الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصيغة موضوعة لمقصود العموم فكانت حقيقة فيها، وحقيقة الشيء ثابت بثبوته قطعا ما لم يقم الدليل على مجازه كما في لفظ الخاص فإن ما هو حقيقة فيه يكون ثابتا به قطعا حتى يقوم الدليل على صرفه إلى المجاز" (1).
وقال الجصاص: "وحكم اللفظ أن يحمل على حقيقته حتى تقوم الدلالة على جواز صرفه إلى المجاز "(2).
ويقول الرازي في تفسيره أيضاً: " إن الأصل في الكلام حمله على الحقيقة، وأنه إنما يعدل عن الحقيقة إلى المجاز عند قيام الدلالة على أن حمله على حقيقته ممتنع، فحينئذ يجب حمله على المجاز "(3).
أمثلة تطبيقية على القاعدة:
1 -
مثال الختم:
قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (4).
اختلف المفسرون في المراد بالختم في هذه الآية: فمنهم من ذهب إلى أن الختم حقيقي، ومنهم من ذهب إلى أن الختم مجازي.
ورجّح ابن عاشور أن المراد بالختم في هذه الآية المعنى المجازي، وهذا
(1) أصول السرخسي / السرخسي، ج 1، ص 137.
(2)
أحكام القرآن / الجصاص، ج 1، ص 414.
(3)
التفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 474.
(4)
سورة البقرة، الآية (7).
قوله: " وليس الختم على القلوب والأسماع ولا الغشاوة على الأبصار هنا حقيقة كما توهمه بعض المفسرين فيما نقله ابن عطية بل ذلك جار على طريقة المجاز بأن جعل قلوبهم أي عقولهم في عدم نفوذ الإيمان والحق والإرشاد إليها، وجعل أسماعهم في استكاكها عن سماع الآيات والنذر، وجعل أعينهم في عدم الانتفاع بما ترى من المعجزات والدلائل الكونية، كأنها مختوم عليها ومغشًّى دونها إما على طريقة الاستعارة بتشبيه عدم حصُول النفع المقصود منها بالختم والغشاوة ثم إطلاق لفظ خَتَم على وجه التبعية ولفظ الغشاوة على وجه الأصلية وكلتاهما استعارة تحقيقيه إلا أن المشبه محقق عقلاً وحساً، ولك أن تجعل الختم والغشاوة تمثيلاً بتشبيه هيئة وهمية متخيلة في قلوبهم أي إدراكهم من التصميم على الكفر وإمساكهم عن التأمل في الأدلة "(1).
وقد ذهب إلى هذا القول كل من ابن عطية، والرازي، والشوكاني، والألوسي (2)، في حين رجح الطبري، وابن كثير، والقاسمي، والشنقيطي أن الختم حقيقي كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
في حين جوّز القرطبي وأبو حيان كلا المعنيين (4).
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 254 - 255.
(2)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 88، والتفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 294، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 39، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 134.
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 130، ، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 280، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 273، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 23.
(4)
انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 203، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 175.
حجة القائلين بأن الختم حقيقي:
استدلوا بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتهٌ سوداءُ في قلبه، فإن تاب وَنزع واستغفر، صَقَلت قلبه، فإن زاد زادت حتى تُغْلق قلبه، فذلك"الرَّانُ" الذي قال الله جل ثناؤه:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (1)(2).
قال مجاهد: " كانوا يُرَوْنَ أنّ القلبَ في مثل هذا - يعني الكفَّ - فإذا أذنبَ العبد ذنبًا ضُمّ منه - وقال بإصبعِه الخنصر هكذا - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعَه كلَّها، قال: ثم يُطبع عليه بطابَعٍ. قال مجاهد: وكانوا يرون أن ذلك الرين "(3).
وقال الطبري: " إنّ الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الخَتْم من قبل الله عز وجل والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مَسْلك، ولا للكفر منها مَخْلَص، فذلك هو الطَّبع. والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصَل إلى ما فيها إلا بفضِّ ذلك عنها ثم حلّها. فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وَصَف الله أنه ختم على
(1) سورة المطففين، الآية (14).
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك، ج 2، ص 562، ح- 3908، تفسير سورة المطففين، وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 128.
قلوبهم، إلا بعد فضِّه خَاتمَه وحلِّه رباطَه عنها " (1).
