الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تُكَذِّبوهم" قاعدة مقرَّرة لا يصح العدول عنها بأى حال من الأحوال، وبعد هذا وذاك نقول: إنه يجب على المفسِّر أن يكون يقظاً إلى أبعد حدود اليقظة، ناقداً إلى نهاية ما يصل إليه النقاد من قدة وروية حتى يستطيع أن يستخلص من هذا الهشيم المركوم من الإسرائيليات ما يناسب روح القرآن، ويتفق مع العقل والنقل، كما يجب عليه أن لا يرتكب النقل عن أهل الكتاب إذا كان فى سنَّة نبينا صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل القرآن، على أن من الخير للمفسِّر أن يعرض كل الإعراض عن هذه الإسرائيليات وأن يمسك عما لا طائل تحته مما يُعَد صارفاً عن القرآن، وشاغلاً عن التدبير في حكمه وأحكامه، وبدهي أن هذا أحكم وأسلم "(1).
أمثلة تطبيقية على القاعدة:
1 -
مثال خلق السماوات والأرض:
وقع خلاف بين علماء السلف في خلق السماوات والأرض وأيهما سبق الآخر، وقد ساق هذه الأقوال ابن عاشور في تفسيره فقال: " وقد جرى اختلاف بين علماء السلف في مقتضى الأخبار الواردة في خلق السماوات والأرض فقال الجمهور منهم مجاهد والحسن ونسب إلى ابن عباس رضي الله عنه: إن خلق الأرض متقدم
(1) التفسير والمفسرون / الذهبي، ج 1، ص 191 - 193.
(2)
سورة البقرة، الآية (29).
على خلق السماء، لقوله تعالى هنا:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} وقوله في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} (1) إلى أن قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (2). وقال قتادة والسدي ومقاتل: إن خلق السماء متقدم، واحتجوا بقوله تعالى:{بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} (3) إلى قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (4) وقد أجيب بأن الأرض خلقت أولاً ثم خلقت السماء ثم دُحيت الأرض فالمتأخر عن خلق السماء هو دحْو الأرض، على ما ذهب إليه علماء طبقات الأرض من أن الأرض كانت في غاية الحرارة ثم أخذت تبرد حتى جمدت وتكونت منها قشرة جامدة ثم تشققت، وتفجرت، وهبطت منها أقسام، وعلت أقسام بالضغط إلا أن علماء طبقات الأرض يقدرون لحصول ذلك أزمنة متناهية الطول، وقدرة الله صالحة لإحداث ما يحصل به ذلك التقلب في أمد قليل بمقارنة حوادث تعجل انقلاب المخلوقات عما هي عليه " (5).
ورجّح ابن عاشور أن السماء خلقت قبل الأرض، ومن تعليله لهذا الاختيار أن ظاهر سفر التكوين يقتضي هذا، ومن قوله: "وأرجح القولين هو أن السماء
(1) سورة فصلت، الآية (9).
(2)
سورة فصلت، الآية (11).
(3)
سورة النازعات، الآية (27 - 28).
(4)
سورة النازعات، الآية (30).
(5)
التحرير والتنوير، ج 8، ص 384.
خلقت قبل الأرض لأن لفظ (بعد ذلك) أظهر في إفادة التأخر من قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ، ولأن أنظار علماء الهيئة ترى أن الأرض كرة انفصلت عن الشمس كبقية الكواكب السيارة من النظام الشمسي ، وظاهر سفر التكوين يقتضي أن خلق السماوات متقدم على الأرض " (1).
وقد وافقه الرازي على هذا الاختيار (2).
في حين ذهب الطبري، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، وأبو حيان، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي، والشنقيطي إلى أن الأرض خلقت قبل السماء (3).
حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن الأرض خلقت قبل السماء:
حجتهم على ذلك الأدلة الظاهرة على خلق الأرض قبل السماء ومن ذلك:
1 -
قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي
(1) التحرير والتنوير، ج 8، ص 384.
(2)
حيث ذكر في تفسيره أن القول بأن خلق الأرض متقدم على خلق السماء هو رأي بعض الملحدة. انظر تفسير الرازي، ج 1، ص 380.
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 222، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 115، والجامع للأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 383، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، 282، وتفسير القرآن العظيم/ ابن كثير، ج 1، ص 108، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 61، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 218، محاسن التأويل /القاسمي، ج 1، ص 311، أضواء البيان / الشنقيطي، ص 26.
يَوْمَيْنِ} (1) إلى أن قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (2).
قال ابن عطية: " وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خلق قبل السماء "(3).
قال ابن كثير: " وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (4).
فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعًا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة: أنه زعم أن السماء خلقت قبل
(1) سورة السجدة، الآية (9 - 11).
(2)
سورة فصلت، الآية (11).
(3)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 115.
(4)
سورة فصلت، الآية (9 - 12).
الأرض " (1).
2 -
ما جاء في صحيح البخاري أنه قال: قال المنهال عن سعيد قال: قال رجل لابن عباس رضي الله عنه: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ قال: وذكر منها قوله: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} (2) إلى قوله: {دَحَاهَا} فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض.
ووجه الإشكال الوارد على الآية أن الله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (3).وهذا يقتضي أن يكون خلق الأرض بعد السماء -ولكن كان جواب ابن عباس رضي الله عنه بقوله: " إنه خلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء، فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض، ودحوها أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والجمال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله:{دَحَاهَا} (4).
وكذلك ذكر العلماء على ذلك جواباً وهو: أن الله خلق الأرض بأقواتها أولاً من غير أن يدحوها قبل السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (5).
(1) تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير، ج 1، ص 108.
(2)
سورة النازعات، الآية (27).
(3)
سورة النازعات، الآية (30).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تفسير حم السجدة فصلت، ج 4، ص 1815 ،ح- 4537.
(5)
انظر جامع البيان/ الطبري، ج 1، ص 223.
قال أبو حيان: " والمختار أن جرم الأرض خلق قبل السماء، وخلقت السماء بعدها ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء وبهذا يحصل الجمع بين الآيات "(1).
