المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أمثلة تطبيقية على القاعدة: - قواعد الترجيح المتعلقة بالنص عند ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير

[عبير بنت عبد الله النعيم]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مشكلة البحث:

- ‌حدود البحث:

- ‌أهمية البحث وأسباب اختياره:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌أهداف البحث:

- ‌أسئلة البحث:

- ‌المنهج في كتابة البحث:

- ‌إجراءات البحث:

- ‌ومنهجي في دراسة هذه القواعد كالآتي:

- ‌أما المنهج المتبع في دراسة تلك الأمثلة فهو الآتي:

- ‌خطة البحث

- ‌كلمة شكر وتقدير

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأولالتعريف بابن عاشور

- ‌المطلب الأولنشأته وبيئته العلمية

- ‌اسمه ونسبه:

- ‌مولده:

- ‌نشأته:

- ‌مسيرته العلمية والعملية:

- ‌شيوخه وعلماء عصره:

- ‌تلامذته:

- ‌المطلب الثاني‌‌مذهبه الفقهيوالعقدي ومؤلفاته

- ‌مذهبه الفقهي

- ‌منهجه في العقيدة:

- ‌كتاباته ومؤلفاته:

- ‌أولاً: آثاره في التفسير:

- ‌ثانياً: آثاره في الحديث النبوي الشريف:

- ‌ثالثاً: آثاره في الفقه وأصوله:

- ‌رابعاً: آثاره في الثقافة الإسلامية:

- ‌خامساً: آثاره في اللغة والأدب:

- ‌سادساً: آثاره في التاريخ والتراجم

- ‌وفاته:

- ‌المبحث الثانيالتعريف بتفسير (التحرير والتنوير)

- ‌المطلب الأولالتعريف بـ " التحرير والتنوير

- ‌منهجه في إيراد المعلومات:

- ‌المطلب الثانيموقف ابن عاشور من أنواع التفسير

- ‌أولاً: موقفه من التفسير بالمأثور:

- ‌ تفسير القرآن بالقرآن

- ‌ تفسير القرآن بالسنة:

- ‌أولاً: طريقته في إيراد الأحاديث:

- ‌ثانياً: طريقته في عزو الأحاديث:

- ‌ثالثاً: طريقته في الحكم على الأحاديث:

- ‌ تفسير القرآن بمرويات الصحابة والتابعين ومن بعدهم:

- ‌ موقفه من الإسرائيليات:

- ‌ثانياً: موقفه من التفسير بالرأي:

- ‌المطلب الثالثمنهج ابن عاشور في القراءات المتواترة والشاذة

- ‌المطلب الرابععنايته بالوجوه البلاغية واللغة

- ‌أولاً: الإيجاز:

- ‌ثانياً: المجاز:

- ‌ثالثاً: الإعجاز:

- ‌رابعاً: التفنن:

- ‌خامساً: الالتفات:

- ‌المطلب الخامسمصادر ابن عاشور في تفسيره

- ‌1 - التفسير وعلوم القرآن:

- ‌2 - في القراءات:

- ‌3 - الحديث النبوي:

- ‌4 - الفقه والأصول:

- ‌5 - العقيدة وعلم الكلام:

- ‌6 - اللغة والنحو:

- ‌الفصل الأولمقدمات في قواعد التفسير والترجيح

- ‌المبحث الأولمعنى القاعدة والتفسير والترجيح

- ‌تعريف القاعدة:

- ‌تعريف التفسير لغة:

- ‌تعريف التفسير اصطلاحاً:

- ‌تعريف الترجيح:

- ‌التعريف بالمركب الإضافي "قواعد الترجيح

- ‌المبحث الثانينشأة قواعد الترجيح

- ‌المبحث الثالثالفرق بين قواعد التفسير وقواعد الترجيح

- ‌أولاً: قواعد التفسير

- ‌تعريفه:

- ‌فائدته:

- ‌استمداد قواعد التفسير:

- ‌ثانياً: قواعد الترجيح:

- ‌موضوع قواعد الترجيح:

- ‌فائدته:

- ‌استمدادها:

- ‌المبحث الرابعأنواع قواعد الترجيح

- ‌أولا: قواعد الترجيح المتعلقة بالنص:

- ‌ثانياً: قواعد الترجيح المتعلقة بالسنة والأثر:

- ‌ثالثاً: قواعد الترجيح المتعلقة باللغة، ومنها:

- ‌المبحث الخامسالأسباب الموجبة للترجيح

- ‌الأول: اختلاف تضاد:

- ‌الثاني: اختلاف تنوع:

- ‌المبحث السادسقواعد التفسير عند ابن عاشور

- ‌أولاً: القواعد المتعلقة بأسباب النزول:

- ‌ثانياً: القواعد اللغوية

- ‌ثالثاً: القواعد المتعلقة بالقراءات

- ‌رابعاً: القواعد المتعلقة بالسنة والآثار

- ‌خامساً: القواعد المتعلقة بالنسخ

- ‌الفصل الثانيقواعد الترجيح المتعلقة بذات النص القرآني

- ‌المبحث الأولالقول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثانيالأصل إطلاق اللفظ على ظاهره ما لم يرد دليل يصرفه عن ظاهره

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في هذه القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثالثالأولى إعمال اللفظ بكلا معنييه الحقيقي والمجازي متى أمكن

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الرابعيقدم المجاز على الحقيقة إذا وجدت القرينة

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في هذه القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الخامسإذا خلت الأقوال في الآية من مستند شرعي وكانت متساوية فالقول الموافق لما جاء في التوراة مقدم على غيره

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌الفصل الثالثقواعد الترجيح المتعلقة بالنسخ

- ‌المبحث الأولالأصل عدم النسخ ما لم يقم دليلصحيح صريح على خلاف ذلك

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في هذه القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثانيقاعدة النسخ لا يقع في الأخبار

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثالثإن الزيادة على النص ليست بنسخ

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الرابعالإجماع يعد ناسخاً

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الخامسالتخصيص بعد العمل بالعام والتقييد بعد العمل بالمطلق لايعدُّ نسخاً

