الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
أثر عقيدة ابن عاشور في صياغة القواعد والترجيح بها
إن المتتبع للتفسير يجد أن ابن عاشور قد ذهب إلى ما ذهبت إليه الأشاعرة في معظم آيات الأسماء والصفات، وقد صرّح في أكثر من موضع بأنه أشعري يلتزم بمذهب الأشاعرة في الاعتقاد، ولذلك فقد كان لذلك أثر في ترجيحاته في ضوء قواعد الترجيح المتعلقة بالنص القرآني؛ يتجلى ذلك بعد التتبع للمسائل الخلافية والتي أورد فيها ابن عاشور أقوالاً مختلفة في تفسيرها حيث يظهر أثر المعتقد عنده في ترجيحاته ومن ذلك ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1): قال: " وهذه الآية أسعد بمذهبنا أيها الأشاعرة من عدم وجوب الهدى كله على الله تعالى ..... "(2).
ومما تقدم ندرك بالضرورة أثر عقيدة ابن عاشور على تفسيره ، وعلى صياغة القواعد الترجيحية ، ومن تلك القواعد التي ظهرت لي من خلال تفسيره والتي كان لعقيدته أثر عليها هي الآتي:
أولاً: قاعدة: الله منزّه عن الأعراض:
هذه القاعدة ذكرها ابن عاشور في تفسيره، وطبقها ولكنه أخطأ في
(1) سورة البقرة، الآية (38).
(2)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 443.
استخدامها بسبب أشعريته، فمثلا: عند تفسيره لقوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (1) قال: "فأهل الإيمان إذا سمعوا أو أطلقوا وصفي الرحمن الرحيم لا يفهمون منه حصول ذلك الانفعال الملحوظ في حقيقةِ الرحمة في متعارف اللغة العربية لسطوع أدلة تنزيه الله تعالى عن الأعراض، بل إنه يراد بهذا الوصف في جانب الله تعالى إثباتُ الغرض الاسمي من حقيقة الرحمة ، وهو صدور آثار الرحمة من الرفق واللطف والإحسان والإعانة؛ لأن ما عدا ذلك من القيود الملحوظة في مسمى الرحمة في متعارف الناس لا أهمية له لولا أنه لا يمكن بدونه حصول آثاره فيهم ألا ترى أن المرء قد يرحم أحداً ولا يملك له نفعاً لعَجز أو نحوه.
وقد أشار إلى ما قلناه أبو حامد الغزالي في «المقصد الأسنى» بقوله: «الذي يريد قضاء حاجة المحتاج ولا يقضيها فإن كان قادراً على قضائها لم يسمَّ رحيماً إذ لو تمت الإرادة لوفَّى بها وإن كان عاجزاً فقد يسمى رحيماً باعتبار ما اعتوره من الرحمة والرقة ولكنه ناقص،
وبهذا تعلم أن إطلاق نحو هذا الوصف على الله تعالى ليس من المتشابه لتبادر المعنى المراد منه بكثرة استعماله وتحقق تنزه الله عن لوازم المعنى المقصود في الوضع مما لا يليق بجلال الله تعالى كما نطلق العليم على الله مع التيقن بتجرد علمه عن الحاجة إلى النظر والاستدلال وسبق الجهل، وكما نطلق الحي عليه تعالى مع اليقين بتجرد حياته عن العادة والتكون، ونطلق القدرة مع اليقين
(1) سورة الفاتحة، الآية (2).
بتجرد قدرته عن المعالجة والاستعانة. فوصفه تعالى بالرحمن الرحيم من المنقولات الشرعية فقد أثبت القرآن رحمة الله في قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (1) فهي منقولة في لسان الشرع إلى إرادة الله إيصال الإحسان إلى مخلوقاته في الحياة الدنيا وغالبُ الأسماء الحسنى من هذا القبيل (2). .
الرد على ابن عاشور:
هذا الذي ذكره ابن عاشور في تأويل صفة الرحمة بإرادة الرفق واللطف والإحسان هو مذهب المتأولة من أشعرية ومعتزلة وغيرهما (3). .
وقد ردّ ابن القيم هذا التأويل فقال في " مختصر الصواعق": " الوجه الثامن عشر: إن الله سبحانه وتعالى فرق بين رحمته ورضوانه المنفصل، فقال تعالى:{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (4). .