3 -
ومن الأدلة التي ذكرها أصحاب هذا القول أيضاً أن "ثم" في قوله تعالى: " {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (2) تفيد الترتيب فالله خلق الأرض ثم السماء.
ولكن هذا الدليل ممكن أن يجاب عليه كما ذكر الرازي وهو أن: «ثم» ليس للترتيب ههنا وإنما هو على جهة تعديد النعم، مثاله قول الرجل لغيره: أليس قد أعطيتك النعم العظيمة ثم رفعت قدرك ثم دفعت الخصوم عنك، ولعل بعض ما أخره في الذكر قد تقدم فكذا ههنا والله أعلم (3).
وقد يرد إشكال آخر ذكره الرازي في تفسيره، وهو ورود عدد من الآيات قدم فيها ذكر السماء على ذكر الأرض، مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء، ومن ذلك قوله تعالى: " {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} (4).
فلم قدم ذكر السماء على الأرض؟ والجواب: أن السماء كالدائرة،
(1) البحر المحيط، ج 1، ص 282.
(2)
سورة فصلت، الآية (11).
(3)
تفسير الرازي، ج 1، ص 381.
(4)
سورة ق، الآية (6 - 7).
والأرض كالمركز، وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس، فإن حصول المركز لا يوجب تعين الدائرة لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها، فلما كانت السماء متقدمة على الأرض بهذا الاعتبار وجب تقديم ذكر السماء على الأرض بهذا الاعتبار (1).
حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن السماء خلقت قبل الأرض:
استدلوا بقوله تعالى: {بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} - إلى قوله - {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (2).
قال القرطبي: "وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء "(3).
والقرطبي يرى أن الأرض خلقت قبل السماء، ولكنه خرّج قول قتادة على وجه صحيح حيث قال:" وقول قتادة يخرج على وجه صحيح إن شاء الله تعالى، وهو أن الله تعالى خلق أولا دخان السماء ثم خلق الارض، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواها، ثم دحا الارض بعد ذلك "(4).
ومما يدل على هذا القول أيضاً ورود كثيرمن الآيات التي تذكر فيها أسبقية السموات على الأرض منها قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا
(1) انظر التفسير الكبير / الرازي ج 4، ص 477، عند تفسيره لقوله تعالى:" الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور " سورة الأنعام، الآية (1).
(2)
سورة النازعات، الاية (30).
(3)
الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 196.
(4)
الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 1، ص 383.
(27)
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (1)، وقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} (2).
وممكن أن يجاب على هذا بأن التقديم هنا ليس للأسبقية وإنما للأفضلية والشرف.
وهو الذي يراه ابن عاشور ويرجحه أن السماء خلقت قبل الأرض مستدلاً على ذلك بعدة أمور:
1 -
إن السماء خلقت قبل الأرض لأن لفظ (بعد ذلك) أظهر في إفادة التأخر من قوله: (ثم استوى إلى السماء).
2 -
إن أنظار علماء الهيئة ترى أن الأرض كرة انفصلت عن الشمس كبقية الكواكب السيارة من النظام الشمسي.
3 -
ظاهر سفر التكوين يقتضي أن خلق السماوات متقدم على الأرض (3).
فالملاحظ مما سبق أن ابن عاشور جعل من أدلته على أسبقية خلق السماء
(1) سورة النازعات، الآية (27 - 30).
(2)
سورة الأنبياء ، الآية (30).
(3)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 384.
للأرض ما تضمنته الكتب المقدسة وهو (سفر التكوين)، فدل ذلك على أنه في حال تضارب الأقوال يجد أحيانا في التوراة ما يسوغ له ترجيح قول على آخر.
القول الراجح:
والذي يظهر لي بعد النظر في الأقوال أن خلق الأرض متقدم على خلق السماوات.
ويؤيد هذا القول ما جاء في السنة المطهرة، ولاسيما ومن القواعد المتفق عليها في الترجيح بين المفسرين أنه (إذا اختلفت أقوال المفسرين في الآية، فإن القول الذي تدل عليه السنة الثابتة مقدم على غيره).
وأما مااختاره ابن عاشور مستندا في ذلك على ما جاء في سفر التكوين فلا أراه مصيباً في ذلك لأنه لنا في الاستدلال بالقرآن ما يكفينا عن ذلك.
قال ابن كثير: " وفي الأخبار غُنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وضع فيها أشياء كثيرة، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء، والسادة والأتقياء، والبررة والنجباء، من الجهابذة النقاد، والحفَّاظ الجياد، الذين دونوا الحديث وحررُّوه، وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه، من منكره وموضوعه ومتروكه ومكذوبه، وعرفوا الوضَّاعِين والكذّابين والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال "(1).
وقد جاء في صحيح البخاري أن ابن عباس رضي الله عنه سُئل عن هذا بعينه،
(1) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 9، ص 155.
فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وقد تقدم وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا.
وقال الطبري: " والقول الذي ذكرناه عن ابن عباس من أن الله تعالى خلق الأرض، وقدّر فيها أقواتها، ولم يدحها، ثم استوى إلى السماء، فسوّاهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فأخرج منها ماءها ومرعاها، وأرسى جبالها، أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، لأنه جلّ ثناؤه قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} والمعروف من معنى " بَعْدَ " أنه خلاف معنى " قَبْل " وليس في دحوِّ الله الأرض بعد تسويته السماوات السبع، وإغطاشه ليلها، وإخراجه ضحاها، ما يوجب أن تكون الأرض خُلقت بعد خلق السموات لأن الدحوّ إنما هو البسط في كلام العرب، والمدّ يقال منه: دحا يدحو دَحْوا، ودَحيْتُ أدْحي دَحْيا، لغتان (1).
وقال الشنقيطي في معرض تفسيره لقوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} (2): " اعلم أولاً أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الجمع بين آية السجدة وآية النازعات، فأجاب بأن الله تعالى خلق الأرض أولاً قبل السماء غير مدحورة، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعاً في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل
(1) جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 59.
