الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
" المعنى أن يعطوا الجزية عن قوة، ويدا بيد؛ لأن لدينا قاعدة في التفسير وهي متى احتملت الآية معنيين لا يتنافيان وجب حملها عليهما جميعا؛ لأن ذلك أعم، وكلما عمت دلالة الآية كان أولى"(1).
الأمثلة التطبيقية على القاعدة:
1 -
مثال التهلكة:
قال تعالى {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2).
اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} على عدة أقوال ، حصرها الماوردي في ستة أقوال (3).
وذكرها ابن عاشور في تفسيره فقال: " وقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} عطف غرض على غرض، عُقِّب الأمر بالإنفاق في سبيل الله بالنهي عن الأعمال التي لها عواقب ضارة إبلاغاً للنصيحة والإرشاد ، لئلا يدفع بهم يقينهم بتأييد الله إياهم إلى التفريط في وسائل الحذر من غلبَة العدو، فالنهي عن الإلقاء بالنفوس إلى التهلكة يجمع معنى الأمر بالإنفاق وغيره
(1) الشرح الممتع على زاد المستقنع / الشيخ محمد بن صالح العثيمين، ج 8، ص 73.
(2)
سورة البقرة، الآية، 195.
(3)
انظر النكت والعيون / الماوردي، ج 1، ص 253.
من تصاريف الحرب وحفظ النفوس، ولذلك فالجملة فيها معنى التذييل وإنما عطفت ولم تفصل باعتبار أنها غرض آخر من أغراض الإرشاد.
ومعنى النهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة النهي عن التسبب في إتلاف النفس أو القوم عن تحقق الهلاك بدون أن يجتنَى منه المقصودُ.
وعُطِف على الأمر بالإنفاق للإشارة إلى علة مشروعية الإنفاق وإلى سبب الأمر به فإنَّ ترك الإنفاق في سبيل الله والخروجَ بدون عُدة إلقاءٌ باليد للهلاك كما قيل:
…
كساعٍ إلى الهَيْجَا بغير سِلَاح.
ثم ذكر ابن عاشور خلاصة الأقوال فيها فقال:
وقد قيل في تفسير {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أقوال:
الأول: إنَّ (أنفقوا) أمرٌ بالنفقة على العيال، والتهلكة: الإسراف فيها أو البخل الشديد رواه البخاري عن حذيفة.
الثاني: إنها النفقة على الفقراء؛ أي الصدقة، والتهلكة الإمساك.
الثالث: الإنفاق في الجهاد، والإلقاء إلى التهلكة الخروج بغير زاد.
الرابع: الإلقاء باليد إلى التهلكة: الاستسلام في الحرب أي لا تستسلموا للأسر.
الخامس: إنه الاشتغال عن الجهاد وعن الإنفاق فيه بإصلاح أموالهم (1).
وقد رجح ابن عاشور كل تلك الأقوال ماعدا القول الأول والثاني. فقال: والآية
(1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 2، ص 215.
تتحمل جميع المعاني المقبولة يعني بقية الأقوال الثالث والرابع والخامس (1).
وممن ذهب إلى ما ذهب إليه ابن عاشور في كون المعاني معظمها مرادة: الطبري، وابن عطية والرازي، والقرطبي ، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي (2)، ورجح الشنقيطي أن المراد من قوله:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أن الإلقاء إلى التهلكة هو: ترك الجهاد ، والإقبال على الدنيا وعمارتها (3).
حجة من قال: إن المراد لا تتركوا النفقة على العيال فتهلكوا:
استدل أصحاب هذا القول بما جاء في صحيح البخاري عن حذيفة {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: نزلت في النفقة " (4).
وقد استبعد ابن عاشور هذا القول فقال: " وهذا القول يبعده قوله " في سبيل
(1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 245.
(2)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 246.، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 264، والتفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 294، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 360، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 78 - 79، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 223، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 193، وروح المعاني الألوسي، ج 1، ص 474، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 100.
(3)
أضواء البيان / الشنقيطي ، ص 880.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب:" ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ج 4، ص 1642، ح- 4244.
الله" وإن إطلاق التهلكة على السرف بعيد وعلى البخل أبعد.
وذكر ابن عاشور قولاً آخر يشبه القول السابق وهو: أن المقصود بالتهلكة الإمساك من النفقة على الفقراء ، وكذلك استبعده ابن عاشور لعدم مناسبة العطف وإطلاق التهلكة على الإمساك (1).
حجة من قال: إن المراد بالتهلكة الخروج بغير زاد:
دليلهم أن ذلك قد كان فعله قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس (2).وهو من قول زيد بن أسلم (3)، والمعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد.
حجة من قال: إن المراد بالتهلكة الاستسلام في الحرب:
استدلوا بقول البراء بن عازب رضي الله عنه: أي لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون النفع، ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل، وإنما يجب أن يقتحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل، فأما إذا كان آيساً من النكاية وكان الأغلب أنه مقتول فليس له أن يقدم عليه (4)، ونقل عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: هو الرجل يستقل بين الصفين (5).
وقد ردّ قوم هذا القول.
(1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 215.
(2)
الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 360.
(3)
أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 2، ص 243.
(4)
لم أقف على تخريجه. انظر التفسير الكبير/ الرازي، ج 2، ص 295.
(5)
لم أقف عليه في كتب الأحاديث والمصنفات.
