الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن استشهد بهذا النص عقب عليه بما يدحض معناه، حيث اشتمل النص على عبارات تنافي عصمة الأنبياء، من كون النساء أثَّرن على سليمان في زمن شيخوخته وأملن قلبه إلى آلهتهن فغضب الله عليه؛ لأن قلبه مال عن إله إسرائيل.
فهل يعقل أن الأنبياء بعد نزول الوحي عليهم وهم المعصومون من الكفر والعصيان أن تمُيل النساء قلب أحدهم إلى الكفر ،كما فعلت نساء سليمان معه في زمن شيخوخته في زعم هذه الإسرائيليات الباطلة ، فهذه الإسرائيليات وأمثالها تخالف عقيدة أهل الإسلام في عصمة الأنبياء (1).
ثانياً: موقفه من التفسير بالرأي:
ذكر ابن عاشور في المقدمة الثالثة من تفسيره موقفه من التفسير بالرأي، وهو يرى أن تفسيراً كثيراً للقرآن لم يكن من المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن التفاسير قد اتسعت، وتفنن أصحابها في استنباط معاني القرآن، بما رزقهم الله من فهم كتاب الله.
ويقول: " لو كان التفسير مقصوراً على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزراً، ونحن نشاهد كثرة أقوال السلف من الصحابة فمن يليهم - في تفسير القرآن - وما أكثر ذلك الاستنباط برأيهم وعلمهم "(2).
كما حدّد ابن عاشور الضوابط والحدود التي يسير الرأي في دائرتها إذ
(1) انظر الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور / هيا العلي، ص 506.
(2)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 28.
يقول: " إن المراد بالرأي هو القول عن مجرد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها، ومالا بد منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم لأنه لم يكن مضمون الصواب كقول المثل: " رمية من غير رام ". ثم ذكر ماجاء في النهي عن التفسير بالرأي من أحاديث وآثار عن سلف الأمة، ثم قام بتوجيه النهي عنه إلى خمسة وجوه:
1 -
أن المراد بالرأي هو القول عن مجرد خاطر، دون استناد إلى النظر في أدلة العربية، ومقاصد الشريعة وتصاريفها، ومالا بد منه.
2 -
أن لا يتدبر القرآن حق تدبره، فيفسره بما يخطر له من بادئ الرأي دون إحاطة بجوانب الآية ومواد التفسير، مقتصراً على بعض الأدلة دون بعض.
3 -
أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة، فيتأول القرآن على وفق رأيه، ويصرفه عن المراد، ويرغمه على تحمل مالا يساعد عليه المعنى المتعارف.
4 -
أن يفسر القرآن برأي مستند إلى ما يقتضيه اللفظ، ثم يزعم أن ذلك هو المراد دون غيره، لما في ذلك من التضييق على المتأولين.
5 -
أن يكون القصد من التحذير أخذ الحيطة والحذر في التدبر والتأويل ونبذ التسرع إلى ذلك.
وقَسمهُ إلى محمود مقبول، ومذموم مردود، وذكر من أمثلة المردود التفسير
الباطني والتفسير الإشاري (1)
…
.
ومن يدقق النظر في تفسير ابن عاشور يدرك أنه قد وعى واستوعب جميع الشروط والمواصفات الواجب توافرها في المتصدي لتفسير كتاب الله تعالى.
ومن مذهبه أن ألفاظ القرآن تحتمل الكثير من المعاني المرادة والمقصودة مالم يمنع من ذلك مانع صريح أو غالب من دلالة شرعية أو لغوية أو توقيفية، وهذا هو الذي جعل تفسيره يزخر بالمعاني العظيمة، والأقوال المتعددة في الآية الواحدة، فله نظر لألفاظ القرآن وما تحويه من الكنوز، وقد بيّن ذلك في مقدمة كاملة من مقدمات التفسير وهي المقدمة التاسعة التي عنونها بقوله:" المقدمة التاسعة في أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادة بها"(2).
وخلاصة ما ذكره: أن العرب قوم أذكياء ذوو فصاحة وفطنة، وأنزل القرآن بلغتهم، وهي لغة سهلة، وهي أوفر اللغات مادة، وأقلها حروفاً ، وأوفرها ألفاظاً ، وأكثرها في الدلالة على أغراض المتكلم.
ولما كان القرآن نازلاً بهذه اللغة التي هذه صفتها، على أولئك القوم الذين مضى ذكرهم وما هم عليه من الفطنة والذكاء وتمام الفصاحة والبلاغة، كان حقيقاً بأن يودع فيه من المعاني والمقاصد أكثر مما تحتمله الألفاظ، في أقل ما يمكن من المقدار، بحسب ما تسمح به اللغة الوارد هو بها، التي هي أسمح اللغات بهذه الاعتبارات، ليحصل تمام المقصود من الإرشاد الذي جاء لأجله في جميع
(1) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 28 - 37.
(2)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 28 - 37.
نواحي الهدى وهذا الأساس أو القاعدة التي أرساها الشيخ تنبع من منظور عقلي جرت عليه المدرسة العقلية.
ثم أخذ يستدل على هذا التأصيل بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام رضوان الله عليهم، وعن فقهاء الإسلام، من التفاسير التي ليست هي المعنى الأسبق من التركيب، ولكنها محمولة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد بذلك إيقاظ الأذهان إلى أخذ أقصى المعاني من ألفاظ القرآن، ومثال ذلك ما رواه أبو سعيد بن المعلى قال:(دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في الصلاة فلم أجبه، فلما فرغت أقبلت إليه فقال: ما منعك أن تجيبني؟ فقلت: يا رسول الله! كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} (1) فلا شك أن المعنى المسوقة فيه الآية هو الاستجابة بمعنى الامتثال، غير أن لفظ الاستجابة لما كان صالحاً للحمل على المعنى الحقيقي أيضاً وهو إجابة النداء حمل النبي صلى الله عليه وسلم الآية على ذلك المقام الصالح له، وعلم الصحابة والتابعون أن ذلك مما يسوغ في ألفاظ القرآن الجزلة، المحتملة للمعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة (2).
ومن هنا نتبين موقف ابن عاشور من التفسير بالرأي وأنه قد فتح المجال الواسع لبيان معاني القرآن ومدلولات ألفاظه وتراكيبه.
(1) سورة الأنفال، الآية (24).
(2)
انظر التحرير والتنوير ، ج 1 ، ص 100.