الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
منهج ابن عاشور في استعمال وجوه الترجيح
ويشتمل على:
1 -
الترجيح بدلالة النص القرآني وهو موضوع البحث، ويشتمل:
أولاً: الترجيح بدلالة النص القرآني ذاته:
وفيه عدة مباحث معززة بالأمثلة - راجع الفصل الثاني من هذا البحث -
ثانياً: الترجيح بدلالة النسخ في الآية:
وفيه عدة مباحث معززة بالأمثلة - راجع الفصل الثالث من هذا البحث -
ثالثاً: الترجيح بدلالة القراءة القرآنية، وفيه عدّة مباحث معززة بالأمثلة. راجع الفصل الرابع.
رابعاً: الترجيح بدلالة رسم المصحف، وفيه عدّة مباحث. راجع الفصل الخامس.
خامساً: الترجيح بدلالة السياق القرآني، وفيه عدّة مباحث. راجع الفصل الخامس.
سادساً: الترجيح بدلالة المفردة القرآنية، وفيه عدّة مباحث. راجع الفصل السادس من هذا البحث.
2 -
الترجيح بدلالة الحديث النبوي، وفيه:
أولاً: الترجيح بدلالة حديث نبوي في تفسير الآية.
ثانياً: الترجيح بدلالة حديث نبوي في معنى أحد الأقوال.
ثالثاً: الترجيح بدلالة أسباب النزول.
رابعاً: الترجيح بدلالة إجماع الحجة من أهل التأويل.
خامساً: الترجيح بدلالة عصمة النبوة.
ويمكنني توضيح ذلك من خلال بعض الأمثلة التطبيقية:
أولاً: الترجيح بدلالة حديث نبوي في تفسير الآية:
اعتنى ابن عاشور بالترجيح بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (1): " والظّلم: الاعتداء على حقّ صاحب حقّ، والمراد به هنا: إشراك غير الله مع الله في اعتقاد الإلهية وفي العبادة، قال تعالى: {إنّ الشِّرك لظلم عظيم} (2) لأنَّه أكبر الاعتداء، إذ هو اعتداء على المستحقّ العظيم، لأنّ من حقّه أن يفرد بالعبادة اعتقاداً وعملاً وقولاً لأنّ ذلك حقّه على مخلوقاته. ففي الحديث " حقّ العباد على الله أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً " وقد ورد تفسير الظلم في هذه الآية بالشرك. في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " لمّا نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} شَقّ ذلك على المسلمين وقالوا: أيّنا لم
(1) سورة الأنعام، الآية (82).
(2)
سورة لقمان، الآية (13).
يظلم نفسه " فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس كما تَظُنّون إنَّما هو كما قال لقمان لابنه: {إنّ الشِّرك لظلم عظيم} " (1).
حيث رجّح ابن عاشور في هذه الآية أن الظلم هو الشرك بدلالة الحديث النبوي.
ثانياً: الترجيح بدلالة حديث نبوي في معنى أحد الأقوال:
ومنه ما ذكره عند قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} (2).
قال ابن عاشور: " و (قد) مفيد للتحقيق لأنهم لنفاقهم ومَرض قلوبهم يشكّون في لازم هذا الخبر وهو إنباء الله رسوله عليه الصلاة والسلام بهم، أو لأنهم لجهلهم الناشئ عن الكفر يظنون أن الله لا يعلم خفايا القلوب ، وذلك ليس بعجيب في عقائد أهل الكفر ، ففي «صحيح البخاري» عن ابن مسعود رضي الله عنه: «اجتمع عند البيت قُرشيان وثقفيّ أو ثقفيان وقرشي كثيرةٌ شُحمُ بطونهم قليلةٌ فِقهُ قلوبهم، فقال أحدهم: أتُرَوْنَ أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ
(1) التحرير والتنوير، ج 4، ص 332.
(2)
سورة الأحزاب، الآية (18)
كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} (1) فللتوكيد بحرف التحقيق موقع " (2).
فأنت تراه هنا لم يورد هذا الحديث في بيان معنى الآية نفسها، وإنما أراد أن يدلل لما ذهب إليه من معناها.
ثالثاً: الترجيح بدلالة أسباب النزول:
عدَّ ابن عاشور أسباب النزول من وجوه الترجيح حيث قال عند تفسيره لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} (3).