قال الرازي: " ومن الناس من طعن في هذا التأويل وقال: هذا القتل غير محرم واحتج عليه بوجوه:
الأول: روي أن رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدو ، فصاح به الناس، فألقى بيده إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: نحن أعلم بهذه الآية وإنما نزلت فينا: صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرناه وشهدنا معه المشاهد فلما قوي الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا وتصالحنا، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد " (1)
والثاني: روى الشافعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة، فقال له رجل من الأنصار: أرأيت يا رسول الله إن قُتِلتُ صابراً محتسباً؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لك الجنة» فانغمس في جماعة العدو فقتلوه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كانت عليه حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الجنة ثم انغمس في العدو فقتلوه (2).
والثالث: روي أن رجلاً من الأنصار تخلف عن بني معاوية فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه، فقال لبعض من معه: سأتقدم إلى العدو فيقتلونني ، ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي، ففعل ذلك فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال فيه قولا حسناً (3)(4)
(1) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله، باب ومن سورة البقرة، ج 5، ص 212، ح- 2972، وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب.
(2)
أخرجه الشافعي في الأم، ج 4، ص 242.
(3)
أخرجه البيهقي في الكبرى، باب جواز انفراد الرجل والرجال بالغزو، ج 9، ص 100، ح- 17979.
(4)
انظر التفسير الكبير/ الرازي، ج 2، ص 295.
حجة من قال: إن المراد بالتهلكة الاشتغال عن الجهاد وعن الإنفاق فيه بإصلاح أموالهم:
استدلوا بما رواه الترمذي عن أسلم أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم (القسطنطينية) فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم فحمل رجل من المسلمين على صف للروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم تتأوّلون هذه الآية هذا التأويل وإنما أنزلت فينا معاشر الأنصار لما أعزّ الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله: إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله على نبيه يرد علينا ما قلنا {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو" (1).
وهناك قول آخر في معنى التهلكة لم يذكره ابن عاشور وهو أن المراد بالآية: أي لا تيأسوا من المغفرة عند ارتكاب المعاصي فلا تتوبوا:
استدلوا بقول عبيدة السلماني يقول: هو الرجل يذنب الذنب فيستسلم ويلقي بيده إلى التهلكة، ويقول لا توبة له يعني قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ
(1) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب ومن البقرة ،ج 5 ، ص 212 ، ح- 2972.
إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1).
القول الراجح
هو ما ذهب إليه ابن عاشور مستنداً في ذلك إلى القاعدة الترجيحية وهي: (إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها).
وفي ذلك يقول الطبري: " فإذ كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله: "ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" ولم يكن الله عز وجل خصَّ منها شيئًا دون شيء، فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة - وهي العذاب - بترك ما لزمنا من فرائضه، فغيرُ جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا، مما نستوجب بدخولنا فيه عَذابَه. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن الأغلب من تأويل الآية: وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله، ولا تتركوا النفقة فيها، فتهلكوا باستحقاقكم (2)
وفي ذلك يقول الجصاص: " وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية لاحتمال اللفظ لها وجواز اجتماعها من غير تضاد ولا تناف "(3).
كما ذكر القرطبي أن اللفظ يتناول جميع سبله (4) وكذلك يرى الألوسي أن ظاهر اللفظ العموم (5).
(1) أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 2، ص 244.
(2)
جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 246.
(3)
أحكام القرآن / الجصاص، ج 1، ص 163.
(4)
انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 360.
(5)
انظر روح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 474.
وقال السعدي: " والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين: ترك ما أمر به العبد، إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح، وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح، فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة، فمن ذلك، ترك الجهاد في سبيل الله، أو النفقة فيه، الموجب لتسلط الأعداء، ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف، أو محل مسبعة أو حيات، أو يصعد شجرا أو بنيانا خطرا، أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك، فهذا ونحوه، ممن ألقى بيده إلى التهلكة.
ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة: الإقامة على معاصي الله، واليأس من التوبة، ومنها: ترك ما أمر الله به من الفرائض، التي في تركها هلاك للروح والدين " (1).
وأختم بقول ابن عاشور: " والآية تتحمل جميع المعاني المقبولة، ووقوع فعل (تلقوا) في سياق النهي يقتضي عموم كل إلقاء باليد للتهلكة أي كل تسبب في الهلاك عن عمد فيكون منهياً عنه محرماً ما لم يوجد مقتض لإزالة ذلك التحريم وهو ما يكون حفظه مقدماً على حفظ النفس مع تحقق حصول حفظه بسبب الإلقاء بالنفس إلى الهلاك أو حفظ بعضه بسبب ذلك "(2).
2 -
مثال الأنعام:
قال تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 1، ص 153.
(2)
التحرير والتنوير، ج 2، ص 215.
اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (1).
اختلف المفسرون في تفسير الفرش في هذه الآية، وقد ذكر هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره فقال: " الفرش ما لا يُطيق الحَمل من الإبل أي فهو يركب كما يُفرش الفَرش، وهذا قول الراغب.
وقيل: الفَرش الصّغار من الإبل أو من الأنعام كلّها، لأنَّها قريبة من الأرض فهي كالفرش، وقيل: الفرش ما يذبح لأنّه يفرش على الأرض حين الذبح أو بعده، أي فهو الضان والمعز والبقر لأنَّها تذبح.
وفي «اللّسان» عن أبي إسحاق: أجمع أهل اللّغة على أنّ الفرش هو صغار الإبل " وزاد في «الكشاف»: «أو الفَرْش: ما يُنْسَج من وبره وصوفه وشَعْره الفرْش» يريد أنه كما قال تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (2) {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} (3)، ولأنَّهم كانوا يفترشون جلود الغنم والمعز للجلوس عليها "(4).