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح ألفاظ القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌الفصل الرابعقواعد الترجيح المتعلقة بالقراءات ورسم المصحف

- ‌المبحث الأولالقراءات المتواترة حق كلها نصاً ومعنى لا يجوز ردها أو رد معناها

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في هذه القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثانيالأصل توافق القراءات في المعنى

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثالثاختلاف القراءات في ألفاظ القرآن الكريم يكثر المعاني في الآية الواحدة

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الرابعتأتي القراءة في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الخامسالتفسير الموافق لرسم المصحف مقدم على غيره من التفاسير

- ‌صورة القاعدة:

- ‌بيان ألفاظ القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌الفصل الخامسقواعد الترجيح المتعلقة بالسياق القرآني

- ‌المبحث الأولالقول الذي يدل عليه السياق أولى من غيرهمالم توجد حجة يجب إعمالها

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثانيالقول المبني على مراعاة النظم وظاهر ترتيب الكلام أولى من غيره

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثالثلكل آية مقامها الذي يجري عليه استعمال كلماتهافلا تعارض بين الآيات

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌موقف العلماء من القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌الفصل السادسقواعد الترجيح المتعلقة بالمفردة القرآنية

- ‌المبحث الأولإعمال الأغلب في القرآن وتقديم المفهوم الجاري في استعماله أولى

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثانيزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثالثإذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌الفصل السابعتقويم منهج ابن عاشور في الترجيح

- ‌المبحث الأولمعالم منهج ابن عاشور في الترجيح ومميزاته

- ‌المطلب الأولصيغ الترجيح عند ابن عاشور

- ‌المطلب الثانيمنهج ابن عاشور في استعمال وجوه الترجيح

- ‌المطلب الثالثمميزات الترجيح عند ابن عاشور

- ‌المبحث الثانيالمآخذ على منهج ابن عاشور في الترجيح

- ‌المبحث الثالثأثر عقيدة ابن عاشور في صياغة القواعد والترجيح بها

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

1 -

مثال إيذاء الكافرين:

{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (1).

اختلف العلماء في معنى قوله تعالى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} ، فمنهم من حمله على المعنى الحقيقي، ومنهم من حمله على المعنى المجازي، وقد ساق ابن عاشور هذين الاحتمالين في تفسيره فقال:" وقوله: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} يجوز أن يكون فعل " دع " مراداً به أن لا يعاقبهم فيكون " دع " مستعملاً في حقيقته وتكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي دع أذاك إياهم.

ويجوز أن يكون " دع " مستعملاً مجازاً في عدم الاكتراث وعدم الاغتمام، فيما يقولونه مما يؤذي ويكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى فاعله، أي لا تكترث بما يصدر منهم من أذىً إليك فإنك أجلّ من الاهتمام بذلك، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. وأكثر المفسرين اقتصروا على هذا الاحتمال الأخير" (2).

إلى أن ذكر أن اللفظ يحتمل المعنيين، فقال: " والوجه: الحمل على كلا المعنيين، فيكون الأمر بترك أذاهم صادقاً بالإِعراض عما يؤذون به النبي صلى الله عليه وسلم من

(1) سورة الأحزاب، الآية (48).

(2)

التحرير والتنوير، ج 11، ص 58.

ص: 243

أقوالهم، وصادقاً بالكف عن الإِضرار بهم، أي أن يترفع النبي صلى الله عليه وسلم عن مؤاخذتهم على ما يصدر منهم في شأنه، وهذا إعراض عن أذى خاص لا عموم له، فهو بمنزلة المعرف بلام العهد، فليست آيات القتال بناسخة له" (1).

وقد احتمل هذين المعنيين من قبل ابن عاشور كل من ابن عطية، والقرطبي، والشوكاني والقاسمي (2)، وهم بناء على ذلك يرون هم وأصحاب القول الأول أن الآية منسوخة بآية السيف.

وذهب كل من الطبري، والألوسي (3) إلى أن المراد بالآية المعنى المجازي أي أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك، ولا تشتغل به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل، وهذا تأويل مجاهد أيضاً (4).

في حين يرى كل من الرازي وأبو حيان وابن كثيرأن المراد بالآية المعنى الحقيقي (5) أي أمره تبارك وتعالى بترك معاقبتهم، والصفح عن زللهم، فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول.

(1) التحرير والتنوير، ج 11، ص 58.

(2)

انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 390، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 14، ص 196، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 288، محاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 678، والتحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 11، ص 58.

(3)

انظر جامع البيان / الطبري، ج 22، ص 25، والتفسير الكبير /الرازي، ج 9، ص 174، وروح المعاني /الألوسي، ج 11، ص 224.

(4)

انظر تفسير مجاهد، ص 550، وأخرج قول مجاهد الطبري في تفسيره، ج 22، ص 25.

(5)

انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 174، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 230، وتفسير ابن كثير، ج 11، ص 187 ..

ص: 244

وهم يرون أن هذه الآية منسوخة ، وناسخها آية السيف (1).

كما اختار هذا القول الشنقيطي، في معرض تفسيره لقوله تعالى:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (2) حيث قال: " وهو الظاهر في معنى الآية - أنه كان في أول الأمر مأموراً بالإعراض عن المشركين، ثم نسخ ذلك بآية السيف ، ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (3) ، وقوله: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} إلى غير ذلك من الآيات "(4).

حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن المراد من قوله: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} تحمل على المعنى الحقيقي:

وهم الذين يرون أن المعنى لا تعاقبهم ولا تجازيهم، وهم يرون أن هذه الآية منسوخة، لأن هناك الكثير من المواقف في سيرته صلى الله عليه وسلم تدل على أنه قد ضرب على أيدي الكافرين بيد من حديد وقاتلهم ،ولذلك نرى أن معظم من رجّح هذا القول ذهب إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف ومنهم الزجاج (5)،

(1) اتفق العلماء والمفسرون على تسمية الآية الخامسة من سورة التوبة بآية السيف،

(2)

سورة الحجر، الآية (94).

(3)

سورة الأنعام، الآية (106).

(4)

أضواء البيان / الشنقيطي، ص 437.

