المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة: - قواعد الترجيح المتعلقة بالنص عند ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير

[عبير بنت عبد الله النعيم]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مشكلة البحث:

- ‌حدود البحث:

- ‌أهمية البحث وأسباب اختياره:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌أهداف البحث:

- ‌أسئلة البحث:

- ‌المنهج في كتابة البحث:

- ‌إجراءات البحث:

- ‌ومنهجي في دراسة هذه القواعد كالآتي:

- ‌أما المنهج المتبع في دراسة تلك الأمثلة فهو الآتي:

- ‌خطة البحث

- ‌كلمة شكر وتقدير

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأولالتعريف بابن عاشور

- ‌المطلب الأولنشأته وبيئته العلمية

- ‌اسمه ونسبه:

- ‌مولده:

- ‌نشأته:

- ‌مسيرته العلمية والعملية:

- ‌شيوخه وعلماء عصره:

- ‌تلامذته:

- ‌المطلب الثاني‌‌مذهبه الفقهيوالعقدي ومؤلفاته

- ‌مذهبه الفقهي

- ‌منهجه في العقيدة:

- ‌كتاباته ومؤلفاته:

- ‌أولاً: آثاره في التفسير:

- ‌ثانياً: آثاره في الحديث النبوي الشريف:

- ‌ثالثاً: آثاره في الفقه وأصوله:

- ‌رابعاً: آثاره في الثقافة الإسلامية:

- ‌خامساً: آثاره في اللغة والأدب:

- ‌سادساً: آثاره في التاريخ والتراجم

- ‌وفاته:

- ‌المبحث الثانيالتعريف بتفسير (التحرير والتنوير)

- ‌المطلب الأولالتعريف بـ " التحرير والتنوير

- ‌منهجه في إيراد المعلومات:

- ‌المطلب الثانيموقف ابن عاشور من أنواع التفسير

- ‌أولاً: موقفه من التفسير بالمأثور:

- ‌ تفسير القرآن بالقرآن

- ‌ تفسير القرآن بالسنة:

- ‌أولاً: طريقته في إيراد الأحاديث:

- ‌ثانياً: طريقته في عزو الأحاديث:

- ‌ثالثاً: طريقته في الحكم على الأحاديث:

- ‌ تفسير القرآن بمرويات الصحابة والتابعين ومن بعدهم:

- ‌ موقفه من الإسرائيليات:

- ‌ثانياً: موقفه من التفسير بالرأي:

- ‌المطلب الثالثمنهج ابن عاشور في القراءات المتواترة والشاذة

- ‌المطلب الرابععنايته بالوجوه البلاغية واللغة

- ‌أولاً: الإيجاز:

- ‌ثانياً: المجاز:

- ‌ثالثاً: الإعجاز:

- ‌رابعاً: التفنن:

- ‌خامساً: الالتفات:

- ‌المطلب الخامسمصادر ابن عاشور في تفسيره

- ‌1 - التفسير وعلوم القرآن:

- ‌2 - في القراءات:

- ‌3 - الحديث النبوي:

- ‌4 - الفقه والأصول:

- ‌5 - العقيدة وعلم الكلام:

- ‌6 - اللغة والنحو:

- ‌الفصل الأولمقدمات في قواعد التفسير والترجيح

- ‌المبحث الأولمعنى القاعدة والتفسير والترجيح

- ‌تعريف القاعدة:

- ‌تعريف التفسير لغة:

- ‌تعريف التفسير اصطلاحاً:

- ‌تعريف الترجيح:

- ‌التعريف بالمركب الإضافي "قواعد الترجيح

- ‌المبحث الثانينشأة قواعد الترجيح

- ‌المبحث الثالثالفرق بين قواعد التفسير وقواعد الترجيح

- ‌أولاً: قواعد التفسير

- ‌تعريفه:

- ‌فائدته:

- ‌استمداد قواعد التفسير:

- ‌ثانياً: قواعد الترجيح:

- ‌موضوع قواعد الترجيح:

- ‌فائدته:

- ‌استمدادها:

- ‌المبحث الرابعأنواع قواعد الترجيح

- ‌أولا: قواعد الترجيح المتعلقة بالنص:

- ‌ثانياً: قواعد الترجيح المتعلقة بالسنة والأثر:

- ‌ثالثاً: قواعد الترجيح المتعلقة باللغة، ومنها:

- ‌المبحث الخامسالأسباب الموجبة للترجيح

- ‌الأول: اختلاف تضاد:

- ‌الثاني: اختلاف تنوع:

- ‌المبحث السادسقواعد التفسير عند ابن عاشور

- ‌أولاً: القواعد المتعلقة بأسباب النزول:

- ‌ثانياً: القواعد اللغوية

- ‌ثالثاً: القواعد المتعلقة بالقراءات

- ‌رابعاً: القواعد المتعلقة بالسنة والآثار

- ‌خامساً: القواعد المتعلقة بالنسخ

- ‌الفصل الثانيقواعد الترجيح المتعلقة بذات النص القرآني

- ‌المبحث الأولالقول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثانيالأصل إطلاق اللفظ على ظاهره ما لم يرد دليل يصرفه عن ظاهره

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في هذه القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثالثالأولى إعمال اللفظ بكلا معنييه الحقيقي والمجازي متى أمكن

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الرابعيقدم المجاز على الحقيقة إذا وجدت القرينة

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في هذه القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الخامسإذا خلت الأقوال في الآية من مستند شرعي وكانت متساوية فالقول الموافق لما جاء في التوراة مقدم على غيره

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌الفصل الثالثقواعد الترجيح المتعلقة بالنسخ

- ‌المبحث الأولالأصل عدم النسخ ما لم يقم دليلصحيح صريح على خلاف ذلك

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في هذه القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثانيقاعدة النسخ لا يقع في الأخبار

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثالثإن الزيادة على النص ليست بنسخ