حجة القائلين بأن الختم مجازي، كناية عن إعراضهم وتكبرهم:
قال البيضاوي: " ولا تغشية على الحقيقة ،وإنما المراد بهما أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصي واستقباح الإيمان والطاعات ، بسبب غيهم وانهماكهم في التقليد وإعراضهم عن النظر الصحيح ، فتجعل قلوبهم بحيث لا ينفذ فيها وأسماعهم تعاف استماعه ، فتصير كأنها مستوثق منها بالختم وأبصارهم لا تجتلي الآيات المنصوبة لهم في الأنفس والآفاق كما تجتليها أعين المستبصرين ، فتصير كأنها غطي عليها وحيل بينها وبين الإبصار ، وسماه على الاستعارة ختما وتغشية أو مثل قلوبهم ومشاعرهم المؤوفة بها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها ختما وتغطية وقد عبر عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} (2) وبالإغفال في قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} "(3)(4).
وقال القاسمي: إن المعتزلة سلكوا في هذه الآية مسلك التاويل، وذكروا في ذلك عدّة أقاويل " (5):
(1) جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 130.
(2)
سورة النحل، الآية (8).
(3)
سورة الكهف ، الآية (28).
(4)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل / البيضاوي، ج 1، ص 145.
(5)
انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 274.
منها: أن القوم لما أعرضوا عن الحق، وتمكن ذلك في قلوبهم، حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه.
ومنها: أن المراد به تمثيل قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن، أو بقلوب قدّر ختم الله تعالى عليها.
ومنها: أن أعراقهم لما رسخت في الكفر، واستحكمت بحيث لم يبق إلى تحصيل إيمانهم طريق سوى الإلجاء والقسر؛ ثم لم يفعل ذلك محافظة على حكمة التكليف، عبر عن ذلك بالختم، لأنه سدّ لطريق إيمانهم بالكلية، وفيه إشعار بترامي أمرهم في الغي والعناد.
ومنها: أن ذلك في الآخرة، وإنما أخبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه، ويعضده قوله تعالى:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} (1).
القول الراجح:
الذي يظهر لي والله أعلم أن كلا المعنيين جائز فقد يكون هذا الختم حقيقي محسوس كالختم على الوعاء فلا يبصر حقاً ولا يرى باطلا كما ذكر الطبري وغيره من المفسرين ويدل عليه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} (2)، {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ
(1) سورة الإسراء، الآية (97).
(2)
سورة الأنعام، الآية (25).
مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (1)،
وقد يكون مجازياً كما ذكر ابن عاشور.
قال القرطبي: " والختم مصدر ختمت الشئ ختما فهو مختوم ومختم، شدد للمبالغة، ومعناه التغطية على الشئ والاستيثاق منه حتى لا يدخله شئ، ومنه: ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك، حتى لا يوصل إلى ما فيه، ولا يوضع فيه غير ما فيه
…
إلى أن قال: " والختم يكون محسوسا ومعنىً "(2).
قال أبو حيان: " ونسبة الختم إلى الله تعالى بأي معنى فسر إسناد صحيح، إذ هو إسناد إلى الفاعل الحقيقي إذ الله تعالى خالق كل شيء "(3).
ويؤيد هذا القول ويدعمه القاعدة الترجيحية التالية: (الأولى إعمال اللفظ بكلا معنييه الحقيقي والمجازي متى أمكن) وحيث لا يوجد مانع من الأخذ بكلا المعنيين في هذه الآية فإنه تعيّن الأخذ بهما.
أما من جعل معنى الختم مجازيا - كما ذكر ابن عاشور - فإن ذلك لا دليل عليه ، والقاعدة الترجيحية المعتمدة في ذلك أنه يقدم المجاز على الحقيقة إذا وجدت القرينة، وبما أنه لا قرينة هنا، فإنه لا وجه لقصر معنى الختم على المعنى المجازي.
(1) سورة المطففين، الآية (14).
(2)
الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 204.
(3)
البحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 175.
2 -
مثال مرض القلوب:
قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (1).
اتفق المفسرون جميعا في هذه الآية على أن المراد بالمرض المعنى المجازي للآية (2) ،والمنقول عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وسائر السلف الصالح حمل المرض في الآية على المعنى المجازي (3) ، وهو الذي رجّحه ابن عاشور في تفسيره، وذكر قرينة تدل على ذلك حيث يقول:" والمراد بالمرض في هاته الآية هو معناه المجازي لا محالة لأنه هو الذي اتصف به المنافقون وهو المقصود من مذمتهم وبيان منشأ مساوي أعمالهم "(4).
قال ابن فارس: " المرض كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر "(5).
(1) سورة البقرة، الآية (10).
