الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اعتنى ابن عاشور بتحقيق الأقوال وترجيحها على الأصول الصحيحة سواءً في اللغة، أو الفقه، أو السنة، والقراءات، وغير ذلك. مما يدل على قوته العلمية وتمكنه من أصول التفسير، وقد نهج في ترجيحه منهجاً علمياً واضحاً متمثلا في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول
صيغ الترجيح عند ابن عاشور
ويشتمل على:
1 -
الترجيح بصيغ التفضيل، ومنها (أظهر، وأشهر، وأرجح، وأصح .. ).
2 -
الترجيح بألفاظ التضعيف أو البعد والبطلان بأحد الألفاظ لأحد الأقوال: ضعيف - بعيد - باطل فيعتبر ترجيحاً للقول الآخر.
3 -
الترجيح بذكر القول الراجح في أول الأقوال وتقديمه.
4 -
الترجيح بذكر القول الراجح فقط دون ذكر بقية الأقوال فيعتبراً اختياراً وترجيحاً لهذا القول.
وإليك التفصيل:
• الترجيح بصيغ التفضيل، ومنها:(أظهر، وأشهر، وأرجح، وأصح .. ):
أكثر ابن عاشور من الترجيح بصيغ أفعل التفضيل في تفسيره، ومن الألفاظ التي استعملها ابن عاشور مرتبة حسب كثرة استعمالها:
أولاً: الترجيح بعبارة (أظهر):
استخدم ابن عاشور عبارة أظهر في الترجيح بين الأقوال، وقد أكثر من استخدامها في أغراض متعددة منها:
1 -
في بيان القول الراجح الذي يقتضيه سياق الآية وألفاظها، ومن ذلك عند تفسيره لقوله تعالى:{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (1) قال: " والمراد من الأبناء ، قيل: أطفال اليهود ، وقيل: أريد به الرجال بدليل مقابلته بالنساء ، وهذا الوجه أظهر وأوفق بأحوال الأمم، إذ المظنون أن المحق والاستئصال إنما يقصد به الكبار، ولأنه على الوجه الأول تكون الآية سكتت عن الرجال إلا أن يقال: إنهم كانوا يذبحون الصغار قطعاً للنسل ويسْبون الأمهات استعباداً لهن ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدريج "(2).
2 -
الترجيح بها عند تقديم معنى على معنى آخر، ومن ذلك ما ذكره عند قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (3) قال: " والظاهر أن خطابه تعالى هذا للملائكة كان عند إتمام خلق آدم عند نفخ
(1) سورة البقرة، الآية (49).
(2)
التحرير والتنوير، ج 1 ص 492.
(3)
سورة البقرة، الآية (30).
الروح فيه ، أو قبل النفخ، والأول أظهر " (1).
3 -
الترجيح بها في الناحية الإعرابية، ومن ذلك قوله عند قوله تتعالى:{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (2) قال ابن عاشور: " وجملة: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} تحتمل الحال والاستئناف والأول أظهر (3)
4 -
الترجيح بأظهر فيما يتعلق بالناحية البلاغية، ومن ذلك ما ذكره عند قوله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) قال: " {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً؛ لأن السامع إذا سمع ما تقدم من صفات الثناء عليهم ترقب فائدة تلك الأوصاف، واسم الإشارة هنا حل محل ذكر ضميرهم والإشارة أحسن منه وقعاً؛ لأنها تتضمن جميع أوصافهم المتقدمة فقد حققه التفتزاني في باب الفصل والوصل من الشرح المطول أن الاستئناف بذكر اسم الإشارة أبلغ من الاستئناف الذي يكون بإعادة اسم المستأنف عنه. وهذا التقدير أظهر معنى وأنسب بلاغة وأسعد باستعمال اسم
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 400.
(2)
سورة البقرة، الآية (71).
(3)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 557.
(4)
سورة البقرة، الآية (5).
الإشارة في مثل هاته المواقع " (1).
ثانياً: الترجيح بعبارة (أشهر):
استخدم ابن عاشور هذه العبارة في مواضع متعددة من تفسيره، ومن أبرزها:
1 -
ترجيح قراءة على أخرى ومن ذلك ما ذكره عند قوله تعالى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} (2) قال: " وقرأ حفص عن عاصم {وَمَا أَنْسَانِيهُ} بضم هاء الضمير على أصل الضمير وهي لغة، والكسر أشهر لأن حركة الكسرة بعد الياء أخف"(3)
…
.
