المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أمثلة تطبيقية على القاعدة: - قواعد الترجيح المتعلقة بالنص عند ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير

[عبير بنت عبد الله النعيم]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مشكلة البحث:

- ‌حدود البحث:

- ‌أهمية البحث وأسباب اختياره:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌أهداف البحث:

- ‌أسئلة البحث:

- ‌المنهج في كتابة البحث:

- ‌إجراءات البحث:

- ‌ومنهجي في دراسة هذه القواعد كالآتي:

- ‌أما المنهج المتبع في دراسة تلك الأمثلة فهو الآتي:

- ‌خطة البحث

- ‌كلمة شكر وتقدير

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأولالتعريف بابن عاشور

- ‌المطلب الأولنشأته وبيئته العلمية

- ‌اسمه ونسبه:

- ‌مولده:

- ‌نشأته:

- ‌مسيرته العلمية والعملية:

- ‌شيوخه وعلماء عصره:

- ‌تلامذته:

- ‌المطلب الثاني‌‌مذهبه الفقهيوالعقدي ومؤلفاته

- ‌مذهبه الفقهي

- ‌منهجه في العقيدة:

- ‌كتاباته ومؤلفاته:

- ‌أولاً: آثاره في التفسير:

- ‌ثانياً: آثاره في الحديث النبوي الشريف:

- ‌ثالثاً: آثاره في الفقه وأصوله:

- ‌رابعاً: آثاره في الثقافة الإسلامية:

- ‌خامساً: آثاره في اللغة والأدب:

- ‌سادساً: آثاره في التاريخ والتراجم

- ‌وفاته:

- ‌المبحث الثانيالتعريف بتفسير (التحرير والتنوير)

- ‌المطلب الأولالتعريف بـ " التحرير والتنوير

- ‌منهجه في إيراد المعلومات:

- ‌المطلب الثانيموقف ابن عاشور من أنواع التفسير

- ‌أولاً: موقفه من التفسير بالمأثور:

- ‌ تفسير القرآن بالقرآن

- ‌ تفسير القرآن بالسنة:

- ‌أولاً: طريقته في إيراد الأحاديث:

- ‌ثانياً: طريقته في عزو الأحاديث:

- ‌ثالثاً: طريقته في الحكم على الأحاديث:

- ‌ تفسير القرآن بمرويات الصحابة والتابعين ومن بعدهم:

- ‌ موقفه من الإسرائيليات:

- ‌ثانياً: موقفه من التفسير بالرأي:

- ‌المطلب الثالثمنهج ابن عاشور في القراءات المتواترة والشاذة

- ‌المطلب الرابععنايته بالوجوه البلاغية واللغة

- ‌أولاً: الإيجاز:

- ‌ثانياً: المجاز:

- ‌ثالثاً: الإعجاز:

- ‌رابعاً: التفنن:

- ‌خامساً: الالتفات:

- ‌المطلب الخامسمصادر ابن عاشور في تفسيره

- ‌1 - التفسير وعلوم القرآن:

- ‌2 - في القراءات:

- ‌3 - الحديث النبوي:

- ‌4 - الفقه والأصول:

- ‌5 - العقيدة وعلم الكلام:

- ‌6 - اللغة والنحو:

- ‌الفصل الأولمقدمات في قواعد التفسير والترجيح

- ‌المبحث الأولمعنى القاعدة والتفسير والترجيح

- ‌تعريف القاعدة:

- ‌تعريف التفسير لغة:

- ‌تعريف التفسير اصطلاحاً:

- ‌تعريف الترجيح:

- ‌التعريف بالمركب الإضافي "قواعد الترجيح

- ‌المبحث الثانينشأة قواعد الترجيح

- ‌المبحث الثالثالفرق بين قواعد التفسير وقواعد الترجيح

- ‌أولاً: قواعد التفسير

- ‌تعريفه:

- ‌فائدته:

- ‌استمداد قواعد التفسير:

- ‌ثانياً: قواعد الترجيح:

- ‌موضوع قواعد الترجيح:

- ‌فائدته:

- ‌استمدادها:

- ‌المبحث الرابعأنواع قواعد الترجيح

- ‌أولا: قواعد الترجيح المتعلقة بالنص:

- ‌ثانياً: قواعد الترجيح المتعلقة بالسنة والأثر:

- ‌ثالثاً: قواعد الترجيح المتعلقة باللغة، ومنها:

- ‌المبحث الخامسالأسباب الموجبة للترجيح

- ‌الأول: اختلاف تضاد:

- ‌الثاني: اختلاف تنوع:

- ‌المبحث السادسقواعد التفسير عند ابن عاشور

- ‌أولاً: القواعد المتعلقة بأسباب النزول:

- ‌ثانياً: القواعد اللغوية

- ‌ثالثاً: القواعد المتعلقة بالقراءات

- ‌رابعاً: القواعد المتعلقة بالسنة والآثار

- ‌خامساً: القواعد المتعلقة بالنسخ

- ‌الفصل الثانيقواعد الترجيح المتعلقة بذات النص القرآني

- ‌المبحث الأولالقول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثانيالأصل إطلاق اللفظ على ظاهره ما لم يرد دليل يصرفه عن ظاهره

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في هذه القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثالثالأولى إعمال اللفظ بكلا معنييه الحقيقي والمجازي متى أمكن

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الرابعيقدم المجاز على الحقيقة إذا وجدت القرينة

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في هذه القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الخامسإذا خلت الأقوال في الآية من مستند شرعي وكانت متساوية فالقول الموافق لما جاء في التوراة مقدم على غيره

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌الفصل الثالثقواعد الترجيح المتعلقة بالنسخ

- ‌المبحث الأولالأصل عدم النسخ ما لم يقم دليلصحيح صريح على خلاف ذلك

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في هذه القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثانيقاعدة النسخ لا يقع في الأخبار

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثالثإن الزيادة على النص ليست بنسخ

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الرابعالإجماع يعد ناسخاً

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الخامسالتخصيص بعد العمل بالعام والتقييد بعد العمل بالمطلق لايعدُّ نسخاً

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح ألفاظ القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌الفصل الرابعقواعد الترجيح المتعلقة بالقراءات ورسم المصحف

- ‌المبحث الأولالقراءات المتواترة حق كلها نصاً ومعنى لا يجوز ردها أو رد معناها

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في هذه القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثانيالأصل توافق القراءات في المعنى

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثالثاختلاف القراءات في ألفاظ القرآن الكريم يكثر المعاني في الآية الواحدة

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الرابعتأتي القراءة في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الخامسالتفسير الموافق لرسم المصحف مقدم على غيره من التفاسير

- ‌صورة القاعدة:

- ‌بيان ألفاظ القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌الفصل الخامسقواعد الترجيح المتعلقة بالسياق القرآني

- ‌المبحث الأولالقول الذي يدل عليه السياق أولى من غيرهمالم توجد حجة يجب إعمالها

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثانيالقول المبني على مراعاة النظم وظاهر ترتيب الكلام أولى من غيره

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثالثلكل آية مقامها الذي يجري عليه استعمال كلماتهافلا تعارض بين الآيات

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌موقف العلماء من القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌الفصل السادسقواعد الترجيح المتعلقة بالمفردة القرآنية

- ‌المبحث الأولإعمال الأغلب في القرآن وتقديم المفهوم الجاري في استعماله أولى

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثانيزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثالثإذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌الفصل السابعتقويم منهج ابن عاشور في الترجيح

- ‌المبحث الأولمعالم منهج ابن عاشور في الترجيح ومميزاته

- ‌المطلب الأولصيغ الترجيح عند ابن عاشور

- ‌المطلب الثانيمنهج ابن عاشور في استعمال وجوه الترجيح

- ‌المطلب الثالثمميزات الترجيح عند ابن عاشور

- ‌المبحث الثانيالمآخذ على منهج ابن عاشور في الترجيح

- ‌المبحث الثالثأثر عقيدة ابن عاشور في صياغة القواعد والترجيح بها

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

بعد غزوة هوازن. وهذا هو ظاهر الآية والأصل عدم النسخ وهذا رأي جمهور أئمة الفقه وأهل النظر" (1).