(2)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 140، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 92، والتفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 304، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 215، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 422، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 285، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 42، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 151، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 277، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1587.
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 140، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 151.
(4)
التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 1، ص 279.
(5)
معجم مقاييس اللغة / ابن فارس، ص 944.
قال الطبري: " فالمرض الذي أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنَّه زادهم على مرضهم، نظيرُ ما كان في قلوبهم من الشَّكِّ والحيْرة قبل الزيادة، فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضِه - التي لم يكن فرضَها قبلَ الزيادة التي زادها المنافقين - من الشك والحيرة، إذْ شكُّوا وارتَابوا في الذي أحدَث لهم من ذلك إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السَّالف، من حدوده وفرائضه التي كان فَرَضها قبل ذلك "(1).
وقال القرطبي: " والمرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائدهم. وذلك إما أن يكون شكا ونفاقا، وإما جحدا وتكذيبا، والمعنى: قلوبهم مرضى لخلوها عن العصمة والتوفيق والرعاية والتأييد "(2).
وذكر العلماء قرينة تدل على المجاز ومن ذلك قول أبي حيان: " وحمله على المجاز أولى لأن قلوبهم لو كان فيها مرض لكانت أجسامهم مريضة بمرضها، أو كان الحمام عاجلهم، قال: بعض المفسرين يشهد لهذا الحديث النبوي والقانون الطبي، أما الحديث، فقوله صلى الله عليه وسلم:«إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد جميعه، وإذا فسدت فسد الجسد جميعه، ألا وهي القلب» (3).
وأما القانون الطبي فإن الحكماء وصفو القلب على ما اقتضاه علم التشريح،
(1) جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 141.
(2)
الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 215.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب من استبرأ لدينه، ج 1، ص 28، ح-52، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، ج 3، ص 1219، ح- 1599.
ثم قالوا: إذا حصلت فيه مادة غليظة، فإن تملكت منه ومن غلافه أو من أحدهما فلا يبقى مع ذلك حياة وعاجلت المنية صاحبه، وربما تأخرت تأخيراً يسيراً، وإن لم تتمكن منه المادة المنصبة إليه ولا من غلافه، أخرت الحياة مدة يسيرة؟ وقالوا: لا سبيل إلى بقاء الحياة مع مرض القلب، وعلى هذا الذي تقرر لا تكون قلوبهم مريضة حقيقة " (1).
القول الراجح:
إن المراد بالمرض في هذه الآية المعنى المجازي كما قرّر ذلك ابن عاشور، ومن سبقه من المفسرين، ومما يؤكد هذا الصورة القاعدة الترجيحية والتي نصّ عليها ابن عاشور، وهي أن (إعمال الأغلب في القرآن وتقديم المفهوم الجاري في استعماله أولى) وفي ذلك يقول:" وإطلاق المرض على هذا شائع مشهور في كلام العرب "(2).
3 -
مثال السبب:
قال تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} (3).
السبب في الحقيقة هو الحبل، قال ابن فارس السبب: الحبل (4)، ولكن اتفق المفسرون في هذه الآية على أن المراد بالسبب في هذه الآية المعنى المجازي ، أي:
(1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 187.
(2)
التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 1، ص 279.
(3)
سورة الكهف، الآية (85).
(4)
معجم مقاييس اللغة / ابن فارس، ص 455.
كل شيء يتوصل به غيره كالطريق وسيأتي بيان بعض أقوالهم (1).
قال أبو عبيدة: " {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} أي طريقاً وأثراً ومنهجاً (2).
قال ابن عطية: " السبب في هذه الآية، الطريقة المسلوكة؛ لأنها سبب الوصول إلى المقصد "(3).
وقال الرازي: "السبب في أصل اللغة عبارة عن الحبل ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى المقصود ، وهو يتناول العلم والقدرة والآلة فقوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} (4) معناه: أعطيناه من كل شيء من الأمور التي يتوصل بها إلى تحصيل ذلك الشيء "(5).
وقال ابن كثير: " أي فسلك طريقاً حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض "(6).
(1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 16، ص 15، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 539، والتفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 495، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 11، ص 53، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 6، ص 151، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 9، ص 185، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 307، وروح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 352، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 68.
(2)
مجاز القرآن / أبو عبيدة، ج 1، ص 413.
(3)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 539،
(4)
سورة الكهف، الآية (84).
(5)
التفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 495.
(6)
تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 9، ص 185.
