الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال الزرقاني: " والخلاصة أن تنوع القراءات يقوم مقام تعدد الآيات وذلك ضرب من ضروب البلاغة يبتدئ من جمال هذا الإيجاز، وينتهي إلى كمال الإعجاز، أضف إلى ذلك ما في تنوع القراءات من البراهين الساطعة والأدلة القاطعة على أن القرآن كلام الله وعلى صدق من جاء به وهو رسول الله، فإن هذه الاختلافات في القراءة على كثرتها لا تؤدي إلى تناقض في المقروء وتضاد، ولا إلى تهافت وتخاذل، بل القرآن كله على تنوع قراءاته يصدق بعضه بعضا ويبين بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد في علو الأسلوب والتعبير وهدف واحد من سمو الهداية والتعليم"(1).
وفي هذه القاعدة أيضاً يقول الشنقيطي: "اعلم أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة كان لهما حكم الآيتين، كما هو معروف عند العلماء "(2). .
الأمثلة التطبيقية على القاعدة:
1 -
قراءة (يعملون):
قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
(1) مناهل العرفان / الزرقاني، ج 1، ص 105.
(2)
أضواء البيان / الشنقيطي، ص 179.
رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (1).
اختلف القراء في قراءة (يعملون) فمنهم من قرأها بتاء الخطاب، ومنهم من قرأها بياء الغيبة (2)، وقد ذكر ذلك ابن عاشور في تفسيره فقال: " قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} قرأه الجمهور بياء الغيبة والضميرُ للذين أوتوا الكتاب أي: عن عملهم بغير ما علموا فالمراد بما يعملون هذا العملُ ونحوه من المكابرة والعناد والسفه ، وهذا الخبر كناية عن الوعيد بجزائهم عن سوء صنعهم لأن قول القادر ما أنا بغافل عن المجرم تحقيق لعقابه إذ لا يحول بين القادر وبين الجزاء إلاّ عدم العلم فلذلك كان وعيداً لهم ووعيدُهم يستلزم في المقام الخطابي وَعْداً للمسلمين لدلالته على عظيم منزلتهم فإن الوعيد إنما ترتب على مخالفتهم للمؤمنين فلا جرم أن سيلزم جزاء للمؤمنين على امتثال تغيير القبلة، ولأن الذي لا يغفل عن عمل أولئك لا يَغفل عن عمل هؤلاء فيجازي كلاً بما يستحق.
وقَرأه ابنُ عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورَوْح عن يعقوب بتاء الخطاب فهو كناية عن وعد للمسلمين على الامتثال لاستقبال الكعبة ، ويستلزم وعيداً للكافرين على عكس ما تقتضيه القراءة السابقة؛ وعلى القراءتين فهو تذييل إجمالي لِيأخُذ كلٌّ حظهُ منه " (3).
(1) سورة البقرة، الآية (144).
(2)
وهاتان قراءتان متواترتان. انظر التيسير / الداني، ص 77، ومتن الشاطبية / الشاطبي ، ص 70 والنشر في القراءات العشر، ج 2، ص 168.
(3)
التحرير والتنوير، ج 2، ص 34.
وممن وافق قوله قول ابن عاشور في الأخذ بكلا القراءتين وأن لكل قراءة معناها كل من ابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، والألوسي (1).
وذكر القاسمي كلا القراءتين ولم يذكر معناهما (2).
ولم يتطرق الطبري للقراءة الثانية وهي القراءة بياء الغيبة (3).
أما ابن كثير، والشوكاني فلم يذكرا القراءات الواردة فيها أصلاً (4).
حجة من أخذ بقراءة (تاء الخطاب) ورد الأخرى:
وهذا ما فعله الطبري، فلعلها لم تصل إليه وهذا قوله عند هذه الآية:" يعني بذلك تبارك وتعالى: وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون، في اتباعكم أمرَه، وانتهائكم إلى طاعته، فيما ألزمكم من فرائضه، وإيمانكم به في صَلاتكم نحو بيت المقدس، ثم صلاتكم من بعد ذلك شطرَ المسجد الحرام، ولا هو ساه عنه، ولكنه جَل ثَناؤه يُحصيه لكم ويدّخره لكم عنده، حتى يجازيَكم به أحسن جزاء، ويثيبكم عليه أفضل ثواب"(5).
(1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 222، والتفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 106، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 166، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 604، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 409.
(2)
انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 470.
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 31.
(4)
انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 120، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 155.
(5)
جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 31.
حجة من يرى الأخذ بكلا القراءتين وأن لكل قراءة معناها:
قال ابن عطية: " وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «عما تعملون» بتاء على المخاطبة، فإما على إرادة أهل الكتاب أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الوجهين، فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل العباد ولا يغفل عنها، وضمنه الوعيد، وقرأ الباقون بالياء من تحت "(1).