(5)

انظر معاني القرآن وإعرابه / الزجاج، ج 4، ص 231.

ص: 245

وابن حزم في الناسخ والمنسوخ (1)، والكرمي كذلك (2)، والمقري أيضاً (3)، وابن الجوزي في نواسخ القرآن (4).

والذي يظهر لي والله أعلم أن هذه الآية محكمة وليست منسوخة؛ لأن الأصل عدم النسخ مالم يقم دليل صحيح صريح على خلاف ذلك، وحيث إنه لا دليل على ذلك ، فإن الآية محكمة. ويبقى موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من أعدائه مرتبط بحسب الأحوال والأشخاص.

حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن قوله: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} تحمل على المعنى المجازي:

الذي يظهر لي والله أعلم أن أصحاب هذا القول رأوا في هذا المعنى تسلية للرسول صلى الله عليه ليصبر على أذاهم.

قال الطبري: " وأعرض عن أذاهم لك، واصبر عليه "(5).

وقال الألوسي: " أي لا تبال بإيذائهم إياك بسبب إنذارك إياهم واصبر على ما ينالك منهم "(6).

وقد يكون مستندهم في ذلك اللغة لأن معنى "دع" في اللغة يحتمل هذا

(1) الناسخ والمنسوخ / ابن حزم، ج 1، ص 51.

(2)

الناسخ والمنسوخ / الكرمي، ج 1، ص 167،

(3)

الناسخ والمنسوخ / المقري، ج 1/ص 144.

(4)

الناسخ والمنسوخ / ابن الجوزي، ج 1، ص 209.

(5)

جامع البيان عن / الطبري، ج 22، ص 25.

(6)

روح المعاني / الألوسي، ج 11، ص 224.

ص: 246

المعنى .. قال ابن منظور في اللسان: "دع كلمة يدعى بها للعاثر في معنى قم، وانتعش، واسلم"(1).

القول الراجح:

إن كلا القولين محتمل كما ذهب إليه عدد من المفسرين منهم ابن عطية والقرطبي، الشوكاني، والقاسمي كما تقدم، وهو الذي رجحه ابن عاشور بناء على هذه القاعدة فهو يرى أن كلا المعنيين محتمل، وأن الفعل "دعهم"مستعملاً في حقيقته ومجازه.

قال ابن جزي في التسهيل: " ودع أذاهم يحتمل وجهين أحدهما لا تؤذهم فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين بآية السيف والآخر احتمل إذايتهم لك وأعرض عن أقوالهم ، فالمصدر على هذا مضاف للفاعل "(2)

ولكن هناك اعتراض قد يورده بعضهم وهو أن بين هذه الآية والآية في سورة الأنفال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} (3) تناقضا وتعارضا؛ إذ الآية الأولى تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم تحريض المؤمنين وحثهم على القتال ، بل والتجلد لقتالهم ، بينما الآية الثانية تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم يطيع الكافرين والمنافقين ، وأن يدع أذاهم ولا يقابلهم بمثله ويكفيه التوكل على الله ،

(1) لسان العرب / ابن منظور، ج 4، ص 355، مادة: دعع.

(2)

التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي، ج 3، ص 258.

(3)

سورة الأنفال، الآية (65).

ص: 247

فهو حسبه وكفى بالله وكيلاً ،فكيف يأمره في الأولى التحريض على قتالهم بهذا الجَلَد ،ويأمره في الثانية بترك آذاهم ، فظنوا هذا تناقضاً ، فطاروا به فرحاً، واتخذوه حجراً.

والجواب:

ليس هناك أي تضارب ، فالكافرون والمنافقون كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم وباختلاق أقوال عليه ، فأمره الله بأن يدع أذاهم له ، فهو سبحانه وتعالى يتولى رد كيدهم في نحرهم ، ودحض افتراءاتهم على رسوله ، فكفى بالله وكيلاً ، فأمره في آية الأحزاب أن لا يقابل اللسان بالسنان ، بينما أَمَرَه في شأن الكفار المحاربين أن يحرض المؤمنين على قتالهم ، والتجلد لهم ، فأمره الله سبحانه في آية الأنفال بمقابلة الَسَّنان بالسَّنان، فالحكمة تقتضي وضع السيف في موضعه واللين في موضعه ، فلا تعارض إذن بين الآيتين (1).

قلت: وما ذهب إليه ابن عاشور هو القول الراجح من أن الآية غير منسوخة ، وأنه يمكننا الأخذ بكلا القولين: الصبر وكف الأذى، ولكن يبقى كف الأذى وعدم معاقبتهم راجع للأحوال، وهذا الترجيح أي الأخذ بكلا القولين تعضده قاعدة عمل بها المفسرون في تفاسيرهم وهي:(أنه إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها)(2).

(1) الطعن في القرآن والرد على الطاعنين / عبد المحسن زبن المطيري في القرن الرابع الهجري، ج 1، ص 52.

(2)

انظر عقود المرجان في قواعد المنهج الأمثل في تفسير القرآن / أحمد سلامة أبو الفتوح، ص 150.

ص: 248

2 -

مثال هوْي النجوم:

قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} (1).

اختلف المفسرون في معنى قوله هوى على قولين:

الأول: بمعنى غاب.

والثاني: إذا سقط منه شهاب على الشياطين التي تسترق السمع (2).

واحتمل ابن عاشور كلا المعنيين الحقيقي والمجازي فقال: " والهُوِيّ: السقوط، أطلق هنا على غروب الكوكب، استعير الهُوِيُّ إلى اقتراب اختفائه ويجوز أن يراد بالهوِيّ: سقوط الشهاب حين يلوح للناظر أنه يجري في أديم السماء، فهو هويّ حقيقي فيكون قد استعمل في حقيقته ومجازه (3).

وبيّن القاسمي من قبله تلك المعاني وذكر أنها محتملة (4).

وذكر كل من الطبري، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني المعنى الحقيقي لـ "هوى" وهو سقط على اختلاف منهم، فمنهم يرى أن المراد بسقوطه ما سيكون يوم القيامة من انتثار له، ومنهم من يرى أن المراد بسقوطه رجومه على الشياطين

(5).