وكذلك يرى ابن عاشور في هذه الآية المراد بالسبب المعنى المجازي وذلك بناءً على قرينة ترجح ذلك وهذا قوله: " والسبب حقيقته الحبل، وأطلق هنا على ما يتوسل به إلى الشيء من علم أو مقدرة أو آلات التسخير على وجه الاستعارة ، كقوله تعالى:
{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (1).
وكُلّ شَيْءٍ مستعمل هنا في الأشياء الكثيرة كما تقدم في نظائره غير مرة منها قوله تعالى: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى} (2) أي آتيناه وسائل أشياء عظيمة كثيرة.
والمراد هنا معنى مجازي وهو الطريق، لأن الطريق وسيلة إلى المكان المقصود " (3).
ثم ذكر ابن عاشور القرينة التي تدل أنه مجازي فقال: " وقرينة المجاز ذكر الإتباع والبلوغ في قوله: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} (4).
والدليل على إرادة غير معنى السبب في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} اسم السبب دون إضماره، لأنه لما أريد به معنى غير ما أُريد بالأول حسن إظهار اسمه تنبيهاً على اختلاف المعنيين، أي فاتبع طريقاً للسير
(1) سورة البقرة، الآية (166).
(2)
سورة يونس، الآية (97).
(3)
التحرير والتنوير، ج 8، ص 24.
(4)
سورة الكهف، الآية (85 - 86).
وكان سيره للغزو، كما دلّ عليه قوله:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} (1).
ومما يؤيد هذا المعنى ويرجحه قاعدة: (القول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره). قال أبو عبيدة: اتبع بالصول في السير، وأتبع بالقطع. معناه: اللحاق كقوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (2)، وقال يونس: اتبع بالقطع للجد الحثيث في الطلب وبالوصل مجرد الانتقال. والفاء في قوله: " فأتبع" فاء الفصيحة: أي فأراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً يوصله، لقوله:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} أي: أقصى ما يسلك من الأرض من ناحية المغرب (3).
4 -
مثال يمين الله تبارك وتعالى:
اختلف المفسرون في المراد من قوله: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فمنهم من قال أن المراد بيمينه قوته وقدرته، ومنهم من أثبتها لله تعالى من غير
(1) التحرير والتنوير، ج 8، ص 25.
(2)
سورة الصافات، الآية (10).
(3)
انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 68.
(4)
سورة الزمر، الآية (67).
تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل.
ورجّح ابن عاشور أن المراد بيمينه قدرته وهذا قوله: " واليمين: وصف لليد ولا يدَ هنا وإنما هي كناية عن القدرة لأن العمل يكون باليد اليمين قال الشاعر أنشده الفرّاء والمبرد، قال القرطبي:
ولما رأيتُ الشمس أشرقَ نورها
…
ناولتُ منها حَاجتي بيمين
أي بقدرة. وضمير (منها) يعود على مذكور في أبيات قبله، والمقصود من هاتين الجملتين تمثيل عظمة الله تعالى بحال من أخذ الأرض في قَبضته ومن كانت السماوات مطويةً أفلاكها وآفاقها بيده تشبيه المعقول بالمتخيَّل وهي تمثيلية تنحل أجزاؤها إلى استعارتين، وفيها دلالة على أن الأرض والسماوات باقية غير مضمحلة ولكن نظامهما المعهود اعتراه تعطيل" (1). وإلى مثل ذلك ذهب ابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان (2).
في حين أثبت كلٌ من الطبري، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي القبضة واليمين لله كما أثبتها الله لنفسه من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل (3).
أما القاسمي فقد ذكر أن في الآية مذهبين: مذهب السلف وهو إثبات ذلك
(1) التحرير والتنوير، ج 11، ص 62.
(2)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 541، والتفسير الكبير / الرازي ج 9، ص 474، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي.، ج 15، ص 267، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 422،
(3)
انظر جامع البيان / تالطبري، ج 24، ص 34، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 12، ص 150، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص، 477.، وروح المعاني / الألوسي، ج 12، ص 281
من غير تكييف ثم ذكر القول الآخر وهو قول المؤولة ، ولم يعلق (1).
حجة القائلين: إن المراد بـ {بِيَمِينِهِ} المعنى المجازي أي قدرته وقوته:
قال ابن عطية: "وعلى كل وجه، فا «اليمين» هنا و «القبضة» وكل ما ورد: عبارة عن القدرة والقوة، وما اختلج في الصدور من غير ذلك باطل، وما ذهب إليه القاضي من أنها صفات زائدة على صفات الذات قول ضعيف، ويحسب ما يختلج في النفوس التي لم يحضنها العلم "(2).