ورجّح ابن عاشور جميع تلك المعاني في معنى الفرش لكونها جميعاً محتملة فقال: " ولفظ (فرشا) صالح لهذه المعاني كلّها، ومحامله كلّها مناسبة للمقام،
(1) سورة الأنعام، الآية (142).
(2)
سورة النحل، الآية (80).
(3)
سورة النحل، الآية (5 - 6).
(4)
التحرير والتنوير، ج 5، ص 125.
فينبغي أن تكون مقصودة من الآية، وكأنّ لفظ الفرش لا يوازنه غيره في جمع هذه المعاني، وهذا من إعجاز القرآن من جانب فصاحته، فالحمولة الإبل خاصّة، والفَرش يكون من الإبل والبقر والغنم على اختلاف معاني اسم الفرش الصّالحة لكلّ نوع مع ضميمته إلى كلمة (من) الصالحة للابتداء.
فالمعنى: وأنشأ من الأنعام ما تحملون عليه وتركبونه، وهو الإبل الكبيرة والإبل الصّغيرة، وما تأكلونه وهو البقر والغنم، وما هو فرش لكم وهو ما يُجزّ منها، وجلودها " (1).
وقد وافق قول ابن عاشور قول القرطبي حيث وصف هذا اللفظ بأنه لفظ مشترك، كما حسّن قول من قال أن الفرش ما خلقه الله من الجلود والصوف مما يجلس عليه ويتمهد (2)
ورجّح ابن جرير أن الفرش كل ما قرب جسمه من الأرض، وقريب منه قول ابن عطية، والرازي، والقرطبي (3).
وساق أبو حيان، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي معظم الأقوال الواردة في الفرش ولم يرجّحوا أحدها (4).
(1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 126.
(2)
انظرالجامع لاحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 112.
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 8، ص 78.، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 354.، والتفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 165، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 112.
(4)
انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 4، ص 241، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 169، وروح المعاني / الألوسي، ج 4، ص 282، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 521.
وحسّن ابن كثير قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في أن الفرش ما تأكلون وتحلبون، شاة لا تحمل تأكلون لحمها، وتتخذون من صوفها لحافاً وفراشاً (1)، وهو قريب من ترجيح الطبري.
وإليك الآن حجة أصحاب كل قول، وإن كان بين الأقوال تداخل:
حجة من قال: إن الفرش كل ما قرب من الأرض جسمه:
حجتهم في ذلك: أن الفرش صفة لما قرب جسمها من الأرض كا لأغنام.
قال الطبري: " والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: أن "الفرش"، إنما هو صفة لما لطف فقرب من الأرض جسمه، ويقال له: "الفرش" ، وأحسبها سميت بذلك تمثيلا لها في استواء أسنانها ولطفها بالفَرْش من الأرض، وهي الأرض المستوية التي يتوطَّؤُها الناس "(2).
وقال الخازن: " الفرش مالا يصلح للحمل سمي فرشاً لأنه يفرش للذبح ولأن قريب من الأرض لصغره "(3).
حجة من قال: إن الفرش صغار الإبل:
احتج أصحاب هذا القول بأن الأنعام تطلق على الإبل وحدها، وبذلك يكون قوله:{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} أي من الإبل حمولة وفرشاً.
قال مجاهد: الحمولة ما قد حمل من الإبل، والفرش صغار الإبل التي لم
(1) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 6، ص 192.
(2)
جامع البيان / الطبري، ج 8، ص 78.
(3)
لباب التأويل في معاني التنزيل / الخازن، ج 2، ص 165.
تحمل (1).
وقال ابن بحر (2): الافتراش الإضجاع للنحر، فتكون الحمولة كبارها، والفرش صغارها، قال الراجز:
أورثني حمولة وفرشاً ...... أمشها في كل يوم مشاً (3).
وقال الزجاج: أجمع أهل اللغة على أن الفرش هو صغار الإبل (4).
حجة من قال: إن الفرش ما خلق لكم من أصوافها وجلودها:
قال النحاس: "ومن أحسن ما قيل فيها أن الفرش ما خلقه الله عز وجل من الجلود والصوف مما يجلس عليه ويتمهد"(5). وهذا القول حسنه ابن كثير كما تقدم.
القول الراجح
والذي يظهر والله أعلم صحة ما ذهب إليه ابن عاشور من كون المعاني كلها محتملة، وذلك بناء على قاعدة المبحث بأنه (إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها).
(1) تفسير مجاهد، ص 330.
(2)
هو محمد تقي بن السيد رضا بن بحر العلوم الطباطبائي النجفي، من فقهاء ية، من أهل النجف، له القواعد في أصول الفقه، توفي سنة 1289 م. (انظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الطهراني، ج 2، ص 204، والإعلام / الزركلي، ج 6، ص 63).
(3)
النكت والعيون / الماوردي، ج 2، ص 179.
(4)
معاني القرآن / الزجاج، ج 2، ص 298.
(5)
معاني القرآن / النحاس، ج 2، ص 503.
وردّ القرطبي قول من قال: إن الأنعام المراد بها الإبل وحدها فقال: " وكذلك البقر والغنم فهي أنعام أيضاً وذكر في ذلك قول أحمد بن يحيى (1) ووصفه بأنه أصحها حيث قال: الأنعام كل ما أحله الله عز وجل من الحيوان ، ويدل على صحة هذا قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} (2) "(3).
ومما يعضد هذا القول، ويرد القول بأن المقصود بها صغار الإبل فقط سياق الآية بعدها حيث جاء بعدها ذكر الأصناف كلها:{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} (4) فجاءت هذه الآية بدلاً من قوله عز وجل {حَمُولَةً وَفَرْشًا} جعله للبقر والغنم مع الإبل (5).