2 -
في ترجيح معنى على آخر فيما كان لفظاً يحتمل عدة معاني فإنه يرجح بصيغة التفضيل أشهر في الغالب ، ومن ذلك قوله عند قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (4): " والقروء جمع قرء بفتح القاف وضمها وهو مشترك للحيض والطهر. وقال أبو عبيدة: إنه موضوع للانتقال من الطهر إلى الحيض، أو من الحيض إلى الطهر، فلذلك إذا أطلق على الطهر أو على الحيض كان إطلاقاً على أحد طرفيه، وتبعه الراغب، ولعلهما أرادا بذلك وجه إطلاقه على الضدين. وأحسب أن أشهر معاني القرء عند
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 242.
(2)
سورة الكهف، الآية (63).
(3)
التحرير والتنوير، ج 7، ص 367.
(4)
سورة البقرة، الآية (228).
العرب هو الطهر " (1).
3 -
في ترجيح سبب نزول على آخر، ومن ذلك ما جاء عنه في تفسيره قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (2) قال: " وقد تضافرت الروايات عند المفسرين عن أم سلمة، وابن عباس، والحارث بن ضرارة الخزاعي أن هذه الآية نزلت عن سبب قضية حدثت ، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط إلى بني المصطلق من خزاعة ليأتي بصدقاتهم فلمّا بلغهم مجيئه، أو لمّا استبطأُوا مجيئه، فإنهم خرجوا لتلقيه أو خرجوا ليبلغوا صدقاتهم بأنفسهم وعَليهم السلاح، وأن الوليد بلغه أنهم خرجوا إليه بتلك الحالة وهي حالة غير مألوفة في تلقي المصدقين وحدثته نفسه أنهم يريدون قتله، أو لما رآهم مقبلين كذلك (على اختلاف الروايات) خاف أن يكونوا أرادوا قتله إذ كانت بينه وبينهم شحناء من زمن الجاهلية فولّى راجعاً إلى المدينة .... إلى أن قال: "وقد روي أن سبب نزول هذه الآية قضيتان أخريان، وهذا أشهر " (3). .
ثالثاً: الترجيح بعبارة (أرجح):
يستخدم ابن عاشور عبارة (أرجح) لأغراض عدة منها:
1 -
الترجيح بعبارة أرجح إذا ذكر دليل القول الراجح سواء من كتاب
(1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 390.
(2)
سورة الحجرات، الآية (6).
(3)
التحرير والتنوير، ج 12، ص 228.
أو سنة أو غير ذلك ولم يذكر دليل القول المرجوح، مما يجعل للقول الراجح ميزة ترجحه وتؤيده، ومن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) قال: " وأما جلد الميتة فله شبه من جهة ظاهره كشبه الشعر والصوف، ومن جهة باطنه كشبه اللحم، ولتعارض هذين الشبهين اختلف الفقهاء في الانتفاع بجلد الميتة إذا دُبغ ، فقال أحمد بن حنبل: لا يطهر جلد الميتة بالدبغ، وقال أبو حنيفة والشافعي: يطهر بالدبغ ما عدا جلد الخنزير لأنه محرم العين، ونسب هذا إلى الزهري، وألحق الشافعي جلد الكلب بجلد الخنزير، وقال مالك يطْهر ظاهر الجلد بالدبغ لأنه يصير صلباً لا يداخله ما يجاوره، وأما باطنه فلا يطْهر بالدبغ ، ولذلك قال: يجوز استعمال جلد الميتة المدبوغ في غير وضع الماء فيه، ومنع أن يصلي به أو عليه.
وقول أبي حنيفة أرجح للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شاة ميتة كانت لميمونة أم المؤمنين فقال «هلَاّ أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به» (2) " (3).
2 -
ترجيح قراءة على أخرى، ومثاله عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ
(1) سورة البقرة، الآية (173).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، ج 1، ص 276، ح- 363.
(3)
التحرير والتنوير، ج 2، ص 116.
آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (1). قال: " و (الطير) منصوب بالعطف على المنادَى لأن المعطوف المعرَّف على المنادى يجوز نصبُه ورفعه، والنصب أرجح "(2). .