وقال الرازي: " لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الأعضاء والجوارح، إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع ثبوت الأعضاء والجوارح لله تعالى، فوجب حمل هذه الأعضاء على وجوه المجاز، فنقول إنه يقال فلان في قبضة فلان إذا كان تحت تدبيره وتسخيره قال تعالى:{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (3).
والمراد منه كونه مملوكاً له، ويقال هذه الدار في يد فلان، وفلان صاحب اليد، والمراد من الكل القدرة، والفقهاء يقولون في الشروط وقبض فلان كذا وصار في قبضته، ولا يريدون إلا خلوص ملكه، وإذا ثبت تعذر حمل هذه الألفاظ على حقائقها وجب حملها على مجازاتها صوناً لهذه النصوص عن
(1) انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 281، وأضواء البيان / الشنقيطي/ ص 893.
(2)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 541.
(3)
سورة المعارج، الآية (30).
التعطيل، فهذا هو الكلام الحقيقي في هذا الباب" (1)
حجة القائلين: إن المراد بـ {بِيَمِينِهِ} المعنى الحقيقي لها:
استدلوا بالأحاديث الدالة على هذا المعنى ومنها ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَقْبِضُ اللهُ الأرض يومَ القيامة ويَطْوي السماءَ بيمينه، ثم يقول: أنا الملِك، أين ملوكُ الأرض؟ » (2) وأخرج مسلم من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَطْوي الله عز وجل السموات يومَ القيامة، ثم يأخذُهُنَّ بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملِك، أين الجبّارون، أين المتكبِّرون؟ » (3).
القول الراجح:
القول الراجح في المسألة هو مذهب السلف الصالح
ومما يؤيد هذا القول ويقويه القاعدة الترجيحة: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له)، وقد جاءت الأحاديث في ذلك منها:
ما رواه البخاري ومسلم وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إن الله يضع السماء على إصبع ، والأرض على إصبع ، والجبال على إصبع ، والشجر والأنهار على إصبع ، وسائر الخلق على
(1) التفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 474.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة)، ج 4، ص 1812، ح- 4534.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، ج 4، ص 2148، ح- 2788
إصبع ، ثم يقول بيده: أنا الملك فضحك رسول الله وقال: وما قدروا الله حق قدره " (1).
وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: مرّ يهودي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس قال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه وأشار بالسبابة، والأرضين على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه، كل ذلك يشير بأصابعه فأنزل الله تعالى:" {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} "(2).
وروي أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة .. "(3).
قال الألوسي: " والسلف يقولون أيضاً: إن الكلام تنبيه على مزيد جلالته
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:" إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا "، ج 6، ص 2712، ح- 7013، ومسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، ج 4، ص 2147، ح- 2786.
(2)
أخرجه أحمد في مسنده، ج 1، ص 251، ح- 2267، والترمذي في سننه، باب ومن سورة الزمر، ج 5، ص 371، ح- 3240، وقال أبو عيسى: " هذا حديث حسن غريب صحيح لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة، ج 5، ص 2389، ح- 6155، ومسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب نزل أهل الجنة، ج 4، ص 2151، ح- 2792.
تعالى وعظمته سبحانه ورمز إلى أن آلهتهم أرضية أم سماوية مقهورة تحت سلطانه عز وجل إلا أنهم لا يقولون: إن القبضة مجاز عن الملك أو التصرف ولا اليمين مجاز عن القدرة بل ينزهون الله تعالى عن الأعضاء والجوارح ويؤمنون بما نسبه إلى ذاته بالمعنى الذي أراده سبحانه وكذا يفعلون في الأخبار الواردة في هذا المقام .. والمتأولون يتأولون الأصابع على الاقتدار وعدم الكلفة كما في قول القائل: أقتل زيداً بأصبعي، ويبعد ذلك ظاهر ما أخرجه أحمد - وقد تقدم - " (1).
5 -
مثال معنى منفكين:
هذه الآيات أشكلت على كثير من العلماء، وحصل في كلام كثير منهم اضطراب،
حيث اختلف المفسرون في معنى منفكين اختلافاً كثيراً، حتى قال الواحدي في كتاب البسيط ما نصه: " هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظماً وتفسيراً، حيث اختلف في منفكين اختلافاً كثيراً عند جميع المفسرين
(1) روح المعاني / الألوسي، ج 12، ص 281.
(2)
سورة البينة، الآية (1 - 4).
وتخبط فيها الكبار من العلماء " (1).