فالرحمة والرضوان صفته، والجنة ثوابه. وهذا يبطل قول من جعل الرحمة ثواباً منفصلاً مخلوقاً، وقول من قال: هي إرادة الإحسان، فإن إرادته الإحسان هي من لوازم الرحمة فإنه يلزمه من الرحمة أن يريد الإحسان إلى المرحوم فإذا انتفت حقيقة الرحمة انتفى لازمها وهو إرادة الإحسان " (5).
(1) سورة الأعراف، الآية (156).
(2)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 170.
(3)
انظر المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات/ محمد عبد الرحمن المغراوي، ج 1، ص 291.
(4)
سورة التوبة، الآية (21).
(5)
مختصر الصواعق المرسلة / ابن القيم، ج 2، ص 121.
2 -
قاعدة: وجوب صرف اللفظ (الصفة) إلى المجاز بعلاقة اللزوم:
ذكر ابن عاشور هذه القاعدة عند تفسيره لقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (1).
فقال: " والغضب المتعلق بالمغضوب عليهم هو غضبُ اللَّهِ ، وحقيقة الغضب المعروف في الناس أنه كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام، فالكيفيةُ سبب لطلب الانتقام وطلب الإنتقام سبب لحصول الانتقام ، والذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه ،ولكنها قد تكون من آثاره، وأن الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله، ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه ومعاملتُه بالعُنف وبقطع الإحسان وبالأذى، وقد يفضى ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار أسبابه، فلعل الذين جعلوا إرادة الانتقام لازمة للغضب بنَوا على القوانين العربية.
وإذْ كانت حقيقة الغضب يستحيل اتصاف الله تعالى بها وإسنادُها إليه على الحقيقة للأدلة القطعية الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية، فقد وجب على المؤمن صَرف إسناد الغضب إلى الله عن معناه الحقيقي، وطريقةُ أهل العلم والنظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو
(1) سورة الفاتحة، الآية (7).
إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه فالذي يكون صفة لله من معنى الغضب هو لازمه، أعني العقاب والإهانة يوم الجزاء واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو من قبيل التمثيلية " (1).
الرد على ابن عاشور:
هذا الذي ذكره ابن عاشور في تأويل صفة الغضب هو مذهب الأشاعرة.
قال الشيخ الهراس في شرح العقيدة الواسطية عند قول المصنف ابن تيمية: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (2)، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} (3):
تضمنت هذه الآيات إثبات بعض صفات الفعل لله من الرضا والغضب واللعن والكره والسخط والمقت والأسف، وهي عند أهل الحق صفات حقيقية لله عز وجل على ما يليق به، ولا تشبه ما يتصف به المخلوق من ذلك، ولا يلزم منها ما يلزم في المخلوق فلا حجة للأشاعرة والمعتزلة على نفيها ، ولكنهم ظنوا أن اتصاف الله عز وجل بما يلزمه أن تكون هذه الصفات فيه على نحو ما هي في المخلوق وهذا الظن الذي ظنوه في ربهم أرداهم فأوقعهم في حمأة النفي والتعطيل " (4).
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 197.
(2)
سورة المجادلة، الآية (22).
(3)
سورة النساء، الآية (93).
(4)
شرح العقيدة الواسطية / محمد خليل هراس، ج 1، ص 111.
وقال شارح العقيدة الواسطية الشيخ زيد فياض في " الروضة الندية ": " ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب، والرضا والعداوة والولاية والحب، والبغض، ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى كما يقولون مثل ذلك في السمع، والبصر، والكلام، وسائر الصفات، ولا يقال أن الرضا إرادة الإحسان والغضب إرادة الانتقام فإنه نفي للصفة.
ويُقال لمن تأول الغضب والرضا لم تأولت ذلك؟
فلا بد أن يقول: لأن الغضب غليان دم القلب والرضا والميل والشهوة، وذلك لا يليق بالله تعالى، فيُقال له: غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب، ويقال له أيضاً، وكذلك الإرادة والمشيئة فينا ميل الحي إلى الشيء أو إلى ما يلائمه ويناسبه ، فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء، فإن جاز هذا جاز ذلك وإن امتنع هذا امتنع ذاك فإن قالوا: الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد وإن كان كل منهما حقيقة قيل له: إن الغضب والرضا الذي يوصف به الله مخالف لما يوصف به العبد، وإن كلاً منهما حقيقة، فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات لم يتعين التأويل، بل يجب تركه، وصفات الله تليق به، وصفات العبد تليق به بل لو قيل غضب ملك خازن النار وغضب غيره من الملائكة لم يجب أن يكون مماثلاً لكيفية غضب الآدميين، فغضب الله أولى " (1).