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الرابعالإجماع يعد ناسخاً

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الخامسالتخصيص بعد العمل بالعام والتقييد بعد العمل بالمطلق لايعدُّ نسخاً

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح ألفاظ القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌الفصل الرابعقواعد الترجيح المتعلقة بالقراءات ورسم المصحف

- ‌المبحث الأولالقراءات المتواترة حق كلها نصاً ومعنى لا يجوز ردها أو رد معناها

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في هذه القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثانيالأصل توافق القراءات في المعنى

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثالثاختلاف القراءات في ألفاظ القرآن الكريم يكثر المعاني في الآية الواحدة

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الرابعتأتي القراءة في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌أمثلة تطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الخامسالتفسير الموافق لرسم المصحف مقدم على غيره من التفاسير

- ‌صورة القاعدة:

- ‌بيان ألفاظ القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌الفصل الخامسقواعد الترجيح المتعلقة بالسياق القرآني

- ‌المبحث الأولالقول الذي يدل عليه السياق أولى من غيرهمالم توجد حجة يجب إعمالها

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثانيالقول المبني على مراعاة النظم وظاهر ترتيب الكلام أولى من غيره

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثالثلكل آية مقامها الذي يجري عليه استعمال كلماتهافلا تعارض بين الآيات

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌موقف العلماء من القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌الفصل السادسقواعد الترجيح المتعلقة بالمفردة القرآنية

- ‌المبحث الأولإعمال الأغلب في القرآن وتقديم المفهوم الجاري في استعماله أولى

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثانيزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى

- ‌صورة القاعدة:

- ‌شرح مفردات القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌المبحث الثالثإذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها

- ‌صورة القاعدة:

- ‌أقوال العلماء في القاعدة:

- ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- ‌الفصل السابعتقويم منهج ابن عاشور في الترجيح

- ‌المبحث الأولمعالم منهج ابن عاشور في الترجيح ومميزاته

- ‌المطلب الأولصيغ الترجيح عند ابن عاشور

- ‌المطلب الثانيمنهج ابن عاشور في استعمال وجوه الترجيح

- ‌المطلب الثالثمميزات الترجيح عند ابن عاشور

- ‌المبحث الثانيالمآخذ على منهج ابن عاشور في الترجيح

- ‌المبحث الثالثأثر عقيدة ابن عاشور في صياغة القواعد والترجيح بها

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

قال الزركشي في "البرهان": ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز " (1).

وقال أبو حيان في تفسيره لقوله تعالى {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (2): " والخطاب في (أرأيت) الظاهر أنه للرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا (أرأيت) الثاني، والتناسق في الضمائر هو الذي يقتضيه النظم "(3).

‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

1 -

مثال الشركاء:

قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (4).

اختلف المفسرون في المقصود بالذين خرقوا بنين وبنات في هذه الآية على قولين: فذهب معظم المفسرين إلى القول بأن المقصود بهم المشركون واليهود

(1) البرهان في علوم القرآن / الزركشي، ج 1، ص 317.

(2)

سورة العلق، الآية (9 - 13).

(3)

البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 489.

(4)

سورة الأنعام، الآية (100).

ص: 722

والنصارى، ويرى آخرون أن المقصود بهم المشركون فقط (1)، ورجّح ابن عاشور القول الثاني، وهذا قوله:" والمراد أن المشركين نسبوا إليه بنين وبنات. وليس المراد اليهود في قولهم (عزير ابن الله) ولا النصارى في قولهم (عيسى ابن الله). كما فسر به جميع المفسرين لأن ذلك لا يناسب السياق ويشوش عود الضمائر ويخرم نظم الكلام "(2).

وممن وافق قوله قول ابن عاشور من المفسرين السعدي (3)، في حين ذهب جمهور المفسرين الذين اعتمدتهم في هذا البحث إلى القول بأن المقصود بهم المشركون واليهود والنصارى (4).

وإليك حجة أصحاب كل قول:

حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن المقصود بقوله تعالى: " وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ "هم المشركون واليهود والنصارى:

حجتهم في ذلك: ما روي عن السدي، وابن زيد قولهم: قالت العرب:

(1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 329، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 55.

(2)

التحرير والتنوير، ج 4، ص 408.

(3)

انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 2، ص 51.

(4)

انظر جامع البيان/ الطبري، ج 7، ص 345، المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 329، والتفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 91، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 55.، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 4، ص 197، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 6121، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 147. وروح المعاني/ الألوسي، ج 4، ص 228، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 459.

ص: 723

الملائكة بنات الله، وقالت اليهود والنصارى: المسيح وعزير ابنا الله (1).

وقال ابن عطية: "أما الذين خرقوا البنين فاليهود في ذكر عزير والنصارى في ذكر المسيح، وأما ذاكروا البنات فالعرب الذين قالوا للملائكة بنات الله، فكأن الضمير في (جعلوا) و (خرقوا) لجميع الكفار إذ فعل بعضهم هذا، وبنحو هذا فسّر السدي وابن زيد "(2).

حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن المقصود بالآية هم المشركون فقط: :

حجتهم في ذلك: أن هذا هو الأنسب لسياق الآية، وما عداه لا يناسب السياق، ويشوش عود الضمائر، ويخرم نظم الكلام " (3).

وممن ذهب إلى هذا القول السعدي حيث يقول: " وكذلك "خرق المشركون" أي: ائتفكوا، وافتروا من تلقاء أنفسهم لله، بنين وبنات بغير علم منهم، ومن أظلم ممن قال على الله بلا علم، وافترى عليه أشنع النقص، الذي يجب تنزيه الله عنه؟ ! ! .

ولهذا نزه نفسه عما افتراه عليه المشركون فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (4) ، فإنه تعالى الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، وآفة وعيب " (5).