وذكر ابن عاشور وجه الإشكال الوارد في الآية نقلاً عن الفخر الرازي فقال: "قال الفخر: " وجه الإشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين، عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول، ثم إن كلمة حتى لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول، ثم قال بعد ذلك:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر" (2).
إلى أن قال ابن عاشور: " ومما لم يذكره الفخر من وجه الإِشكال: أن المشاهدة دلت على أن الذين كفروا لم ينفكوا عن الكفر في زمن مَّا، وأن نصب المضارع بعد (حتى) ينادي على أنه منصوب ب (أنْ) مضمرة بعد (حتى) فيقتضي أنّ إتيان البينة مستقبل وذلك لا يستقيم فإن البينة فسرت بـ (رسول من اللَّه) وإتيان الرسول وقع قبل نزول هذه الآيات بسنين، وهم مستمرون على ما هم عليه: هؤلاء على كفرهم، وهؤلاء على شركهم (3).
ولهذا السبب تعددت أقوال المفسرين في هذه الآية حتى بلغت بضعة عشر
(1) الوسيط في تفسير القرآن المجيد / الواحدي، ج 4، ص 539.
(2)
انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 11، ص 237.
(3)
التحرير والتنوير ، ج 15 ، ص 470.
قولاً ذكر الألوسي بعضاً منها (1)، والقرطبي معظمها (2)، وذكر ابن عاشور مراجع تأويلها (3).
ومدار هذه الأقوال وأشهرها يدور على أربعة أقوال (4):
القول الأول:
أي لم يكن هؤلاء الكفار من أهل التوراة والإنجيل، والمشركون من عبدة الأوثان منفكين ومنتهين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة.، وهذا قول مجاهد وقتادة وابن زيد (5).
القول الثاني:
المعنى أنهم لم يكونوا تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم، حتى يبعث، فلما بعث تفرقوا فيه
القول الثالث:
المراد لم يكونوا منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم حتى يبعث إليهم رسولاً منذراً تقوم عليهم به الحجة.
القول الرابع:
تأويل الخبر إلى معنى التوبيخ والتعجب - أي أن كلمة منفكين لا تؤخذ على ظاهرها _، وذلك بصرف الخبر عن ظاهره إلى المعنى المجازي بأن يستعمل في معنى الإنشاء والتوبيخ.
ورجّح ابن عاشور القول الرابع فقال: " وإذ قد تقرر وجه الإِشكال وكان مظنوناً أنه ملحوظ للمفسرين إجمالاً أو تفصيلاً ، فقد تعين أن هذا الكلام ليس
(1) روح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 427.
(2)
الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ، ج 20 ، ص 141.
(3)
انظر التحرير والتنوير، ج 15، ص 470 - 471.
(4)
انظر النكت والعيون / الماوردي، ج 6، ص 315، والتحرير والتنوير، ج 15، ص 470 - 471.
(5)
أخرج رواياتهم الطبري في تفسيره، ج 30، ص 317.
وارداً على ما يتبادر من ظاهره في مفرداته أو تركيبه، فوجب صرفه عن ظاهره، إما بصرف تركيب الخَبر عن ظاهر الإِخبار وهو إفادة المخاطَب النسبة الخبرية التي تضمنها التركيب، بأن يُصرف الخبر إلى أنه مستعمل في معنى مجازي للتركيب، وإما بصرف بعض مفرداته التي اشتمل عليها التركيب عن ظاهر معناها إلى معنى مجاز أو كناية " (1)، وإلى هذا المعنى ذهب الفراء (2) والزمخشري (3).
أما الطبري فقد رجّح القول الثاني فقال: " وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: معنى ذلك: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد، حتى تأتيهم البيِّنة، وهي إرسال الله إياه رسولا إلى خلقه. (4)، في حين اختار الرازي، وكذلك ابن كثير، والشوكاني، والقاسمي القول الأول (5)، وهو قول مجاهد وقتادة وابن زيد (6)
واختار القول الثالث ابن عطية ووصفه بأنه قول بارع في معنى الآية وتبعه أبو حيان، والشنقيطي كذلك حيث ذكر أن هذا القول يحل الإشكال الوارد
(1) التحرير والتنوير، ج 15، ص 470.
(2)
معاني القرآن / الفراء، ج 3، ص 281.
(3)
الكشاف / الزمخشري، ج 6، ص 411.
(4)
تفسير الطبري، ج 30، ص 317.
(5)
انظر التفسير الكبير / الرازي، ج، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 423، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 474، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 454.