(1) شرح العقيدة الواسطية / زيد بن فياض، ص 94 - 97.
3 -
قاعدة: الفعل القبيح لا يليق إسناده إلى الله تعالى حقيقة:
ذكر ابن عاشور هذه القاعدة في معرض تفسيره لقوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (1) فقال: " وفعل: (يستهزئ) المسند إلى الله ليس مستعملاً في حقيقته ، لأن المراد هنا أنه يفعل بهم في الدنيا ما يُسمى بالاستهزاء بدليل قوله:{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} ولم يقع استهزاء حقيقي في الدنيا فهو إما تمثيل لمعاملة الله إياهم في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين، بما يشبه فعل المستهزئ بهم وذلك بالإملاء لهم حتى يظنوا أنهم سلموا من المؤاخذة على استهزائهم فيظنوا أن الله راض عنهم أو أن أَصنامهم نفعوهم حتى إذا نزل بهم عذاب الدنيا من القتل والفضح علموا خلافَ ما توهموا فكان ذلك كهيئة الاستهزاء بهم ، والمضارع في قوله:(يستهزئ) لزمن الحال. ولا يحمل على اتصاف الله بالاستهزاء حقيقة عند الأشاعرة لأنه لم يقع من الله معنى الاستهزاء في الدنيا، ويحسن هذا التمثيل ما فيه من المشاكلة. ويجوز أن يكون {يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} حقيقة يوم القيامة بأن يأمر بالاستهزاء بهم في الموقف وهو نوع من العقاب فيكون المضارع في (يستهزئ) للاستقبال، وإلى هذا المعنى نَحَا ابن عباس والحسن في نقل ابن عطية، ويجوز أن يكون مراداً به جزاءُ استهزائهم من العذاب أو نحوه من الإذلال والتحقير والمعنى يذلهم وعبر عنه بالاستهزاء مجازاً ومشاكلة، أو مراداً به مآلُ الاستهزاء من رجوع الوبال
(1) سورة البقرة، الآية (15).
عليهم. وهذا كله وإن جاز فقد عينه هنا جمهور العلماء من المفسرين كما نقل ابن عطية والقرطبي وعينَّه الفخر الرازي والبيضاوي وعيَّنه المعتزلة أيضاً لأن الاستهزاء لا يليق إسناده إلى الله حقيقة لأنه فعلٌ قبيحٌ ينزه الله تعالى عنه كما في «الكشاف» وهو مبني على المتعارف بين الناس " (1).
الرد على ابن عاشور:
الأرجح في هذا كله، أن تثبت هذه الأوصاف لله تعالى كما وردت بذلك الآيات والأحاديث على ما يليق بجلاله وعظمته من غير أن يشتق له اسم أو صفة ، لا يقال: ماكر ولا مخادع ولا مستهزئ تعالى الله عن ذلك (2).
قال ابن القيم في " مدارج السالكين": " فنسبة الكيد والمكر ونحوهما إليه سبحانه من إطلاق الفعل عليه تعالى والفعل أوسع من الاسم. ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالاً لم يتسم منها بأسماء الفاعل كأراد وشاء، وأحدث ولم يسم بالمريد والشائي والمحدث كما لم يسم نفسه بالصانع والفاعل والمتقن وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه، فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء ، وقد أخطأ أقبح الخطأ من اشتق له من كل فعل اسما وبلغ بأسمائه زيادة على الألف فسماه الماكر، والمخادع، والفائن، والكائد ونحو ذلك وكذلك باب الأخبار عنه بالاسم أوسع من تسميته به فإنه يخبر عنه بأنه شيئ موجود ومذكور ومعلوم ومراد ولا يسمى بذلك "(3)
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 294.
(2)
المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات / محمد المغراوي، ج 1، ص 298.
(3)
مدارج السالكين / ابن القيم، ج 3، ص 415.