(1) أخرج روايتهم الطبري في تفسيره، ج 7، ص 345.

(2)

المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 329. .

(3)

انظر التحرير والتنوير، ج 4، ص 408.

(4)

سورة الأنعام، الآية (100).

(5)

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 2، ص 51.

ص: 724

وقال ابن عاشور: "فالوجه أن المراد أن بعض المشركين نسبوا لله البنين وهم الذين تلقنوا شيئا من المجوسية؛ لأنهم لما جعلوا الشيطان متولدا عن الله تعالى ، إذ قالوا إن الله لما خلق العالم تفكر في مملكته واستعظمها فحصل له عجب تولد عنه الشيطان وربما قالوا أيضا: إن الله شك في قدرة نفسه فتولد من شكه الشيطان ، فقد لزمهم أن الشيطان متولد عن الله - تعالى عما يقولون - فلزمهم نسبة الابن إلى الله تعالى ولعل بعضهم كان يقول بأن الجن أبناء الله والملائكة بنات الله أو أن في الملائكة ذكورا وإناثا "(1).

وابن عاشور في ترجيحه لهذا القول بالرغم من أن معظم المفسرين الذين سبقوه ذهبوا إلى القول الآخر يؤكد لنا مدى اهتمامه بهذه القاعدة الترجيحية حيث إن الآية في أولها تتحدث عن مشركي العرب، ولا حجة توجب صرف الآية إلى اليهود والنصارى، ولذلك مال إلى هذا القول.

ومن الأمور التي دعت ابن عاشور إلى اختيار هذا القول: أن أول الآية يخاطب مشركي العرب، قال تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} والمعنى كما ذكر ابن عاشور وغيره من المفسرين أن هذه الآية: " عطف على الجمل قبله عطف القصّة على القصّة، فالضّمير المرفوع في {وَجَعَلُوا} عائد إلى {قَوْمُكَ} من قوله تعالى:{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} (2) وهذا انتقال إلى ذكر شِرك آخر من شرك العرب وهو جعلهم الجِنّ شركاءَ لله في عبادتهم كما

(1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 4، ص 407.

(2)

سورة الأنعام، الآية (66).

ص: 725

جعلوا الأصنام شركاء له في ذلك.، وقد كان دين العرب في الجاهليّة خليطاً من عبادة الأصنام، ومن الصّابئيّة: عبدة الكواكب وعبدة الشّياطين، ومجوسيّة الفرس، وأشياء من اليهوديّة، والنّصرانيّة.

فكان العرب يثبتون الجنّ وينسبون إليهم تصرّفات، فلأجل ذلك كانوا يتّقون الجنّ وينتسبون إليها ويتّخذون لها المَعاذات والرّقَى ويستجلبون رضاها بالقرابين وترك تسميّة الله على بعض الذبائح ، وكانوا يعتقدون أنّ الكاهن تأتيه الجنّ بالخبر من السّماء، وأنّ الشّاعر له شيطان يوحي إليه الشّعر، ثمّ إذا أخذوا في تعليل هذه التصرّفات وجمعوا بينها وبين معتقدهم في ألوهيّة الله تعالى تعلّلوا لذلك بأنّ للجنّ صلة بالله تعالى فلذلك قالوا: الملائكة بنات الله مِن أمّهاتٍ سَرَوات الجنّ، كما أشار إليه قوله تعالى:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} (1) وقال: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (2)، ومن أجل ذلك جَعَل كثير من قبائل العرب شيئاً من عبادتهم للملائكة وللجنّ. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ

(1) سورة الصافات، الآية (158).

(2)

سورة الصافات، الآية (149 - 152).

ص: 726

(40)

قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} (1)(2).

القول الراجح:

فيما يبدو لي والله أعلم أن القول الراجح هو ما ذهب إليه ابن عاشور أي أن الذين خرقوا بنين وبنات هم المشركون؛ لأن سياق الآية يدل عليه، والقول الذي يدل عليه سياق الآية أولى من غيره، ومما يقوي هذا القول ويعضده قاعدة:(الأصل عود الضمير إلى أقرب مذكور مالم يدل عليه دليل على خلاف ذلك)(3).

وبما أن أقرب مذكور هم المشركون حمل عليه، كما أنه ليس هناك دليل يدل على غيره، وعليه فيترجح هذا القول.

وفي ذلك يقول السمين الحلبي: " إن عود الضمير على غير مذكور بلا مدلول خلاف الأصل "(4).

2 -

مثال امرأة العزيز:

قال تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي

(1) سورة سبأ، الآية (40 - 41).

(2)

انظر التحرير والتنوير، ج 4، ص 405.

(3)

عقود المرجان في قواعد المنهج الأمثل / أحمد سلامة أبو الفتوح، ص 193.

(4)

الدر المصون / السمين الحلبي ، ج 2، ص 248.

ص: 727

كَيْدَ الْخَائِنِينَ} (1).

اختلف المفسرون في هذه الآية {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} من قول من هذه الآية؟ على وجهين:

أحدها: أنه قول امرأة العزيز عطفاً على ما تقدم، أي ذلك ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، يعني الآن في غيبه بالكذب عليه وإضافة السوء إليه لأن الله لا يهدي كيد الخائنين، حكاه ابن عيسى.

ثانيها: أنه قول يوسف بعد أن علم بظهور صدقه، وذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب عنه في زوجته، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي " (2).

ورجّح ابن عاشور أنه من كلام امرأة العزيز، وذلك بناءً على قاعدة المبحث ، وهذا قوله: " ظاهر نظم الكلام أن الجملة من قول امرأة العزيز، وعلى ذلك حمله بعض المفسرين، وعزاه ابن عطية إلى فرقة من أهل التأويل، ونُسب إلى الجبائي، واختاره الماوردي، وهو في موقع العلة لما تضمنته جملة {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} (3) وما عطف عليها من إقرار ببراءة يوسف عليه السلام بما كانت رمتْه به. فالإشارة بذلك إلى الإقرار المستفاد من جملة {أَنَا

(1) سورة يوسف، الآية (52).