‌أقوال العلماء في هذه القاعدة:

اعتمد كثير من العلماء الترجيح بهذه القاعدة، منهم الطبري، فقد قال في تفسيره:

" الآية إذا اختلف في حكمها منسوخ هو أم غير منسوخ غير جائز القضاء عليه بأنه منسوخ مع اختلاف المختلفين فيه، ولوجوب حكمها ونفي النسخ عنه وجه صحيح إلا بحجة يجب التسليم لها لما قد بينا في غير موضع من كتبنا الدلالة على صحة القول بذلك "(2).

ومنهم أبو جعفر النحاس فقد استعمل هذه القاعدة كثيراً، حيث قال في موضع:" إذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ "(3).

كما نصّّّّّّّ الأصوليون على هذه القاعدة، وقرروا أن الأمر إذا دار بين نسخ الحكم وبقائه حمل على بقائه دون نسخه إلا لدليل راجح (4).

‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

1 -

مثال الوصية:

قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا

(1) التحرير والتنوير، ج 12، ص 80.

(2)

جامع البيان / الطبري، ج 5، ص 56.

(3)

الناسخ والمنسوخ / النحاس، 3، ص 12.

(4)

انظر شرح الكوكب المنير / الفتوحي، ج 1، ص 298، 299.

ص: 348

الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (1).

اختلف المفسرون في هذه الآية من حيث النسخ والإحكام، فذهب جمهور أهل العلم إلى أن الآية منسوخة، واختلفوا في ناسخها؛ فذهب معظمهم إلى أن ناسخها آيات المواريث وقالوا: إن كتب بمعنى فرض، ولذلك فالوصية للوالدين والأقربين واجبة، ثم نسخ ذلك بآيات المواريث، ومنها قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (2)، ومنهم من قال: إن ناسخها هو السنة، ومنهم من قال: إن الناسخ لها هو الإجماع، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكية وجماعة من أهل العلم منهم ابن عاشور.

وذهب الفريق الآخر إلى أن الآيات محكمة (3).

ورجّح ابن عاشور أن الآية منسوخة حيث يرى نسخ وجوب الوصية في هذه الآية بآية الفرائض، حيث يقول ابن عاشور في معرض تفسيره لهذه الآية:"وبالفرائض نسخ وجوب الوصية الذي اقتضته هذه الآية، وبقيت الوصية مندوبة بناء على أن الوجوب إذا نسخ بقي الندب وإلى هذا ذهب جمهور أهل النظر من العلماء: الحسن وقتادة والنخعي والشعبي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وجابر بن زيد"(4).

(1) سورة البقرة، الآية (180).

(2)

سورة النساء، الآية (11).

(3)

انظر قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ / الكرمي ، ج 1 ، ص 59 ، وفتح المنان في نسخ القرآن / علي حسن العريض، ص 270.

(4)

التحرير والتنوير، ج 2، ص 149.

ص: 349

وعلى ضوء القاعدة السابقة قد يتبادر إلى الذهن ابتداء أن ابن عاشور قد خالف القاعدة السابقة في حكمه على الآية بالنسخ، وهو قد نص على أن الأصل عدم النسخ مالم يرد دليل صحيح صريح على خلاف ذلك، لا سيما وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أنها محكمة ولكن الأمر ليس كذلك؛ فقد ساق ابن عاشور بعد أن ذكر أن الآية منسوخة الأدلة التي يراها ناسخة، منها قوله: " ففي البخاري في تفسير سورة النساء عن جابر بن عبد الله قال: عادني النبي وأبو بكر في بني سَلِمَة ماشِيْين فوجدني النبي لا أعقل فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليَّ فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أَصنع في مالي يا رسول الله فنزلت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (1) الآية اهـ (2).

وممن وافق ابن عاشور في اختياره فيمن سبقه من المفسرين ابن عطية، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي (3).

ورجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة، وكذلك الرازي (4) ، ولم يتطرق القاسمي، ولا الشنقيطي لهذا الخلاف ولا بإشارة.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب يوصيكم الله في أولادكم، ج 4، ص 1669، ح-4301.

(2)

التحرير والتنوير، ج 2، ص 149.

(3)

انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 248، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 266، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 21، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 168، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 178، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 451.

(4)

انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 146، والتفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 234.

ص: 350

حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن الآية منسوخة:

استدلوا على القول بالنسخ بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (1)، وقوله:{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (2) حيث قالوا بأنها صارت منسوخة بإعطاء الله تعالى أهل المواريث كل ذي حق حقه.

وقال بعض أهل العلم: إن الناسخ لهذه الآية هي السنة المتواترة (3).

وإلى هذا القول ذهب ابن عاشور حيث رجح كونها منسوخة ، وساق الأدلة كما تقدم.

ومن الأدلة التي ساقها على ذلك أيضاً. ما أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل الأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع "(4).

(1) سورة النساء، الآية (11).

(2)

سورة النساء، الآية (11).

(3)

انظر قلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ / الكرمي، ج 1، ص 59.

(4)

أخرجه البخاري كتاب التفسير ، باب " ولكم نصف ما ترك أزواجكم " ، ج 4، ص 1670، ح- 4302، وكتاب الوصايا، باب"لا وصية لوارث" ، ج 3 ،ص 1008، ح- 2596 وكتاب الفرائض ،باب"ميراث الزوج مع الولد وغيره" ، ج 6 ، ص 2478 ، ح- 6358، قال الحافظ: هو موقوف لفظاً إلا أنه في تفسيره إخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن فيكون في حكم المرفوع بهذا التقرير " اهـ الفتح، ج 5، ص 372.

ص: 351

وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث "(1)(2).

قال ابن جزي: " الوصية للوالدين والأقربين كانت فرضا قبل الميراث ثم نسخها آية الميراث مع قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا وصية لوارث "، وبقيت الوصية مندوبة لمن لا يرث من الأقربين وقيل معناها: الوصية بتوريث الوالدين والأقربين على حسب الفرائض فلا تعارض بينها وبين المواريث ولا نسخ والأول أشهر"(3).

قال النحاس: " فمن قال إن القرآن يجوز أن ينسخ بالسنة قال نسخها " لا وصية لوارث" ومن قال من الفقهاء لا يجوز أن ينسخ القرآن إلا قرآن

(1) أخرجه الترمذي، كتاب الوصايا، باب إبطال الوصية لوارث، ج 4، ص 343، ح- 2121 والنسائي، كتاب الوصايا، باب إبطال الوصية للوارث ، ج 4، ص 107، ح- 6486، كلهم من حديث عمرو بن خارجة رضي الله عنه، وأخرجه ابن ماجة، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث ج 2، ص 906، ح- 2764، وقال الألباني: صحيح ، قال الحافظ ابن حجر:" قوله: " لا وصية لوارث " هذه الترجمة لفظ حديث مرفوع كأنه لم يثبت على شرط البخاري فترجم به كعادته واستغنى بما يعطي حكمه " الفتح / ابن حجر، ج 5، ص 372. وقد ذهب الشافعي في الأم إلى أن هذا المتن متواتر فقال:"وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: " لا وصية لوارث" ويؤثرون عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم فكان نقل كافة عن كافة فهو أقوى من نقل واحد " الأم / الشافعي، ج 4، ص 108.

(2)

انظر التحرير والتنوير، ةج 2، ص 150.