وكذلك قال الرازي حيث أخذ بكلا القراءتين: " إنا إن جعلناه خطاباً للمسلمين فهو وعد لهم وبشارة أي لا يخفى على جدكم واجتهادهم في قبول الدين، فلا أخل بثوابكم، وإن جعلناه كلاماً مع اليهود فهو وعيد وتهديد لهم "(2).
القول الراجح:
هو الأخذ بكلا القراءتين، كما هو منهج ابن عاشور، وأن لكل قراءة معناها كما بين ذلك جمهور المفسرين، وعلى كلتا القراءتين فهو: إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد، ولا يغفل عنها وهو متضمن الوعيد.
قال الألوسي: " وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي (تَعْمَلُونَ) بالتاء فهو وعد للمؤمنين، وقيل: على قراءة الخطاب وعدلهم، وعلى قراءة الغيبة وعيد لأهل الكتاب مطلقاً، وقيل: الضمير على القراءتين لجميع الناس فيكون وعداً ووعيداً لفريقين من المؤمنين والكافرين "(3).
(1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 222.
(2)
التفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 106.
(3)
روح المعاني / الألوسي ، ج 1 ، ص 409.
وقال مكي: " ووجه القراءة بالياء أنه أجراه على لفظ الغيبة والإخبار عن اليهود، الذين يخالفون النبي في القبلة وهم غيب. فالتقدير: ولِّ يا محمد نحو المسجد الحرام، وما الله بغافل عما يعمل من يخالفك من اليهود في القبلة.
ووجه القراءة بالتاء أنه مردود على ما قبله، من الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والمعنى: فولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام، وما الله بغافل عما تعملون، أيها المؤمنون من توليكتم نحو المسجد الحرام " (1).
2 -
قراءة " ننشزها":
اختلف القراء في قراءة قوله تعالى "ننشزها " فمنهم من قرأها ننشزها بالزاي، ومنهم من قرأها ننشرها بالراء (3) ، وبناء على ذلك الاختلاف حصل الاختلاف بين المفسرين في معناها.
ولقد أشار ابن عاشور إلى هذه القراءات في تفسيره، وفيها ما يدل على استحضاره لهذه القاعدة وهي أن (التعدد في القراءات بمنزلة التعدد في الآيات)، وإليك قوله:
(1) الكشف عن وجوه القراءات السبع / مكي بن أبي طالب، ج 1، ص 268.
(2)
سورة البقرة، الآية (259).
(3)
وهاتان قراءتان متواترتان. انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 189، والتيسير / الداني، ص 82، ومتن الشاطبية / الشاطبي، ص 79 ، والنشر في القراءات العشر / ابن الجزري، ج 2، ص 174.
قال ابن عاشور: "وقرأ جمهور العشرة (نُنْشِرها) بالرّاء مضارع أنْشَر الرباعي ، بمعنى الإحياء.
وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف: (نُنشِزها) بالزاي مضارع أنشزه إذا رفعه، والنشز الارتفاع، والمراد ارتفاعها حين تغلظ بإحاطة العصب واللحم والدم بها
فحصل من القراءتين معنيان لكلمة واحدة " (1).
وممن ذهب إلى ما ذهب إليه ابن عاشور من المفسرين في أن لكل قراءة معنى ابن عطية، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي
…
(2).
أما الطبري فهو يرى أن معناهما متقاربان، وكذلك الرازي (3).
وقريب منهما القرطبي، وأبو حيان حيث يريان أن معنى القراءة الثانية متمم للأولى ، يقول القرطبي:" فإن القراءة بالراء بمعنى الإحياء، والعظام لا تحيا عن الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض "(4).
(1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 3، ص 37.
(2)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 351، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2،
ص 454، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 280، وروح المعاني / الألوسي، ج 2، ص 23
ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 240، ولم يتعرض الشنقيطي لتفسير هذه الآية.
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 54، والتفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 33.
(4)
الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 3، ص 295، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2،
ص 305.
حجة القائلين بأن كلا القراءتين معناهما واحد:
قال أبو جعفر الطبري: " والقول في ذلك عندي أنّ معنى"الإنشاز" ومعنى"الإنشار" متقاربان، لأن معنى"الإنشاز": التركيبُ والإثبات ورد العظام إلى العظام، ومعنى"الإنشار" إعادة الحياة إلى العظام ، وإعادتها لا شك أنه ردُّها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها. فهما وإن اختلفا في اللفظ، فمتقاربا المعنى. وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئًا يقطعُ العذر ويوجب الحجة، فبأيِّهما قرأ القارئ فمصيب، لانقياد معنييهما، ولا حجة توجب لإحداهما القضاءَ بالصواب على الأخرى"(1).