وقال ابن القيم أيضاً في " أعلام الموقعين ": " وقد قيل إن تسمية ذلك مكراً وكيداً واستهزاءً وخداعاً من باب الاستعارة ومجاز المقابلة نحو: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (1) ، ونحو قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (2) وقيل: وهو أصوب، بل تسمية ذلك حقيقة على بابه، فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة، ولكنه نوعان قبيح، وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه، وحسن، وهو إيصاله إلى من يستحقه عقوبة له، فالأول مذموم، والثاني ممدوح، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه، عدلاً منه وحكمة وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب، لا كما يفعل الظلمة بعباده، وأما السيئة فهي فعلة مما يسوء، ولا ريب أن العقوبة تسوء صاحبها فهي سيئة له حسنة من الحكم العدل "(3).
4 -
نفي الوصف لا يستلزم صحة الاتصاف:
قال ابن عاشور عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} (4): " والاستحياء والحياء واحد،
(1) سورة الشورى، الآية (40).
(2)
سورة البقرة، الآية (194).
(3)
أعلام الموقعين / ابن القيم، ج 3، ص 218 - 217.
(4)
سورة البقرة، الآية (26).
فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأخر واستجاب، وهو انقباض النفس من صدور فعل، أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه وفي الإمساك عن ما من شأنه أن يُفعل.
والاستحياء هنا منفي عن أن يكون وصفاً لله تعالى ، فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله، والتعللُ لذلك بأن نفي الوصف يستلزم صحة الاتصاف تعللٌ غير مسلم " (1).
الرد على ابن عاشور:
ما ذكره ابن عاشور من نفي صفة الحياء لله تعالى مخالف لما عليه مذهب السلف من إثبات الصفات على ما جاءت من غير تكييف ولا تحريف ، فلله تبارك وتعالى حياء يليق بجلاله وعظمته، وما ذكره ابن عاشور هو من توهم تشبيه الخالق بالمخلوق، فإثبات الصفة لله تعالى، يكون إثباتاً كاملاً، منزهاً عن التشبيه من جميع وجوهه، وقد ذكر الحياء في غير ما حديث، فيجب إثبات الصفة في جميع مواردها من القرآن والسنة على ما يليق به (2)
قال الألوسي في "روح المعاني": " وللناس في ذلك مذهبان: فبعض يقول بالتأويل إذ الانقباض النفساني مما لا يحوم حول حظائر قدسه سبحانه، فالمراد بالحياء عنده الترك اللازم للانقباض، وجوّز جعل ما هنا بخصوصه من باب المقابلة لما وقع في كلام الكفرة بناءً على ما روي أنهم قالوا: ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب، والعنكبوت، وبعض، وأنا والحمد لله منهم لا يقول بالتأويل بل يمر هذا وأمثاله مما جاء عنه سبحانه في الآيات والأحاديث على ما جاءت ، ويكل علمها بعد التنزيه عما في الشاهد إلى عالم الغيب والشهادة "(3).
5 -
قاعدة: إذا كانت الصفة تستلزم الجسم تعيّن صرف اللفظ عن ظاهره بالدليل العقلي:
ذكر ابن عاشور هذه القاعدة عند تفسيره لقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 361.
(2)
المفسرون بين التأويل والإثبات / المغراوي، ج 1، ص 300.
(3)
روح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 208.
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} (1) فقال: " والإتيان حضور الذات في موضع من موضع آخر سبق حصولها فيه وأسند الإتيان إلى الله تعالى في هذه الآية على وجه الإثبات ، فاقتضى ظاهره اتصاف الله تعالى به، ولما كان الإتيان يستلزم التنقل أو التمدد ليكون حالاً في مكان بعد أن لم يكن به حتى يصح الإتيان وكان ذلك يستلزم التنقل الجسم والله منزه عنه، تعين صرف اللفظ عن ظاهره بالدليل العقلي، فإن كان الكلام خبراً أو تهكماً فلا حاجة للتأويل، لأن اعتقادهم ذلك مدفوع بالأدلة وإن كان الكلام وعيداً من الله لزم التأويل، لأن الله تعالى موجود في نفس الأمر لكنه لا يتصف بما هو من صفات الحوادث كالتنقل والتمدد لما علمت، فلا بد من تأويل هذا عندنا على أصل الأشعري في تأويل المتشابه، وهذا التأويل إما في معنى الإتيان أو في إسناده إلى الله أو بتقدير محذوف من مضاف أو مفعول، وإلى هذه الاحتمالات ترجع الوجوه التي ذكرها المفسرون:
الوجه الأول: ذهب سلف الأمة قبل حدوث تشكيكات الملاحدة إلى إقرار الصفات المتشابهة دون تأويل فالإتيان ثابت لله تعالى، لكن بلا كيف فهو من المتشابه كالاستواء والنزول والرؤية أي هو إتيان لا كإتيان الحوادث. فأما على طريقة الخلف من أئمة الأشعرية لدفع مطاعن الملاحدة فتجيء وجوهٌ منها:
الوجه الثاني: أقول يجوز تأويل إتيان الله بأنه مجاز في التجلي والاعتناء إذا كان الضمير راجعاً لمن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، أو بأنه مجاز في تعلق القدرة التنجيزي بإظهار الجزاء إن كان الضمير راجعاً للفريقين، أو هو مجاز في
(1) سورة البقرة، الآية (210).