(1) سورة النجم، الآية (1).

(2)

انظر جامع البيان / الطبري، ج 27، ص 50.

(3)

التحرير والتنوير، ج 13، ص 91.

(4)

انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 512.

(5)

انظر جامع البيان / الطبري، ج 27، ص 50، والتفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 233، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 17، ص 84، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 154، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 264، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 105.

ص: 249

أما ابن عطية والألوسي فقد ذهبا إلى المعنى المجازي للآية (1).

حجة من يرى أن {هَوَى} بمعنى غاب وغرب:

حجتهم في ذلك أن الظاهر والسابق إلى الفهم يدل على هذا (2).

قال ابن عطية معلقاً على تأويل هوى بمعنى نزل بقوله: "وفي هذا الهوي بعد وتحامل على اللغة، إلى أن يقول: " هوى إلى الغروب، وهذا هو السابق إلى الفهم من كلام العرب " (3).

وروى عبد الرزاق عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(والنجم إذا هوى قال: «الثريا إذا غابت» (4).

وقال الألوسي: " هوى أي غرب "(5).

حجة من يرى أن {هَوَى} بمعنى سقط أي المعنى الحقيقي:

استدلوا على ذلك بما جاء في اللغة.

قال ابن فارس: "هوى الشيء يهوي: سقط، وهاوية جهنم لأن الكافر يهوي فيها "(6).

وقال ابن منظور: " هوى بالفتح، يهوي هوياً وهوياً وهوياناً وانهوى:

(1) انظر المحرر الوجيز ابن عطية، ج 5، ص 195، وروح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 45.

(2)

انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 195.

(3)

المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 195.

(4)

تفسير القرآن /عبد الرزاق الصنعاني ج 6 / ص 487.

(5)

روح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 45.

(6)

معجم مقاييس اللغة / ابن فارس، ص 1017.

ص: 250

سقط من فوق إلى أسفل، وأهواه هو. يقال أهويته إذا ألقيته من فوق. وقوله عز وجل:{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} (1) يعني مدائن قوم لوط أي أسقطها فهوت أي سقطت، وهوى السهم هوياً: سقط من علوٍ إلى سُفلٍ

وفي صفته صلى الله عليه وسلم: كأنما يهوي من صبب أي ينحط، وذلك مشية القوي من الرجال. يقال هوى يهوي هَوياً بالفتح إذا هبط، وهوى يهوي هُوياً بالضم إذا صعد " (2).

قال ابن عطية: " وهذا القول تسعده اللغة (3).

وقال القرطبي: " قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} قال ابن عباس ومجاهد: معنى {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} والثريا إذا سقطت مع الفجر "(4).

وقال السعدي: " يقسم تعالى بالنجم عند هويه أي: سقوطه في الأفق في آخر الليل عند إدبار الليل وإقبال النهار، لأن في ذلك من آيات الله العظيمة، ما أوجب أن أقسم به "(5)

القول الراجح:

يظهر لي والله أعلم أن القول الراجح هو القول الثاني وهو: أن هوى بمعنى سقط في معناها الحقيقي، والسقوط يتضمن ما كان في الدنيا من سقوطها

(1) سورة النجم، الآية (53).

(2)

لسان العرب / ابن منظور، ج 15، ص 167 - 168 مادة: هوا.

(3)

انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 195.

(4)

الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 17، 84.

(5)

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 5، ص 121.

ص: 251

رجوماً على الشياطين، أو انتثارها يوم القيامة.

قال الخازن: " قوله عز وجل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} قال ابن عباس: يعني الثريا إذا سقطت وغابت ، والعرب تسمي الثريا نجماً ،ومنه قولهم: إذا طلع النجم عشاء ابتغى

الراعي كساء ، وجاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعاً:«ما طلع النجم قط وفي الأرض من العاهة شيء إلا رفع» (1) أراد بالنجم الثريا ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه الرجوم من النجوم وهي ما ترمى به الشياطين عند استراق السمع ، وقيل: هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة " (2).

قال البيضاوي: " {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} أقسم بجنس النجوم أو الثريا فإنه غلب فيها إذا غرب أو انتثر يوم القيامة أو انقض أو طلع فإنه يقال: هوى هوياً بالفتح إذا سقط وغرب "(3).

ومما يرجح هذا القول ويقويه قاعدة: (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره

) (4)، فقد ذكر صاحب كتاب "لمسات بيانية": "أن هذا القول يدل عليه كونه مناسباً لما قبله ، حيث إنه في خواتيم سورة الطور (إدبار النجوم) أي

(1) أخرجه أحمد في المسند، ج 2، ص 388، ح- 9027، والطبراني في الأوسط، ج 2، ص 78، ح- 1305، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، ج 4، ص 103:" وفيه عسل بن سفيان وثقه ابن حبان، وقال يخطئ ويخالف "وضعفه جماعة" وبقية رجاله رجال الصحيح ".

(2)

لباب التأويل في معاني التنزيل / الخازن، ج 4، ص 203.

(3)

أنوار التنزيل وأسرار التأويل / البيضاوي، ج 5، ص 252.

(4)

انظر قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 2، ص 125.

ص: 252

غروبها فهي إذن مرتبطة بالتسبيح ومرتبطة بإدبار النجوم فأصبح هناك تناسق بين إدبار النجوم والنجم إذا هوى" (1) ، كما يقوي هذه القول القاعدة الترجيحية الآتية: (يجب حمل كلام الله تعالى على المعروف من كلام العرب) (2) ، والجاري في استعمال هوي النجوم سقوطها، قال أبو حيان: " قال مجاهد وسفيان: هو الثريا وهويها سقوطها مع الفجر، وهو علم عليها بالغلبة، ولا تقول العرب النجم مطلقاً إلا للثريا " (3).

3 -

مثال الفرش:

قال تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} (4).

اختلف المفسرون في المراد بالفرش على قولين:

الأول: إنها الحشايا المفروشة للجلوس والنوم مرفوعة بكثرة حشوها زيادة في الاستمتاع بها.

والثاني: إن المراد بالفرش النساء مرفوعات في القدر (5).