وفي ذلك يقول مكي: " وحجة من قرأ بالزاي أنه حمله على معنى الرفع من " النشز" وهو المرتفع من الأرض، أي: وانظر إلى العظام كيف نرفع بعضها على بعض في التركيب للإحياء لأن " النشز" الارتفاع. يقال لما ارتفع من الأرض نشز، ومنه المرأة النشوز، وهي المرتفعة عن موافقة زوجها. ومنه قوله:{وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا} (2) أي ارتفعوا وانضموا. وأيضاً فإن القراءة بالزاي بمعنى الإحياء، والعظام لا تحيا على الانفراد، حتى يضم بعضها إلى بعض. فالزاي أولى بذلك المعنى، إذ هي بمعنى الانضمام دون الإحياء. فالموصوف بالإحياء هو الرجل، دون العظام على انفرادها، لا يقال هذا عظم حي. فإنما المعنى: وانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء. فأما
(1) جامع البيان/ الطبري، ج 3، ص 54.
(2)
سورة المجادلة، الآية (11).
قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (1) فإنما وصفت العظام بالإحياء على إرادة صاحبها، لأن إحياء العظام على الانفراد، لا تقوم منه حياة إنسان، فإنما المراد حياة صاحب العظام، والعظام إنما تحيا بحياة صاحبها " (2).
وكذلك الرازي فبعد أن ذكر القراءات الواردة فيها قال: "والمعنى من جميع القراءات أنه تعالى ركَّب العظام بعضها على بعض حتى اتصلت على نظام، ثم بسط اللحم عليها، ونشر العروق والأعصاب واللحوم والجلود عليها، ورفع بعضه إلى جنب البعض، فيكون كل القراءات داخلاً في ذلك "(3).
حجة القائلين بأن لكل قراءة معناها:
قال ابن زنجلة: "قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ننشرها بالراء، أي: كيف نحييها وحجتهم قوله قبلها: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} (4)، وقرأ الباقون كيف ننشزها بالزاي أي نرفعها وحجتهم قوله وانظر إلى العظام كيف ننشزها ، وذلك أن العظام إنما توصف بتأليفها وجمع بعضها إلى بعض ، إذ كانت العظام نفسها لا توصف بالحياة لا يقال قد حي العظم ، وإنما يوصف بالإحياء صاحبها وحجة أخرى قوله ثم نكسوها لحما دل على أنها قبل أن
(1) سورة يس، الآية (78 - 79).
(2)
الكشف عن وجوه القراءات السبع / مكي بن أبي طالب، ج 1، ص 310.
(3)
التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 33.
(4)
سورة البقرة، الآية (259).
يكسوها اللحم غير أحياء؛ لأن العظم لا يكون حيا وليس عليه لحم فلما قال ثم نكسوها لحما علم بذلك أنه لم يحيها قبل أن يكسوها اللحم " (1).
وكذلك ذكر ابن عطية ما يُقرُّ بأن لكل قراءة معناها ومن قوله: " وقراءة عاصم: «نَنشرها» بفتح النون الأولى يحتمل أن تكون لغة في الإحياء، يقال: نشرت الميت وأنشرته فيجيء نشر الميت ونشرته، كما يقال حسرت الدابة وحسرتها، وغاض الماء وغضته، ورجع زيد ورجعته. ويحتمل أن يراد بها ضد الطيّ، كأن الموت طيّ للعظام والأعضاء، وكأن الإحياء وجمع بعضها إلى بعض نشر. وأما من قرأ: «ننشزها» بالزاي بمعناه: نرفعها، والنشز المرتفع من الأرض "(2).
وقال ابن منظور: " وأَنْشَزَ الشيءَ رفعه عن مكانه، وإِنْشازُ عظام الميت رَفْعُها إِلى مواضعها، وتركيبُ بعضها على بعض، وفي التنزيل العزيز وانْظُرْ إِلى العظام كيف نُنْشِزُها ثم نَكْسُوها لحماً أَي نرفع بعضها على بعض، ومن قرأ كيف ننشرها بضم النون فإنشارها إحياؤها "(3).
ومن هنا يظهر أنه وإن كان لكل قراءة معنى إلا أن أحدهما متممة أو مترتبة على الأخرى.
(1) حجة القراءات / ابن زنجلة، ج 1، ص 144.
(2)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 350.
(3)
لسان العرب / ابن منظور، ج 14، ص 143، مادة: نشز.
القول الراجح
ليس هناك خلاف أصلاً بين المفسرين ، فقول ابن عاشور وغيره من المفسرين بأن لكل آية معنى ذلك بناءً على أن لكل قراءة معناها الذي يميزها عن القراءة الأخرى ابتداءً.
ومن قال بأن معناهما متقارب ، فذلك لأن كلاً منها متممة للأخرى، والأصل توافق القراءات في المعنى، فننشرها بمعنى نحييها، وننشزها بمعنى نكسوها لحما، والعظام لا تحيا عن الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض.