(1) هو: أبو العباس أ. حمد بن يحيى بن زيد بن سيّار الشيباني، المعروف بثعلب ، إمام الكوفيين في النحو واللغة ، كان راوية للشعر ، محدثا مشهورا بالحفظ ، من كتبه: الفصيح ، وقواعد الشعر ، ومجالس ثعلب ، ومعاني القرآن ، مات عام (291 هـ). (انظر تبصير المنتبه بتحرير المشتبه / ابن حجر ،ج 1 ، ص 198 ، والأعلام / الزركلي ، ج 1 ، ص 267.
(2)
سورة المائدة، الآية (4).
(3)
الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 112.
(4)
سورة الأنعام، الآية (143).
(5)
انظر معاني القرآن / الأخفش، ج 1، ص 315.
3 -
مثال الضمير في السميع والبصير:
اختلف المفسرون في مرجع الضمير في قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
فمعظمهم ذهب إلى أن الضمير يعود إلى الله تعالى، وقلة منهم ذهبت إلى أنه يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد مال ابن عاشور إلى أن الضمير يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان لا يستبعد القول الآخر بل يراه محتملاً تكثيراً لمعاني الآية وهذا قوله:
" فقوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الأظهرُ أن الضميرين عائدان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقاله بعض المفسرين، ولكن جمهرة المفسرين على أنه عائد إلى الله تعالى.، ولعل احتماله للمعنيين مقصود، وقد تجيء الآيات محتملة عدّةَ معان، واحتمالها مقصود تكثيراً لمعاني القرآن، ليأخذ كل منه على مقدار فهمه كما ذكرنا في المقدمة التاسعة. وأياما كان فموقع (إنّ) التوكيد والتعليل كما يؤذن به فصل الجملة عما قبلها.
وهي إما تعليل لإسناد فعل (نريه) إلى فاعله؛ وإما تعليل لتعليقه بمفعوله، فيفيد أن تلك الإراءة من باب الحكمة، وهي إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، فهو من
(1) سورة الإسراء، الآية (1).
إيتاء الحكمة من هو أهلها " (1).
وقد مال إلى هذا القول قبل ابن عاشور الألوسي حيث ذكر كلا القولين وذكر أن كون الضمير يعود إلى الله تعالى هو الأظهر ، وعليه الأكثر، كما أنه لم يستبعد القول بأن الضمير يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم (2).
في حين ذهب معظم المفسرين منهم الطبري، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والقاسمي إلى أن الضمير في الآية عائد إلى الله تعالى، ولم يذكروا قولاً آخر غيره (3).
حجة من قال: إن الضمير في قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} يعود إلى الله تعالى:
دليلهم في ذلك: إن الله تعالى هو الموصوف وحده بالسميع والبصير، وفي ذلك يقول الطبري: " إن الذي أسرى بعبده هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون من أهل مكة في مسرى محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، ولغير ذلك من قولهم وقول غيرهم، البصير بما يعملون من الأعمال، لا يخفى عليه شيء من ذلك، ولا يعزب عنه علم شيء منه، بل هو محيط بجميعه علما،
(1) التحرير والتنوير، ج 7، ص 22.
(2)
انظر روح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 15، والتحرير والتنوير، ج 7، ص 22.
(3)
جامع البيان / الطبري، ج 15، ص 22، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 436، والتفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 293، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 10، ص 218، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 6، ص 7، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 374، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 207، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 449.
ومحصيه عددا، وهو لهم بالمرصاد، ليجزي جميعهم بما هم أهله" (1).
حجة من قال: إن الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل عوده إلى الله تعالى:
قالوا: إنه لا يبعد أن يتصف الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الصفات ،فهو السميع لأوامر الله تعالى البصير المعتبر بمخلوقاته.
قال الألوسي: " إنه لا يبعد، والمعنى عليه إن عبدي الذي شرفته بهذا التشريف هو المستأهل له فإنه السميع لأوامري ونواهي العامل بهما البصير الذي ينظر بنظرة العبرة في مخلوقاتي فيعتبر، أو البصير بالآيات التي أريناه إياها كقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} (2) "(3).
وذهب البقاعي إلى أن المقصود بالضمير هنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: " أي هذا العبد الذي اختصصناه بالإسراء هو (السميع) أي: أذناً وقلباً بالإجابة لنا والإذعان لأوامرنا، (البصير): بصراً وبصيرة بدليل ما أخبر به من الآيات، وصدقه من الدلالات، حين نعت ما سألوه عنه من بيت المقدس ومن أمر عيرهم وغيرهما مما هو مشهور في قصة الإسراء مما كان يراه وهو ينعت لهم وهم لا يرونه ولا يقاربون ذلك ولا يطمعون فيه، وقال من كان دخل منهم إلى بيت المقدس: أما النعت والله فقد أصاب، أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها،
(1) جامع البيان / الطبري، ج 15، ص 22.
(2)
سورة النجم، الآية (17).
(3)
روح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 15.
وأحوالها وقال: تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق، فخرجوا ذلك اليوم نحو الثنية يشتدون، فقال قائل: هذه والله الشمس قد طلعت، فقال آخر: وهذه والله العير قد أقبلت، يقدمها جمل أورق كما قال محمد، ثم لم يؤمنوا وقالوا: إن هذا إلا سحر مبين " (1).