(2)

انظر هذه الأقوال في النكت والعيون / الماوردي، ج 3، ص 47.

(3)

سورة يوسف، الآية (51).

ص: 728

رَاوَدْتُهُ} أي ذلك الإقرار ليعلم يوسف عليه السلام أني لم أخنه." (1)

وما اختاره ابن عاشور هو ما ذهب إليه كل من الرازي وأبو حيان، وابن كثير والقاسمي (2).

في حين ذهب الطبري والشوكاني والألوسي إلى أنه من قول يوسف عليه السلام (3).

وذكر ابن عطية والقرطبي تلك الأقوال ولم يرجحا (4).

حجة أصحاب القول الأول القائلين: إن قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} . من قول امرأة العزيز:

قال الرازي والذي يدل على صحة هذا القول: " أن يوسف عليه السلام ما كان حاضراً في ذلك المجلس حتى يقال لما ذكرت المرأة قولها: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} ففي تلك الحالة يقول يوسف: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} بل

(1) التحرير والتنوير، ج 6، 292.

(2)

انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 6، ص 469، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 5، ص 316، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 50، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 192

(3)

انظر جامع البيان / الطبري، ج 12، ص 283، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 34، وروح المعاني / الألوسي، ةج 6، ص 450.

(4)

انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 253 - 254، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 9، ص 215 - 216.

ص: 729

يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول من ذلك المجلس إلى السجن ويذكر له تلك الحكاية، ثم إن يوسف يقول ابتداء {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} ومثل هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين ما جاء ألبته في نثر ولا نظم فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة" (1).

قال ابن كثير مرجحا هذا القول: " تقول: إنما اعترفت بهذا على نفسي، ذلك ليعلم زوجي أن لم أخنه في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة، فامتنع؛ فلهذا اعترفتُ ليعلم أني بريئة، {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (2) تقول المرأة: ولست أبرئ نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى؛ ولهذا راودته لأنها أمارة بالسوء، {إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} (3) أي: إلا من عصمه الله تعالى، {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) "(5).

وهذا القول نصره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: " إن قوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب إذا كان معناه على ما زعموه أن يوسف أراد أن يعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته على قول أكثرهم أو ليعلم الملك أو ليعلم الله لم يكن هنا ما

(1) التفسير الكبير / الرازي، ج 6، ص 469.

(2)

سورة يوسف، الآية (52 - 53).

(3)

سورة يوسف، الآية (53).

(4)

سورة يوسف، الآية (53).

(5)

تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 50.

ص: 730

يشار إليه فإنه لم يتقدم من يوسف كلام يشير به إليه ولا تقدم أيضا ذكر عفافه واعتصامه فإن الذي ذكره النسوة قولين ما علمنا عليه من سوء وقول امرأة العزيز أنا روادته عن نفسه وهذا فيه بيان كذبها فيما قالته أولا ليس فيه نفس فعله الذي فعله هو فقول القائل إن قوله ذلك من قول يوسف مع أنه لم يتقدم منه هنا قول ولا عمل لا يصلح بحال " (1).

حجة أصحاب القول الثاني القائلين: إنه من قول يوسف:

قال الفراء مؤكداً هذا القول: " قال ذلك يوسف لما رجع إليه الساقي فأخبره ببراءة النسوة إياه، فقال يوسف {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}

(2) ".

وقال الطبري مقررا أن ذلك من قول يوسف ولم يحك غيره: " هذا الفعل الذي فعلتُه، من ردّي رسول الملك إليه، وتركي إجابته والخروج إليه، ومسألتي إيّاه أن يسأل النسوة اللاتي قطَّعن أيديهن عن شأنهن إذ قطعن أيديهن، إنما فعلته ليعلم أني لم أخنه في زوجته بالغيب"، يقول: لم أركب منها فاحشةً في حال غيبته عني وإذا لم يركب ذلك بمغيبه، فهو في حال مشهده إياه أحرى أن يكون بعيدًا من ركوبه " (3).

(1) مجموع الفتاوى / شيخ الإسلام ابن تيمية، ، ج 15، ص 139.

(2)

معاني القرآن / الفراء، ج 2، ص 47.

(3)

جامع البيان / الطبري، ج 12، ص 283.

ص: 731

القول الراجح:

هو ما ذهب إليه ابن عاشور وذلك بناء على القاعدة الترجيحية (القول المبني على مراعاة النظم، وظاهر ترتيب الكلام أولى من غيره) حيث يقول: "ظاهر نظم الكلام أن الجملة من قول امرأة العزيز"(1).

وكذلك قال ابن كثير: " وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام "(2).

أما القول بأن ذلك من قول يوسف فهو قول مردود يرده السياق.

وقد رد شيخ الإسلام هذا القول وبيّن ضعفه فقال: " ليس هذا من كلام يوسف عليه السلام، بل هو من كلام امرأة العزيز كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة، لا يرتاب فيها من تدبر القرآن، حيث قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ

(1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 6، ص 292.

(2)

تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 50.

ص: 732

وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) فهذا كلام امرأة العزيز، ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر بعد إلى الملك، ولا سمع كلامه ولا رآه. ولكن لما ظهرت براءته في غيبته كما قالت امرأة العزيز:" ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ " أي: لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهوده راودته.

فحينئذ "قال الملك: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} (2) وقد قال كثير من المفسرين: إن هذا من كلام يوسف، ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول، وهو قول في غاية الفساد، ولا دليل عليه، بل الأدلة تدل على نقيضه "(3).

3 -

مثال دعاء الإنسان:

قال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} (4).

اختلف المفسرون في المراد بالإنسان في هذه الآية على ثلاثة أقوال:

أحدها: إنه اسم جنس يراد به الناس، قاله الزجاج وغيره.