3 -
قراءة " قد كذبوا":
اختلف العلماء في معنى قوله تعالى: " قَدْ كُذِبُوا "، وهذا الخلاف ناتج عن تعدد القراءات فيها:
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: (كُذِّبُوا) مشددة الذال.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي (كُذِبُوا) خفيفة ، وكلهم ضم الكاف (2).
وعليه اختلف المفسرون في معناها، وذكر ابن عاشور في تفسيره موقف
(1) سورة يوسف، الآية (110).
(2)
وهاتان قراءتان متواترتان. انظر السبعة في القراءات / ابن مجاهد، ص 351، والتيسير / الداني، ص 130، والنشر/ ابن الجزري، ج 2، ص 222.
عائشة من هذه القراءة واختيارها للقراءة بالتشديد ثم علّق عليها بقوله: " وهذا الكلام من عائشة رضي الله عنها رأي لها في التفسير وإنكارها أن تكون (كذبوا) مخففة إنكار يستند بما يبدو من عود الضمائر إلى أقرب مذكور وهو الرسل، وذلك ليس بمتعيّن، ولم تكن عائشة قد بلغتْها رواية (كذبوا) بالتخفيف "(1).
وابن عاشور كما مرّ معنا يأخذ بكل القراءات المتواترة ولا يرجح أحدها على الأخرى وإنما إذا اختلفت عنده المعاني في القراءات فهو يرى أن ذلك مما تميز به كتاب الله وأن التعدد في القراءات بمنزلة التعدد في الآيات.
أما موقف المفسرين من هاتين القراءتين فقد رجّح الطبري القراءة بتشديد الذال ولم يستجز غيرها (2).
وذكر كلٌ من ابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير والشوكاني، والألوسي تلك القراءات ومعناها ولم يرجَّحوا (3).
(1) التحرير والتنوير/ ابن عاشور ج 7، ص 70 ، والقول بأن عائشة رضي الله عنها لم تبلغها رواية " كذبوا " بالنخفيف، فيه نظر ، بدليل ما رواه السيوطي في الدر المنثور بسنده عن عائشة رضي الله عنها قال: أخرج ابن مردويه من طريق عمرة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: وظنوا أنهم قد كذبوا ، مخففة. (الدر المنثور / السيوطي، ج 4 ، ص 77).
(2)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 13، ص 03.
(3)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 287 - 288، والتفسير الكبير / الرازي، ج 6 ص 521، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 9، ص 282، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 5، ص 347، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 98، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 61، وروح المعاني / الألوسي، ج 7، ص 67، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 241.
حجة أصحاب القول الأول: وهم الذين يرون القراءة بـ (كُذِّبُوا) بالتشديد:
وهذا قول عائشة، وكذلك كانت تقرؤها رضي الله عنها، روى البخاري بسنده عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} قال: قلت: أكُذِبوا أم كُذِّبوا؟ فقالت عائشة: كُذِّبوا. فقلت: فقد استيقنوا أن قومهم قد كَذَّبوهم فما هو بالظن؟ قالت: أجل، لعمري لقد استيقنوا بذلك. فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا؟ قالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها. قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} ممّن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذَّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك " (1).
وهذه القراءة بالتشديد هي التي رجحها الطبري ولم يستجز غيرها (2).
وروى ابن أبي حاتم بسنده قال: " إن محمد بن كعب القرظي يقول هذه الآية: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} فقال القاسم: أخبره عني أني سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: {حَتَّى إِذَا
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب حتى إذا استيأس الرسل، ج 4، ص 1731، ح- 4418.
(2)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 13، ص 03
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} تقول: كذبتهم أتباعهم " (1).
حجة أصحاب القول الثاني وهم الذين يرون القراءة بـ (كُذِبُوا) بالتخفيف:
قال الطبري: "وفي تأويلها وجهان:
الوجه الأول: رواه ابن عباس رضي الله عنه قال: استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا، وظنّ قومهم أن الرسل كذبوهم فيما وعدوا به.
الوجه الثاني: وهو من رواية ابن عباس رضي الله عنه قال: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظنت الرسل أنهم قد كذبوا فيما وعدوا من النصر، وهذا القول أيضا من رواية ابن عباس حيث قال: كانوا بشراً ضعفوا ويئسوا" (2).
وهذا التأويل _ أي الثاني_ ردّه الطبري حيث قال: " وهذا تأويلٌ وقولٌ، غيرُه من التأويل أولى عندي بالصواب، وخلافه من القول أشبه بصفات الأنبياء، والرسل إن جاز أن يرتابوا بوعدِ الله إياهم ويشكوا في حقيقة خبره، مع معاينتهم من حجج الله وأدلته ما لا يعاينه المرسَل إليهم فيعذروا في ذلك، فإن المرسَلَ إليهم لأوْلى في ذلك منهم بالعذر. وذلك قول إن قاله قائلٌ لا يخفى أمره، وقد ذُكِر هذا التأويل الذي ذكرناه أخيرًا عن ابن عباس لعائشة، فأنكرته أشد النُكرة فيما ذكر لنا "(3).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، ج 5، ص 441.