وقال ابن عاشور: " والتعليل على اعتبار مرجع الضمير إلى النبي أوقع، إذ لا حاجة إلى تعليل إسناد فعل الله تعالى لأنه محقق معلوم. وإنما المحتاج للتعليل هو إعطاء تلك الإراءة العجيبة لمن شك المشركون في حصولها له ومن يحسبون أنه لا يطيقها مثله. على أن الجملة مشتملة على صيغة قصر بتعريف المسند باللام وبضمير الفصل قصراً مؤكداً، وهو قصر موصوف على صفة قصراً إضافياً للقلب، أي هو المدرك لما سمعه وأبصرهُ لا الكاذِبُ ولا المتوهمُ كما زعم المشركون. وهذا القصر يؤيد عود الضمير إلى النبي لأنه المناسب للرد ، ولا ينازع المشركون في أن الله سميع وبصير إلا على تأويل ذلك بأنه المُسمع والمبصِر لرسوله الذي كذبتموه، فيؤول إلى تنزيه الرسول عن الكذب والتوهم.
ثم إن الصفتين على تقدير كونهما للنبي صلى الله عليه وسلم هما على أصل اشتقاقهما للمبالغة في قوة سمعه وبصره وقبولهما لتلقي تلك المشاهدات المدهشة، على حد قوله تعالى:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} وقوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} (2)(3).
(1) نظم الدرر / البقاعي، ج 4، ص 330.
(2)
سورة النجم، الآية (12).
(3)
التحرير والتنوير، ج 7، ص 22.
القول الراجح
هو ما ذهب إليه ابن عاشور من كون كلا المعنيين محتملين ، وذلك يدل على مدى استحضار ابن عاشور لهذه القاعدة، في الوقت الذي ذهب معظم المفسرين إلى القول أن الضمير يعود إلى الله تعالى ولم يذكروا احتمالاً غيره.
ومما يدل على احتمال القول الآخر أحاديث كثيرة وردت في أنه صلى الله عليه وسلم يبصر من ورائه كما يبصر من أمامه كما أخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أقيموا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري ، وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه "(1).
وما رواه مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها "(2).
4 -
مثال القفو:
قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (3).
اختلف المفسرون في تأويل قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ} . إلى عدة أقوال:
أحدها: معناه لا تقل ما ليس لك به علم، وهو من قول قتادة.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتب الجماعة وة، باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف، ج 1، ص 254، ح- 692.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، ج 4، ص 2215، ح- 2889.
(3)
سورة الإسراء، الآية (36).
الثاني: معناه ولا ترم أحدًا بما ليس لك به علم، وهذا من قول ابن عباس.
الثالث: إنه من القيافة ، وهو اتباع الأثر، وكأنه يتبع قفا المتقدم (1).
وقد ذكر ابن عاشور هذه الأقوال في تفسيره وزاد عليها فقال: "ويندرج تحت هذا أنواع كثيرة منها:
الطعن في أنساب الناس، حيث كانوا يرمون النساء برجال ليسوا بأزواجهن، ويليطون بعض الأولاد بغير آبائهم بهتاناً، أو سوءَ ظن إذا رأوا بُعداً في الشبه بين الابن وأبيه أو رأوا شَبَهه برجل آخر من الحي أو رأوا لوناً مخالفاً للون الأب أو الأم، تخرصاً وجهلاً بأسباب التشكل، فإن النسل ينزع في الشبه وفي اللون إلى أصول من سلسلة الآباء أو الأمهات الأدنَيْن أو الأبعدِين، وجهلا بالشبه الناشئ عن الوحَم فهذا كان شائعاً في مجتمعات الجاهلية فنهى الله المسلمين عن ذلك، ومنها القذف بالزنى وغيره من المساوي بدون مشاهدة، وربما رموا الجيرة من الرجال والنساء بذلك .... وكذلك كان عملهم إذا غاب زوج المرأة لم يلبثوا أن يلصقوا بها تهمة ببعض جيرتها، وكذلك يصنعون إذا تزوج منهم شيخ مُسِنٌّ امرأة شابة أو نصفاً فولدت له ألصقوا الولد ببعض الجيرة. ولذلك لمّا قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً «سلوني» أكثر الحاضرون أن يسأل الرجل فيقول: مَن أبي؟ فيقول: أبوك فلان. وكان العرب في الجاهلية يطعنون في نسب أسامة بن زيد من أبيه زيد بن حارثة لأن أسامة كان أسود اللون ، وكان زيد أبوه أبيض أزهر، وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم أن أسامة بن زيد بن حارثة ، فهذا
(1) انظر هذه الأقوال في جامع البيان / الطبري، ج 15، ص 100 - 102، والنكت والعيون / الماوردي، ج 3، ص 243.
خلق باطل كان متفشياً في الجاهلية نهى الله المسلمين عن سوء أثره
ومنها تجنب الكذب. قال قتادة: لا تقف: لا تقل: رأيتُ وأنتَ لم تر، ولا سمعتُ وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم.
ومنها شهادة الزور وشملها هذا النهي، وبذلك فسر محمد بن الحنفية وجماعة.
ورجّح ابن عاشور جميع هذه المعاني لأنه يرى أنها كلها محتملة مستنداً في ذلك إلى القاعدة: " إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها "(1).
وممن وافق قوله قول ابن عاشور في احتمال تلك المعاني كلها فيمن سبقه الرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، وكذلك الشوكاني، والألوسي، والقاسمي، والشنقيطي.
قال الرازي: وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوما، وهذه قضية كلية يندرج تحتها أنواع كثيرة.
وقال القرطبي: " وبالجملة فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف، وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والرديئة (2).