الاستئصال يقال أتاهم الملك إذا عاقبهم قاله القرطبي، قلت وذلك في كل إتيان مضاف إلى منتقم أو عدو أو فاتح كما تقول: أتاهم السبع بمعنى أهلكهم وأتاهم الوباء ولذلك يقولون أتى عليه بمعنى أهلكه واستأصلَه، فلما شاع ذلك شاع إطلاق الإتيان على لازمه وهو الإهلاك والاستئصال قال تعالى:{فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} (1).
الوجه الثالث: إسناد الإتيان إلى الله تعالى إسناد مجازي وإنما يأتيهم عذاب الله يوم القيامة أو في الدنيا وكونه {في ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} زيادة تنويه بذلك المظهر ووقعه لدى الناظرين.
الوجه الرابع: يأتيهم كلام الله الدالُّ على الأمر ويكون ذلك الكلام مسموعاً من قِبَل ظلل من الغمام تحفه الملائكة.
الوجه الخامس: أن هنالك مضافاً مقدراً أي يأتيهم أمر الله أي قضاؤه بين الخلق أو يأتيهم بأس الله بدليل نظائره في القرآن أو يأتي أمر ربك وقوله: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا} (2) ولا يخفى أن الإتيان في هذا يتعين أن يكون مجازاً في ظهور الأمر.
الوجه السادس: حذف مضاف تقديره، آيات الله أو بيناته أي دلائل قدرته أو دلائل صدق رُسُله ويبعِّده قوله:{فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} إلاّ أن
(1) سورة الحشر، الآية (2).
(2)
سورة الأعراف، الآية (4).
يرجع إلى الوجه الخامس أو إلى الوجه الثالث.
الوجه السابع: أن هنالك معمولاً محذوفاً دل عليه قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) والتقدير أن يأتيهم الله بالعذاب أو ببأسه. والأحسن تقدير أمر عام يشمل الخير والشر لتكون الجملة وعْداً ووعيداً " (2)
…
.
الرد على ابن عاشور:
الذي ينبغي أن يقرر في صفتي الإتيان والمجيء هو مذهب السلف الصالح. إتيان ومجيء يليق بجلال الله وعظمته منزهاً عن جميع التشبيه الذي يخطر في عقول المعطلة (3)
…
.
قال عبد الباقي الحنبلي: " ومنها نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف ، بل يثبت الحنابلة ما أثبته رسول الله ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، وكذلك ما أنزل الله عز اسمه في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين في قوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وفي قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} الآية، ونؤمن بذلك بلا كيف فلو شاء سبحانه أن يبين لنا كيفية ذلك فعل فانتهينا إلى ما أحكمه وكففنا عن الذي يتشابه،
(1) سورة البقرة، الآية (209).
(2)
التحرير والتنوير، ج 2، ص 284 - 285.
(3)
انظر المفسرون بين التأويل والإثبات / المغراوي، ج 1، ص 380.
وقال مالك: إياكم والبدع قيل: وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله تعالى وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته لا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفي صحف إدريس لا تروموا أن تحيطوا بالله خبرة فإنه أعظم وأعلى أن تدركه فطن المخلوقين " (1).
7 -
قاعدة: إذا كانت الصفة تقتضي التحيّز تعيّن أن يكون المراد غير حقيقة:
ذكر هذه القاعدة عند تفسيره لقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ} (2) حيث يقول: " والكرسي شيء يُجلس عليه مُتركب من أعواد أو غيرها موضوعة كالأعمدة متساوية، عليها سطح من خشب أو غيره بمقدار ما يسع شخصاً واحداً في جلوسه، فإن زاد على مجلس واحد وكان مرتفعاً فهو العرش. وليس المراد في الآية حقيقة الكرسي إذ لا يليق بالله تعالى لاقتضائه التحيّز، فتعين أن يكون مراداً به غير حقيقته.