(2)
جامع البيان / الطبري، ج 13، ص 100.
(3)
جامع البيان / الطبري، ج 13، ص 100.
القول الراجح:
هو أن نأخذ بكلا القراءتين ، وذلك لأنهما متواترتان ، وكل قراءة تفيد معنى جديداً، وهذا ما ذهب إليه ابن عاشور في تفسيره، ولكن لم يتبين موقف ابن عاشور من التأويلات الواردة في قراءة التخفيف ، والذي يظهر لي أنه يرى أنها كلها محتملة وهو الذي يظهر من الآية.
قال القاسمي: " وقد استشكلوا على ابن عباس هذا القول وتأولوا لكلامه وجوهاً "(1).
قال الزمخشري: " أراد بالظن ما يخطر بالبال، ويهجس في القلب، من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأما الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر، فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم "(2).
وقال الحكيم الترمذي: " وجهه: أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر، لا من تهمة بوعد الله، بل لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثاً ينقض ذلك الشرط، فكان الأمر إذا طال، واشتد البلاء عليهم، دخلهم الظن من هذه الجهة "(3).
وكذلك وضَّح معنى قراءة التخفيف الشوكاني، بعد أن ذكر أنها من قراءة ابن عباس وابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو جعفر بن القعقاع
(1) محاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 241.
(2)
الكشاف / الزمخشري، ج 3، ص 330.
(3)
انظر إملاء ما من به الرحمن / العكبري، ص 366.
وغيرهم حيث قال: " كذبوا بالتخفيف أي: ظنّ القوم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب ولم يصدقوا، وقيل: المعنى ظنّ القوم أن الرسل قد كذبوا فيما ادعوا من نصرهم، وقيل: المعنى وظنّ الرسل أنها قد كذبتهم أنفسهم حين حدّثتهم بأنهم ينصرون عليهم، أو كذبهم رجاؤهم للنصر "(1).
4 -
قراءة "لتزول":
قال تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (2).
اختلف القراء في قراءة قوله تعالى (لتزول): قرأ الكسائي بفتح اللام الأولى ورفع الثانية، والباقون بكسر الأولى ونصب الثانية (3) ، وبالتالي اختلف المفسرون في معناها (4)، وقد ساق ابن عاشور هذه القراءات واختلاف المفسرين في معناها فقال: " وقرأ الجمهور (لِتزول) بكسر اللام وبنصب الفعل المضارع بعدها فتكون (إن) نافية ولام (لتزول) لام الجحود، أي وما كان مكرهم زائلة منه الجبال، وهو استخفاف بهم، أي ليس مكرهم بمتجاوز مكر
(1) فتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 61.
(2)
سورة إبراهيم، الآية 46.
(3)
وهاتان قراءتان متواترتان، انظر التيسير في القراءات / الداني، ص 135، ومتن الشاطبية / الشاطبي، ص 119 ، والنشر في القراءات العشر / ابن الجزري، ج 2، ص 225، والبدور الزاهرة / عبد الفتاح القاضي، ص 166.
(4)
سورة إبراهيم، الآية (46).
أمثالهم، وما هو بالذي تزول منه الجبال. وفي هذا تعريض بأن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذين يريد المشركون المكر بهم لا يزعزعهم مكرهم لأنهم كالجبال الرواسي.
وقرأ الكسائي وحده بفتح اللام الأولى من (لَتزولُ) ورفع اللام الثانية على أن تكون (إنْ) مخففة من (إنْ) المؤكدة وقد أكمل إعمالها، واللام فارقة بينها وبين النافية، فيكون الكلام إثباتاً لزوال الجبال من مكرهم، أي هو مكر عظيم لَتزول منه الجبال لو كان لها أن تزول، أي جديرة، فهو مستعمل في معنى الجدارة والتأهل للزوال لو كانت زائلة.
وهذا من المبالغة في حصول أمر شنيع أو شديد في نوعه على نحو قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} (1) " (2).
ومما تقدم يتبين لنا استحضار ابن عاشور لهذه القاعدة حيث ذكر كل قراءة مبيناً معناها، ولم يرجح قراءة على أخرى وذلك بناء على منهجه في القراءات من أن القراءات حق كلها، إضافة إلى أن اختلاف القراءات يكثر المعاني في الآية، وبناء عليه فهو يأخذ بكل القراءات.
وممن يرى ذلك من المفسرين الرازي، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي، (3).
(1) سورة مريم، الآية (90).
(2)
التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 7، ص 250.
(3)
انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 110، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 9، ص 396، تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 231، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 116، وروح المعاني / الألوسي، ج 7، ص 237، ومحاسن التأويل/ القاسمي، ج 6، ص 333.