(3)

التسهيل لعلوم التنزيل، ج 1، ص 71.

ص: 352

قال: نسختها الفرائض" (1).

والذين قالوا: إنها صارت منسوخة بالإجماع قالوا: أجمع علماء المسلمين على أنه لا تجوز وصية لوارث (2).

قال الحافظ ابن حجر: " واختلف في تعيين ناسخ آية "الوصية للوالدين والأقربين " فقيل: آية الفرائض، وقيل الحديث المذكور، وقيل دل الإجماع على ذلك وإن لم يتعين دليله "(3).

حجة القائلين بأن الآيات محكمة:

رجّح لطبري في تفسيره أن هذه الآية محكمة فقال: " وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} ما قال الزهري لأن قليل المال وكثيره يقع عليه خير، ولم يحد الله ذلك بحد، ولا خص منه شيئا فيجوز أن يحال ظاهر إلى باطن، فكل من حضرته منيته وعنده مال قل ذلك أو كثر، فواجب عليه أن يوصى منه لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثونه بمعروف كما قال الله جل ذكره وأمر به "(4).

(1) الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 88.

(2)

انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 54.

(3)

فتح الباري / ابن حجر، ج 5، ص 439.

(4)

جامع البيان / الطبري، ج 2، 146.

ص: 353

وذكر الرازي في تفسيره أن هذا من اختيار أبي مسلم الأصفهاني، وتقرير قوله من وجوه:

1 -

أنه لا يوجد تعارض أو اختلاف بين آية الوصية وآية المواريث بل آية الوصية مقررة لها والمعنى: كتب ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين في قوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم" إذ كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى الله به لهم عليه.

2 -

لا منافاة بين ثبوت الوصية للأقرباء وثبوت الميراث فالوصية عطية من حضره الموت، والميراث عطية الله سبحانه ، فالوارث جمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين.

3 -

يمكن جعل آية الميراث مخصصة آية الوصية؛ لأن هذه الآية تفهم بعمومها أن الوصية واجبة لكل قريب، وآية المواريث أخرجت القريب الوارث فبقيت آية الوصية مراداً بها القريب الذي لا يرث إما لمانع من الإرث، وإما لأنه محجوب بأقرب منه، وإما لأنه من ذوي الأرحام.

4 -

وقال بعضهم لا منافاة بين هذه الآية وآية المواريث، ومعناها كُتب عليكم تنفيذ ما أوصى الله تعالى به من توريث الوالدين والأقربين، بحيث لا يُنقص من حصصهم شيء.

وقال بعضهم: إن الواجب ألا يقال إنها منسوخة، لأن حكمها ليس بناف حكم ما فرض الله من الفرائض ،فوجب أن يكون حكم "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا

ص: 354

حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ" كحكم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1)(2).

وقال محمد عبده: لا دليل على أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا، كما أن السياق ينافي النسخ فإن الله إذا شرع للناس حكماً وعلم أنه مؤقت وأنه سينسخه بعد زمن قريب، فإنه لا يؤكده ويوثقه بمثل ما أكد به أمر الوصية هنا، من كونه حقاً على المتقين، ومن وعيد من بدله (3).

ومن خلال ما تقدم، يظهر لنا أن ما ذهب إليه أكثر المفسرين كالطبري والرازي ومن قال بقولهما: إن الآية محكمة ، إنما هو بناء على القاعدة التي تقضي بأن الحكم إذا دار بين النسخ والأحكام، فالقول بالأحكام مقدم، لأنه الأصل ولا ننتقل عنه إلا بدليل صحيح صريح.

القول الراجح:

إن الآية محكمة وليست منسوخة كما قررّ ابن عاشور ، وقد ردّ الرازي على القائلين بالنسخ ، ووجَّه أقوالهم بقوله:

1 -

قولهم إنها صارت منسوخة بإعطاء الله تعالى أهل المواريث كل ذي حق حقه قول بعيد؛ لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث وجوب قدر آخر بالوصية وأكثر ما يوجبه ذلك التخصيص لا النسخ.

(1) سورة البقرة، الآية (183).

(2)

انظر التفسير الكبير / الرازي ج 2، ص 233.

(3)

انظر مختصر تفسير المنار /محمد رشيد رضا، ص 136.

ص: 355

2 -

قولهم إنها صارت منسوخة بقوله عليه السلام: " ألا لا وصية لوارث "(1) لا يستقيم حيث هذا خبر واحد ولا يجوز نسخ القرآن به.

قال الزرقاني في مناهل العرفان: "وقد تقرر أن الحق عدم جواز نسخ القرآن بخبر الآحاد "(2) .. وأجيب: بأن هذا الخبر ، وإن كان خبر واحد إلا أن الأئمة تلقته بالقبول فالتحق بالمتواتر.

ومما تقدم يظهر لي أن الخلاف بين العلماء في هذه الآية خلاف لفظي لا حقيقي، حيث إن مآل القولين واحد، فمن قال بأنها محكمة فذلك بناءا على رأيه بأن الوصية في هذه الآية أريد بها غير الوارثين، ومن قال بأنها منسوخة يرى أنها نسخت الوصية للوارثين وبقيت الوصية لغير الوارثين أي نسخا جزئيا.

وفيما يتعلق بالقاعدة فإن من قال بالإحكام من المفسرين نظر إلى أن الأصل عدم النسخ، ومن قال بالنسخ فإنه نظر إلى الأدلة.

ولذلك لا داعي لمثل هذا الاختلاف بين العلماء حيث لا تعارض بين الآيتين. والله أعلم.

يقول السعدي: " إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث بعد أن كان مجملا ، وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو

(1) تقدم تخريجه.

(2)

انظر مناهل العرفان / الزرقاني، ج 2، 174.

ص: 356

وصف فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره وهذا القول تتفق عليه الأمة ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين لأن كلا من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا واختلف المورد فبهذا الجمع يحصل الاتفاق والجمع بين الآيات لأنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ الذي لم يدل عليه دليل صحيح " (1)

وقال الشنقيطي: " لا دليل على بطلان قول من قال إن الوصية للوالدين والأقربين منسوخة بحديث " لا وصية لوارث " والعلم عند الله تعالى"(2).

2 -

مثال الإنفاق:

قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (3).

اختلف المفسرون في هذه الآية، فذهب معظمهم إلى أنها منسوخة بآية الزكاة، وذهب آخرون إلى إنها محكمة (4)، ورجّح ابن عاشور هذا القول الأخير بناءً على القاعدة الترجيحية فقال: " فليست هاته الآية بمنسوخة بآية الزكاة إذ لا تعارض بينهما حتى نحتاج للنسخ ، وليس في لفظ هاته الآية ما يدل على

(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي ج 1، ص 85.

(2)

أضواء البيان / الشنقيطي، ج 2، ص 345.

(3)

سورة البقرة، الآية (215).

(4)

انظر زاد المسير / ابن الجوزي، ج 1، ص 180.

ص: 357

الوجوب حتى يظن أنها نزلت في صدقة واجبة قبل فرض الزكاة " (1).

واتفق ترجيح ابن عاشور مع الطبري حيث رجّح أن الآية محكمة بناءً على القاعدة وفي ذلك يقول: " ولا دلالة في الآية على صحة ما قال (2)، لأنه ممكن أن يكون قوله:{قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}

الآية، حثًا من الله جل ثناؤه على الإنفاق على من كانت نفقته غيرَ واجبة من الآباء والأمهات والأقرباء، ومن سمي معهم في هذه الآية، وتعريفًا من الله عباده مواضع الفضل التي تصرف فيها النفقات " (3). وكذلك رجّح كل من ابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان هذا القول، وفسّرها ابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي في التطوع ، ولم يتعرضوا للخلاف في نسخها وإحكامها (4).