(2)
سورة فصلت، الآية (10).
فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك.
فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك، بعد خلق السماء.
ويدل لهذا أنه قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (1) ولم يقل خلقها ثم فسر دحوه إياها بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (2) وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه. مفهوم من ظاهر القرآن العظيم إلا أنه يرد عليه إشكال من آية البقرة هذه؛ وإيضاحه أن ابن عباس رضي الله عنه جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء.
وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء لأنه قال فيها: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3)(4).
وقد سُئل السيوطي عن هذه المسألة شعراً فقال السائل:
يا عالم العصر لا زالت أناملكم
…
لقد سمعت خصاما بين طائفة
(1) سورة النازعات، الآية (30).
(2)
سورة النازعات، الآية (31).
(3)
سورة البقرة، الآية (29).
(4)
أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1486.
في الأرض هل خلقت قبل السماء وهل
…
فمنهم قال إن الأرض منشأة
فأجاب:
الحمد لله ذي الأفضال والمنن
…
الأرض قد خلقت قبل السماء كما
ولا ينافيه ما في النازعات أتى
…
فالحبر أعني ابن عباس أجاب بذا
وابن السيوطي قد قال الجواب لكي
…
ثم الصلاة على المبعوث بالسنن
قد نصه الله في حم فاستبن
…
فدحوها غير ذاك الخلق للفطن
لما أتاه به قوم ذوو لسن
…
ينجو من النار والآثام والفتن (1).
2 -
مثال فومها:
اختلف المفسرون في المراد بـ " فومها" في هذه الآية:
فقيل هو المعروف لأنه المشاكل للبصل.
(1) انظر الطعن في القرآن الكريم والرد على الطاعنين في القرآن الرابع عشر الهجري / عبد المحسن بن زين متعب العطيري / ج 1 ، ص 52.
(2)
سورة البقرة، الآية (61).
وقيل: الفوم الحنطة كما روى عن ابن عباس وأكثر المفسرين (1).
ورجح ابن عاشور، وكذلك الألوسي، والقاسمي أن المراد بـ (فومها) هو الثوم المعروف. ومن أدلة ابن عاشور على اختياره هذا كونه موافقا لما جاء في التوراة، وكذلك القاسمي (2).
أما الطبري فقد مال إلى هذا القول ولكن لم يصرح (3).
وساق كل من ابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني الأقوال في معنى فومها ، ولم يرجحوا (4).
حجة من قال: إن المراد بقوله (فومها) هو الثوم المعروف:
استدلوا على ذلك بما روي عن سعيد بن جبير والضحاك في أن المراد بقوله " فومها"الثوم " (5).
كما استدلوا على ذلك بقراءة ابن مسعود " ثومها" بالثاء (6).
(1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 153، والتفسير الكبير/ الرازي، ج 1، ص 153، والجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 1، ص 429، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 395، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 426، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 91.
(2)
انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 522، روح المعاني الألوسي، ج 1، ص 275، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 347
(3)
جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 359.
(4)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 153، والتفسير الكبير/ الرازي، ج 1، ص 153، والجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 1، ص 429، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 395، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 426، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 91.
(5)
أخرج رواياتهم ابن أبي حاتم في تفسيره، ج 1، ص 108.
(6)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 358، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 153 ـ وهذه قراءة شاذة. انظر القراءات الشاذة / ابن خالويه، ص 6.
قال ابن قتيبة: " وهذا أعجب الأقاويل إلي؛ لأنها في مصحف عبد الله: " وثومها" (1).
وذكر الرازي عدة أدلة على أن المراد به الثوم المعروف من بينها قراءة ابن مسعود المتقدمة وأضاف وجهين آخرين هما:
- أن المراد لو كان هو الحنطة لما جاز أن يقال: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (2)، وأن الثوم أوفق للعدس والبصل من الحنطة (3). وللألوسي استدلال جميل على ذلك حيث يقول: "والقول بأنه الخبز يبعده الإنبات من الأرض وذكره مع البقل وغيره. (4).
وهو الذي اختاره ابن عاشور وأضاف على ما ذكر أنه الأظهر والموافق لما عد معه، وهذا قوله:" وقد اختلف في الفوم ، فقيل: هو الثوم بالمثلثة وإبدال الثاء فاء شائع في كلام العرب ، كما قالوا جدث وجدف وثلغ وفلغ ، وهذا هو الأظهر والموافق لما عد معه ولما في التوراة "(5).
حجة من قال: إن المراد بـ " فومها " الحنطة والخبز:
استدلوا على ذلك بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه، ومجاهد، والسدي وغيرهم
(1) تفسير غريب القرآن / ابن قتيبة، ص 50.
(2)
سورة البقرة، الآية (61).
(3)
التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 532.
(4)
روح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 275.
(5)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 522.
في أن المراد بـ (فومها) الحنطة والخبز " (1).
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنه أيضاً أنه سئل عن قول الله وفومها، ما فومها؟ قال: الحنطة. قال ابن عباس رضي الله عنه: أما سمعت قول أحيحة بن الحلاج (2) وهو يقول:
قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا
…
ورد المدينة عن زراعة فوم (3).
ورجّح الزجاج وكذلك النحاس هذا المعنى.
قال الزجاج: " لا خلاف عند أهل اللغة أن الفوم الحنطة، وسائر الحبوب التي تخبز يلحقها اسم الفوم، ومحال أن يطلب القوم طعاماً لا بُرّ فيه، والبر أصل الغذاء كله، ويقال فوّموا لنا أي اخبزوا لنا "(4).
القول الراجح:
إن المراد بقوله " فومها " هو الحنطة كما رجّح ذلك عدد من المفسرين. (5).
قال البخاري: " قال بعضهم: الحبوب التي تؤكل كلها فوم "(6).
(1) أخرج رواياتهم الطبري في تفسيره، ج 1، ص 358.
(2)
هو أبو عمرو أحيحة بن الجلاح بن الحريش الأوسي شاعر جاهلي من دهاة العرب وشجعانهم، قال الميداني: كان سيد يثرب وكان له حصن فيها ومزارع وبساتين ومال وفير. (الأعلام / الزركلي، ج 1، ص 277).