في حين رد الطبري قراء الفتح معللا ذلك بأنها لو زالت على معنى تلك القراءة لم تكن ثابتة، في حين احتمل ابن عطية أن تكون القراءة بكسر اللام بمعنى تعظيم مكرهم فتكون القراءتين بمعنى واحد، ووافقه أبو حيان على ذلك بقوله:" وعلى هذا التخريج تتفق معاني القراءات وتتقارب "(1).
حجة الآخذين بكلا القراءتين، وأن لكل قراءة معناها:
قال ابن زنجلة: " قرأ الكسائي وإن كان مكرهم لَتزولُ بفتح اللام الأولى وضم الثانية اللام لام التوكيد ، وتزول رفع بالمضارعة ، كما تقول: إن زيدا ليقول ، وإن في قوله وإن كان مكرهم مخففة من الثقيلة أي وإن مكر هؤلاء لو بلغ مكر ذلك يعني نمرود لم ينتفعوا به وحجته قراءة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وابن مسعود وإن كاد مكرهم لتزول بالدال وهذا دليل على تعظيم مكرهم، قال الزجاج: وإن كان مكرهم لتزول معناه معنى حسن المعنى وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم يبلغ في الكيد إزالة الجبال فإن الله جل وعز ينصر دينه ومكرهم عنده لا يخفى
وقرأ الباقون وإن كان مكرهم لِتزولَ بكسر اللام الأولى وفتح اللام الأخيرة بمعنى ما واللام لام الجحود ، والمعنى وما كان مكرهم لتزول منه الجبال أي ما كان مكرهم ليزول به أمر النبي وأمر دين الإسلام وثبوته كثبوت الجبال
(1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 13، ص 291، والمحرر الوجيز / ابن عطية، 3، 346، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 5، ص 426. .
الراسيات؛ لأن الله جل وعز وعد نبيه صلى الله عليه إظهار دينه على الأديان فقال ليظهره على الدين كله ودليل هذا قوله بعدها (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) أي: لا يخلفهم ما وعدهم من نصره وإظهار نبوتهم وكلمتهم ، وحجتهم ما روي عن الحسن أنه قال: كان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال " (1).
حجة أصحاب القراءة الأولى في اختيارهم لها ولمعناها:
حجتهم في ذلك أن قراءة أبي بن كعب تؤيدها.
قال مكي: " حجة من فتح اللام الأولى، وضم الثانية، أنه جعل "إن" في قوله (وإن كان) مخففة كن الثقيلة، وجعل اللام الأولى لام توكيد، دخلت لتوكيد الخبر، كما دخلت "إن" لتوكيد الجملة، والفعل مع لام التوكيد مرفوع على أصله، إذ لا ناصب معه ولا جازم، والهاء مضمرة مع "إن"، تقديره: وإنه كان مكرهم لتزول منه الجبال والتقدير مثل الجبال في القوة والثبات. فمعنى هذه القراءة أن الله جل ذكره عظّم مكرهم كما قال: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} (2)، وقال: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (3)، وفي مصحف أبي ما يدل على هذه القراءة، ، وروي عن عمر وعلي وابن مسعود أنهم قرؤوا: " وإن كاد مكرهم لتزول منه
(1) حجة القراءات / ابن زنجلة، ج 1، ص 379.
(2)
سورة نوح، الآية (22).
(3)
سورة مريم، الآية (90 - 91).
الجبال تكاد" فهذا دليل على تعظيم مكرهم، لأن "كاد" في كلام العرب تكون لمقاربة الفعل، وربما وقعت لوجوبه "(1).
وهذه قراءة ضعيفة (2).
حجة أصحاب القراءة الثانية، وهي القراءة بكسر اللام الأولى وفتح الثانية فمعناها وما كان مكرهم لتزول منه الجبال (3)
قال مكي: " وحجة من كسر اللام الأولى وفتح الثانية أنه جعل "إن" بمعنى "ما"، وجعل اللام الأولى لام نفي، لوقوعها بعد نفي، ونصب الفعل بها، والتقدير: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال "(4).
وقال الرازي: " وأما القراءة الثانية: فالمعنى: أن لفظ «إن» في قوله؛ {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ} بمعنى «ما» واللام المكسورة بعدها يعني بها الجحد ومن سبيلها نصب الفعل المستقبل. والنحويون يسمونها لام الجحد ومثله قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} (5) و {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} (6) والجبال ههنا مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولأمر دين الإسلام وإعلامه
(1) الكشف عن وجوه القراءات السبع / مكي، ج 2، ص 27.
(2)
انظر القراءات الشاذة / ابن خالويه، ص 69.
(3)
جامع البيان / الطبري، ج 13، ص 291.
(4)
الكشف عن وجوه القراءات / مكي، ج 2، ص 28.
(5)
سورة آل عمران، الآية (179).
(6)
سورة آل عمران، الآية (179).