(1) سورة يوسف، الآية (50 - 53).

(2)

سورة يوسف، الآية (54).

(3)

انظر دقائق التفسير / شيخ الإسلام ابن تيمية ج 3 ص 273.

(4)

سورة الإسراء، الآية (11).

ص: 733

والثاني: إنه آدم، فاكتفى بذكره من ذكر ولده، ذكره ابن الأنباري.

والثالث: إنه النضر بن الحارث ، حين قال:{فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} (1) قاله مقاتل (2).

أما ابن عاشور فإنه يرى أن المراد بالإنسان في هذه الآية الإنسان الكافر، بل نجده يرى أن المفسرين لم يأتوا في هذه الآية بما يثلج الصدر، واختياره هذا نابع من استحضاره لهذه القاعدة (القول المبني على مراعاة النظم وظاهر ترتيب الكلام أولى من غيره).

قال ابن عاشور: " موقع هذه الآية هنا غامض، وانتزاع المعنى من نظمها وألفاظها أيضاً، ولم يأت فيها المفسرون بما ينثلج له الصدر

إلى أن قال: .... والمراد بالإنسان الإنسان الكافر " (3) ..

وقد اختار هذا القول من قبله الألوسي، والقاسمي، حيث ذكروا أن المراد بالإنسان أحد أفراده وهو الكافر (4).

بينما رجح الطبري، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني، والشنقيطي أن المراد به جنس الإنسان (5).

(1) سورة الأنفال، الآية (32).

(2)

انظر هذه الأقوال في زاد المسير / ابن الجوزي، ج 3، ص 12 ، وتفسير مقاتل / مقاتل ، ج 2، ص 251.

(3)

التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 7، ص 41.

(4)

انظر روح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 23، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 465. .

(5)

انظر جامع البيان / الطبري، ج 15، ص 56، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 10، ص، 230، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 440، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 211، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 537.

ص: 734

وذكر ابن عطية والرازي، وأبو حيان تلك الأقوال ولم يرجحوا (1).

حجة من قال: إن المراد بالإنسان اسم جنس يراد به الناس عموماً:

قالوا: المراد به جنس الإنسان بحسب مافي الخلق من ذلك، ومن ذلك مارواه ابن عباس رضي الله عنه قوله:{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} يعني قول الإنسان: اللهمَّ العنه واغضب عليه، فلو يُعَجل له ذلك كما يُعجل له الخير، لهلك، قال: ويقال: هو {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} (2) أن يكشف ما به من ضرّ، يقول تبارك وتعالى: لو أنه ذكرني وأطاعني، واتبع أمري عند الخير، كما يدعوني عند البلاء، كان خيرا له. (3).

وكذلك ما رواه مجاهد حيث قال بعد أن ذكر الآية: " ذلك دعاء الإنسان بالشر على ولده وعلى امرأته، فيعجل: فيدعو عليه ولا يحب أن يصيبه (4).

كما صححه الشنقيطي وذكر أنه أصح الأقوال لدلالة آية يونس عليه قال

(1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 441، والتفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 305، البحر المحيط / أبو حيان، ج 6، ص 12. .

(2)

سورة يونس، الآية (12).

(3)

أخرج رواية ابن عباس الطبري في تفسيره، ج 15، ص 57.

(4)

أخرج رواية ابن مجاهد الطبري في تفسيره، ج 15، ص 57.

ص: 735

تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} (1) كما ذكر ذلك ابن كثير وغيره (2).

حجة من قال: إن المراد بالإنسان في هذه الآية آدم:

لا حجة لهم، قالوا: المراد به آدم اكتفى بذكره من ذكر ولده. ذكره ابن الأنباري (3).

وهذا القول انفرد به ابن الأنباري، وهو قول بعيد وغير مناسب للسياق.

حجة من قال: إن المراد بالإنسان في هذه الآية النضر بن الحارث:

قال مقاتل: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ} على نفسه، يعنى النضر بن الحارث، حين قال:{ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (4)، {دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} ، كدعائه بالخير لنفسه (5).

حجة من قال: إن المراد به الكافر:

حجتهم في ذلك أن هذا القول أنسب بنظم الكلام، قال ابن عاشور: ".

(1) سورة يونس، الآية (11).

(2)

انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 440، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص، 211.، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 537.

(3)

زاد المسير / ابن الجوزي، ج 3، ص 12.

(4)

سورة الأنفال، الآية (32).

(5)

تفسير مقاتل / مقاتل، ج 2، ص 252.

ص: 736

والذي يظهر لي أن الآية التي قبلها لما اشتملت على بشارة وإنذار وكان المنذرون إذا سمعوا الوعيد والإنذار يستهزئون به ويقولون: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) عُطف هذا الكلام على ما سبق تنبيهاً على أن لذلك الوعد أجلاً مسمى ، فالمراد بالإنسان الإنسان الذي لا يؤمن بالآخرة كما هو في قوله تعالى:{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} (2) وإطلاق الإنسان على الكافر كثير في القرآن " (3).

وقال الألوسي: " والمراد بالإنسان الجنس أسند إليه حال بعض أفراده ، وهو الكافر ، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله عنه أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه كما يقتضيه ما روي عن الحسن ومجاهد ، فالمعنى على الأول: أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير ويحذره من الشر الذي لا شر وراءه من العذاب الأليم وهو أي بعض أفراده أعني الكافر يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور إما بلسانه حقيقة كدأب من قال منهم: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً

(1) سورة يس، الآية (48).

(2)

سورة مريم، الآية (66، 67).

(3)

التحرير والتنوير، ج 7، ص 41.

ص: 737

مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) " (2).

القول الراجح:

إن المراد بهذه الآية جنس الإنسان عموما كما رجّح ذلك الطبري.