:
" وقوله: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} عطف على {شَعَائِرَ اللَّهِ} : أي ولا تحلّوا قاصدي البيت الحرام ، وهم الحجّاج، فالمراد قاصدوه لحجّه، لأنّ البيت لا يقصد إلاّ للحجّ، ولذلك لم يقل: ولا آمِّين مكة، لأنّ من قصد مكة قد يقصدها لتجر ونحوه، لأنّ من جملة حُرمَة البيت حرمة قاصده. ولا شك أنّ المراد آمِّين البيت من المشركين؛ لأنّ آمِّين البيت من المؤمنين محرّم أذاهم في حالة قصد البيت وغيرها من الأحوال. وقد روي ما يؤيّد هذا في أسباب النزول:
(1) سورة فصلت، الآية (22).
(2)
التحرير والتنوير، ج 10، ص 293.
(3)
سورة المائدة، الآية (2).
وهو أن خيلاً من بكر بن وائل وردوا المدينة وقائدهم شريح بن ضُبَيْعَة الملقّب بالحُطَم (بوزن زُفر)، والمكنّى أيضاً بابن هند. نسبة إلى أمّه هند بنت حسّان بن عَمْرو بنِ مَرْثَد، وكان الحُطَم هذا من بكر بن وائل، من نزلاء اليمامة، فترك خيلَه خارج المدينة ودخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«إلام تدعو» فقال رسول الله: (إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) فقال: حَسَن ما تدعو إليه وسأنظُرُ ولعلّي أن أسْلِم وأرى في أمرك غِلظة ولي مِن وَرائي مَنْ لا أقطَع أمراً دونهم وخرج فمرّ بسَرْح المدينة فاستاق إبلاً كثيرة ولحقه المسلمون لمَّا أُعلموا به فلم يلحقوه، ثم أقبل الحُطم في العام القابل وهو عام القَضية فسمعوا تلبيَة حُجَّاج اليمامة فقالوا: هذا الحُطَم وأصحابه ومعهم هَدْي هو ممَّا نهبه من إبل المسلمين، فاستأذنوا رسول الله في نَهبهم، فنزلت الآية في النهي عن ذلك ، فهي حكم عامّ نزل بعد تلك القضية، وكان النهي عن التعرّض لبُدْن الحُطم مشمولاً لما اشتملت عليه هذه الآية" (1).
رابعاً: الترجيح بإجماع الحجة من أهل التأويل:
رجّح ابن عاشور بعض الأقوال بناءً على الإجماع ومن ذلك ما ذكره عند تفسير قوله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ
(1) التحرير والتنوير، ج 4، ص 83.
تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1).
حيث رجّح أن الآية منسوخة بالإجماع - الإجماع المستند إلى الدليل - فقال: " وعلى تفسير الطاقة بالقدرة ، فالآية تدل على أن الذي يقدر على الصوم له أن يعوضه بالإطعام، ولما كان هذا الحكم غير مستمر بالإجماع ، قالوا في حمل الآية عليه: إنها حينئذٍ تضمنت حكماً كان فيه توسعة ورخصة ثم انعقد الإجماع على نسخه، وذكر أهل الناسخ والمنسوخ أن ذلك فُرِض في أول الإسلام لما شق عليهم الصوم ثم نسخ بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (2) ونقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه وسلَمةَ بن الأكْوَع رضي الله عنه نسختْها آية {شَهْرُ رَمَضَانَ} (3) ثم أخرج عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نَزَل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكيناً تركَ الصوم من يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسَختها: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (4)، ورويت في ذلك آثار كثيرة عن التابعين وهو الأقرب من عادة الشارع في تدرج تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس من تغيير معتادهم كما تدرج في تشريع منع الخمر "(5).
(1) سورة البقرة، الآية (184).
(2)
سورة البقرة، الآية (185).
(3)
سورة البقرة، الآية (185).
(4)
سورة البقرة، الآية (184).
(5)
التحرير والتنوير، ج 2، ص 166.
خامساً: الترجيح بدلالة عصمة النبوة.
رجّح ابن عاشور بعض الأقوال بناءً على عصمة النبوة، ومن ذلك ماجاء عنه في تفسير قوله تعالى:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (1) قال: " وبذلك يظهر أن يوسف عليه السلام لم يخالطه همّ بامرأة العزيز؛ لأن الله عصمه من الهمّ بالمعصية بما أراه من البرهان "(2).
وكذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} (3) حيث قال فيها: "والفتْن والفتون: معاملةُ يلحق منها ضُرّ واضطراب النفس في أنواع من المعاملة يعسر دفعها، من تغلب على القوة وعلى الفِكر، وتقدم في قوله تعالى:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (4).
وعدي " يفتنونك " بحرف (عَن) لتضمينه معنى فعللٍ كان الفَتن لأجله، وهو ما فيه معنى (يصرفونك).والذي أوحي إليه هو القرآن.
هذا هو الوجه في تفسير الآية بما تعطيه معاني تراكيبها مع ملاحظة ما
(1) سورة يوسف، الآية (24).
(2)
التحرير والتنوير، ج 6، ص 253.
(3)
سورة الإسراء، الآية (73).
(4)
سورة البقرة، الآية (191).
تقتضيه أدلة عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من أن تتطرق إليه خواطر إجابة المشركين لما يطمعون. وللمفسرين بضعة محامل أخرى لهذه الآية استقصاها القرطبي، فمنها ما ليس له حظ من القبول لوهن سنده وعدم انطباقه على معاني الآية، ومنها ما هو ضعيف السند وتتحمله الآية بتكلف " (1).
3 -
الترجيح بدلالة اللغة:
برع ابن عاشور في اللغة العربية، وتعرّض في مقدمة تفسيره للعلوم اللازمة التي يستمد منها علم التفسير، ذكر في أولها علم اللغة العربية ومعرفة قواعدها ، وقال أيضاً:" إن القرآن كلام عربي ، فكانت قواعد العربية طريقاً لفهم معانيه، وبدون ذلك يقع الغلط وسوء الفهم، لمن ليس بعربي السليقة، ونعني بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربي وهي: متن اللغة والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان "(2).
وقد اعتمد ابن عاشور الترجيح بدلالة اللغة من عدة نواح منها:
أولا: الترجيح باعتماد المستفيض والمعروف من كلام العرب:
ومن ذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} حيث قال: " وليس قوله تعالى: {بِالسِّنِينَ} دليلاً على أنها طالت أعواماً؛ لأن السنين هنا جمع سنة
(1) التحرير والتنوير، ج 7، ص 171 - 172.
(2)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 18.
بمعنى الجدْب لا بمعنى الزمن المقدر من الدهر ، فالسنة في كلام العرب إذا عُرِّفت باللام يراد بها سنة الجدب، والقحط وهي حينئذ علم جنس بالغلبة " (1).
ثانيا: الترجيح بدلالة اشتقاق الكلمة وتصريفها:
ومن ذلك قوله عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (2):
" والخليل في كلام العرب الصاحب الملازم الذي لا يخفى عنه شيء من أمور صاحبه، مشتقّ من الخِلال، وهو النواحي المتخلّلة للمكان: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} (3) {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} (4). هذا أظهر الوجوه في اشتقاق الخليل. ويقال: خِلّ وخُلّ بكسر الخاء وضمّها ومؤنّثهُ: خُلّة بضمّ الخاء، ولا يقال بكسر الخاء .. "(5).
ثالثا: توظيف ابن عاشور النحو في اختياراته التفسيرية:
اعتنى ابن عاشور بوجوه الإعراب والمسائل النحوية، وقد كان لها أثراً واضحاً في ترجيحاته ومن ذلك ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
(1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 63.
(2)
سورة النساء، الآية (125).
(3)
سورة النور، الآية (43).
(4)
سورة الكهف، الآية (33).
(5)
التحرير والتنوير، ج 3، ص 210.
رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} (1) قال: " وقد تردد المفسرون في محل اللام في قوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} وقد ذكر الوجه الصحيح، وأعقبه بخمسة أوجه للمفسرين وعقب عليها بقوله: " وهي وجوه ضعيفة متفاوته الضعف فلا نطيل بتقريرها.
وقد أيد القول الذي رجحه بما ذهب إليه النحاة فقال: " والذي سلكه أهل التدقيق منهم - يعني من المفسرين - أن اللام لام العاقبة ونقل ذلك عن نحاة البصرة (الخليل بن أحمد، وسيبويه، والأخفش، وأصحابهما "(2).
(1) سورة يونس، الآية (88).
(2)
التحرير والتنوير، ج 6، ص 268.