(3)
أخرج رواية ابن عباس ابن أبي حاتم في تفسيره، ج 1، ص 108.
(4)
انظر معاني القرآن / الزجاج، ج 1، ص 143.
(5)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 522.
(6)
صحيح البخاري، كتاب التفسير، ج 4، ص 1625، ح - 4206.
ومما يقوي هذا القول ويعضده القاعدة الترجيحية: (إذا ثبت الحديث وكان نصا في تفسير الآية فلا يُصار إلى غيره)، وقد ثبت هذا المعنى في حديث نافع بن الأزرق ونجدة بن عويمر وسؤالهم ابن عباس وفيه: فأخبرني عن قول الله عز وجل: وفومها، ما الفوم؟ قال: الحنطة. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال: نعم ، أما سمعت قول أبي ذؤيب الهذلي:
قد كنت تحسبني كأغنى وافد
…
قدم المدينة عن زراعة فوم " (1).
كما يعضد هذا القول ويرجحه قاعدة: (يجب حمل كلام الله تعالى على المعروف من كلام العرب).
قال الفراء: " فإن الفوم فيما ذكر لغة قديمة ، وهي الحنطة والخبز جميعاً، قال بعضهم: سمعنا العرب من أهل هذه اللغة يقولون: فوموا لنا بالتشديد لا غير "(2).
وقال ابن منظور: " الفُومُ الزَّرع أو الحِنْطة وأَزْدُ الشَّراة يُسمون السُّنْبُل فُوماً الواحدة فُومة، والفُوم الخبز أيضاً يقال: فَوِّموا لنا أي اخْتَبِزُوا. وقال الفراء: هي لغة قديمة. وقيل: الفُوم لغة في الثُّوم. قال ابن سيده: أُراه على البدل. قال ابن جني: ذهب بعض أَهل التفسير في قوله عز وجل "وفُومِها وعَدَسِها "إلى أنه أراد الثُّوم فالفاء على هذا عنده بدل من الثاء قال والصواب عندنا أن الفُوم الحِنطة وما يُخْتَبَز من الحبُوب يقال فَوَّمْت الخبز واختبزته وليست الفاء على
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ج 10، ص 253، ح- 10597.
(2)
معاني القرآن / الفراء، ج 1، ص 41.
هذا بدلاً من الثاء وجمعوا الجمع فقالوا فُومانٌ حكاه ابن جني قال والضمة في فُوم غير الضمة في فُومان كما أن الكسرة التي في دِلاصٍ وهِجانٍ غير الكسرة التي فيها للواحد والألف غير الألف. " (1)
3 -
مثال المتكبرين في الأرض:
اختلف المفسرون في من المخاطب في هذه الآية هل هو خطاب موجه لموسى وقومه، أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أو هي عامة لكل الأمم (3).
وساق ابن عاشور هذا الخلاف في تفسيره وذكر أنه يجوز أن تكون هذه الآية تكملة لما خاطب الله به موسى وقومه، فتكون جملة (سأصرف) إلخ بأسهم، استئنافاً بيانياً، لأن بني إسرائيل كانوا يهابون أولئك الأقوام ويخْشوْن، فكأنهم تساءلوا كيف تُرينا دارهم وَتعدُنا بها، وهلْ لا نهلك قبل الحلول بها، كما
(1) لسان العرب / ابن منظور، ج 10، ص 355، مادة: فوم.
(2)
سورة الأعراف، الآية (146).
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 9، ص 74، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 454 ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 5، ص 185.
حكى الله عنهم: {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} (1).
ويجوز أن تكون: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ} من خطاب الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فتكون الجملة معترضة في أثناء قصة بني إسرائيل بمناسبة قوله:{سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} (2) تعريضاً بأن حال مشركي العرب كحال أولئك الفاسقين، وتصريحاً بسبب إدامتهم العناد والإعراض عن الإيمان، فتكون الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، ثم ذكر ابن عاشور أن الاحتمال الأول ورد في التوراة في الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد (3).
وابن عاشور وبالرغم من أنه أحيانا يستشهد بما جاء في التوراة ويعضد قوله بها إلا أنه لم يلزم نفسه بما جاء فيها إذا خلت الآية من مستند، وإنما قد يعضد قولا انتصر له السياق وغيره من الأمور والقواعد التي اعتمدها كما في هذه الآية حيث أنه ذكر بعد ذلك ما يقوَّى القول الآخر لأن السياق يدل عليه وفي ذلك يقول:". والوصاف التي تضمنتها الصلات في الآية تنطبق على مشركي أهل مكة أتم الانطباق "(4).
ورجّح الطبري، وابن عطية، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والقاسمي أن الخطاب في الآية عام لكل متكبر (5).
(1) سورة المائدة، الآية (22).
(2)
سورة الأعراف، الآية (145).
(3)
انظر التحرير والتنوير، ج 5، ص 103.
(4)
التحرير والتنوير، ج 5، ص 104.
(5)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 9، ص 74، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 454، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 270، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 4، ص 388، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 6، ص 393، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 245، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 5، ص 185.
وساق الرازي والألوسي تلك الاحتمالات ولم يرجحا (1).
حجة من يرى أن الخطاب موجه لموسى وقومه:
استدلوا بما جاء في القرآن ، قال أبو مسلم الأصفهاني: " إن هذا الكلام تمام لما وعد الله موسى عليه السلام به من إهلاك أعدائه، ومعنى صرفهم إهلاكهم فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ولا على منع المؤمنين من الإيمان به، وهو شبيه بقوله:{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (2) فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى عليه السلام من إيذائه ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرسالة (3).
قال إسماعيل حقي: " المراد بالآيات ما كتب في ألواح التوراة من المواعظ والأحكام وغيرها من الآيات التكوينية التي من جملتها ما وعد إراءته من دار الفاسقين، ومعنى صرفهم عنها الطبع على قلوبهم بحيث لا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون؛ لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر"(4).