وذكر ابن عاشور كلا القولين ورجحهما وهذا قوله: " لما جرى ذكر الفُرش وهي مما يعد للاتكاء والاضطجاع وقت الراحة في المنزل ، يخطر بالبال بادئ

(1) لمسات بيانية /فاضل السامرائي ، ج 1، ص 48.

(2)

قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 2، ص 369.

(3)

البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 154.

(4)

سورة الواقعة، الآية (34).

(5)

انظر النكت والعيون / الماوردي، ج 5، ص 454، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 244.

ص: 253

ذي بدء مصاحبة الحُور العين معهم في تلك الفرش فيتشوف إلى وصفهن، فكانت جملة:{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} (1) بياناً لأن الخاطر بمنزلة السؤال عن صفات الرفيقات

فضمير المؤنث من " أنشأناهن " عائد إلى غير مذكور في الكلام ولكنه ملحوظ في الأفهام كقول أبي تمام في طالع قصيدة:

هُنّ عوادي يوسفٍ وصواحبه

ومنه قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (2) وهذا أحسن وجه في تفسير الآية، فيكون لفظ " فرش " في الآية مستعملاً في معنييه ويكون " مرفوعة " مستعملاً في حقيقته ومجازه، أي في الرفع الحسي والرفع المعنوي ". (3).

ورجّح الطبري وكذلك ابن كثير أن المراد بالفرش المرفوعة هي الفرش المعروفة والمرفوعة أي طويلة وعالية ، وساقا حديث أبي سعيد الذي يصف ارتفاعها، وكذلك استظهر الرازي أبو حيان والشوكاني والألوسي هذا القول (4).

(1) سورة الواقعة، الآية (35).

(2)

سورة ص، الآية (32).

(3)

التحرير والتنوير، ج 13، ص 301.

(4)

انظر جامع البيان / الطبري، ج 27، ص 216، والتفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 407، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8 ص 206، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 371، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 155، وروح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 141.

ص: 254

وذكر ابن عطية والقرطبي، وكذلك القاسمي والشنقيطي كلا القولين ولم يرجحوا (1).

حجة القائلين بأن المراد بـ {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} الفرش المعدة للاتكاء عليها:

استدل أصحاب هذا القول بحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: " إن ارتفاعها لكما بين السماء والأرض، وإن ما بين السماء والأرض لمسيرة خمس مئة عام "(2).

قال أبو حيان: " والظاهر أن الفراش ما يفترش للجلوس عليه والنوم "(3).

قال الألوسي: " مرفوعة منضدة مرتفعة أو مرفوعة على الأسرة فالرفع حسي كما هو الظاهر

وقال بعضهم: أي رفيعة القدر على أن رفعها معنوي بمعنى شرفها وأياً مّا كان فالمراد بالفرش ما يفرش للجلوس عليها" (4).

(1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 244، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 17، ص 202، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 10، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1695.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة ثياب الجنة، ج 4، ص 679، ح- 2540، وقال أبو عيسى الترمذي:" هذا حديث غريب لا نعرفه الا من حديث رشدين بن سعد"، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، باب ذكر الأخبار عن الفرش التي أعدها الله لأوليائه في جناته، ج 16، ص 418، ح- 7405.

(3)

البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 206.

(4)

روح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 141.

ص: 255

حجة القائلين بأن المراد بـ {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي النساء الحور العين مرفوعات في القدر والجمال .. :

استدلوا على ذلك بما جاء في اللغة من أن الفرش تأتي بمعنى النساء، قال ابن منظور: "

ومنه قول الشاعر:

ظللت مفترش الهلباء تشتمني

عند الرسول فلم تصدق ولم تصب

ومنه قول الآخر في تعديد على صهره:

وأفرشتك كريمتي " (1).

قال البغوي: " دليل هذا التأويل قوله في عقبه: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} (2) خلقناهن خلقًا جديدًا قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني الآدميات العجز الشمط، يقول خلقناهن بعد الهرم خلقا آخر. {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} (3)(4).

القول الراجح:

الذي يظهر لي والله أعلم أن المراد بالفرش في قوله: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} الفرش المعروفة كما ذكر ابن جرير وغيره من المفسرين.

(1) لسان العرب / ابن منظور، ج 10، ص 225، مادة: فرش.

(2)

سورة الواقعة، الآية (35).

(3)

سورة الواقعة، الآية (36).

(4)

معالم التنزيل / البغوي، ج 8، ص 13.

ص: 256

ويقوي هذا القول ويعضده القاعدة الترجيحية: (الأصل إطلاق اللفظ على ظاهره) وهذه القاعدة رجّح بها ابن عاشور في تفسيره لكنه في هذا المثال رأى أن معنى الفرش يحتمل الحقيقة والمجاز.

قال السعدي: " {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي: مرفوعة فوق الأسرة ارتفاعا عظيما، وتلك الفرش من الحرير والذهب واللؤلؤ وما لا يعلمه إلا الله "(1).

وقد ردّ الرازي على من قال أن المراد بالفرش النساء فقال: " يبعد ظاهراً لأن وصفها بالمرفوعة ينبئ عن خلاف ذلك "(2).

كما يؤيد هذا القول القاعدة الترجيحية: (يجب حمل كلام الله على المعروف من كلام العرب)(3).

قال ابن فارس: " الفاء والراء والشين أصل صحيح يدل على تمهيد الشيء وبسطه. يقال فرشت الفراش أفرشه، والفرش مصدر، والفرش المفروش أيضاً "(4).

وأما قول من قال أن القول بأن الفرش بمعنى النساء يدل عليه الآية: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} فقد وضحه الشيخ ابن عثيمين وبين وجه مجيء هذه الآية بقوله: " {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} الفراش ما ينام عليه الإنسان (مرفوعة) أي عالية،

(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 5، ص 163.

(2)

التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 407.

(3)

قواعد الترجيح / حسين الحربي، ج 2، ص 369.

(4)

معجم مقاييس اللغة / ابن فارس، ص 811.

ص: 257

ولما كان الذي مع الإنسان في الفراش الحور العين، قال الله تعالى:{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} أي: أنشأناهن إنشاءً عجيباً غريباً بديعاً " (1).