والجمهور قالوا: إنّ الكرسي مخلوق عظيم، ويضاف إلى الله تعالى لعظمته، فقيل هو العرش، وهو قول الحسَن. وهذا هو الظاهر لأنّ الكرسي لم يذكر في القرآن إلاّ في هذه الآية وتكرّر ذكر العرش، ولم يَرِد ذكرهما مقترنين، فلو كان الكرسي غير العرش لذكر معه كما ذُكرت السماوات مع العرش في قوله تعالى:
(1) العين والأثر في عقائد أهل الأثر / عبد الباقي الحنبلي، ج 1، ص 61.
(2)
سورة البقرة، الآية (255).
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (1) وقيل الكرسي غير العرش، فقال ابن زيد هو دون العرش وروى في ذلك عن أبي ذَر رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ما الكرسيُ في العرش إلاّ كحلقة من حديد ألقيَتْ بين ظهري فلاة من الأرض " وهو حديث لم يصح. وقال أبو موسى الأشعري والسُدى والضحاك: الكرسي موضع القدمين من العرش، أي لأنّ الجالس على عرش يكون مرتفعاً عن الأرض فيوضع له كرسي لئلا تكون رجلاه في الفضاء إذا لم يتربَّع، وروي هذا عن ابن عباس. وقيل: الكرسي مثلَ لعلم الله، وروي عن ابن عباس لأنّ العالم يجلس على كرسي ليعلّم الناس. وقيل: مثل لملك الله تعالى كما يقولون فلان صاحب كرسي العراق أي ملك العراق " (2).
الرد على ابن عاشور:
ما ذكره ابن عاشور في تفسير معنى الكرسي وأنه غير مراد على حقيقته قول تردّه الآثار، فقد صحّ عن ابن عباس:" {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} قال: موضع القدمين ولا يقدر قدر عرشه "(3)، وفيه: إثبات القدمين لله عز وجل على ما يليق بجلال الله وعظمته.
(1) سورة المؤمنون، الآية (86).
(2)
التحرير والتنوير، ج 3، ص 23.
(3)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ج 12، ص 39، ح- 12404، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، ج 6، ص 323، وقال: رجاله رجال الصحيح.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية لما سئل عن العرش والكرسي فأجاب: الحمد لله بل العرش موجود بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ، وكذلك الكرسي ثابت بالكتاب والسنة وإجماع جمهور السلف.
وقد نقل عن بعضهم أن كرسيه علمه ، وهو قول ضعيف ،فإن علم الله وسع كل شيء كما قال: ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما
والله يعلم نفسه ، ويعلم ما كان وما لم يكن ، فلو قيل وسع علمه السموات والأرض لم يكن هذا المعنى مناسبا لا سيما وقد قال تعالى ولا يؤوده حفظهما أي لا يثقله ولا يكرثه وهذا يناسب القدرة لا العلم ، والآثار المأثورة تقتضى ذلك لكن الآيات والأحاديث في العرش أكثر من ذلك صريحة متواترة (1)
…
.
(1) مجموع الفتاوى / شيخ الإسلام ابن تيمية، ج 6، ص 584.
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. والصلاة والسلام على رسول الله إمامنا في جميع الحالات وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد ..
فقد وفقني الله تعالى بكرمه ومنته إلى إتمام هذه الرسالة، وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله، فهو الموفق، وهو الملهم، والهادي إلى الطريق المستقيم، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وحسبي أنني استطعت بهذه الرسالة أن أنير الطريق للسالك في هذا الفن، وأن أبين المعالم لمن أراد البحث والترجيح بين الأقوال للوصول إلى الحقيقة، وساهمت بقدر ضئيل في خدمة القرآن الكريم، واستطعت أن أكشف الصورة عن القواعد الترجيحية المتعلقة بالنص في تفسير ابن عاشور، وفي الختام أذكر بعض النتائج والأمور المستخلصة من هذا البحث على النحو التالي:
1 -
إن ابن عاشور كان عالماً فذاً ومصلحاً كبيراً، له تأثيره في إصلاح التعليم بجامع الزيتونة، والذي كان له الأثر الكبير في إعداد القيادات الإصلاحية في المغرب العربي الإسلامي.