ودلالته على معنى أن ثبوتها كثبوت الجبال الراسية لأن الله تعالى وعد نبيه إظهار دينه على كل الأديان. ويدل على صحة هذا المعنى قوله تعالى بعد هذه الآية: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} (1).
أي قد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم.
والمعنى: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، أي وكان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال الراسيات التي هي دين محمد صلى الله عليه وسلم، ودلائل شريعته، وقرأ علي وعمرو:(إِن كَانَ مَكْرِهِمْ) " (2).
وهذه القراءة رجحها الطبري بقوله: " والصواب من القراءة عندنا، قراءة من قرأه (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) بكسر اللام الأولى وفتح الثانية، بمعنى: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال. وإنما قلنا: ذلك هو الصواب، لأن اللام الأولى إذا فُتحت، فمعنى الكلام: وقد كان مكرهم تزول منه الجبال، ولو كانت زالت لم تكن ثابتة، وفي ثبوتها على حالتها ما يبين عن أنها لم تزُل، وأخرى إجماع الحجة من القرّاء على ذلك، وفي ذلك كفاية عن الاستشهاد على صحتها وفساد غيرها بغيره (3).
القول الراجح:
هو الأخذ بكلا القراءتين كما فعل ابن عاشور وغيره من المفسرين فهما
(1) سورة إبراهيم، الآية (47).
(2)
انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 110.
(3)
جامع البيان / الطبري ، ج 13 ، ص 291.
قراءتان متواترتان عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكل قراءة معناها، وأما ما كان من موقف بعضهم في الأخذ بقراءة (لَتزولُ) أي فتح اللام الأولى وضم الثانية مستدلين على ذلك بقراءة ابن مسعود فإن استدلالهم هذا غير صحيح لأن هذه القراءة شاذة كما تقدم، وقد ردّها أبو حيان فقال:" ما روي عن ابن مسعود من قراءة بالنفي يعارض ما تقدم من القراءات، لأن فيها تعظيم مكرهم وفي هذا تحقيره "(1).
أما ما كان من موقف الطبري من اختيار قراءة الكسر ورد غيرها فإن ذلك عرفناه من خلال مابيناه من حال الطبري مع تلك القراءات، أما التعليل الذي ذهب إليه الطبري في رد هذه القراءة غير سديد.
قال الرازي: " وليس المقصود من هذا الكلام الإخبار عن وقوعه، بل التعظيم والتهويل وهو كقوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} "(2).
5 -
قراءة "المنشئات ":
قال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (3)
…
.
اختلف القراء في قراءة المنشئات، فمنهم من قرأها بفتح الشين، ومنهم من قرأ بكسرها (4).
وذكر ذلك ابن عاشور في تفسيره فقال: " وقرأ الجمهور (المنشئات) بفتح
(1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 5، ص 426.
(2)
التفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 110.
(3)
سورة الرحمن، الآية (24).
(4)
وهاتان قراءتان متواترتان. انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 620، والتيسير / الداني، ص 206، ومتن الشاطبية / الشاطبي ، ص 155.
الشين، فهو اسم مفعول، إذا أُوجد وصُنع، أي التي أنشأها الناس بإلهام من الله فحصل من الكلام مِنَّتان: مِنة تسخير السفن للسير في البحر، ومنّة إلهام الناس لإِنشائها.
وقرأه حمزة وأبو بكر عن عاصم بكسر الشين فهو اسم فاعل.
فيجوز أن يكون المنشئات مشتقاً من أنشأ السير إذا أسرع، أي التي يسير بها الناس سيراً سريعاً. قال مجاهد: المنشئات التي رفعت قلوعها، والآية تحتمل المعنيين على القراءتين باستعمال الاشتقاق في معنيي المشتق منه ويكون في ذلك تذكيراً بنعمة إلهام الناس إلى اختراع الشراع لإِسراع سير السفن وهي مما اخترع بعد صنع سفينة نوح " (1).
وابن عاشور في هذا المثال نجده مستحضراً لقاعدة (أن اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن يكثر المعاني في الآية الواحدة) وإلى ذلك ذهب معظم المفسرين (2).
ويرى الطبري أن القراءتين متقاربتان في المعنى (3).
(1) التحرير والتنوير/ ابن عاشور، ج 13، ص 251.
(2)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 229، والجامع لأحكام القرآن /القرطبي، ج 17، ص 158.، البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 191، ، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 319، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 134، وروح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 107، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 563. . .
(3)
جامع البيان / الطبري، ج 27، ص 115.
حجة القائلين بأن لكل قراءة معنى مختلف:
قال مكي: " وحجة من كسر أنه بناه على " أنشأت"، فهي " منشئة "، فنسب الفعل إليها على الاتساع، والمفعول محذوف، والتقدير: المنشئات السير، فأضاف إليها السير اتساعاً.