4 -

مثال تطهير الثياب:

قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (2).

اختلف المفسرون في المراد بقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فقال ابن سيرين وابن زيد بن أسلم والشافعي وجماعة: هو أمر بتطهير الثياب حقيقة، وذهب الشافعي وغيره من هذه الآية إلى وجوب غسل النجاسات من الثياب، وقال الجمهور: هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال والنفس والعرض، وهذا كما تقول فلان طاهر الثوب، ويقال للفاجر دنس الثوب. وقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك وغيره، المعنى لا تلبسها على غدرة ولا فجور، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المعنى لا تلبسها من مكسب خبيث، وقال النخعي: المعنى طهرها من الذنوب، وهذا كله معنى قريب بعضه من بعض (3).

ورجّح ابن عاشور كلا المعنيين الحقيقي والمجازي فقال: " وللتطهير إطلاق حقيقي وهو التنظيف ، وإزالة النجاسات ، وإطلاق مجازي ، وهو التزكية ، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ

(1) تفسير القرآن الكريم / ابن عثيمين، ص 338.

(2)

سورة المدثر، الآية (4).

(3)

انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 392.

ص: 258

تَطْهِيرًا} (1).

والمعنيان صالحان في الآية فتحمل عليهما معاً ، فتحصل أربعةُ معان لأنه مأمور بالطهارة الحقيقية لثيابه إبطالاً لما كان عليه أهل الجاهلية من عدم الاكتراث بذلك. وقد وردت أحاديث في ذلك يقوّي بعضها بعضاً وأقواها مَا رواه الترمذي «إِن الله نظيف يحب النظافة». وقال: هو غريب.

والطهارة لجسده بالأولى ، ومناسبة التطهير بهذا المعنى لأن يعطف على:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (2) لأنه لما أمر بالصلاة أُمر بالتطهر لها؛ لأن الطهارة مشروعة للصلاة.

وليس في القرآن ذكر طهارة الثوب إلاّ في هذه الآية في أحد محاملها وهو مأمور بتزكية نفسه. والمعنى المركب من الكنائي والمجازي هو الأعلق بإضافة النبوة عليه " (3).

ووافق قول ابن عاشور هذا كل من قول: القرطبي، وابن كثير، والشنقيطي حيث ذكروا عدة معان في الآية واحتملوا جميع تلك المعاني، قال القرطبي:" ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز "(4).

وذهب الطبري إلى المعنى الأول وهو غسل الثياب معللا ذلك بأنه أظهر

(1) سورة الأحزاب، الآية (33).

(2)

سورة المدثر، الآية (3).

(3)

التحرير والتنوير، ج 14، ص 297.

(4)

الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 65، وانظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 177، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1871. .

ص: 259

المعاني، وكذلك أبو حيان، والشوكاني، والقاسمي (1)، وذكر ابن عطية وكذلك الرازي كلا القولين وذكرا أن الجمهور ذكروا أن هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال، وكذلك مال الألوسي إلى المعنى المجازي (2)

.

حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن المراد تطهير الثياب حقيقة بإزالة النجاسات:

حجتهم في ذلك أنه من الأولى حمل الآية حلى حقيقتها، وظاهر اللفظ يدل على ذلك.

قال الطبري: " وهذا القول الذي قاله ابن سيرين وابن زيد في ذلك أظهر معانيه، والذي قاله ابن عباس، وعكرمة وابن زكريا قول عليه أكثر السلف من أنه عُنِيَ به: جسمك فطهر من الذنوب، والله أعلم بمراده من ذلك "(3).

وقال أبو حيان: " {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} الظاهر أنه أمر بتطهير الثياب من النجاسات، لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة، ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة " " (4).

وقال الشوكاني: " وهذا القول أولى؛ لأنه المعنى الحقيقي ، وليس في استعمال

(1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 29، ص 175، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 363، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 324، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 264.

(2)

انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 392، والتفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 698، وروح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 130.

(3)

جامع البيان / الطبري، ج 29، ص 175.

(4)

البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 363.

ص: 260

الثياب مجاز عن غيرها لعلاقة مع قرينة ما يدلّ على أنه المراد عند الإطلاق، وليس في مثل هذا الأصل أعني الحمل على الحقيقة عند الإطلاق خلاف، وفي الآية دليل على وجوب طهارة الثياب في الصلاة " (1).

واستصوب ابن الأثير في المثل السائر الوجه الأول ، قال في الفصل الثالث من فصول مقدمته:" اعلم أن الأصل في المعنى أن يحمل على ظاهر لفظه، ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل كقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فالظاهر من لفظ الثياب هو مايلبس ومن تأول ذهب إلى أن المراد هو القلب، لا الملبوس ،وهذا لا بد له من دليل، لأنه عدول عن ظاهر اللفظ "(2).

حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن المراد بتطهير الثياب تزكية النفس وتنقية العمل:

استدلوا على ذلك بما رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتاه رجل وهو جالس فقال: أرأيت قول الله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة، ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفيّ:

وإنّي بِحَمْدِ اللهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ

لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ (3).

وقال القرطبي في تفسيره: " والعرب تكني عن النفس بالثياب، قاله ابن عباس.

(1) فتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 423.

(2)

المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر / ابن الأثير، ج 1، ص 32.

(3)

أخرجه الطبري بسنده في تفسيره، ج 29، ص 173.

ص: 261

ومنه قول عنترة: فشككت بالرمح الطويل ثيابه * ليس الكريم على القنا بمحرم وقال امرؤ القيس:

* فسلي ثيابي من ثيابك تنسل *

وقال:

ثياب بني عوف طهارى نقية *

وأوجههم بيض المسافر غران

أي أنفس بني عوف" (1).

وقال الألوسي: " وكلمات جمهور السلف دائرة على نحو هذا المعنى في هذه الآية الكريمة. وهي كلمة عربية كانت العرب إذا نكث الرجل ولم يف بعهد قالوا إن فلاناً لدنس الثياب وإذا وفى وأصلح قالوا إن فلاناً لطاهر الثياب "(2).