ورجح الطبري وابن عطية أن المراد بالقفو: رمي الناس بالباطل، والشهادة عليهم بغير الحق، وإن كان الطبري حقيقة لا يستبعد الأقوال الأخرى لأنه بعد
(1) التحرير والتنوير، ج 7، ص 101.
(2)
انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 339.، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 10، ص 263.، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 6، ص 32، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 9، ص 9، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 227.، وروح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 71.، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 480.، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 580.
أن ذكر بعضها.
قال: " وتلك المعاني متقاربة لأن القول بما لا يعلمه القائل يدخل فيه شهادة الزور، ورمي الناس بالباطل، وادعاء سماع مالم يسمعه، ورؤية مالم يره "(1).
حجة من قال: إن المراد بالقفو القول بما ليس لك به علم:
حجتهم: ما جاء في اللغة من معنى القفو ، ومنه قول أبي عبيد: الأصل في القفو والتقافي البهتان يرمي به الرجل صاحبه، وقَفَوْتُه أَقْفُوه رميته بأمر قبيح " (2).
قال قتادة: "لا تقل رأيت وأنت لم تر، وسمعت وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم"(3).
وقال مجاهد: " لا تذم أحدا بما ليس لك به علم "(4).
حجة من قال: إن المراد بالقفو رمي الناس بالباطل:
دليلهم في ذلك ما جاء في الحديث أنه جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت ولداً أسودَ (يريد أن ينتفي منه) فقال له النبي: " هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانهن؟ قال: وُرْق. قال: وهل فيها من جمل أسود؟ قال: نعم. قال: فمن أين ذلك؟ قال: لعله عِرقٌ نزَعَه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم فلعل ابنك
(1) جامع البيان / الطبري، ج 15، ص 101، 102، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 455.
(2)
مجاز القرآن / أبو عبيدة، ج 1، ص 379.
(3)
أخرج رواية قتادة الطبري في تفسيره، ج 15، ص 100.
(4)
تفسير مجاهد، ص 436.
نزعه عِرق "، ونهاه عن الانتفاء منه (1).
فهذا كان شائعاً في مجتمعات الجاهلية فنهى الله المسلمين عن ذلك.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " نحن بنو النضر بن كنانة لا نقف أُمَّنا، ولا ننتفي من أبينا " أي: لا نسُبُّ أمنا " (2).
كما استدل أصحاب هذا القول عليه بأن الغالب في استعمال العرب أن القفو هو رمي الناس بالباطل.
قال الطبري: " وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب، لأن ذلك هو الغالب من استعمال العرب القفو فيه "(3).
حجة من قال: إن المراد بالقفو اتباع الأثر من القيافة:
حجتهم في ذلك اللغة، وهو ورود كلمة القفو: بمعنى تتبع الأثر.
قال ابن منظور: " قفاه قفْواً وقُفواً واقتفاه تبعه (4).
وقال الزمخشري: " قفا أثره وقافه، ومنه: القافة، يعني: ولا تكن في اتباعك ما لا علم لك به من قول أو فعل، كمن يتبع مسلكاً لا يدري أنه يوصله إلى
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المحاربين، باب ما جاء في التعريض، ج 6، ص 2511، ح - 6455، ومسلم في صحيحه، كتاب اللعان، ج 2، ص 1137، ح- 1500.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه، باب من نفى رجل من قبيلة، ج 2، ص 871، ح- 2612.
(3)
جامع البيان / الطبري، ج 15، ص 102.
(4)
لسان العرب / ابن منظور، ج 11، ص 263.
مقصده فهو ضال. والمراد: النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، وأن يعمل بما لا يعلم " (1).
القول الراجح
هو ما ذهب إليه ابن عاشور في كون المعاني كلها محتملة.
يقول ابن عاشور: " وما يشهد لإرادة جميع هذه المعاني تعليل النهي بجملة {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} فموقع الجملة موقع تعليل، أي أنك أيها الإنسان تُسأل عما تسنده إلى سمعك وبصرك وعقلك من مراجع القفو المنهي عنه "(2).
ولا شك أن ترجيح ابن عاشور ليدل على مدى استحضاره لقاعدة المبحث، وأن الآية إذا كانت تحتمل أكثر من معنى فالأولى الأخذ بهم جميعاً تكثيراً لمعاني الآية.
قال القاسمي: " ولا يخفى ما يندرج تحت هذه الآية من أنواع كثيرة. كمذاهب الجاهلية في الإلهيات والتحريم والتحليل. وكشهادة الزور والقذف ورمي المحصنات الغافلات والكذب وما شاكلها (3).
ويقول الشنقيطي في ذلك: " ويدخل في هذه الآية كل قول بلا علم، وأن
(1) الكشاف / الزمخشري، ج 3، ص 517.
(2)
التحرير والتنوير، ج 7، ص 101
(3)
محاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 480.
يعمل الإنسان بما لا يعلم " (1).
5 -
مثال رؤية العذاب:
قال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} (2).
حصل خلاف بين المفسرين في قوله تعالى: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} على عدة أقوال ، جمعها ابن عاشور في تفسيره فقال: " وأما قوله تعالى: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} فيحتمل معاني كثيرة فرضها المفسرون: وجماع أقوالهم فيها أخذاً ورداً أن نجمعها في خمسة وجوه:
أحدها: أن يكون عطفاً على جملة {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} والرؤية بصرية، والعذاب عذاب الآخرة، أي أحضر لهم آلة العذاب ليعلموا أن شركاءهم لا يغنون عنهم شيئاً. وعلى هذا تكون جملة:{لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} مستأنفة ابتدائية مستقلة عن جملة {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} .