كما ذكر ابن عاشور أن الاحتمال الأول ورد في التوراة في الإصحاح
(1) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 365، وروح المعاني/ الألوسي، ج 5، ص 58.
(2)
سورة المائدة، الآية (67).
(3)
انظر قول أبي مسلم في تفسير الرازي، ج 5، ص 365.
(4)
روح البيان في تفسير القرآن / إسماعيل حقي، ج 3، ص 255.
الرابع عشر من سفر العدد حيث يقول: " وقد حكي ذلك في الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد، فأجيبوا بأن الله سيصرف أولئك عن آياتِه .. ، ووعد الله أهلها بأن يورثهم أرض الشام، فيكون المعنى سأتَوَلّى دفعهم عنكم، ويكون هذا مثل ما ورد في التوراة في الإصحاح الرابع والثلاثين «ها أنا طاردٌ من قُدَّامِك الأُموريين الخ»، فالصرف على هذا الوجه عناية من الله بموسى وقومِه بما يُهيء لهم من أسباب النصر على أولئك الأقوام الأقوياء، كإلقاء الرعب في قلوبهم، وتشتيت كلمتهم، وإيجاد الحوادث التي تفت في ساعد عُدتهم أو تكونُ الجملة جواباً لسؤال من يقول: إذا دخلنا أرض العدو فلعلهم يؤمنون بهدينا، ويتبعون ديننا، فلا نحتاج إلى قتالهم، فأجيبوا بأن الله يَصرفهم عن إتباع آياته؛ لأنهم جُبلوا على التكبر في الأرض، والإعراض عن الآيات، فالصرف هنا صرف تكويني في نفوس الأقوام، وعن الحسن: إن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى حد إذا وصل إليه مَات قلبه "(1).
حجة من يرى أن الخطاب موجه لمشركي مكة:
حجتهم في ذلك أن الآية متصلة بقوله عن شأنه: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} (2)، وإيراد قصة موسى عليه السلام وفرعون للاعتبار أي سأصرف المتكبرين عن إبطال الآيات وان اجتهدوا،
(1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 103.
(2)
سورة الأعراف، الآية (100).
كما فعل فرعون فعاد عليه فعله بعكس ما أراد " (1).
قال ابن عاشور: " وتعريف المصروفين عن الآيات بطريق الموصولية للإيماء بالصلة إلى علة الصرف ، وهي ما تضمنته الصلات المذكورة، لأن من صارت تلك الصفات حالات له يَنصره الله، أو لأنه إذا صار ذلك حاله رين على قلبه، فصرف قلبه عن إدراك دلالة الآيات وزالت منه الأهلية لذلك الفهم الشريف ، والوصاف التي تضمنتها الصلات في الآية تنطبق على مشركي أهل مكة أتم الانطباق "(2).
حجة من يرى أن الخطاب عام لكل من تكبر على آيات الله:
روى الطبري بسنده عن ابن عيينة أنه قال في هذه الآية: " أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي (3).
قال ابن عطية موضحاً كلام ابن عيينة: " آياتي: أي كل كتاب منزل (4).
ورجّح الطبري هذا المعنى فقال: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه سيصرف عن آياته، وهي أدلته وأعلامه على حقيقة ما أمر به عباده وفرض عليهم من طاعته في توحيده وعدله، وغير ذلك من فرائضه. والسموات والأرض، وكل موجود من خلقه، فمن آياته، والقرآن أيضًا من آياته، وقد عم بالخبر أنه يصرف عن آياته المتكبرين في الأرض بغير الحق، وهم
(1) ذكره الألوسي ولم ينسبه، وإنما صدره بقيل، ج 5، ص 58.
(2)
التحرير والتنوير، ج 5، ص 104.
(3)
أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 9، ص 73.
(4)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 454.
الذين حقَّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤمنون، فهم عن فهم جميع آياته والاعتبار والادّكار بها مصروفون، لأنهم لو وفِّقوا لفهم بعض ذلك فهُدوا للاعتبار به، اتعظوا وأنابوا إلى الحق، وذلك غير كائن منهم، لأنه جلّ ثناؤه قال:{وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} (1) فلا تبديل لكلمات الله " (2).
القول الراجح:
إن الخطاب في الآية عام لكل متكبر فيدخل فيه جميع المعاني المذكورة.
ومما يؤيد هذا القول ويقويه قاعدة: (إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها).
قال محمد رشيد رضا: "والمعنى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق من قومك أيها الرسول، ومن غيرهم في كل زمان ومكان كما صرفت فرعون وملأه عن آياتي التي آتيتها رسولي موسى .. وهذا بيان لسنته تعالى في تكذيب البشر لدعاة الحق والخير من الرسل وورثتهم وسببه الأول التكبر؛ فإن من شأن الكبر أن يصرف أهله عن النظر والاستدلال على الحق والهدى وتلك حال الملوك والرؤساء والزعماء الضالين "(3).
وقال الدكتور وهبة الزحيلي: " الصرف هو المنع والصد، والآيات هنا: كل كتاب منزل من الله تعالى يبين في هذه الآيات سبب الطغيان والكفر والظلم
(1) سورة الأنعام، الآية (25).
(2)
جامع البيان / الطبري، ج 9، ص 74.
(3)
تفسير المنار / محمد رشيد رضا، ج 9، ص 196.
والفساد، ويقرر سبحانه أنه سيمنع قلوب المتكبرين عن طاعته وأتباع رسله عن النظر والتفكير والاستدلال بآيات الله، ويمنعهم عن فهم الأدلة والبراهين، الدالة على عظمته، ويحجبهم عن الإيمان بالآيات، مثل قوم فرعون الذين قال الله فيهم:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (1).
ومثل كفار قريش كأبي جهل وأبي لهب وعتبة بن ربيعة الذين حجبهم الكبر عن النظر في الآيات مع يقينهم بصدق محمد " (2).
4 -
مثال (واجعلوا بيوتكم قبلة):
قال ابن كثير: " اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} فقال الثوري وغيره، عن خُصَيْف، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس:{وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال: أمرُوا أن يتخذوها مساجد.