حجة القائلين بأن الآيات منسوخة بآية الزكاة:

قال ابن الجوزي: " روى السدي عن أشياخه أنه يوم نزلت هذه لم تكن

(1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 318.

(2)

يعني السدي قال: " نزلت هذه الآية قبل فرض الزكاة ثم نسختها الزكاة المفروضة " انظر قوله في جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 414.

(3)

جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 414.

(4)

انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 289، والتفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 383، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 3، ص 41، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 150، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، 2، ص 283، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 216، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 501، ومحاسن التأويل/ القاسمي، ج 2، ص 138،

ص: 358

زكاة ، وإنما في نفقة الرجل على أهله والصدقة يتصدقون بها فنسختها الزكاة " (1).

واستدلوا كذلك بما روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " نسخت هذه بآية الصدقات في براءة ، وروى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نسخ منه الصدقة على الوالدين وصارت الصدقة لغيرهم الذين لا يرثون من الفقراء والمساكين والأقربين "(2).

وقال المقري: " كان هذا قبل أن يفرض الله الزكاة فلما فرضت الزكاة نسخ الله بها كل صدقة في القرآن (3) فقال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (4).

حجة القائلين بأن الآيات محكمة:

روى ابن جريج أنه سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين يضعون أموالهم، فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ

(1) أخرج رواية السدي الطبري في تفسيره، ج 2، ص 413.

(2)

لم أقف على هاتين الروايتين، وذكرهما ابن الجوزي في نواسخ القرآن، ج 1، ص 97.

(3)

الناسخ والمنسوخ / هبة الله بن سلامه المقري، ج 1، ص 46.

(4)

سورة التوبة، الآية (60).

ص: 359

فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} 5 فذلك النفقة في التطوع. والزكاة سوى ذلك (1).

وجاء في رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمر بصدقة، فجاء رجل فقال: عندي دينار قال: أنفقه على نفسك قال: عندي آخر قال: أنفقه على زوجتك. قال: عندي آخر. قال: أنفقه على ولدك قال: عندي آخر قال: أنفقه على خادمك قال: عندي آخر قال: أنت أبصر "(2).

قال ابن عاشور: " والآية دالة على الأمر بالإنفاق على هؤلاء والترغيب فيه، وهي في النفقة التي ليست من حق المال أعني الزكاة، ولا هي من حق الذات من حيث إنها ذات كالزوجة، بل هذه النفقة التي هي من حق المسلمين بعضهم على بعض لكفاية الحاجة وللتوسعة وأولى المسلمين بأن يقوم بها أشدهم قرابة بالمعوزين منهم، فمنها واجبة كنفقة الأبوين الفقيرين والأولاد الصغار الذين لا مال لهم إلى أن يقدروا على التكسب أو ينتقل حق الإنفاق إلى غير الأبوين "(3).

القول الراجح:

الراجح أن الآية محكمة، قال ابن الجوزي: " والتحقيق أن الآية عامة في الفرض والتطوع فحكمها ثابت غير منسوخ لأن ما يجب من النفقة على الوالدين والأقربين إذا كانوا فقراء لم ينسخ بالزكاة، وما يتطوع به لم ينسخ

(1) أخرجه الطبري في تفسيره، ج 2، ص 414.

(2)

أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب عشرة النساء، باب إيجاب نفقة المرأة وكسوتها، ج 5، ص 375، ح- 9181، والبيهقي في الكبرى، كتاب النكاح، باب وجوب النفقة على الزوجة، ج 7، ص 466، ح- 15469.

(3)

التحرير والتنوير، ج 2، ص 318.

ص: 360

بالزكاة، وقد قامت الدلالة على أن الزكاة لا تصرف إلى الوالدين والولد، وهذه الآية بالتطوع أشبه لأن ظاهرها أنهم طلبوا بيان الفضل في إخراج الفضل فبينت لهم وجود الفضل " (1).

وهذا هو الذي قرّره ابن عاشور وغيره من المفسرين، لأن الأصل الإحكام. والنسخ دعوى، ولا تثبت إلا بدليل؛ وصدقة التطوع في الأقربين أفضل منها في غيرهم، يدل عليه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" تصدقن ولو من حليكن وكانت زينب تنفق على عبد الله وأيتام في حجرها قال: فقالت لعبد الله: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيجزي عني أن أنفق عليك وعلى أيتامي في حجري من الصدقة؟ فقال: سلي أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت امرأة من الأنصار على الباب حاجتها مثل حاجتي فمر علينا بلال فقلنا: سل النبي صلى الله عليه وسلم أيجزي عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري وقلنا: لا تخبر بنا فدخل فسأله فقال: من هما؟ قال: زينب. قال: أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله.، قال: نعم لها أجران: أجر القرابة ، وأجر الصدقة "(2)

وروى النسائي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك "(3).

وأما من ادعى النسخ في الآية بآيات المواريث فقد تولى الرد عليها الرازي

(1) نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 79.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، ج 2، ص 533، ح- 1397.

(3)

أخرجه النسائي في سننه، باب أيتهما اليد العليا، ج 5، ص 61، ح- 2532.

ص: 361

بقوله: " هذا ضعيف؛ لأنه يحتمل حمل الآية على وجوه لا يتطرق النسخ إليها:

أحدها: قال أبو مسلم: الإنفاق على الوالدين واجب عند قصورهما عن الكسب والملك ،وإذا حملنا الآية على هذا الوجه فقول من قال إنها منسوخة بآية المواريث لا وجه له، لأن هذه النفقة تلزم في حال الحياة، والميراث يصل بعد الموت، وأيضا فما يصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقة.

وثانيها: أن يكون المراد من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة فالأولى له أن ينفقه في هذه الجهات ، فيقدم الأولى فالأولى فيكون المراد به التطوع.

وثالثها: أن يكون المراد الوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية وفيما يتصل باليتامى والمساكين مما يكون زكاة.

ورابعها: يحتمل أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثاً على صلة الرحم وفيما يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة ، فظاهر الآية محتمل لكل هذه الوجوه من غير نسخ " (1).

وأما دعوى النسخ كما يقول السدي: أنها يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة، وإنما هي النفقة ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدق بها، فنسختها الزكاة.

فالجواب عليه: أن يقال لأصحاب هذا القول هل الوالدان والأقربون من مستحقي الزكاة حتى تنسخ الزكاة الإنفاق عليهم، وهل كانت الصدقة على

(1) التفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 383.

ص: 362

اليتامى والمساكين وابن السبيل واجبة حتى فرضت الزكاة فاعتبرت بديلاً لها؟ .

فالآية تقول: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} ثم تقول: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} . وإيراد هاتين الجملتين الشرطيتين يوحي بأن الإنفاق الذي في الآية ليس مفروضاً، كما يوحي بهذا إيراده في الآية جواباً عن سؤالهم؛ إذ لو كان مفروضاً لما أخر بيانه حتى يسألوا عنه!

ومن البدهي أنه ليس كل والدين يجب الإنفاق عليهما، وأن الأقربين في هذا كالوالدين، فإنما يجب الإنفاق على الفقير العاجز عن الكسب من هؤلاء جميعاً، وبشرط أن يكون هو مستغنيا قادراً على الإنفاق عليهم.

إذاً لا صلة للآية إذاً بآية الزكاة، وما ينبغي بحال أن تعتبر منسوخة بهذه الآية، وإلا فهل نستطيع القول بأن الإنفاق على الوالدين المحتاجين والأقربين المحتاجين لم يعد واجباً بعد فرض الزكاة؟ وهل منعت الزكاة الإنفاق تطوعاً، وهو الصدقة (1).

3 -

مثال الحُكم بين اليهود:

قال تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} (2).

(1) انظر نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 97، والنسخ في القرآن / مصطفى زيد، ج 2، ص 175.