الثاني: أن تكون الواو للحال ، والرؤية أيضاً بصرية والعذاب عذاب الآخرة، أي وقد رأوا العذاب فارتبكوا في الاهتداء إلى سبيل الخلاص فقيل لهم: ادعوا
(1) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 580.
(2)
سورة القصص، الآية (64).
شركاءكم لخلاصكم، وتكون جملة:{لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} كذلك مستأنفة ابتدائية.
الثالث: أن تكون الرؤية علمية، وحذف المفعول الثاني اختصاراً، والعذاب عذاب الآخرة. والمعنى: وعلموا العذاب حائقاً بهم، والواو للعطف أو الحال. وجملة:{لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} مستأنفة استئنافاً بيانياً ، كأن سائل سأل: ماذا صنعوا حين
تحققوا أنهم معذبون؟ فأجيب بأنهم لو أنهم كانوا يهتدون سبيلاً لسلكوه ولكنهم لا سبيل لهم إلى النجاة.
وعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون (لو) حرف شرط وجوابها محذوفاً دل عليه حذف مفعول (يهتدون) أي يهتدون خلاصاً أو سبيلاً. والتقدير: لتخلصوا منه. وعلى الوجوه الثلاثة ففعل (كانوا) مزيد في الكلام لتوكيد خبر (أنّ) أي لو أنهم يهتدون اهتداء متمكناً من نفوسهم، وفي ذلك إيماء أنهم حينئذ لا قرارة لنفوسهم. وصيغة المضارع في (يهتدون) دالة على التجدد فالاهتداء منقطع عنهم وهو كناية عن عدم الاهتداء من أصله.
الرابع: أن تكون (لو) للتمني المستعمل في التحسر عليهم ، والمراد: اهتداؤهم في حياتهم الدنيا كيلا يقعوا في هذا العذاب، وفعل (كانوا) حينئذ في موقعه الدال على الاتصاف بالخبر في الماضي، وصيغة المضارع في (يهتدون) لقصد تجدد الهدى المتحسر على فواته عنهم فإن الهدى لا ينفع صاحبه إلا إذا استمر إلى آخر حياته.
الخامس: أن يكون المراد بالعذاب: عذاب الدنيا، والكلام على حذف
مضاف تقديره: ورأوا آثار العذاب، والرؤية بصرية، أي وهم رأوا العذاب في حياتهم أي رأوا آثار عذاب الأمم الذين كذبوا الرسل وهذا في معنى قوله تعالى في سورة إبراهيم:{وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} (1) وجملة: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} شرط جوابه محذوف دل عليه: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} أي بالاتعاظ وبالاستدلال بحلول العذاب في الدنيا على أن وراءه عذاباً أعظم منه لاهتدوا فأقلعوا عن الشرك وصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لأنه يفيد معنى زائداً على ما أفادته جملة {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} فهذه عدة معان يفيدها لفظ الآية، وكلها مقصودة، فالآية من جوامع الكلم (2).
ومما تقدم نلمس اهتمام ابن عاشور بقاعدة المبحث وذلك من خلال احتماله لكل ما سبق من المعاني في الآية.
ورجّح الطبري، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي أن المراد بقوله تعالى {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} أي: في الآخرة ، عاينوه فودوا حين رأو لعذاب لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين (3).
(1) سورة إبراهيم، الآية (45).
(2)
التحرير والتنوير، ج 10، ص 160 - 161.
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 20، ص 115.، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 295، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 13، ص 315.، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 10، ص 478، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 182.، وروح المعاني / الألوسي، ج 10، ص 308، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 553.
وترجيحهم هذا بناءً على أن (لو) حرف شرط ، وجوابها محذوف دل عليه حذف مفعول (يهتدون) أي يهتدون خلاصاً أو سبيلاً.
أما الرازي فلا يرى أن جواب لو محذوف، ولذلك احتمل وجوهاً أخرى، وسيأتي قوله.
ويمكنني إجمال تلك الأقوال التي ذكرها ابن عاشور على قولين يظهران ببيان حجة كل منهما:
حجة من قال: إن الرؤية يوم القيامة حين عاينوا العذاب:
استدل أصحاب هذا القول بما جاء في القرآن موضحا ما جاء في هذه الآية:
قال ابن كثير وهذا كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} (1).
كما استدلوا على ذلك أيضا بما جاء في اللغة
قال الزجاج: "جواب لو محذوف؛ والمعنى: لو أنهم كانوا يهتدون لأنجاهم الهدى، ولما صاروا إلى العذاب _أي يوم القيامة - "(2).
(1) سورة الكهف، الآية (52).
(2)
معاني القرآن / الزجاج، ج 4، ص 151.
وابن عاشور فيما سبق احتمل أن يكون جواب لو محذوف ، وبنى على ذلك وجوها تقدمت.
واحتمل الرازي وجوهاً أخرى لكونه لا يرى أن جواب لو محذوف فيقول: " وعندي أن الجواب غير محذوف ، وفي تقريره وجوه:
أحدها: أن الله تعالى إذا خاطبهم بقوله: {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} فههنا يشتد الخوف عليهم ويلحقهم شيء كالسدر والدوار ، ويصيرون بحيث لا يبصرون شيئاً فقال تعالى:{وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} .شيئاً أما لما صاروا من شدة الخوف بحيث لا يبصرون شيئاً لا جرم ما رأوا العذاب.