3 -
ترجيح حكم على آخر، ومثاله عند تفسير قوله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} (3) حيث ساق ابن عاشور خلاف الفقهاء فيمن عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم ثمّ كفّ عنها، وهل يجوز لها أن تتزوج أم تثبت لها حرمة التزوج برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتزوج، وفيه رجّح ابن عاشور مذهب الإمام مالك فقال:" تثبت حرمة التزوج بهن حفظاً لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل لا يثبت لهن ذلك والأول أرجح "(4).
4 -
في ترجيح ناحية إعرابية على أخرى حيث قال عند تفسيره لقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً
(1) سورة سبأ، الآية (10).
(2)
التحرير والتنوير، ج 11، ص 156.
(3)
سورة الأحزاب، الآية (6).
(4)
التحرير والتنوير، ج 10، ص 269.
وَسَلَامًا} (1): " واسم الإشارة هو الخبر عن قوله: {وعباد الرحمن} (2) كما تقدم على أرجح الوجهين (3).
5 -
الترجيح لكونه الأكثر والغالب في القرآن حيث قال عند تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} (4): " وقد اختلف في المراد من هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم، فقيل: هم من بني إسرائيل خالفوا على نبي لهم في دعوته إياهم للجهاد، ففارقوا وطنهم فراراً من الجهاد، وهذا الأظهر، فتكون القصة تمثيلاً لحال أهل الجبن في القتال، بحال الذين خرجوا من ديارهم، بجامع الجبن، وهذا أرجح الوجوه لأن أكثر أمثال القرآن أن تكون بأحوال الأمم الشهيرة وبخاصة بني إسرائيل "(5). .
6 -
الترجيح بـ " أرجح " لدلالة السياق، ومثاله عند تفسيره لقوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ
(1) سورة الفرقان، الآية (75).
(2)
سورة الفرقان، الآية (63).
(3)
التحرير والتنوير، ج 9، ص 84.
(4)
سورة البقرة، الآية (243).
(5)
التحرير والتنوير، ج 2، ص 478.
ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (1) قال: " وجملة (لا يكفون) مضاف إليها (حينَ). وضمير (يكفون) فيه وجهان: أحدهما بدا لي أن يكون الضمير عائداً إلى ملائكة العذاب فمعاد الضمير معلوم من المقام، ونظائر هذا المعاد كثيرة في القرآن وكلام العرب. ومعنى الكف على هذا الوجه: الإمساك وهو حقيقته، أي حين لا يمسك الملائكة اللفح بالنار عن وجوه المشركين. وتكون هذه الآية في معنى قوله تعالى في سورة:{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (2) والوجه الثاني: أن يكون ضمير (يكُفُّون) عائداً إلى الذين كفروا، والكَفّ بمعنى الدّرْءِ والستر مجازاً بعلاقة اللزوم، أي: حين لا يستطيعون أن يدفعوا النار عن وجوههم بأيديهم ولا عن ظهورهم ، أي: حين تحيط بهم النار مواجهَةً ومدابرَةً. وذِكر الظهور بعد ذكر الوجوه عن هذا الاحتمال احتراس لدفع توهم أنهم قد يكفّونها عن ظهورهم إن لم تشتغل أيديهم بكفها عن وجوههم وهذا الوجه هو الذي اقتصر عليه جميعُ من لدينا كُتبهم من المفسرين.
والوجه الأول أرجح معنى، لأنه المناسب مناسبة تامة للكافرين الحاضرين المقرعين ولتكذيبهم بالوعيد بالهلاك في قولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ
(1) سورة الأنبياء، الآية (39).
(2)
سورة الأنفال، الآية (50).
صَادِقِينَ} (1)، ولقوله تعالى:{سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} (2) " (3).
رابعاً: الترجيح بعبارة (أصح):
استخدم ابن عاشور عبارة أصح في الترجيح وإن كان لم يكثر منها، ولكنه استخدمها في أغراض متنوعة:
1 -
لترجيح سبب نزول آية على سبب آخر، ومن ذلك قوله عند تفسيره قوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (4): " روى الطّبري عن قتادة قال «كان المسلمون يسبّون أوثان الكفّار فيردّون ذلك عليهم فنهاهم الله أن يستَسبّوا لربّهم». وهذا أصحّ ما روي في سبب نزول هذه الآية وأوفَقُه بنظم الآية "(5).