وتحديد ابن عاشور الإنسان بالكافر لا يعد مخالفة لمن سبقه من المفسرين وإنما هو أكثر دقة وهذا نابع من استحضاره لقاعدة المبحث، كما أن ما ذهب إليه الطبري من أن المعني بالآية عموم الإنسان لا يعد قولا بعيدا عما حكاه ابن عاشور، فعموم الإنسان يدخل فيه الإنسان الكافر أيضا ، وكذلك قول من قال: إن المراد به النضر بن الحارث إنما هو من باب ضرب المثال على ذلك ، قال أبو السعود: " وهو أي بعضٌ منه ، وهو الكافرُ يدعو لنفسه بما هو الشرُّ من العذاب المذكور إما بلسانه حقيقةً كدأب مَنْ قال منهم:{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) ومن قال: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (4) إلى غير ذلك مما حُكي عنهم الإنسان (5).

(1) سورة الأنفال، الآية (32).

(2)

روح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 23.

(3)

سورة الأنفال، الآية (32).

(4)

سورة الأعراف، الآية (70).

(5)

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم / أبو السعود، ج 5، ص 159.

ص: 738

4 -

مثال "توليتم":

قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (1).

اختلف المفسرون في المراد من قوله " إن توليتم" على عدة أقوال:

أحدها: فهل عسيتم إن توليتم أمور الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم.

الثاني: فهل عسيتم إن توليتم وأعرضتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء الحرام وتقطعوا أرحامكم.

الثالث: فهل عسيتم إن توليتم عن الجهاد ونكلتم عنه أن تفسدوا في الأرض (2).

ورجّح ابن عاشور أن المعنى هنا هو الرجوع عن الوجهة التي خرجوا لها كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} (3)

وقوله: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} (4) مستنداً في ذلك إلى القاعدة (5) (القول المبني على مراعاة النظم وظاهر ترتيب الكلام أولى من

(1) سورة محمد، الآية (22).

(2)

انظر هذه الأقوال في النكت والعيون / الماوردي، ج 5، ص 301 - 302، وزاد المسير / ابن الجوزي، ج 4، ص 120، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 16، ص 235 - 236.

(3)

سورة البقرة، الآية (246).

(4)

سورة طه، الآية (60).

(5)

انظر التحرير والتنوير، ج 12، ص 112.

ص: 739

غيره)، وقد سبقه ابن كثير والرازي، وأبو حيان إلى هذا الاختيار (1).

وذهب الطبري إلى الأخذ بجميع تلك الأقوال من التولي عن جميع ما أمر به من القتال وطاعة الله وتطبيق شرعه، وهذا قوله: " يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف أنهم إذا نزلت سورة محكمة، وذُكر فيها القتال نظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر المغشيّ عليه {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} أيها القوم، يقول: فلعلكم إن توليتم عن تنزيه الله جلّ ثناؤه، وفارقتم أحكام كتابه، وأدبرتم عن محمد صلى الله عليه وسلم وعما جاءكم به {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} يقول: أن تعصوا الله في الأرض، فتكفروا به، وتسفكوا فيها الدماء {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (2) وتعودوا لما كنتم عليه في جاهليتكم من التشتت والتفرّق بعد ما قد جمعكم الله بالإسلام، وألَّف به بين قلوبكم (3).

ويرى ابن عطية والقاسمي إلى أنه بمعنى الإعراض عن الحق، وعن كتاب الله (4).

وذكر القرطبي والشوكاني جميع الأقوال الواردة في الآية ولم يرجحا (5).

واختار الألوسي أن توليتم بمعنى توليتم أمر الأمة (6).

(1) انظر التفسير الكبير/ الرازي، ج 10، ص 54، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 74، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 82.

(2)

سورة محمد، الآية (22).

(3)

جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 66.

(4)

انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 118، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 374.

(5)

انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 16، ص 235 - 236، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 38.

(6)

روح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 225.

ص: 740

حجة أصحاب القول الأول القائلين بأن عسيتم بمعنى توليتم أمور الأمة:

من أدلتهم على ذلك قراءة (وُليتم)(1) أي من الولاية. قال الألوسي: " {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} خطَاب لأولئك الذين في قلوبهم مرض بطريق الالتفات لتأكيد التوبيخ وتشديد التقريع، وهل للاستفهام ، والأصل فيه: أن يدخل الخبر للسؤال عن مضمونه والإنشاء الموضوع له عسى ما دل عليه بالخبر أي فهل يتوقع منكم وينتظر {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أمور الناس وتأمرتم عليهم فهو من الولاية والمفعول به محذوف وروى ذلك عن محمد بن كعب وأبي العالية والكلبي {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} تناحراً على الولاية وتكالباً على جيفة الدنيا .... ويؤيده قراءة بعضهم (وُلِّيتُم) مبنياً للمفعول وكذا قراءته صلى الله عليه وسلم على ما ذكر في «البحر» ورويت عن علي رضي الله عنه (2).

حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن التولي بمعنى الإعراض عن كتاب الله والإسلام:

حجتهم في ذلك: أن الإعراض عن الإسلام هو رأس كل شر ، ومن قولهم: فهل عسيتم إن أعرضتم عن الإسلام أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض بالتغاور والتناهب وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب بعضاً

(1) انظر المحتسب قي تبيين وجوه شواذ القراءات / ابن جني، ج 2، ص 321، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 82. ذكرها كل منهم ولم ينسبها.

(2)

انظر الكشاف / الزمخشري، ج 3، ص 536، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 82، وروح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 224.

ص: 741

ووأد البنات. وتعقب بأن الواقع في حيز الشرط في مثل هذا المقام لا بد أن تكون محذوريته باعتبار ما يتبعه من المفاسد لا باعتبار ذاته ، ولاريب في أن الإعراض عن الإسلام رأس كل شر وفساد فحقه أن يجعل عمدة في التوبيخ لا وسيلة للتوبيخ بما دونه من المفاسد (1).