وثانيها: أنه تعالى لما ذكر عن الشركاء ، وهي الأصنام أنهم لا يجيبون الذين دعوهم ،قال في حقهم {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} أي هذه الأصنام كانوا يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين ولكنها ليست كذلك فلا جرم ما رأت العذاب فإن قيل قوله:{وَرَأَوُا الْعَذَابَ} ضمير لا يليق إلا بالعقلاء فكيف يصح عوده إلى الأصنام؟ قلنا هذا كقوله: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} وإنما ورد ذلك على حسب اعتقاد القوم فكذا.
وثالثها: أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب ، أي والكفار علموا حقية هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون ، وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب لو محذوف فإن ذلك يقتضي تفكيك النظم من الآية
الأمر " (1).
وردّ أبو حيان ما اختاره الرازي بقوله: " وقد أثنى على هذا الذي اختاره، وليس بشيء، لأنه بناه على أن الضمير في رأوا عائد على المدعوين، قال: وهم الأصنام. والظاهر أنه عائد على الداعين، كقوله:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (2) ولأن حمل مهتدين على الأحياء في غاية البعد، لأن ما قدره هو جواب، ولا يشعر به أنه جواب، إذ صار التقدير عنده: لو كانوا من الأحياء رأوا العذاب، لكنها ليست من الأحياء، فلا ترى العذاب ألا ترى إلى قوله: فلا جرم ما رأت العذاب؟ (3).
حجة من قال: إن المراد بالرؤية أي في الدنيا:
احتج هؤلاء باللغة حيث قالوا: إن الكلام على حذف مضاف تقديره: ورأوا آثار العذاب في حياتهم.
قال ابن عاشور محتملاً هذا القول أيضاً: " المراد بالعذاب عذاب الدنيا، والكلام على حذف مضاف تقديره: ورأوا آثار العذاب، والرؤية بصرية، أي وهم رأوا العذاب في حياتهم أي رأوا آثار عذاب الأمم الذين كذبوا الرسل وهذا في معنى قوله تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
(1) التفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 9.
(2)
سورة البقرة، الآية (166).
(3)
البحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 124.
وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} (1)؛ وجملة {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} . شرط جوابه محذوف دل عليه {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} . أي: بالاتعاظ وبالاستدلال بحلول العذاب في الدنيا على أن وراءه عذاباً أعظم منه لاهتدوا، فأقلعوا عن الشرك ، وصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لأنه يفيد معنى زائداً على ما أفادته جملة {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} (2).
القول الراجح
إن المراد بالرؤية رؤية العذاب يوم القيامة
ومما يرجح هذا القول ويقويه القاعدة الترجيحية (القول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره) وقد جاء في سورة الكهف ما يدل على أن رؤية العذاب يوم القيامة كما تقدم ، قال تعالى:{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} (3).
كما يؤكد هذا القول أيضاً القاعدة الترجيحية القائلة: (القول الذي يدل
(1) سورة إبراهيم، الآية (45).
(2)
النكت والعيون / الماوردي، ج 1، ص 253.
(3)
سورة الكهف، الآية (52 - 53).
عليه السياق أولى من غيره) وسياق الآيات قبلها في الحديث عن حالهم يوم القيامة. قال تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ..... } الآية (1).
(1) سورة القصص، الآية (61 - 64).
ونظائر هذه الأمثلة كثير جداً في تفسيره منها:
1 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 23) وفيه قول ابن عاشور: " وعندي أن الاحتمالات التي احتملها قوله: (من مثله) كلها مرادة "(التحرير والتنوير، ج 1، ص 338).
2 -
…
ماجاء في تفسير قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (1)(يوسف: 18)، قال ابن عاشور: " وقوله: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} عطف على جملة {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} فتكون محتملة للمعنيين المذكورين من إنشاء الاستعانة أو الإخبار بحصول استعانته بالله على تحمل الصبر على ذلك، أو أراد الاستعانة بالله ليوسف عليه السلام على الخلاص مما أحاط به (التحرير والتنوير، ج 6، ص 240). =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
=
3 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} (الأنبياء: 26 - 30)، وفيها ذكر ابن عاشور معانٍ عدة في معنى رتقاً منها: " أن يراد بالرتق الاتصال أي كانت السموات والأرض كتلة واحدة، ويحتمل أن يراد بالتق العدم والفتق الإيجاد، ويحتمل أن يراد بالتق الظلمة، وبالفتق النور، وغيرها
…
إلى أن قال: " والظاهر أن الآية تشمل جميع ما يتحقق فيه معاني الرتق والفتق إذ لا مانع من اعتبار معنى عام يجمعها، فتكون الآية قد اشتملت على عبرة تعم كل الناس وعلى عبرة خاصة بأهل النظر والعلم. (التحرير والتنوير، ج 8، ص 56).
4 -
…
ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا} (الصافات: 28) احتمل ابن عاشور عدة معاني لقوله (عَنِ الْيَمِينِ) منها: أي تأتوننا من الجهة التي يحسنها تمويهكم وإغواؤكم وتُظهرون فيها أنها جهة الرشد ومما تحتمله الآية أن يريدوا: إنكم كنتم تأتوننا، أي تقطعون بنا عن أخبار الخير واليُمْن (التحرير والتنوير، ج 11، ص 105).
5 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الصف: 6)، قال ابن عاشور:"ونحن نجري على أصلنا في حمل ألفاظ القرآن على جميع المعاني التي يسمح بها الاستعمال الفصيح كما في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير، فنحمل الاسم في قوله: (اسمه أحمد) على ما يجمع بين هذه الاستعمالات الثلاثة، أي مسماه أحمد، وِذكْره أحْمد، وعَلَمه أحمَد "(التحرير والتنوير، ج 13، ص 184).