(2)

سورة المائدة، الآية (42).

ص: 363

اختلف العلماء في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة؛ أي في التخيير بين الحكم بين اليهود أو الإعراض عنهم، وذكر ابن عاشور هذا الخلاف في تفسيره فقال: " فمن العلماء من قال: حكم هذا التخيير مُحْكم غير منسوخ، وقالوا: الآية نزلت في قصّة الرجم (الّتي رواها مالك في الموطأ، والبخاري ومن بعده) وذلك أنّ يهودياً زنى بامرأة يهوديّة، فقال جميعهم: لنسأل محمّداً عن ذلك. فتحاكموا إليه، فخيّره الله تعالى ، واختلف أصحاب هذا القول فقال فريق منهم: كان اليهود بالمدينة يومئذٍ أهل موادعة ولم يكونوا أهل ذمّة، فالتّخيير باق مع أمثالهم ممّن ليس داخلاً تحت ذمّة الإسلام، بخلاف الّذين دخلوا في ذمّة الإسلام، فهؤلاء إذا تحاكموا إلى المسلمين وجب الحكم بينهم ، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى بن دينار، لأنّ اليهوديين كانا من أهل خيبر أو فَدَك وهما يومئذٍ من دار الحرب في موادعة.

وقال الجمهور: هذا التخيير عام في أهل الذمّة أيضاً. وهذا قول مالك ورواية عن الشافعي. قال مالك: الأعراض أولى. وقيل: لا يحكم بينهم في الحدود، وهذا أحد قولي الشافعي. وقيل: التّخيير منسوخ بقوله تعالى بعد: : {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (1)، وهو قول أبي حنيفة، وقاله ابن عبّاس، ومجاهد، وعكرمة، والسديّ، وعمر بن عبد العزيز، والنخَعي، وعطاء، الخراساني " (2).

(1) سورة المائدة، الآية (49).

(2)

التحرير والتنوير، ج 4، ص 204.

ص: 364

ورجّح ابن عاشور كون هذه الآيات محكمة، واستبعد القول بالنسخ وفي ذلك يقول:" ويبعده أن سياق الآيات يقتضي أنها نزلت في نسق واحد، فيبعد أن يكون أولها نسخاً لآخرها "(1).

وقد وافق قول ابن عاشور قول من سبقه من المفسرين منهم الطبري، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، والألوسي، والقاسمي (2).

في حين ذهب ابن كثير، والشوكاني إلى أن الآية منسوخة (3)

حجة القائلين بأن الآية محكمة:

حجتهم في ذلك أنه لا تعارض بين الآيتين، وأنه يمكن الجمع بينهما.

فإن قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (4) فيه التخيير ، وقوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فيه كيفية الحكم (5).

قال الطبري: " وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: إن حكم هذه الآية ثابتٌ لم ينسخ، وأن للحكَّام من الخِيار في الحكم بين أهل العهد

(1) التحرير والتنوير، ج 4، ص 204.

(2)

انظر جامع البيان / الطبري، ج 6، ص 295، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2 ص 194، والتفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 361، والجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 6، ص 181، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 502، وروح المعاني / الألوسي، ج 3، ص 310، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 146.

(3)

انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 5، ص 226، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 42.

(4)

سورة المائدة، الآية (42).

(5)

انظر زاد المسير / ابن الجوزي، ج 1، ص 550، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 146.

ص: 365

إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا، وتركِ الحكم بينهم والنظر، مثلُ الذي جعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك في هذه الآية " (1).

وساق الرازي قول الشافعي، وفيه تفصيل: أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه، لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغاراً لهم، فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يتخير في ذلك، وهذا التخيير الذي في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين (2).

حجة القائلين بأن الآية منسوخة:

مدَّعو النسخ هنا بنوه على أن الآية إنما أنزلت أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، واليهود فيها يومئذ كثير فكان الأرعى لهم والأصلح أن يُردوا إلى حكامهم فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (3)(4).

كما استدل أصحاب هذا القول بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: " نسخ من هذه السورة آيتان: آية القلائد ، وقوله: " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ردهم إلى حكامهم حتى نزلت {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل الله "(5).

(1) جامع البيان / الطبري، ج 6، ص 295.

(2)

انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 361.

(3)

سورة المائدة، الآية (49).

(4)

انظر الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 397.

(5)

أخرجه النسائي في السنن الكبرى، باب مواريث المجوس، ج 1، ص 80، ح- 6369.

ص: 366

وفي ذلك يقول النحاس مرجحاً هذا القول: " فثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة مع ما صح فيها من توقيف ابن عباس ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة؛ لأنهم قد أجمعوا جميعا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلي فله أن ينظر بينهم وأنه إذا نظر بينهم مصيب ثم اختلفوا في الإعراض عنهم على ما ذكرنا فالواجب أن ينظر بينهم لأنه مصيب عند الجماعة وألا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركا فرضا فاعلا ما لا يحل له ولا يسعه "(1).

القول الراجح:

إن الآيات محكمة وليست منسوخة ، والرسول صلى الله عليه وسلم مخير في الحكم بينهم أو الإعراض ، فإن اختار الحكم فليكن هذا الحكم بما أنزل الله. وهذا القول هو الذي رجحه ابن عاشور بناءً على قاعدة المبحث بأن الأصل عدم النسخ مالم يرد دليل صحيح صريح على خلاف ذلك.

وما استدل به القائلون بالنسخ من أن الآية نزلت أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، لا دليل عليه.

" ولعله ليس بعيداً ولا خفياً أن الرجم لم يشرع في الإسلام إلا بعد الهجرة بسنوات، فقد فرضت سورة النساء على الزواني ، والزناة عقوبة غيره، ثم شرع الحد وهو الجلد بعد ذلك بآية سورة النور، وشرعت السنة مع الجلد لغير المحصنين والمحصنات الرجم للمحصن والمحصنة، فكيف يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 397.

ص: 367

بالرجم على الشريف اليهودي قبل أن يشرع الرجم في الإسلام؟ وهل يتصور هذا منه وقد أمر بأن يحكم بينهم حين يحكم بشريعته هو ما داموا قد اختصموا إليه؟ من أجل هذا نرفض زعم مدعي النسخ: أن الآية المدعى عليها النسخ نزلت أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة " (1).

وقال الطبري: " وإنما قلنا ذلك أولاهما بالصواب، لأن القائلين إن حكم هذه الآية منسوخ، زَعموا أنه نسخ بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقد دللنا في كتابنا: " كتاب البيان عن أصول الأحكام ": أن النسخ لا يكون نسخًا، إلا ما كان نفيًا لحكمٍ غَيْرِه بكلِّ معانيه، حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعًا على صِحّته بوجه من الوجوه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإذْ كان ذلك كذلك وكان غير مستحيل في الكلام أن يقال:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، ومعناه: وأن أحكم بينهم بما أنزل الله إذا حكمت بينهم، باختيارك الحكم بينهم، إذا اخترت ذلك، ولم تختر الإعراض عنهم، إذ كان قد تقدَّم إعلام المقول له ذلك من قائِله: إنّ له الخيار في الحكم وترك الحكم كان معلومًا بذلك أن لا دلالة في قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، أنه ناسخٌ قوله:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} لما وصفنا من احتمال ذلك ما بَيَّنَّا، بل هو دليل على مثل الذي دلَّ

(1) النسخ في القرآن الكريم /مصطفى زيد، ج 2، ص 239.

ص: 368

عليه قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} (1) وإذْ لم يكن في ظاهر التنزيل دليلٌ على نسخ إحدى الآيتين الأخرى، ولا نفي أحد الأمرين حكم الآخر، ولم يكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ يصحُّ بأن أحدهما ناسخ صاحبَه، ولا من المسلمين على ذلك إجماعٌ، صحَّ ما قلنا من أن كلا الأمرين يؤيِّد أحدهما صاحبه، ويوافق حكمُه حكمَه، ولا نسخ في أحدهما للآخر (2).