وقال الثوري أيضا عن ابن منصور عن إبراهيم: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ
(1) سورة النمل، الآية (14).
(2)
التفسير الوسيط / وهبة الزحيلي، ج 1، ص 722.
(3)
سورة يونس، الآية (87).
قِبْلَةً} قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
وكذا قال مجاهد، وأبو مالك، والربيع بن أنس، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأبوه زيد بن أسلم: وكأن هذا -والله أعلم -لما اشتد بهم البلاء من قبَل فرعون وقومه، وضيقوا عليهم، أمروا بكثرة الصلاة، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1)
وقال مجاهد: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال: لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة، أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة، يصلون فيها سرًا. وكذا قال قتادة، والضحاك.
وقال سعيد بن جبير: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي: يقابل بعضها بعضا " (2).
ورجّح ابن عاشور أن المقصود من هذه البيوت بيوت من خيام وغيرها غير بيوتهم التي يسكنوها، مستندا على ذلك بما جاء في التوراة، وهذا قوله: " وهذا القول هو المناسب للتبوؤ لأن التبوؤ السكنى، والمناسب أيضاً لإطلاق البيوت، وكونها بمصر فالذي يظهر بناء عليه أن هذه البيوت خيام أو أخصاص أمرهم الله باتخاذها تهيئة للارتحال وهي غير ديارهم التي كانوا يسكنونها في (جاسان) قرب مدينة فرعون وقد جاء في التوراة ما يشهد بهذا التأويل في الفصل الرابع من سفر
(1) سورة البقرة، الآية (156).
(2)
تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 7، ص 392.
الخروج: إن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل إلى البادية ليعملوا عيد الفصح ثلاثة أيام وأن ذلك أولُ ما سأله موسى من فرعون، وأن فرعون منعهم من ذلك، وأن موسى كرر طلب ذلك من فرعون كلّ ذلك يمنعه كما في الفصل السابع والفصل الثامن من سفر الخروج، وقد صار لهم ذلك عيداً بعد خروجهم " (1).
ولقد وافق قول ابن عاشور هذا قول الطبري من قبل، إلا أن الطبري وغيره من المفسرين لم يقولوا أنهم اتخذوا بيوتا غير بيوتهم من الخيام ليقيموا فيها الصلاة كما ذكر ابن عاشور مستشهدا على ذلك بما جاء في التوراه، أما الطبري فقد ذكر أن ترجيحه كان بناءً على أن الأغلب في معاني البيوت بيوت السكن، كما أن الأصل إطلاق اللفظ على ظاهره وسيأتي قوله، كما اختار هذا القول، أبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي والقاسمي (2).
في حين رجّح القرطبي أن المراد بالبيوت المساجد، أي: اتخذوا لكم مساجد (3).
(1) التحرير والتنوير، ج 6، ص 264.
(2)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 11، ص 179، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 138، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 5، ص 184، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 7، ص 392، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 467، وروح المعاني / الألوسي، ج 6، ص 160، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 58،
(3)
انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 8، ص 342.
حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن المراد بالبيوت بيوت السكنى أن يجعلوها مساجد:
حجتهم في ذلك أن المعنى الغالب في اللغة على البيوت ما كان للسكنى. كما أن ظاهر اللفظ يدل على ذلك ، ولا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره.
قال الطبري: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، القول الذي قدمنا بيانه، وذلك أن الأغلب من معاني "البيوت" وإن كانت المساجد بيوتًا: البيوت المسكونة، إذا ذكرت باسمها المطلق دون المساجد. لأن "المساجد" لها اسم هي به معروفة، خاصٌّ لها، وذلك "المساجد". فأمّا "البيوت" المطلقة بغير وصلها بشيء، ولا إضافتها إلى شيء، فالبيوت المسكونة. وكذلك "القبلة" الأغلب من استعمال الناس إيّاها في قبل المساجد وللصلوات.
فإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا إلى الأغلب من وجوهها المستعمل بين أهل اللسان الذي نزل به، دون الخفيّ المجهول، ما لم تأت دلالة تدل على غير ذلك، ولم يكن على قوله:{وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} ، دلالةٌ تقطع العذرَ بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلام العرب لم يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر " (1).
وقال ابن كثير: " لما اشتد بهم البلاء من قبَل فرعون وقومه، وضيقوا عليهم، أمروا بكثرة الصلاة، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا
(1) جامع البيان / الطبري، ج 11، ص 179.
بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1).
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم (2).
حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن المراد بالآية اجعلوا بيوتكم مقابل بعضها بعضاً:
استدلوا على ذلك بما روي عن سعيد بن جبير: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال: مقابل بعضها بعضاً (3).
حجة أصحاب القول الثالث الذين يرون أن المراد بالآية أي اجعلوا بيوتكم إلى الكعبة
والمراد أي اجعلوا مساجدكم قبل الكعبة، واستدلوا بما روي عن ابن عباس في قوله:{وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} يقول: وجهوا مساجدكم نحو القبلة، ألا ترى أنه يقول:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} (4)(5).
(1) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 7، ص 392.
(2)
أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 11، ص 177.
(3)
أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 11، ص 178، وفي إسناده علي بن عاصم: صدوق يخطئ ويصر، ورمي بالتشيع وروايته عن عطاء بعد الاختلاط فالإسناد ضعيف. انظر تهذيب التهذيب / ابن حجر، ج 5، ص 705 - 709.
(4)
سورة النور، الآية (36).
(5)
أخرج رواية ابن عباس الطبري في تفسيره، ج 11، ص و 178.
القول الراجح:
هو ما رجحه ابن عاشور والطبري من قبل وكثير من المفسرين في أن المراد بالبيوت بيوتهم التي يسكنون فيها أمرهم أن يجعلوها مساجد يصلون فيها، والدليل على ذلك ما روى عن ابن عباس رضي الله عنه في ذلك.
قال البغوي: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال أكثر المفسرين: كانت بنو إسرائيل لا يصلون إلا في كنائسهم وبِيَعِهم، وكانت ظاهرة، فلما أُرسل موسى أمر فرعون بتخريبها ومنعهم من الصلاة فأُمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفًا من فرعون، هذا قول إبراهيم وعكرمة عن ابن عباس.