حجة أصحاب القول الثالث الذين يرون أن توليتم بمعنى التولي عن القتال:

قال ابن كثير: " {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي عن الجهاد ونكلتم عنه {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}، أي تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء تسفكون الدماء، وتقطعون الأرحام "(2).

وقال ابن عاشور: " مقتضى تناسق النظم أن هذا مفرع على قوله: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} (3) لأنه يفهم منه أنه إذا عزم الأمر تولوا عن القتال وانكشف نفاقهم فتكون إتماماً لما في الآية السابقة من الإنباء بما سيكون من المنافقين يوم أُحُد. وقد قال عبد الله بن أبي: عَلَام نقتل أنفسنا ها هنا؟ وربما قال في كلامه: وكيف نقاتل قريشاً وهم من قومنا، وكان لا يرى على أهل يثرب أن يقاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ويرى الاقتصار على أنهم آووه.

(1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 118، وروح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 224.

(2)

تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 74.

(3)

سورة محمد، الآية (21).

ص: 742

والخطاب موجّه إلى الذين في قلوبهم مرض على الالتفات

والاستفهام مستعمل في التكذيب لما سيعتذرون به لانخذالهم ولذلك جيء فيه بـ (هل) الدالة على التحقيق لأنّها في الاستفهام بمنزلة (قد) في الخبر، فالمعنى: أفيتحقق إن توليتم أنكم تفسدون في الأرض وتقطعون أرحامكم وأنتم تزعمون أنكم توليتم إبقاء على أنفسكم وعلى ذوي قرابة أنسابكم على نحو قوله تعالى: {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} (1).

القول الراجح:

هو ما ذهب إليه ابن عاشور من أن التولي هو: الرجوع عن القتال، وهذا القول رجحه أبو حيان بقوله:"والأظهر أن ذلك خطاب للمنافقين في أمر القتال، وهو الذي سبقت الآيات فيه، أي: إن أعرضتم عن أمر الله في القتال، وأن تفسدوا في الأرض بعدم معونة أهل الإسلام "(2).

أما القول بأن (توليتم) بمعنى توليتم أمر الأمة فهو قول بعيد ردّه ابن عاشور بقوله: " وهذا بعيد من اللفظ ،ومن النظم ، وفيه تفكيك لاتصال نظم الكلام وانتقال بدون مناسبة، وتجاوز بعضهم ذلك فأخذ يدعي أنها نزلت في الحرورية ومنهم من جعلها فيما يحدث بين بني أمية وبني هاشم على عادة أهل الشيع والأهواء من تحميل كتاب الله ما لا يتحمله ومن قصر عموماته على بعض ما

(1) سورة البقرة، الآية (246).

(2)

البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 82.

ص: 743

يراد منها (1) ".

5 -

مثال التحية:

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (2).

اختلف المفسرون في قوله: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ} فيمن نزلت على قولين:

أحدهما: إنها نزلت في اليهود (3).

والثاني: إنها نزلت في المنافقين، رواه عطية عن ابن عباس (4) ..

ورجح ابن عاشور أن الآية نزلت في المنافقين لأنه الأليق بنظم الكلام وهذا قوله: " أما هذه الآية ففي أحوال المنافقين، وهذا مثل ما كان بعضهم يقول للنبي صلى الله عليه وسلم (رَاعِنَا) تعلّموها من اليهود وهم يريدون التوجيه بالرعونة فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا

(1) التحرير والتنوير، ج 12، ص 112.

(2)

سورة المجادلة، الآية (8).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم ، ج 4، ص 1707، ح- 2165.

(4)

انظر هذين القولين في زاد المسير / ابن الجوزي، ج 4، ص 246.

ص: 744

وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) ولم يُرد منه نهي اليهود (2).

أما معظم المفسرين فيرون أن المعني بالآية هم اليهود (3).

وذكر ابن كثير وأبو حيان والشوكاني كلا القولين ولم يرجحوا (4).

حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن الآية نزلت في اليهود:

استدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "جاء ناس من اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم، وفعل الله بكم وفعل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إنَّ الله لا يُحِبُّ الفُحش، فقلت: يا رسول الله، ألست ترى ما يقولون؟ فقال: "ألست ترينني أرد عليهم ما يقولون؟ أقول: عليكم " وهذه الآية في ذلك نزلت: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (5).

(1) سورة البقرة، الآية (104).

(2)

التحرير والتنوير، ج 13، ص 31.

(3)

انظر جامع البيان / الطبري، ج 28، ص 9، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 277، والتفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 491، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 18، ص 278 وروح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 220، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 59، .

(4)

انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 452 - 453، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 234.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب الدعاء للمشركين، ج 5، ص 2349، ح- 6032، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف =

ص: 745

وهذا القول رجحه أكثر المفسرين منهم ابن عطية والرازي.

قال ابن عطية: " وقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ} يريد بذلك ما كانت اليهود تفعله من قولهم في التحية السام عليك يا محمد .... ثم كشف الله تعالى خبث طويتهم والحجة التي إليها يستروحون، وذلك أنهم كانوا يقولون: نحن الآن نلقى محمداً بهذه الأمور التي تسوؤه ولا يصيبنا سوء، ولا يعاقبنا الله بذلك، ولو كان نبياً لهلكنا بهذه الأقوال، وجهلوا أن أمرهم مؤخر إلى عذاب جهنم، فأخبر الله بذلك وأنها كافيتهم. وقال ابن عباس: هذه الآية كلها في منافقين، ويشبه أن من المنافقين من تخلق في هذا كله بصفة اليهود "(1).

ورجّح الرازي هذا القول ووصفه بأنه أقرب إلى معنى الآية ومن قوله: " وهذا الجنس فيما روي وقع من اليهود، فقد كانوا إذا سلموا على الرسول عليه السلام قالوا: السام عليك، يعنون الموت، والأخبار في ذلك متظاهرة، وقصة عائشة فيها مشهورة"(2).