كما رجّح الزرقاني أن الآية محكمة فقال: " إن الآية الثانية متممة للأولى فالرسول مخير بمقتضى الآية الأولى بين أن يحكم بينهم وأن يعرض عنهم، وإذا اختار أن يحكم بينهم وجب أن يحكم بما أنزل الله بمقتضى الآية الثانية وهذا ما نرجحه لأن النسخ لا يصح إلا حيث تعذر الجمع "(3).

وقال الدكتور مصطفى زيد مرجحاً هذا القول بقوله: " وإذا ما نظرنا في المراد بالآيتين المدعى نسخ إحداهما هنا للأخرى لم نجد بينهما من التعارض ما يسوغ النسخ على الإطلاق؛ ذلك أن أولاهما وهي المدعى عليها النسخ تخير النبي صلى الله عليه وسلم بين الحكم في خصومهم والإعراض عنهم، والثانية وهي المدعى أنها ناسخة تأمره بأن يحكم بينهم بما أنزل الله، وتنهاه عن أن يتبع أهواءهم. .. فالآيتان إذاً لا تعارض بينهما؛ فإن تخيير النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يحكم في الخصومة التي رفعوها إليه، وأن يعرض عنها فلا يحكم فيها لا ينافيه أن يؤمر

(1) سورة المائدة، الآية (42).

(2)

جامع البيان / الطبري، ج 6، ص 295.

(3)

مناهل العرفان / الزرقاني، ج 2، ص 207.

ص: 369

بالحكم بما أنزل الله، إن هو آثر أن يحكم بل يبينه ويحققه " (1).

4 -

مثال المن والفداء:

قال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)} (2).

اختلف المفسرون في قوله: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} فمنهم من ذهب إلى أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (3)، وقوله {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (4)، ومنهم من ذهب إلى أنها ناسخة لقوله تعالى: " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ

(1) النسخ في القرآن الكريم / مصطفى زيد، ج 2، ص 240.

(2)

سورة محمد، الآية (4).

(3)

سورة التوبة، الآية (5).

(4)

سورة الأنفال، الآية (57).

ص: 370

وَجَدْتُمُوهُمْ} (1). وقال آخرون بل الآية محكمة وليست منسوخة، وكذا آية القتل محكمة، أي: للإمام المن أو الفداء أو القتل أو الاسترقاق، على ما يراه هو الأصلح، ومنهم من ذهب إلى أنها ثابتة الحكم وأن مخير في من أسره (2).

وقد ساق ابن عاشور هذا الخلاف في تفسيره فقال: " اختلف العلماء في حكم هذه الآية في القتل والمن والفداء والذي ذهب إليه مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وهو أحدُ قولين عن أبي حنيفة رواه الطحاوي، ومِن السلف عبدُ الله بن عمر، وعطاءُ، وسعيدُ بن جبير: أن هذه الآية غير منسوخة، وأنها تقتضي التخيير في أسرى المشركين بين القتل أو المن أو الفداء، وأمير الجيش مخيّر في ذلك.

وذهب فريق من أهل العلم إلى أن هذه الآية منسوخة، وأنه لا يجوز في الأسير المشرك إلا القتل بقوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك والسدّي وابن جريج، ورواه العَوفي عن ابن عباس وهو المشهور عن أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد من أصحاب أبي حنيفة: لا بأس أن يُفادى أسرى المشركين الذين لم يسلموا بأسرى المسلمين الذين بيد المشركين. وروى الجصّاص أن النبي صلى الله عليه وسلم فدى أسيرين من المسلمين بأسير من المشركين في ثقيف ".

ورجّح ابن عاشور أن الآية محكمة فقال: "وهذا أولى من جعلها ناسخة

(1) سورة التوبة، الآية (5).

(2)

انظر النسخ في القرآن الكريم / مصطفى زيد، ج 2، ص 85 - 86.

ص: 371

لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} لما علمت من أن مورد تلك هو تعيين أوقات المتاركة، وأوقات المحاربة، فلذلك لم يقل هؤلاء بحَظْر قتل الأسير في حين أن التخيير هنا وارد بين المنّ والفداء، ولم يذكر معهما القتل " (1).

واستند ابن عاشور في كون هذه الآية محكمة إلى القاعدة الترجيحية (الأصل عدم النسخ) فقال -: " وقوله (بعْدُ) أي بعد الإثخان، وهذا تقييد لإباحة المنّ والفداء. وذلك موكول إلى نظر أمير الجيش بحسب ما يراه من المصلحة في أحد الأمرين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة هوازن، وهذا هو ظاهر الآية والأصل عدم النسخ، وهذا رأي جمهور أئمة الفقه وأهل النظر "(2).

واتفق ترجيح ابن عاشور على أن الآية محكمة مع جميع المفسرين الذين اعتمدتهم في هذا البحث (3).

حجة القائلين بأن الآية منسوخة:

استدلوا بما روي عن عبد الكريم الجزري، قال: كُتب إلى أبي بكر رضي الله عنه في

(1) التحرير والتنوير، ج 12، ص 80 - 81.

(2)

التحرير والتنوير، ج 12، ص 80.

(3)

انظر جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 51، والمحرر الوجيز/ ابن عطية، ج 5، ص 110، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 16، ص 220، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 74، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 59، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 30، وروح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 196، ومحاسن التأويل/ القاسمي، ج 8، ص 364، وأضواء البيان/ الشنقيطي، ص 1583.

ص: 372

أسير أُسر، فذكر أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا، فقال أبو بكر: اقتلوه، لقتل رجل من المشركين، أحب إلي من كذا وكذا.

وكذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}

إلى آخر الآية، قال: الفداء منسوخ، نسختها:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} قال: فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا حرمة بعد براءة، وانسلاخ الأشهر الحرم " (1).

وذكر ابن عاشور في تفسيره لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} من سورة التوبة أن هذه الآية نسخت آيات الموادعة والمعاهدة، وأن الآية عمّت جميع المشركين وعمت البقاع إلا ما خصصته الأدلة من الكتاب والسنة " (2)، ثم عند تفسيره لهذه الآية اختار عدم النسخ لأنه لا يوجد دليل على القول بنسخها.

حجة القائلين بأن الآية محكمة:

استدلوا على ذلك بعمل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته.

روي عن الحسن أنه قال: " أتى الحجاج بأسارى، فدفع إلى ابن عمر رجلا

(1) أخرج تلك الروايتين الطبري في تفسيره، ج 26، ص 50.

(2)

انظر التحرير والتنوير، ج 6، ص 114.

ص: 373

يقتله، فقال ابن عمر: ليس بهذا أُمرنا، قال الله عز وجل:{حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} .

وروي عن معمر، عن الحسن، أنه قال: لا تقتل الأسارى إلا في الحرب يهيب بهم العدوّ ، وعن معمر، قال: كان عمر بن عبد العزيز يفديهم الرجل بالرجل، وكان الحسن يكره أن يفادى بالمال.

وروي عن معمر أيضاً، عن رجل من أهل الشأم ممن كان يحرس عمر بن عبد العزيز، وهو من بني أسد، قال: ما رأيت عمر قتل أسيرا إلا واحدا من الترك كان جيء بأسارى من الترك، فأمر بهم أن يُسترقوا، فقال رجل ممن جاء بهم: يا أمير المومنين، لو كنت رأيت هذا لأحدهم وهو يقتل المسلمين لكثر بكاؤك عليهم، فقال عمر: فدونك فاقتله، فقام إليه فقتله (1).

ومن ذلك المثال يتبين أن مخير بعد أسر الأسير بين القتل والمن أو الفداء وينظر ما وراءه مصلحة.