القول الراجح:

الذي يظهر لي والله أعلم أن المراد بالآية تطهير الثياب من النجاسات حقيقة، ومما يرجح هذا القول القاعدة الترجيحية:(القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره، مالم توجد حجة يجب إعمالها)، وفي الآية ما يدل على ذلك فقوله تعالى:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} قرينة تدل على أن المراد تطهير الثياب لأنه شرط في صحة الصلاة.

وقد أشار الشنقيطي إلى ذلك (3).

كما يقوي هذا القول القاعدة الترجيحية (الأصل إطلاق اللفظ على ظاهره مالم يرد دليل يصرفه عن ظاهره) وظاهر اللفظ يدل على أن المقصود

(1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 63.

(2)

روح المعاني / الأوسي، ج 15، ص 131.

(3)

انظر أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1871.

ص: 262

بالثياب الثياب الحقيقية.

قال ابن العربي: " وإذا حملناها على الثياب المعلومة (الظاهرة) فهي تتناول معنيين:

أحدها: تقصير الأذيال، فإنها إذا أرسلت تدنّست؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغلام من الأنصار وقد رأى ذيله مسترخياً: يا غلام، ارفع إزارك، فإنه أتقى وأنقى، وأبقى .. والمعنى الثاني: غسلها من النجاسة؛ وهو ظاهر منها صحيح فيها " (1).

5 -

مثال الشرح:

قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (2).

اختلف المفسرون في معنى الشرح فقيل: هو شق الصدر وإخراج ما فيه من الغل والحسد، وقيل: هو الإنعام عليه بالإيمان ومعرفة الحق والحكمة.

وقد ذكر ابن عاشور هذه الأقوال فقال: " وشرح صدره كناية عن الإِنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات، وإعلامه برضى الله، عنه وبشارته بما سيحصل للدّين الذّي جاء به من النصر. وعلى هذا الوجه حمله كثير من المفسرين ونسبه ابن عطية إلى الجمهور.

ويجوز أن يجعل الشرح شرحاً بدنياً. وروي عن ابن عباس أنه فسر به وهو ظاهر صنيع الترمذي إذ أخرج حديث شقِّ الصدر الشريف في تفسير هذه

(1) أحكام القرآن / ابن العربي، ج 4، ص 257.

(2)

سورة الشرح، الآية (1).

ص: 263

السورة فتكون الآية إشارة إلى مرويات في شَق صدره صلى الله عليه وسلم شقّاً قُدُسياً، وهو المروي بعض خبره في «الصحيحين» ، والمروي مطولاً في السيرة والمسانيد

إلى أن قال وكلا المعنيين للشرح يفيد أنه إيقاع معنى عظيم لنفس النبي صلى الله عليه وسلم " (1).

ومما تقدم يظهر لنا مدى اهتمام ابن عاشور بإيفاء معاني الآيات حقها فهو لا يغفل معناها المجازي والحقيقي إن كانت الآية تحتمله.

وقد ذكر هذين المعنيين كل من الرازي، والقرطبي، والألوسي ولم يرجحوا بينهما وكذلك أبو حيان وابن كثير، والشنقيطي وقالوا بأن الأولى العموم لهذا المعنى وغيره - يعني الحقيقي والمجازي (2)

أما الطبري، والشوكاني، والقاسمي فقد رجّحوا في هذه الآية المعنى المجازي لها ولم يذكرا غيره، وكذلك ابن عطية ذهب إليه وذكر أنه قول الجمهور، كما أنه ساق المعنى الآخر للشرح ونسبه إلى ابن عباس وجماعة (3).

حجة القائلين بأن المراد بالشرح المعنى المجازي للآية:

استدلوا على ذلك بشهادة القرآن لهذا المعنى كما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ

(1) التحرير والتنوير، ج 15، ص 409.

(2)

انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 17، ص 92. تأكدي، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 20، ص 106، وروح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 386، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 483، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 388، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1961.

(3)

انظر جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 284، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 461، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 424 والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 496

ص: 264

شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (1)، فقوله:{فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} بيان لشرح الصدر للإسلام.

كما أن ضيق الصدر دليل على الضلال، كما في نفس الآية:{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (2) الآية (3).

وقال النسفي: " ألم نشرح لك صدرك استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الانكار فأفاد إثبات الشرح فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك؛ ولذا عطف عليه وضعنا اعتبار للمعنى أى فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم حتى وسع هموم النبوة ودعوة الثقلين وأزلنا عنه الضيق والحرج الذى يكون مع العمى والجهل وعن الحسن ملئ حكمة وعلما ". (4)

قال الشوكاني: " معنى شرح الصدر فتحه بإذهاب ما يصد عن الإدراك، والاستفهام إذا دخل على النفي قررّه، فصار المعنى: قد شرحنا لك صدرك، وإنما خصّ الصدر لأنه محل أحوال النفس من العلوم والإدراكات، والمراد الامتنان عليه صلى الله عليه وآله وسلم بفتح صدره وتوسيعه حتى قام بما قال به من الدعوة، وقدرعلى ما قدر عليه من حمل أعباء النبوة وحفظ الوحي، وقد مضى

(1) سورة الزمر، الآية (22).

(2)

سورة الأنعام، الآية (125).

(3)

انظر أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1962.

(4)

تفسير النسفي، ج 4، ص 365.

ص: 265

القول في هذا عند تفسير قوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} " (1).

حجة القائلين: إن المراد بالشرح المعنى الحقيقي للآية وهو شق الصدر:

استدلوا على ذلك بما جاء في السنة من حديث أنس بن مالك وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلا يقول أحد الثلاثة بين الرجلين فأتيت فانطلق بي فأتيت بطست من ذهب فيها من ماء زمزم فشرح صدري إلى كذا وكذا قال قتادة فقلت للذي معي ما يعني قال إلى أسفل بطنه فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم ثم أعيد مكانه ثم حشي إيمانا وحكمة

" (2).