2 -
اعتنى الشيخ ابن عاشور في تفسيره بتفاصيل المذهب المالكي، ولعل الداعي له أن أغلب أهل بلده مالكية، ومع أنه تتلمذ على المذهب المالكي إلا أنه غير متعصب له، ولا مقلد، بل قد بلغ رتبة الاجتهاد، معتمداً في ذلك على الدليل من النص والإجماع والقياس.
3 -
نحا ابن عاشور في تفسيره لآيات العقائد المذهب المنسوب لأبي الحسن الأشعري في أغلب المسائل العقدية، إلا القليل، وقد بينت ذلك في المبحث الثالث من الفصل السابع عند الحديث عن أثر عقيدة ابن عاشور في صياغة القواعد والترجيح بها.
4 -
إن القواعد التي ذكرها ابن عاشور والمتعلقة بالعقيدة متفق عليها أو على أصلها؛ لكن الخلاف وقع في تطبيقها عنده بسبب جذور عقدية وهي تأثره بالمذهب الأشعري.
5 -
من خلال هذا البحث تبيّن لي توسع ابن عاشور وإلمامه بشتى أنواع العلوم الشرعية حيث رجَّح بناءً على فهمه لدلالة الآيات، ودلالة السنة النبوية والآثار، وبناءً على القواعد اللغوية والإعرابية ونحوها.
ولكن من خلال هذه الدراسة المتخصصة في قواعد الترجيح المتعلقة بالنص في تفسير ابن عاشور تبين الآتي:
1 -
حرص ابن عاشور على تقديم القول الذي تؤيده الآيات القرآنية.
2 -
اعتنى ابن عاشور على الاقتصار على المعنى الظاهر للآية وبيّن أنه الأصل، ولكنه خالف أحياناً في هذه القاعدة ولجأ إلى التأويل ولا سيما في آيات العقيدة متأثراً بالأشاعرة.
3 -
بيّن ابن عاشور في تفسيره أن الأولى إعمال اللفظ القرآني بكلا معنييه الحقيقي والمجازي متى أمكن، ويرى أن المعاني المتعددة التي يحتملها اللفظ بدون خروج عن أساليب الكلام العربي البليغ، معانيَ في تفسير الآية.
4 -
قرّر ابن عاشور في تفسيره وجوب حمل اللفظ على حقيقته إلا إذا وجد صارف يصرفه عن المعنى الحقيقي، وذكر بأن المعنى المجازي أحياناً قد يكون أرجح من الحقيقي؛ لكونه أسبق إلى الفهم من معناه الحقيقي.
5 -
استعان ابن عاشور بما جاء في التوراة لتأييد القول الذي يذهب إليه لا سيما إذا تساوت الأقوال في القوة فإنه يجد ما جاء في التوراة لطيفة تعينه على الترجيح، ولكن قد يبالغ ابن عاشور أحياناً حين نجده يرد قولاً للمفسرين لكونه لم يجده في كتب بني إسرائيل.
6 -
اعتنى ابن عاشور بالقواعد الترجيحية المتعلقة بالنسخ، ومن ذلك أنه يرى أن الأصل عدم النسخ إلا إذا قام الدليل على ذلك، وقد حرّر كثيراً من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين النسخ والإحكام، كما قرّر في تفسيره أن النسخ لا يقع في الأخبار وإنما يجوز وقوعه في الأمر والنهي.
7 -
قررّ ابن عاشور في تفسيره أن الزيادة على النص ليست بنسخ، كما ذهب في تفسيره إلى أن تخصيص العام وتقييد المطلق لا يعدّ نسخاً، وإن المتقدمين هم الذين اصطلحوا على تسمية ذلك نسخاً. كما يرى ابن عاشور أن إجماع العلماء يعدّ ناسخاً ولكن بشرط أن يكون هذا الإجماع مستند إلى نص شرعي، فيكون النص هو الناسخ الحقيقي للحكم.
8 -
اعتمد ابن عاشور على القراءات المتواترة، وذلك بخلاف حال كثير من المفسرين الذين شحنوا تفاسيرهم بالقراءات المتعددة الصحيحة والشاذة.