وقال مجاهد: خاف موسى ومَنْ معه من فرعون أن يصلوا في الكنائس الجامعة، فأُمروا بأن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة، يصلون فيها سرًّا. معناه: واجعلوا بيوتكم إلى القبلة " (1). .
ومما يؤيد هذا القول ويرجحه قاعدة: (إعمال الأغلب في القرآن وتقديم المفهوم الجاري
في استعماله أولى) وقد رجّح بها الطبري في تفسيره كما تقدم. (2).
أما ماروي عن سعيد بن جبير في أن المراد بالآية يقابل بعضها بعضا ، فهو لا يصح.
وأما القول الثالث فيما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنها قبل الكعبة فهذا لا يبعد
(1) معالم التنزيل / البغوي، ج 4، ص 146.
(2)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 11، ص 179.
عن القول المختار بل يدخل فيه ضمنا؛ لأن الصلاة تستلزم الاتجاه إلى القبلة وهي الكعبة.
قال النيسابوري: " فالمراد من قوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أن يجعل تلك البيوت مساجد متوجهة نحو القبلة وهي جهة بيت المقدس أو الكعبة على ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنه وقال الحسن: الكعبة قبلة كل الأنبياء ، وإنما وقع العدول عنه بأمر الله تعالى في أيام نبينا صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة "(1).
4 -
مثال القوم الآخرين:
اختلف المفسرون في المراد بالقوم الآخرين في هذه الآية ، فمنهم من ذهب إلى أن المقصود بهم بنو إسرائيل، ومنهم من يرى أن المراد بهم من ملك مصر بعد هلاك القبط (3).
ورجح ابن عاشور أن القوم الآخرين هم فرعون وقومه، وحجته في ذلك ما جاء في التوراة وهذا قوله: " تركوها وأورثناها غيرهم أي فرعون الذي وُلي بعد
(1) غرائب القرآن ورغائب الفرقان / النيسابوري، ج 3، ص 606.
(2)
سورة الدخان، الآية (28).
(3)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 73.
موت (منفطا) وسمي (صطفا منفطا) وهو أحد أُمراء فرعون (منفطا) تزوج ابنة منفطا المسماةَ (طُوسِير) التي خلفت أباها (منفطا) على عرش مصر، ولكونه من غير نسل فرعون وُصف هو وَجُندُه بقوم آخرين وليس المراد بقوله:{قَوْمًا آخَرِينَ} قوماً من بني إسرائيل، ألا ترى أنه أعيد الاسم الظاهر في قوله عقبه:{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (1)" (2).وقال في موضع آخر من سورة الشعراء عند قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)} (3) والمعنى: " أن الله أرزأ أعداء موسى ما كان لهم من نعيم إذ أهلكهم وأعطى بني إسرائيل خيرات مثلها لم تكن لهم، وليس المراد أنه أعطى بني إسرائيل ما كان بيد فرعون وقومه من الجنات والعيون والكنوز، لأن بني إسرائيل فارقوا أرض مصر حينئذ وما رجعوا إليها ، كما يدل عليه قوله في سورة الدخان:{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} ولا صحة لما يقوله بعض أهل قصص القرآن من أن بني إسرائيل رجعوا فملكوا مصر بعد ذلك، فإن بني إسرائيل لم يملكوا مصر بعد خروجهم منها سائر الدَّهر فلا محيص من صرف
(1) سورة الدخان، الآية (30).
(2)
التحرير والتنوير، ج 12، ص 303.
(3)
سورة الشعراء، الآية (56 - 60).
الآية عن ظاهرها إلى تأويل يدل عليه التاريخ ويدل عليه ما في سورة الدخان " (1)
وإلى هذا القول الذي رجحه ابن عاشور ذهب ابن عطية من قبل، وضعّف ما سواه، وكذلك القاسمي (2)، في حين رجّح الطبري والرازي، والقرطبي، وأبو حيان وابن كثير والشوكاني، والألوسي، والشنقيطي أن المراد بهم بنو إسرائيل (3).
حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن المراد بالقوم الآخرين بنو إسرائيل:
حجتهم في ذلك قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (4) فهذه الآية تفسير الآية الأولى، وليس بعد بيان الله وتفسيره بيان وتفسير. ويؤيد ذلك ما جاء في قوله تعالى (5).:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} (6)
(1) التحرير والتنوير، ج 9، ص 33.
(2)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 73، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 309.
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 25، ص 146، والتفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 660، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 16، ص 137، والبحر المحيط/ أبو حيان، ج 8، ص 36، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 12، ص 343، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 575، وروح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 122، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1554.
(4)
سورة الشعراء، الآية (59).
(5)
انظر أسباب الخطأ في التفسير / طاهر محمود يعقوب، ج 1، ص 102.
(6)
سورة الأعراف، الآية (137).
قال القرطبي: " وأورثناها قوما آخرين " يعني بني إسرائيل، ملكهم الله تعالى أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين، فصاروا لها وارثين، لوصول ذلك إليهم كوصول الميراث، ونظيره قوله تعالى:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} (1) " (2).
قال الشوكاني: " {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} الكاف في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف. قال الزجاج: " أي الأمر كذلك، ويجوز أن تكون في محل نصب، والإشارة إلى مصدر فعل يدل عليه تركوا ، أي: مثل ذلك السلب سلبناهم إياها، وقيل مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها وقيل: مثل ذلك الإهلاك أهلكناهم. فعلى الوجه الأول يكون قوله: " وأورثناها" معطوفاً على تركوا وعلى الوجوه الآخرة يكون معطوف على الفعل المقدر ، والمراد بالقوم الآخرين بنو إسرائيل " (3).وقال الألوسي:" والمراد بالقوم الآخرين بنوا إسرائيل وهم مغايرون للقبط جنسا ودينا ويفسر ذلك قوله تعالى في سورة الشعراء: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} وهو ظاهر في أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وملوكها وبه قال الحسن "(4).