وفي ذلك يقول الطبري: " وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المنّ والفداء والقتل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة، وإن لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية، لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى، وذلك قوله: : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}

الآية، بل ذلك كذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب،

(1) أخرج تلك الروايات الطبري في تفسيره، ج 26، ص 51.

ص: 374

فيقتل بعضا، ويفادي ببعض، ويمنّ على بعض، مثل يوم بدر قتل عقبة بن أبي مُعَيْطٍ وقد أتي به أسيرا ، وقتل بني قُرَيظة، وقد نزلوا على حكم سعد، وصاروا في يده سلما، وهو على فدائهم، والمنّ عليهم قادر، وفادى بجماعة أسارى المشركين الذين أُسروا ببدر، ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفيّ، وهو أسير في يده، ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب من لدن أذن الله له بحربهم، إلى أن قبضه إليه صلى الله عليه وسلم دائما ذلك فيهم، وإنما ذكر جلّ ثناؤه في هذه الآية المنّ والفداء في الأسارى، فخصّ ذكرهما فيها، لأن الأمر بقتلهما والإذن منه بذلك قد كان تقدم في سائر آي تنزيله مكرّرا، فأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بما ذكر في هذه الآية من المنّ والفداء ما له فيهم مع القتل " (1).

القول الراجح:

إن الآيات محكمة وليست منسوخة، وذلك أنه لا دليل على أن الآية منسوخة بآية السيف، وقد قررّ ابن عاشور هذا فيما تقدم وهذا القول ترجحه القاعدة.

والآية ترسم للمؤمنين منهج الحرب، كيف تكون، وكيف تبدأ وكيف تنتهي، وقد ذكر ابن عاشور ما يدل على أنه ليس هناك مجال للنسخ في هذه الآية، وإنما هي مسألة تنظيمية في كيفية القتال عند المواجهة في الحرب والشد عليهم حتى إذا انتهت الحرب ووقعوا في أيديهم فلهم الخيار (2).

(1) جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 51.

(2)

انظر التحرير والتنوير، ج 12، ص 81.

ص: 375

وقال ابن العربي مؤكداً هذا المعنى: " اعلموا وفقكم الله أن هذه الآية من أمهات الآيات ومحكماتها؛ أمر الله سبحانه فيها بالقتال، وبيّن كيفيته كما بينه في قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (1) حسبما تقدم بيانه في الأنفال؛ فإذا تمكن المسلم من عنق الكافر أجهز عليه، وإذا تمكن من ضرب يده التي يدفع بها عن نفسه ويتناول بها قتال غيره فعل ذلك به؛ فإن لم يتمكن إلا ضرب فرسه التي يتوصل بها إلى مراده فيصير حينئذ راجلاً مثله أو دونه، فإن كان فوقه قصد مساواته، وإن كان مثله قصد حطه، والمطلوب نفسه، والمآل إعلاء كلمة الله تعالى؛ وذلك أن الله سبحانه لما أمر بالقتال أولاً، ، وعلم أن ستبلغ إلى الإثخان والغلبة بيّن سبحانه حكم الغلبة بشد الوثاق، فيتخيّر حينئذ المسلمون بين المن والفداء "(2).

وَأَمَّا قَوْلُهُ: : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فَقَدْ قَالَ: {وَاحْصُرُوهُمْ} (3)، وهذا قوله: " والغاية المستفادة من {حَتَّى} في قوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (4) للتعليل لا للتقييد، أي لأجل أن تضع الحرب أوزارها، أي ليكفّ المشركون عنها فتأمنوا من الحرب عليكم وليست غاية لحكم القتال. والمعنى يستمر هذا الحكم بهذا ليهِن العدوَّ فيتركوا حربكم،

(1) سورة الأنفال، الآية (12).

(2)

أحكام القرآن / ابن العربي، ج 4، ص 97، والناسخ والمنسوخ / ابن العربي، ص 206. .

(3)

سورة التوبة، الآية (5).

(4)

سورة محمد، الآية (4).

ص: 376

فلا مفهوم لهذه الغاية، فالتعليل متصل بقوله:{فَضَرْبَ الرِّقَابِ} وما بينهما اعتراض. والتقدير: فضرب الرقاب، أي لا تتركوا القتل لأجل أن تضع الحرب أوزارها، فيكون وارداً مورد التعليم والموعظة، أي فلا تشتغلوا عند اللقاء لا بقتل الذين كفروا لتضع الحرب أوزارها فإذا غلبتموهم فاشتغلوا بالإبقاء على من تغلبونه بالأسر ليكون المنّ بعد ذلك أو الفداء " (1).

، وقد ذكر ذلك ابن عطية وهذا قوله:" وعلى قول أكثر العلماء الآيتان محكمتان، وقوله هنا: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} بمثابة قوله هناك: : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وصرح هنا بذكر المن والفداء، ولم يصرح به هنالك، وهو مراد متقرر، وهذا هو القول القوي "(2).

وكذلك قال القرطبي: " إذا كان يجوز أن يقع التعبد إذا لقينا الذين كفروا قتلناهم، فإذا كان الأسر جاز القتل والاسترقاق والمفاداة والمن، على ما فيه الصلاح للمسلمين "(3).

5 -

مثال موالاة الكافرين:

قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ

(1) التحرير والتنوير، ج 12، ص 82.

(2)

المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 110.

(3)

الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 16، ص 220.

ص: 377

الْمُقْسِطِينَ} (1).

اختلف المفسرون في هذه الآية، فمنهم من ذهب إلى أنها منسوخة بآية السيف:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (2)، ومنهم من ذهب إلى أنها محكمة (3).

ورجّح ابن عاشور كونها محكمة، وساق قول الطبري في ذلك وهو أنه لا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن بر المؤمن بمن بينه وبينه قرابة من أهل الحرب، أو بمن لا قرابة بينه وبينه غير محرم إذا لم يكن في ذلك دلالة على عورة لأهل الإسلام (4).

وممن وافق قوله قول ابن عاشور في كون الآية محكمة الطبري، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، والقاسمي، والشنقيطي (5).

وذكر الشوكاني، والألوسي مختلف الأقوال الواردة في الآية ولم يرجحا (6).

(1) سورة الممتحنة، الآية (8).

(2)

سورة التوبة، الآية (5).

(3)

انظر الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 711.

(4)

انظر التحرير والتنوير، ج 13، ص 153، وجامع البيان / الطبري، ج 28، ص 77.

(5)

انظر جامع البيان / الطبري، ج 28، ص 77، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 297، والتفسير الكبير/ الرازي، ج 10، ص 521 والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 18، ص 58، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 253، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 101، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1757.

(6)

انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 213، وروح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 270.

ص: 378

وأهمل ابن كثير دعوى النسخ على هذه الآية ولم يشر إليها فدل على أنها محكمة عنده (1).

حجة القائلين بأن الآيات منسوخة بآية القتال:

قال ابن زيد: كان هذا الأمر في أول الإسلام زمن الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ.

وقال قتادة: نسختها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (2).

وقيل: كان هذا الحكم لعلة وهو الصلح، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم وبقي الرسم يتلى.

وقيل: هي مخصوصة في حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن بينه وبينه عهد لم ينقضه؛ ، قاله الحسن.

وقال مجاهد: هي مخصوصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا.

وقيل: يعني به النساء والصبيان لأنهم ممن لا يقاتل؛ فأذن الله في برهم.

وقيل: إنها في ضعفة المؤمنين عن الهجرة حينما كانت الهجرة واجبة، فلم يستطيعوا، وعلى كل هذه الأقوال تكون قد نسخت (3).

حجة القائلين بأن الآيات محكمة:

استدلوا بما رواه عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال في هذه الآية: " نزلت في

(1) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 517.