= يرد عليهم، ج 4، ص 1706، ح- 2165، والطبري في تفسيره، ج 28، ص 9، وهذا لفظ الطبري، ولم يذكر البخاري نزول الآية لكنها ثابتة عند غيرهم من حديث نمير عن الأعمش، ويشهد له ما أخرجه أحمد في مسنده، ج 6، ص 229، ح- 25966، والبيهقي في الشعب، ج 6، ص 511، ح- 9100.

(1)

المحرر الوجيز/ ابن عطية، ج 5، ص 277.

(2)

التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 491.

ص: 746

حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن الآية نزلت في المنافقين:

استدل أصحاب هذا القول بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه من قوله في: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حيوه: سام عليك، قال الله:"حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير "(1).

ورجح ابن عاشور هذا القول فقال: " وليس المراد من هذه الآية ما ورد في حديث: أن اليهود كانوا إذا حيّوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: السّامّ عليك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرد عليهم بقوله:«وعليكم» . فإن ذلك وارد في قوم معروف أنهم من اليهود. وما ذكر أول هذه الآية لا يليق حمله على أحوال اليهود

ولو حمل ضمير (جاءوك) على اليهود لزم عليه تشتيت الضمائر (2).

القول الراجح

الذي يبدو لي والله أعلم أن المخاطب في هذه الآية هم اليهود والمنافقون ، كما ذهب إليه معظم المفسرين، وأما اختيار ابن عاشور: نلحظ منه مدى حضور قاعدة (القول المبني على مراعاة النظم وظاهر ترتيب الكلام أولى من غيره) في تفسيره فبالرغم من اتفاق النقلة على أن الآية نزلت في اليهود إلا ابن عاشور يرى أن هذه الآية نزلت في المنافقين ويؤكد ذلك بقوله: " وما ذكر أول هذه الآية لا يليق حمله على أحوال اليهود، ولو حمل ضمير

(1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، ج 7، ص 479.

(2)

التحرير والتنوير، ج 13، ص 31.

ص: 747

(جاءوك) على اليهود لزم عليه تشتيت الضمائر" (1).

ولكن هذه القاعدة تعارضها قاعدة ترجيحية أخرى أقوى منها وهي: (إذا ثبت الحديث وكان نصاً في تفسير الآية فلا يصار إلى غيره)، وقد تقدم ذكر الحديث.

كما يؤيد هذا القول قاعدة ترجيحية أخرى وهي: (إذا صحّ سبب النزول الصريح فهو مرجح لما وافقه) وقد جاء في رواية أخرى عند مسلم غير أنه قال: " ففطنت بهم عائشة فسبتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه يا عائشة! فإن الله لا يحب الفحش والتفحش ، وزاد فأنزل الله عز وجل {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} إلى آخر الآية "(2).

كما أن قول ابن عاشور: إن حمل هذه الآية على اليهود يلزم منه تشتيت الضمائر لا يستقيم؛ لأن الآيات السابقة شملت قوماً من اليهود والمنافقين، وقد ذكر ابن عاشور في تفسيره في الآيات التي تسبق هذه الآيات وهي في النهي عن النجوى أنها نزلت في قوم من اليهود والمنافقين.

كما أن القرطبي حكى إجماع المفسرين على ذلك بقوله: " لا خلاف بين النقلة أن المراد بها اليهود "(3).

(1) التحرير والتنوير، ج 13، ص 31.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، ج 4، ص 1707، ح- 2165.

(3)

الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 18، ص 278. =

ص: 748

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ونظائر هذه الأمثلة كثيرة جدا في تفسيره منها:

1 -

منها ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} (غافر: 10)، وفيها قول ابن عاشور:" والمقت الأول قريب من قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} (البقرة: 16)، والمقت الثاني قريب من قوله تعالى: {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا} (فاطر: 39) وهو مقت العذاب. هذا هو الوجه في تفسير الآية الملاقي لتناسق نظمها"(3)(التحرير والتنوير، ج 11، ص 96).

2 -

ما جاء في قوله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} (يس: 68)، وفيه قول ابن عاشور:" ومنهم من تكلم عليها معرضاً عما قبلها فتكلموا على معناها وما فيها من العبرة ولم يبيّنوا وجه اتصالها بما قبلها .. إلى أن قال: وكل هذه التفسيرات بعيدة عن نظم الكلام". (التحرير والتنوير، ج 11، ص 53 - 54).

3 -

قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} (الصافات: 15 - 18) وفيها قول ابن عاشور: " والإِشارة في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} إلى مضمون قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} (الصافات: 11)، وهو إعادة الخلق عند البعث، ويبينه قوله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} هذا وجه تفسير هذه الآية تفسيراً يلتئم به نظمها خلافاً لما درج عليه المفسرون "(التحرير والتنوير، ج 11، ص 98). =

ص: 749

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

=

4 -

ما جاء في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح: 22)، وفيه قول ابن عاشور: " ولقد اضطَرَّ هذا بعضَ المفسرين إلى تأويل نظم الآية بأن معاد ضمير (قالوا) إلى مشركي العرب، وأن ذكر ذلك في أثناء قصة نوح بقصد التنظير

وهو تكلف بيّن وتفكيك لأجزاء نظم الكلام" (التحرير والتنوير، ج 14، ص 209).

5 -

ما جاء في قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ .... } (الفجر: 15 - 20)، وفيه قول ابن عاشور:" ولم يعرج أكثر المفسرين على بيان نَظْم الآية واتصالها بما قبلها عدا الزمخشري وابنَ عطية، وقد عرف هذا الاعتقاد الضال من كلام أهل الجاهلية ". (التحرير والتنوير ، ج 15 ، ص 326)

ص: 750