2 -
في ترجيح حكم على حكم آخر، ومن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (6) قال: " وأما
(1) سورة الأنبياء، الآية (38).
(2)
سورة الأنبياء، (37).
(3)
التحرير والتنوير، ج 8، ص 70 - 71.
(4)
سورة الأنعام، الآية (108).
(5)
التحرير والتنوير، ج 4، ص 428.
(6)
سورة البقرة، الآية (227).
الغاية فاختلفوا أيضاً في الحاصل بعد مضي الأجل، فقال مالك والشافعي: إن رفعته امرأته بعد ذلك يوقف لدى الحاكم، فإما أن يفئ أو يطلق بنفسه، أو يطلق الحاكم عليه، وقال أبو حنيفة: إن مضت المدة ولم يفيءْ فقد بانت منه، واتفق الجميع على أن غير القادر يكفي أن يفيء بالعزم، والنية، وبالتصريح لدى الحاكم، كالمريض والمسجون والمسافر.
واحتج المالكية بأن الله تعالى قال: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فدل على أن هنالك مسموعاً؛ لأن وصف الله بالسميع معناه العليم بالمسموعات، على قول المحققين من المتكلمين، لا سيما وقد قرن بعليم، فلم يبق مجال لاحتمال قول القائلين من المتكلمين بأن السميع مرادف للعليم وليس المسموع إلاّ لفظ المولي، أو لفظ الحاكم، دون البينونة الاعتبارية. وقوله (عليم) يرجع للنية والقصد. وقال الحنفية (سميع) لإيلائه، الذي صار طلاقاً بمضي أجله، كأنهم يريدون أن صيغة الإيلاء جعلها الشرع سبب طلاق، بشرط مضي الأمد (عليم) بنية العازم على ترك الفَيئة. وقول المالكية أصح؛ لأن قوله:{فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} جُعل مفرعاً عن عزم الطلاق لا عن أصل الإيلاء؛ ولأن تحديد الآجال وتنهيتها موكول للحكام" (1).
3 -
استخدم هذه العبارة للترجيح إذا كان دليل القول الراجح صحيحاً ، سواءً كان من كتاب أو سنة، ومن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى:
(1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 387.
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1): " وقد اختلف السلف في الإسراء أكان بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس أم كان بروحه في رؤيا هي مشاهدة رُوحانية كاملة ورؤيا الأنبياء حق. والجمهور قالوا: هو إسراء بالجسد في اليقظة، وقالت عائشة ومعاوية والحسن البصري وابن إسحاق رضي الله عنهم: إنه إسراء بروحه في المنام ، ورؤيا الأنبياء وحي.
واستدل الجمهور بأن الامتنان في الآية وتكذيبَ قريش بذلك دليلان على أنه ما كان الإخبار به إلا على أنه بالجسد. واتفق الجميع على أن قريشاً استوصفوا من النبي علامات في بيت المقدس وفي طريقه فوصفها لهم كما هي، ووصف لهم عيراً لقريش قافلة في طريق معين ويوم معين فوجدوه كما وصف لهم. ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" بينما أنا في المسجد الحرام بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل. . . " إلى آخر الحديث. وهذا أصح وأوضح مما روي في حديث آخر أن الإسراء كان من بيته أو كان من بيت أم هاني بنت أبي طالب أو من شعب أبي طالب " (2).
a. الترجيح بألفاظ التضعيف أو البطلان أو البعد بأحد الألفاظ: ضعيف - بعيد - باطل يعتبر ترجيحاً للقول آخر:
(1) سورة الإسراء، الآية (1).
(2)
التحرير والتنوير، ج 7، ص 23.
ومن ذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)} (1) حيث ذكر أن قول عكرمة في أن الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان قول ضعيف، ورجَّح القول بأنها في العشر الأواخر من رمضان، ومن قوله: " وتنكير (ليلة) للتعظيم، ووصفها بـ (مباركة) تنويه بها وتشويق لمعرفتها. فهذه الليلة هي الليلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في الغار من جَبل حِرَاءٍ في رمضان قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (2).