القول الراجح:

إن الآية تحتمل المعنيين كما ذكر ابن عاشور وغيره من المفسرين ، وقد تقدم ذكرهم، وذلك عملا بالقاعدة الترجيحية:(الأولى إعمال اللفظ بكلا معنييه الحقيقي والمجازي) ولأنه لا منافاة بين الشرح الحقيقي والمجازي، بل إن الشرح المجازي أو المعنوي مترتب على ما فعل بصدره صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء.

قال أبو حيان: " والأولى العموم لهذا ولغيره من مقاساة الدعاء إلى الله وحده

(1) فتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 461.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله إلى السموات .. ، ج 1، ص 150، ح- 164، والترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ومن سورة ألم نشرح، ج 5، ص 442، ح- 3346 وقال أبو عيسى:" هذا حديث حسن صحيح ".

ص: 266

واحتمال المكاره من إذاية الكفار " (1).

وقال ابن كثير: " يعني: أما شرحنا لك صدرك، أي: نورناه وجعلناه فَسيحًا رحيبًا واسعًا كقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (2)، وكما شرح الله صدره كذلك جعل شَرْعه فسيحا واسعًا سمحًا سهلا لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق.

وقيل: المراد بقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} شرح صدره ليلة الإسراء، ولا منافاة، فإن من جملة شرح صدره الذي فُعِل بصدره ليلة الإسراء، وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضًا، والله أعلم" (3).

وقال السيد طنطاوي في "الوسيط": " وأصل الشرح: البسط للشئ وتوسعته، يقال: شرح فلان الشئ، إذا وسعه، ومنه شرح فلان الكتاب، إذا وضحه، وأزال مجمله، وبسط ما فيه من غموض.

والمراد بشرح الصدر هنا: توسعته وفتحه، لقبول كل ما هو من الفضائل والكمالات النفسية. وإذهاب كل ما يصد عن الإِدراك السليم وعن الحق الخير والهدى.

وهذا الشرح، يشمل الشق البدنى لصدره صلى الله عليه وسلم كما يشمل الشرح المعنوى

(1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 483.

(2)

سورة الأنعام، الآية (125).

(3)

تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 388.

ص: 267

لصدره صلى الله عليه وسلم عن طريق إيداعه الإِيمان والهدى والعلم والفضائل" (1).

ومما يقوي هذا الترجيح ويؤيده قاعدة: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له).

وقد تواترت أحاديث شق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم حديث مسلم في ذلك.

ومنه أيضاً ما رواه عبد الله بن أحمد قال: ": حدثني محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز حدثنا يونس بن محمد، حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن محمد بن أبي بن كعب، حدثني أبي محمد بن معاذ، عن معاذ، عن محمد، عن أبي بن كعب: أن أبا هريرة رضي الله عنه كان جريًّا على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول الله، ما أولُ ما رأيت من أمر النبوة؟ فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وقال: " لقد سألتَ يا أبا هريرة، إني لفي الصحراء ابنُ عشر سنين وأشهر، وإذا بكلام فوق رأسي، وإذا رجل يقول لرجل: أهو هو؟ قال: نعم فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط. فأقبلا إلي يمشيان، حتى أخذ كل واحد منهما بعَضُدي، لا أجد لأحدهما مسا، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه. فأضجعاني بلا قَصْر ولا هَصْر. فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره. فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغِلّ والحَسَد. فأخرج شيئًا كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها، فقال له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي

(1) الوسيط / سيد طنطاوي، ج 15، ص 435.

ص: 268

أخرج شبهُ الفضة، ثم هز إبهام رجلي اليمنى فقال:" اغد واسلم. فرجعت بها أعدو رقة على الصغير ورحمة للكبير "(1).

(1) أخرجه أحمد في مسنده، ج 5، ص 139، ح- 21338.وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ج 8 /ص 223 وقال: : رواه عبدالله ورجاله ثقات وثقهم ابن حبان.

ونظائر هذه الأمثلة كثيرة جداً في تفسيره:

1 -

ما جاء في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 148). وفيه قول ابن عاشور: " والوجهة حقيقتها البقعة التي يتوجه إليها فهي وزن فِعلة مؤنث فعل الذي هو بمعنى مفعول مثل ذبح، ولكونها اسم مكان لم تحذف الواو التي هي فاء الكلمة عند اقتران الاسم بهاء التأنيث لأن حذف الواو في مثله إنما يكون في فعلة بمعنى المصدر.

وتستعار الوجهة لما يهتم به المرء من الأمور تشبيهاً بالمكان الموجه إليه تشبيه معقول بمحسوس، ولفظ (وجهة) في الآية صالح للمعنيين الحقيقي والمجازي " (التحرير والتنوير، ج 1، ص 41).

2 -

ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104)، وفيها قوله:" والأمر في قوله (تعالَوْا) مستعمل في طلب الإقبال، وفي إصغاء السمع، ونظر الفكر، وحضور مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الصدّ عنه، فهو مستعمل في حقيقته ومجازه ". (التحرير والتنوير، ج 4، 75).

3 -

منها ماجاء في قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (الأنعام: 4)، ذكر ابن عاشور أن الإعراض يشمل المعنى الحقيقي والمجازي. (التحرير والتنوير، ج 4، ص 135. =

ص: 269

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

=

4 -

ما جاء في قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101)، وفيها قوله: " والنظر: هنا مستعمل فيما يصلح للنظر القلبي والنظر البصري، ولذلك عدل عن إعماله عمل أحد الفعلين لكيلا يتمحض له، فَجيءَ بعده بالاستفهام المعلّق لكلا الفعلين بحيث أصبح حمل النظر على كليهما على حد السواء فصار صالحاً للمعنيين الحقيقي والمجازي، وذلك من مقاصد القرآن. (التحرير والتنوير، ج 6، ص 295).

5 -

ما جاء في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المنافقون: 9)، وفيها قوله: " و (ذكر الله) مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي. فيشمل الذكر باللسان كالصلاة وتلاوةِ القرآن، والتذكر بالعقل كالتدبر في صفاته واستحْضار امتثاله قال عمر بن الخطاب:«أفضل من ذكر الله باللسان ذِكر الله عند أمره ونهيه» (التحرير والتنوير، ج 13، ص 251).

ص: 270