الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنما يؤثِّرُ في دلالة الجملة، وقدرتها الدلالية، تأثيرًا جليا أو خفيا، وفق قدرات المتلقين " (1).
الأمثلة التطبيقية على القاعدة:
مثال " الرحمن الرحيم ":
قال تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (2).
اختلفت عبارات أهل العلم في معنى الاسمين الكريمين (الرحمن الرحيم) ولكنها لم تخرج عن كون الاسمين اشتقا من الرحمة على وجه المبالغة.
ولكن اختلفت أقوالهم في أي الاسمين أبلغ؛ فمن قائل بالترادف، ومن قائل بالتباين والاختلاف.
وقد فصّل ابن عاشور في معانيها فقال: " وبعد كون كل من صفتي الرحمن الرحيم دالة على المبالغة في اتصافه تعالى بالرحمة ، فقد قال الجمهور: إن الرحمن أبلغ من الرحيم بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى وإلى ذلك مال جمهور المحققين ....... إلى أن قال: " وينسب إلى قطرب: أن الرحمن والرحيم يدلان على معنى واحد من الصفة المشبهة فهما متساويان وجعل الجمع بينهما في الآية من قبيل التوكيد اللفظي " (3).
ورجّح ابن عاشور أن الرحمن أبلغ من الرحيم بناءً على القاعدة ، وقد سبقه
(1) البقاعي ومنهاجه في تأويل بلاغة القرآن / محمود توفيق محمد سعد، ج 1، ص 146.
(2)
سورة الفاتحة، الآية (3).
(3)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 171.
إلى ذلك معظم المفسرين. (1) بل يكاد يتفق العلماء على أن الرحمن أبلغ من الرحيم، وفي كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق على هذا (2).
حجة من قال: إن الرحمن أبلغ الرحيم:
حجتهم في ذلك أن الرحمن فيها من المبالغة ما ليس في الرحيم.
قال الزمخشري موضحاً هذا المعنى: "و (الرحمن) فعلان من رحم، كغضبان وسكران، من غضب وسكر، وكذلك (الرحيم) فعيل منه، كمريض وسقيم، من مرض وسقم، وفي (الرحمن) من المبالغة ما ليس في (الرحيم)، ولذلك قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، ويقولون: إنّ الزيادة في البناء لزيادة المعنى "(3).
وقال ابن عطية: "والرحمن صفة مبالغة من الرحمة، ومعناها أنه انتهى إلى غاية الرحمة كما يدل على الانتهاء سكران وغضبان، وهي صفة تختص بالله ولا تطلق على البشر، وهي أبلغ من فعيل، وفعيل أبلغ من فاعل، لأن راحماً يقال لمن رحم ولو مرة واحدة، ورحيماً يقال لمن كثر منه ذلك، والرحمن النهاية في
(1) انظر جامع البيان الطبري، ج 1، ص 66، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 63، والتفسير الكبير/ الرازي، ج 1، ص 202، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 121، والبحر المحيط / أبو حيان، 1، ص 125، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 198، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 18، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 64، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 245، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 19.
(2)
انظر جامع البيان الطبري، ج 1، ص 66، .
(3)
الكشاف / الزمخشري، ج 1، ص 108.
الرحمة " (1).
وكذلك أكَّد الشنقيطي هذا المعنى بقوله: "والرحمن أشد مبالغة من الرحيم، لأن الرحمن هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة، والرحيم ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة. وعلى هذا أكثر العلماء، ويدل له الأثر المروي عن عيسى كما ذكره ابن كثير وغيره أنه قال عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: (الرحمن) رحمن الدنيا والآخرة، و (الرحيم) رحيم الآخرة. وقد أشار الله تعالى إلى هذا حيث قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} (2) وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) ومن أظهر الأدلة في ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (4) إلى قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (5) وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (6) "(7).
وهذا القول هو الذي رجّحه ابن عاشور، وذكر أنه قول جمهور المحققين ،
(1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 63.
(2)
سورة الفرقان، الآية (59).