(6)
أخرج رواياتهم الطبري في تفسيره، ج 30، ص 317.
على الآية (1). أما القرطبي فقد ساق تلك الأقوال ولم يرجح (2).
حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن معنى منفكين أي منتهين عن كفرهم:
قال الرازي: " ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا لكنه معلوم، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه، فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول"(3).
حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن معنى منفكين أي تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم:
هذا القول رجحه الطبري، ولم يذكر وجهاً لترجيحه.
قال القشيري: " وفيه بعد؛ لأن الظاهر من قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} أن هذا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. فيبعد أن يقال: لم يكن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم منفكين حتى يأتيهم محمد، إلا أن يقال: أراد: لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد - وإن كانوا من قبل معظمين له، بمنتهين عن هذا الكفر، إلى أن يبعث الله محمدا إليهم ويبين لهم الآيات، فحينئذ يؤمن قوم "(4).
وكذلك ردّه شيخ الإسلام بقوله: " فليس في اللفظ ما يدل على أن الانفكاك عن أمر محمد خاصة، وأيضاً هذا المعنى مذكور في قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ
(1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج، ص، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 495، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1982.
(2)
الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 20، ص 140 - 141.
(3)
التفسير الكبير / الرازي، ج 11، ص 237.
(4)
لم أقف على هذه العبارة في لطائف الإشارات ونقلته من تفسير القرطبي، ج 20، ص 141.
أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} فلو أريد بهذه لكان تكريراً محضاً (1).
حجة أصحاب القول الثالث الذين يرون أن معنى منفكين أي من أمر الله تعالى وقدرته ونظره:
استدلوا على ذلك بما جاء في كتاب الله تعالى دالاً عليه، قال ابن عطية وهذا المعنى له نظائر في كتاب الله تعالى (2)
والذي يظهر والله أعلم أن ابن عطية رجح هذا القول بناء على قاعدة: (القول الذي تؤيده آيات قرآنية مقدم على غيره).
ومن الآيات التي تدل على هذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} (3) ويماثله قول الله -جل وعلا-: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (4).
وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا
(1) مجموع الفتاوى / شيخ الإسلام ابن تيمية، 16، ص 488.
(2)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 507.
(3)
سورة الزخرف، الآية (3 - 5).
(4)
سورة المؤمنون، الآية (115).
ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} (1).
"وقد يكون من حجتهم على هذا القول قول بعض اللغويين أن معنى: «مُنفكِّينَ»، أي: هالكين، من قولهم: انفك صلا المرأة عند الولادة، وهو أن ينفصل فلا يلتئم فتهلك، والمعنى: لم يكونوا معذّبين، ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب "(2).
حجة أصحاب القول الرابع الذين يرون أن منفكين لا تؤخذ على ظاهرها وإنما تؤول
وهم يرون أن الآية جاءت بمعنى التوبيخ، وحجتهم في هذا المعنى بينها الزمخشري بقوله: "كان الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأصنام يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم: لا ننفك مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرّهم على الكفر إلاّ مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه: لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله الغنى، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقاً، فيقول واعظه: لم تكن منفكاً عن الفسق حتى توسر، وما غمست رأسك في الفسق إلاّ بعد اليسار: يذكره ما كان يقوله توبيخاً وإلزاماً. وانفكاك الشيء من الشيء: أن يزايله بعد التحامه به، كالعظم
(1) سورة ص، الآية (27).
(2)
اللباب في علوم الكتاب / ابن عادل، ج 20، ص 435.
إذا انفك من مفصله؛ والمعنى: أنهم متشبثون بدينهم لا يتركونه إلاّ عند مجيء البينة. و (البينة) الحجة الواضحة. و (رَّسُولٌ) بدل من البينة (1).
وقال الفراء: " ويصدق ذلك: قوله عز وجل: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (2) "(3).
وأعجب هذا القول ابن عاشور حيث قال فيه: " وهذا تعريض بالتوبيخ بأسلوب الإِخبار المستعمل في إنشاء التعجيب أو الشكايةِ من صَلَف المُخبر عنه، وهو استعمال عزيز بديع وقريب منه قوله تعالى:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} (4) إذ عَبَّر بصيغة يَحْذَر وهم إنما تظاهروا بالحذر ولم يكونوا حاذرين حقاً ولذلك قال الله تعالى:
{قُلِ اسْتَهْزِئُوا} " (5).
وذكر ابن عاشور أن هذا القول تؤيده آية أخرى وهو قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ
(1) الكشاف / الزمخشري، ج 6، ص 411.