وحجة من فتح الشين أنه بناه على فعل رباعي، وجعله اسم مفعول، فكأنه بناه على"أنشئت"، فهي منشأة بمعنى "أجريت"فهي "مجراه "، أي فعل بها الإنشاء ". ورجح مكي هذا المعنى بقوله: وهذا الذي يعطيه المعنى، لأنها لم تفعل شيئاً، إنما غيرها أنشأها، والفتح أحبُّ إلي لأن الجماعة عليه " (1).
وكذلك ذكر ابن عطية أن لكل قراءة معناها فقال: " وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: «المنشآت» بفتح الشين أي أنشأها الله والناس. وقرأ حمزة وأبو بكر بخلاف: «المنشِئات» بكسر الشين، أي تنشئ هي السير إقبالاً وإدباراً "(2).
حجة القائلين بأن القراءتين متوافقتان في المعنى:
قال الطبري: " اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة (المُنْشِئاتُ) بكسر الشين، بمعنى: الظاهرات السير اللاتي يقبلن ويدبرن. وقرأ ذلك عامة قرّاء البصرة والمدينة وبعض الكوفيين (المُنْشَئاتُ)، بفتح الشين، بمعنى المرفوعات القلاع اللاتي تقبل بهنّ وتدبر.
(1) الكشف عن وجوه القراءات / مكي بن أبي طالب، ج 2، ص 301.
(2)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 229.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى متقاربتاه، فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب " (1).
وقال ابن زنجلة: " قرأ حمزة وأبو بكر: وله الجوار المنشئات بكسر الشين أي: المبتدئات في السير ، قال الفراء: المنشئات اللاتي أقبلن وأدبرن ،وقال بعض أهل النحو: المعنى المنشئات السير فحذف المفعول للعمل به ونسب الفعل إليها على الاتساع ، كما يقال: مات زيد ومرض عمرو ونحو ذلك ، مما يضاف الفعل إليه إذا وجد فيه وهو في الحقيقة بهبوب الريح ودفع الرجال.
وقرأ الباقون: المنشآت بفتح الشين ، قال أبو عبيدة: المنشآت المجريات المرفوعات الشرع وهي مفعولة لأنها أنشئت وأجريت ولم تفعل ذلك أنفسها أي فعل بها الإنشاء فهذا بين لا إشكال فيه" (2).
القول الراجح:
فيما يبدو لي والله أعلم أن القراءتين تؤولان إلى معنى واحد، وهذا لا يعد مأخذاً على ابن عاشور ، لأن كل قراءة ابتداء تفيد معنى جديدا، ولذلك قال الطبري بعد أن ذكر كلا القراءتين:" والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى متقاربتاه، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب "(3).
قال أبو علي الفارسي: " وجه من قال: (المنشَئات) أنها أُنشئت وأجريت، ولم
(1) جامع البيان / الطبري، ج 27، ص 155.
(2)
حجة القراءات / ابن زنجلة، ج 1، ص 692.
(3)
تفسير الطبري، ج 27، ص 115.
تفعل ذلك أنفسها، أي فعل بها الإنشاء، وهذا بين لا إشكال فيه.
ومن قال (المنشِئات) نسب الفعل إليها على الاتساع، كما يقال مات زيدٌ، ومرض عمرو، وغير ذلك مما يضاف إليه إذا وجد فيه، وهو في الحقيقة لغيره، فكان المعنى: المنشِئات السير، فحذف المفعول للعلم به، وإضافة السير إليها أيضاً اتساع، لأن سيرها إنما يكون في الحقيقة لهبوب الريح، أو رفع الصواري " (1).
(1) الحجة للقراء السبعة / الفارسي، ج 4، ص 16.
ونظائر تلك الأمثلة كثيرة في تفسيره منها:
1 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 257) حيث ذكر ابن عاشور القراءات الواردة في كلمة بشراً ثم بين أنه حصل بمجموع تلك القراءات معاني متعددة. (انظر التحرير والتنوير، ج 5، ص 180).
2 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 22).
ومن قوله: " اختلاف القراءات يكثر المعاني في الآية الواحدة، نحو " حتى يطَّهرن" بفتح الطاء المشددة والهاء المشددة، وبسكون الطاء، وضم الهاء مخففة "(التحرير والتنوير، ج 1، ص 55).
3 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} (الزخرف: 57).وفيه قوله: " وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عن عاصم وأبو جعفر وخلف (يصدون) بضم الصاد من الصدود إما بمعنى الإعراض والمُعرَض عنه محذوف لظهوره من المقام، أي يعرضون عن القرآن لأنهم أوهموا بجَدَلِهِمْ أن في القرآن تناقضاً، وإما على أن الضم لغة في مضارع صدَّ بمعنى ضجّ مثل لغة كسر الصاد وهو قول الفراء والكسائي. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب بكسر الصاد وهو الصد بمعنى الضجيج والصخَب. والمعنى: إذا قريش قومك يصخَبون ويضجّون " (التحرير والتنوير، ج 12، ص 283)
…
.