(1) سورة الأعراف، الآية (137).
(2)
الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 16، ص 137.
(3)
فتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 575.
(4)
روح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 122.
حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن المراد بالقوم الآخرين من ملك مصر بعد هلاك القبط:
حجتهم أنه لم يروا في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى أرض مصر في ذلك الزمان.
قال ابن عطية: " لم يرو أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر في شيء من ذلك الزمان ولا ملكوها قط "(1). كما استدلوا - أيضاً- بأن الله تعالى قال: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (2)، ولم يقل) ولقد نجيناهم) فيعود الضمير على بني إسرائيل.، وقال الزمخشري مؤيداً هذا القول:" الكاف فى محل نصب، على معنى: مثل ذلك الإِخراج أخرجناهم منها {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} ليسوا منهم. فعلى هذا يكون قوله: (وَأَوْرَثْنَاهَا) معطوفا على تلك الجملة الناصبة للكاف، فلا يجوز الوقف على (كَذَلِكَ) حينئذ "(3).
قال ابن عاشور: " وليس المراد بقوله: {قَوْمًا آخَرِينَ} قوماً من بني إسرائيل، ألا ترى أنه أعيد الاسم الظاهر في قوله عقبه:{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (4) ولم يقل ولقد نجيناهم (5).
(1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 73.
(2)
سورة الدخان، الآية (30).
(3)
الكشاف / الزمخشري، ج 5، ص 470.
(4)
سورة الدخان، الآية (30).
(5)
التحرير والتنوير، ج 12، ص 303.
القول الراجح:
هو ما ذهب إليه معظم المفسرين من أن المراد بالقوم الآخرين هم بنو إسرائيل، أما ما رجحه ابن عاشور في أن المراد بهم من ملك مصر من القبط مستدلاً على ذلك بالتاريخ وما جاء في الكتب القديمة لا أراه إلا قد خالف الصواب فيه.
قال أبو حيان: "وهذه الكتب لا معول عليها، ولا اعتبار بالتواريخ، فالكذب فيها كثير، وكلام الله صدق "(1). لا سيما وهذه القاعدة التي استند إليها تعارضها قاعدة أقوى منها، وهي (أن القول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره).وقد جاءت بعض الآيات التي تؤيد أنهم بنو إسرائيل، وقد تقدمت. قال الشنقيطي: " لم يُبين هنا من هؤلاء القوم الذين أورثهم ما ذكره هنا، ولكنه بين في سورة الشعراء أنهم بنو إسرائيل وذلك في قوله تعالى:{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (2) ،ثم إن هناك أمرا آخر يرجح
هذا القول وهو: أن سياق الآيات جاء في معرض الذم لفرعون وقومه ولومهم، فكيف يكون قومهم هم الوارثون ، وعليه فيترجح حينئذ أن المراد بالقوم الآخرين هم بنو إسرائيل (3).
(1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 36.
(2)
سورة الشعراء، الآية (59).
(3)
ونظائر هذه الأمثلة كثيرة في تفسيره منها:
1 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 35)، وفيها قوله: " وقد اختلف أهل القصص في تعيين نوع هذه الشجرة فعن علي وابن مسعود وسعيد بن جبير والسدي أنها الكرمة، وعن ابن عباس والحسن وجمهور المفسرين أنها الحنطة، وعن قتادة وابن جريج ونسبه ابن جريج إلى جمع من الصحابة أنها شجرة التين. ووقع في سفر التكوين من التوراة إبهامها وعبر عنها بشجرة معرفة الخير والشر. (التحرير والتنوير، ج 1، ص 430).
2 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)} (البقرة: 55 - 56)، وفيها قول لبن عاشور: " والظاهر أن هذا القول وقع منهم بعد العفو عن عبادتهم العجل كما هو ظاهر ترتيب الآيات، روى ذلك البغوي عن السدي، وقيل: إن ذلك سألوه عند مناجاته وأن السائلين هم السبعون الذين اختارهم موسى للميقات وهم المعبر عنهم في التوراة بالكهنة وبشيوخ بني إسرائيل. وقيل: سأل ذلك جمع من عامة بني إسرائيل نحو العشرة الآلاف وهذان القولان حكاهما في «الكشاف» وليس في التوراة ما هو صريح لترجيح أحد القولين ولا ما هو صريح في وقوع هذا السؤال ولكن ظاهر ما في سفر التثنية منها ما يشير إلى أن هذا الاقتراح قد صدر وأنه وقع بعد كلام الله تعالى الأول لموسى. (التحرير والتنوير، ج 1، ص 506).
3 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (البقرة: 58 - 59)، وفيها قوله: " وإنما جاء بالظاهر في موضع المضمر في قوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ولم يقل عليهم لئلا يتوهم أن الرجز عم جميع بني إسرائيل =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وبذلك تنطبق الآية على ما ذكرته التوراة تمام الانطباق. (التحرير والتنوير، ج 1، ص 514).
4 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا} (البقرة: 71).، وفيها قوله: " والذلول بفتح الذال فعول من ذل ذلاً بكسر الذال في المصدر بمعنى لان وسهل. وأما الذل بضم الذال فهو ضد العز وهما مصدران لفعل واحد خص الاستعمال أحد المصدرين بأحد المعنيين. والمعنى إنها لم تبلغ سن أن يحرث عليها وأن يسقى بجرها أي هي عجلة قاربت هذا السن وهو الموافق لما حدد به سنها في التوراة. (التحرير والتنوير، ج 1، ص 555).
5 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (الصافات: 100)،
وفيها قوله: " ومما يدل على أنه سأل النسل ما جاء في سفر التكوين (الإصحاح الخامس عشر)«وقال أبرام: إنك لم تعطني نسلاً وهذا ابن بيتي (بمعنى مولاه) وارث لي (أنهم كانوا إذا مات عن غير نسل ورثه مواليه)» . وكان عمر إبراهيم حين خرج من بلاده نحواً من سبعين سنة. (التحرير والتنوير، ج، ص). (التحرير والتنوير، ج 11، ص 148).