(2)

سورة التوبة، الآية (5).

(3)

انظر جامع البيان / الطبري، ج 28، ص 77، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 18، ص 58.

ص: 379

أسماء بنت أبي بكر ، وكانت لها أمّ فى الجاهلية يقال لها قتيلة ابنة عبد العُزّى، فأتتها بهدايا وصناب (1) وأقط وسَمْن، فقالت: لا أقبل لك هدية، ولا تدخلي عليّ حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} ....... إلى قوله: ...... {الْمُقْسِطِينَ} (2).

وقال الرازي: " فالأكثرون على أنهم أهل العهد الذين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك القتال، والمظاهرة في العداوة، وهم خزاعة كانوا عاهدوا الرسول على أن لا يقاتلوه ولا يخرجوه، فأمر الرسول عليه السلام بالبر والوفاء إلى مدة أجلهم "(3).

القول الراجح:

هو أن الآيات محكمة وليست منسوخة، كما أقرّ ذلك ابن عاشور وغيره من المفسرين بناءً على القاعدة الترجيحية حيث إنه لا دليل على القول بالنسخ.

وأما التخصيص الذي ذكره بعض المفسرين في كونه خطاباً خاصاً لأهل مكة وغيره من الأقوال لا دليل عليه وقد ردّ ابن جرير على من خصص وقد

(1) قال ابن منظور: " الصناب هو الخردل بالزبيب، وفي الحديث: أتاه أعرابي بأرنب قد شواها، وجاء معها بصنابها أي بصباغها، وهو الخردل المعمول بالزبيب، وهو صباغ ما يؤتدم به "(لسان العرب / ابن منظور، ج 7، ص 415).

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك، باب تفسير سورة الممتحنة، ج 2، ص 527، ح- 3804.

(3)

التفسير الكبير / الرازي، ج 10، 520.

ص: 380

تقدم قوله.

وضعّف الشنقيطي الاستدلال بقصة أم أسماء على كون الآيات محكمة، وذكر أنه لا دلالة في قصة أم أسماء على عدم النسخ ولا على إثباته (1).

ووصف النحاس القول بأن الآية محكمة بأنه قول حسن بيَّن، وأن ظاهر الآية يدل على العموم (2).

كما ذكر الشنقيطي ما يؤيد عدم النسخ من أن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (3) بأن ذلك رخصة في حالة الخوف والضعف مع اشتراط سلامة الداخل في القلب، فإن مفهومه أنها محكمة وباق العمل بها عند اللزوم، ومفهومه أن المؤمنين إذا كانوا في حالة قوة وعدم خوف وفي مأمنٍ منهم، وليس منهم قتال، وهم في غاية من المسالمة فلا مانع من برهم بالعدل والإقساط معهم، وهذا مما يرفع من شأن الإسلام والمسلمين، بل وفيه دعوة إلى الإسلام بحسن المعاملة وتأليف القلوب بالإحسان إلى من أحسن إليهم، وعدم معاداة من لم يعادهم، كما ذكر أنه مما يدل على عدم النسخ ما جاء في التذييل لهذه الآية بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (4) فهذا ترشيح لما قدمنا كما قابل هذا بالتذييل على الآية الأخرى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ

(1) انظر أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1757.

(2)

انظر الناسخ والنسوخ / النحاس، ج 1، ص 711.

(3)

سورة آل عمران، الآية (28).

(4)

سورة الممتحنة، الآية (8).

ص: 381

الظَّالِمُونَ} (1) ، ففيه مقابلة بين العدل والظلم ، فالعدل في الإحسان، والقسط لمن يسالمك، والظلم ممن يوالي من يعادي قومه.

وذكر أيضاً أنه مما ينفي النسخ عدم التعارض بين هذا المعنى، وبين آية السيف، لأن شرط النسخ التعارض، وعدم إمكان الجمع، ومعرفة التاريخ، والجمع هنا ممكن والتعارض منفي، وذلك لأن الأمر بالقتال لا يمنع الإحسان قبله، كما أن المسلمين ما كانوا ليفاجئوا قوماً بقتال حتى يدعوهم إلى الإسلام، وهذا من الإحسان قطعاً، ولأنهم قبلوا من أهل الكتاب الجزية، وعاملوا أهل الذمة بكل إحسان وعدالة " (2).

(1) سورة التوبة، الآية (23).

(2)

انظر أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1758.

ونظائر هذه الأمثلة في تفسيره هي التالي:

1 -

ما ذكره عند قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185) قال: " قد علمت أن هذه الآيات تكملة للآيات السابقة وأن لا نسخ في خلال هاته الآيات، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} خبر مبتدأ محذوف تقديره هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان، والجملة مستأنفة بيانياً، لأن قوله:{أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (البقرة: 184) يثير سؤال السامع عن تعيين هذه الأيام، ويؤيد ذلك قراءة مجاهد (شهراً) بالنصب على البدلية من (أياماً): بدل تفصيل. (التحرير والتنوير، ج 2، ص 184). =

ص: 382

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

=

2 -

ما ذكره عند قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (آل عمران: 186) قال: " أمَرَهم الله بالصبر على ذلك حتّى يحصل لهم النصر، وأمرهم بالتقوى أي الدوام على أمور الإيمان والإقبال على بثّه وتأييده، فأمّا الصبر على الابتلاء في الأموال والأنفس فيشمل الجهاد، وأمّا الصبر على الأذى ففي وقتى الحرب والسلم، فليست الآية مقتضية عدم الإذن بالقتال من حيث إنه أمرهم بالصبر على أذى الكفّار حتّى تكون منسوخة بآيات السيف، لأنّ الظاهر أنّ الآية نزلت بعد وقعة أُحُد، وهي بعد الأمر بالقتال. (التحرير والتنوير، ج 3، ص 190).

3 -

ما ذكره عند قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1) قال: " فالآية محكمة غير منسوخة بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} (الأنفال: 41)، فيكون لكل آية منهما حكمها إذ لا تداخل بينهما "(التحرير والتنوير، ج 5، ص 250).

4 -

ماجاء في قوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 35)، قال ابن عاشور: " فتحصل مما تقرر أن الدعاء إلى السلم المنهي عنه هو طلب المسالمة من العدّو في حال قدرة المسلمين وخوف العدوّ منهم، فهو سلم مقيد بكون المسلمين داعين له، وبكونه عن وهن في حال قوة. قال قتادة: أي لا تكونوا أول الطائفتين ضَرعت إلى صاحبتها. فهذا لا ينافي السلم المأذون فيه بقوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} في سورة الأنفال (61)، فإنه سلم طلبه العدو، =

ص: 383

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فليست هذه الآية ناسخة لآية الأنفال ولا العكس ولكل حالة خاصة، ومقيّد بكون المسلمين في حالة قوة ومنعة وعِدّة وعُدّة بحيث يدعون إلى السلم رغبة في الدعَة. (التحرير والتنوير، ج 12، ص 131).

5 -

ما جاء في قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (النجم: 29)، وفيه قول ابن عاشور: " وإعراض النبي صلى الله عليه وسلم عنهم المأمور به مراد به عدم الاهتمام بنجاتهم لأنهم لم يقبلوا الإِرشاد وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بإدامة دعوتهم للإِيمان فكما كان يدعوهم قبل نزول هذه الآية فقد دعاهم غير مرة بعد نزولها، على أن الدعوة لا تختص بهم فإنها ينتفع بها المؤمنون، ومن لم يسبق منه إعراض من المشركين فإنهم يسمعون ما أنذر به المعرضون ويتأملون فيما تصفهم به آيات القرآن، وبهذا تعلم أن لا علاقة لهذه الآية وأمثالها بالمتاركة ولا هي منسوخة بآيات القتال. (التحرير والتنوير، ج 13، ص 117).

ص: 384