والليلة التي ابتدئ نزول القرآن فيها هي ليلة القدر، قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (3)، والأصح أنها: في العشر الأواخر من رمضان ، وأنها في ليلة الوتر إلى أن قال: وعن عكرمة: أن الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان هو قول ضعيف " (4).
وكذلك ما جاء عنه عند تفسيره لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ
(1) سورة الدخان، الآية (5).
(2)
سورة البقرة، الآية (185).
(3)
سورة القدر، الآية (4)
(4)
التحرير والتنوير، ج 12، ص 277.
وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) حيث ذكر أن من الناس من ذهب إلى أن الصلاة الوسطى قُصد إخفاؤها ليحافظ الناس على جميع الصلوات، وردّ هذا القول بقوله: " هذا قول باطل؛ لأن الله تعالى عرَّفها باللام ووصفها فكيف يكون مجموع هذين المعرفين غير مفهوم.
إلى أن يقول: "وأصح ما في هذا الخلاف: ما جاء من جهة الأثر وذلك قولان:
أحدهما: إنها الصبح، هذا قول جمهور فقهاء المدينة، وبه قال مالك، وهو عن الشافعي، لأن الشائع عندهم أنها الصبح، وهم أعلم الناس بما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو قرينة حال.
القول الثاني: إنها العصر، وهذا قول جمهور من أهل الحديث، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في رواية، وحجتهم ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومَ الخندق حين نسي أن يصلي العصر من شدة الشغل في حفر الخندق، حتى غربت الشمس فقال:«شغلونا أي المشركون عن الصلاة الوسطى، أضرم الله قبورهم ناراً» .
والأصح من هذين القولين أولهما لما في «الموطأ» و «الصحيحين» أن عائشة وحفصة أمَرَتا كاتبي مصحفيهما أن يكتبا قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين) وأسندت عائشة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تسنده حفصة، فإذا بطل أن تكون الوسطى هي العصر، بحكم عطفها على الوسطى تعين كونها الصبح، هذا من جهة الأثر " (2).
(1) سورة البقرة، الآية (238).
(2)
التحرير والتنوير، ج 2، ص 468.
b. الترجيح بذكر القول الراجح في الأول وتقديمه:
درج ابن عاشور على ذكر القول الراجح في الأول وتقديمه على بقية الأقوال، ومن أمثلة تقديمه للقول الراجح ما جاء عنه في تفسيره لقوله تعالى:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1). حيث نصّ على أن هذا من كلام امرأة العزيز حيث يقول " ظاهر ترتيب الكلام أن هذا من كلام امرأة العزيز، مضت في بقية إقرارها فقالت:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} . وذلك كالاحتراس مما يقتضيه قولها: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} (2) من أن تبرئة نفسها من هذا الذنب العظيم ادعاءٌ بأن نفسها بريئة براءة عامة فقالت: : {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} ، أي ما أبرئ نفسي من محاولة هذا الإثم لأن النفس أمّارة بالسوء وقد أمرتني بالسوء ولكنه لم يقع.
- ثم ذكر ابن عاشور القول الآخر بصيغة التمريض حيث يقول: " وقيل هذا الكلام: كلام يوسف عليه السلام متصل بقوله: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} (3)(4).
(1) سورة يوسف، الآية (53).
(2)
سورة يوسف، الآية (52).
(3)
سورة يوسف، الآية (50).
(4)
التحرير والتنوير، ج 7، ص 5.
o الترجيح بذكر القول الراجح فقط دون ذكر بقية الأقوال فيعتبراً اختياراً وترجيحاً لهذا القول:
اقتصر ابن عاشور أحياناً على القول الراجح فقط دون أن يعرض لبقية الأقوال، ومثال ذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى:{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} (1) حيث قال ابن عاشور: " ارتد: رجع، وهو افتعال مطاوع ردّه، أي رد الله إليه قوة بصره كرامة له وليوسف عليهما السلام وخارق للعادة (2).
بينما ذكر بعض المفسرين قولاً آخر هو: أن المعنى ارتد بصيراً - أي عليماً - بخبر يوسف (3)، وهذا القول لم يذكره ابن عاشور لأنه لا يراه.
(1) سورة يوسف، الآية (96).
(2)
التحرير والتنوير، ج 7، ص 53.
(3)
انظر النكت والعيون / الماوردي، ج 3، ص 78.