9 -
يرى ابن عاشور أن تواتر القراءات القرآنية هو الشرط الرئيس لقبول القراءات، وأما الشروط الثلاثة التي اشترطها العلماء من موافقتها وجهاً في
العربية، وموافقتها خط المصحف، وصحة سندها، إنما هي شروط في قبول القراءات إذا كانت غير متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما القراءة المتواترة فهي غنية عن هذه الشروط لأن تواترها يجعلها حجة في العربية، ويغنيها عن الاعتضاد بموافقة المصحف المجمع عليه.
10 -
أشار ابن عاشور في تفسيره إلى أن الأصل توافق القراءات في الآية الواحدة في المعنى، وإن حصل اختلاف في المعنى لم يكن حمل أحد القراءتين على الأخرى متعينا، بل إن الاختلاف يعدّ أمراً مطلوباً حيث يكثِّر المعاني في الآية الواحدة.
11 -
اعتبر ابن عاشور القراءة القرآنية مرجحاً لأحد المعاني إذا اختلفت المعاني في الآية، كما اعتمد رسم المصحف في الترجيح حيث ذهب إلى أن التفسير الموافق لرسم المصحف مقدمٌ على غيره من التفاسير.
12 -
اعتنى ابن عاشور بالسياق القرآني، فهو كثيراً ما يرجّح بعض الأقوال بناءً على مناسبته للسياق، كما حرص على ترجيح القول الذي لا يصادم نظم الآية ولا ترتيبها.
13 -
عالج ابن عاشور كثيراً من الآيات التي تبدو متعارضة عند النظرة الأولى لها وبيّن أن لكل آية مقامها، ومناسبتها التي ذكرت فيها فلا تعارض بين الآيات.
14 -
حرص ابن عاشور على التعرف على عادات القرآن ومعهوده في التفسير، واعتمد أسلوب القرآن في الترجيح بين الأقوال.
15 -
ذهب ابن عاشور إلى أن الألفاظ تدل على المعاني، وأن أي زيادة في
لفظ الكلمة فيه زيادة في معناها.
16 -
بيّن ابن عاشور في تفسيره أن جميع المعاني التي تتحملها جمل القرآن، تعتبر مرادة بها، وأن فيه من المعاني والمقاصد أكثر مما تحتمله الألفاظ، وهذا لكونه معجزة الإسلام الخالدة، ولذلك فهو يرى أنه إذا اختلفت المعاني حول الآية وكانت جميعها مما يحتملها اللفظ فالأولى الأخذ بها جميعاً ما لم يوجد قرينة أو دليل يرجح أحدهما.
التوصيات:
ولعل هذه الخاتمة فرصة لإبداء مقترحاتي حول هذا الموضوع خاصةً وموضوعات الدراسات القرآنية عموماً، وهي:
أولاً: أن تتم دراسة مستقلة في مقدمات ابن عاشور التي افتتح بها تفسيره ، لأنك إذا قارنتها بما كتبه معاصروه لن تجد وجهاً للمقارنة ألبتة، فهي من الأعلاق النفيسة ذات الشأو البعيد تحتاج إلى عناية ودراسة متخصصة.
ثانياً: أقترح إخراج كتب ابن عاشور المخطوطة وتحقيقها، ثم طباعتها ليستفيد منها طلبة العلم.
ثالثاً: أن يقوم أحد الباحثين بدراسة مقارنة بين قواعد الترجيح في التفسير من حيث القوة والأَوْلى في تقديم العمل بها، لا سيما عندما تتنازع أكثر من قاعدة حول تفسير الآية فيحتاج إلى معرفة درجة قوة كل منهما وأيهما أقوى حتى تقدَّم في اعتماد الترجيح.
رابعاً: نظراً لتميّز ابن عاشور في تحرير المسائل وترجيحها فإنني أرى دراسة القواعد الترجيحية المتعلقة بالسنة عنده، وأما اللغة فهي قيد الدراسة.
خامساً: نظراً للارتباط الوثيق بين علم أصول الفقه وقواعد الترجيح، فحبذا لو يتمّ تدريس بعض أبواب أصول الفقه وطرق الاستنباط في الدراسات العليا بقسم القرآن وعلومه. وكذا يتم تدريس التفسير الفقهي وأنواعه في الدراسات العليا بكليات الشريعة.
وأخيراً أحمد الله العلي القدير على توفيقه وتيسيره على إنجاز هذا
البحث، هذا وإن كنت قصَّرت في بعض الفصول، فأرجو أن يقبل القارئ عذري لأن الكمال لله وحده:{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (1) وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(1) سورة هود، الآية (88).