الحكم الشرعي المغيا بغاية عند انتهاء غايته، ورفع الحكم المستفاد من أمر لا دليل فيه على التكرار" (1).
ومما تقدم يتبين لنا دقة ابن عاشور في تحريره لمعنى النسخ اللغوي والاصطلاحي، كما أضاف للتعريف الاصطلاحي قيدا على ما ذكره الأصوليون بقوله: هو رفع الحكم الشرعي " المعلوم دوامه" مما يجعله أكثر دقة، كما أن قوله:"بخطاب يرفعه" يجعله أكثر شمولا حيث أن الخطاب يشمل الدليل القطعي (القرآن) والظني (السنة) بخلاف من عرفه بأنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه.
وقد رجّح ابن عاشور بهذه القاعدة في تفسيره في أكثر من موضع، ومن ذلك عند قوله تعالى:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (2).
قال: "والمعنى: فإذا قاتلتم المشركين في المستقبل فأمعنوا في قتلهم حتى إذا رأيتم أن قد خضدتم شوكتهم، فأسروا منهم أسرى .. إلى أن قال:
وقوله (بعد) أي بعد الإثخان وهذا تقييد لإباحة المن والفداء، وذلك موكول إلى نظر أمير الجيش بحسب ما يراه من المصلحة في أحد الأمرين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 657.
(2)
سورة محمد، الآية (4).