(2)
سورة البينة، الآية (4).
(3)
معاني القرآن / الفراء، ج 3، ص 281.
(4)
سورة التوبة، الآية (64).
(5)
التحرير والتنوير، ج 15، ص 471.
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} (1).
فمما سبق تبيّن لنا أن ابن عاشور قد رجّح هذا القول بناء على القاعدة وهي: (تقديم المجاز على الحقيقة إذا وجدت القرينة) حيث قال: "فقد تعين أن هذا الكلام ليس وارداً على ما يتبادر من ظاهره في مفرداته أو تركيبه، فوجب أن يُصرف الخبر إلى أنه مستعمل في معنى مجازي للتركيب، وإما بصرف بعض مفرداته التي اشتمل عليها التركيب عن ظاهر معناها إلى معنى مجاز أو كناية "(2).
كما أنه عضد قوله بتأييد الآية القرآنية له، وذلك ضمن القاعدة التي تقول:(القول الذي تؤيده آيات قرآنية مقدم على غيره).
القول الراجح:
ولكن الذي يظهر لي بعد الدراسة والنظر أن القول الراجح هو القول الثالث وهو الذي رجحه ابن عطية، وذكر الشنقيطي أنه يحل الإشكال الوارد على الآية، كما تقدم.
وكذلك ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية حيث ناقش تلك الأقوال وردّ بعضها ثم قال: فقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (3) أي: لم يكونوا متروكين
(1) سورة البقرة، الآية (89).
(2)
التحرير والتنوير، ج 15، ص 470.
(3)
سورة البينة، الآية (1).
باختيار أنفسهم على هواهم يفعلون ما يهوونه ولا حجر عليهم، كما أن المنفك لا حجر عليه .. إلى أن قال: فالمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون، ولا ترسل إليهم رسل، والمعنى: أن الله لا يخليهم ولا يتركهم، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولاً كقوله تعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (1) أي: لا يؤمر ولا ينهى، يعني: أيظن أن هذا يكون؟ ! فهذا ما لا يكون البتة، بل لابد أن يؤمر وينهى. وقريب من ذلك قول الله تبارك وتعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)} (2) أنعرض عنكم بسبب إشراككم؟ ! فهذا استفهام إنكاري بمعنى: لأجل إشراككم نترك إنزال الذكر، ونعرض عن إرسال الرسل؟ ! فهذا ما لا يكون. فتبين من ذلك كله أن الأصح في تفسير قوله تعالى:((مُنفَكِّينَ)) أي: متروكين، وبه يزول الإشكال الذي أورده الفخر الرازي، ويستقيم السياق، ويتضح المعنى (3).
(1) سورة القيامة، الآية (36).
(2)
سورة الزخرف، الآية (4).
(3)
انظر مجموع الفتاوى / شيخ الإسلام ابن تيمية، ج 16، ص 482 - 489.
ونظائر هذه الأمثلة في تفسيره هي الآتي:
1 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أَشَدُّ قَسْوَةً
…
} (البقرة: 74) وفيها قوله: " والقسوة والقساوة توصف بها الأجسام .. ، واستعملت في القلوب مجازاً وهو الصحيح، فقد شاع هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة "(التحرير والتنوير، ج 1، ص 563).
2 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ .. } (آل عمران: 135)، وفيه قوله:" والذكر في قوله: " ذَكَرُوا اللَّهَ " ذكر القلب وهو ذكر ما يجب لله على عبده، وما أوصاه به. وأما ذكر اللسان فلا يترتب عليه ذلك، والاستغفار طلب الغفر أي الستر، وهو مجاز في عدم المؤاخذة "(التحرير والتنوير، ج 3، ص 92).
3 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (النساء: 171)، وفيها قوله:" إطلاق الكلمة على التكوين مجاز، وليس هو بكلمة .. "(التحرير والتنوير، ج 4، ص 52).
4 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} (الزخرف: 186)، وفيه قوله:" " ومستمسكون " مبالغة في ممسكون، يقال: أمسك بالشيء إذا شدّ عليه يده، وهو مستعملاً مجازاً في معنى الثبات على الشيء كقوله تعالى:{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الزخرف: 43)(التحرير والتنوير، ج 12، ص 187).
5 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (التغابن: 8)، وفيه قوله: فليست مادة التغابن في قوله " يوم التغابن" مستعملة في حقيقتها إذ لا تعارض حتى يكون فيه غبن بل هو مستعمل في معنى الخسران على وجه المجاز المرسل " (التحرير والتنوير، ج 13، ص 276).