(3)
سورة طه، الآية (5).
(4)
سورة الرحمن، الآية (1 - 2).
(5)
سورة الرحمن، الآية (13).
(6)
سورة الأحزاب، الآية (43).
(7)
أضواء البيان / الشنقيطي، ص 19.
وذلك بناءً على قاعدة المبحث أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى (1).
ولكنهم اختلفوا في مراد كل منهما تحديداً:
حجة من قال: إن الرحمن والرحيم يدلان على معنى واحد:
استدل أصحاب هذا القول بظاهر الحديث: " رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما"(2).
وإليه ذهب الجويني (3).
وقال قطرب: يجوز أن يكون جمع بينهما للتوكيد (4).
قال أبو إسحاق: وهذا قول حسن، وفي التوكيد أعظم الفائدة، وهو كثير في كلام العرب، ويستغني عن الاستشهاد، والفائدة في ذلك ماقاله محمد بن يزيد: إنه تفضل بعد تفضل، وإنعام بعد إنعام، وتقوية لمطامع الراغبين، ووعد لا يخيب آمله (5).
(1) انظر التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 1، ص 171.
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك، ج 1، ص 696، ح- 1898.
(3)
الجويني هو عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حَيُّويَه الشيخ أبو محمد الجُوَيْنِيّ والد إمام الحَرَمَين، كان إماماً فقيهاً، بارعاً، مفسراً، نحوياً، أديباً. تفقه على أبي الطيِّب الصُّعْلوكي 1، وأبي بكر القفال، وقعد للتدريس والفتوى، وكان مجتهداً في العبادة، مهيباً بين التلامذة. صنف " التبصرة " في الفقه، و " التذكرة "، و " التفسير الكبير " و " التعليق " سمع من أبي الحسين بن بشران 2 وجماعة، روى عنه ابنه إمام الحرمين وغيره. مات في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة. (طبقات المفسرين / السيوطي، ج 1، ص 9).
(4)
انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 121.
(5)
انظر معاني القرآن / النحاس، ج 1، ص 55، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 121.
القول الراجح
نصل إلى أن الزيادة في المبنى دليل على الزيادة في المعنى ، وأن الرحمن أشد مبالغة من الرحيم، وهذا هو ما ذهب إليه ابن عاشور بناءً على قاعدة المبحث.
قال أبو على الفارسي: " الرحمن " اسم عام في جميع أنواع الرحمة، يختص به الله.
" والرحيم " إنما هو في جهة المؤمنين، كما قال تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (1).
وقال العزرمي (2): " الرحمن " بجميع خلقه في الأمطار ونعم الحواس والنعم العامة، و " الرحيم " بالمؤمنين في الهداية لهم، واللطف بهم، قال ابن عطية وهذه كلها أقوال تتعاضد (3).
وأما قول من قال: إن الرحمن والرحيم بمعنى واحد ، فقد ردّه ابن عاشور بقوله:" وهو وجه ضعيف إذ التوكيد خلاف الأصل، والتأسيس خير من التأكيد والمقام هنا بعيد عن مقتضى التوكيد. وقد ذُكِرت وجوه في الجمع بين الصفتين ليست بمقنعة "(4).
(1) سورة الأحزاب، الآية (43).
(2)
هو عبد الملك بن أبي سليمان، أبو محمد، العرزمي الفزاري، ولد عام 77 هـ، وهو شاعر حضرمي، له اشتغال بالحديث انتقل من حضرموت إلى الكوفة وأدرك أول الدولة العباسية، أكثر شعره آداب وأمثال، وهو القائل:(إن يحسدوني فاني غير لائمهم * قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا) وكان يحفظ الحديث ويرويه، وليس بثقة: ضاعت كتبه فحدث من حفظه فأتى بمناكير، توفي سنة (145 هـ. (انظر الأعلام / الزركلي ،ج 6 ، ص 258).
(3)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 63.
(4)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 172.
2 -
مثال "افتدى":
اختلف المفسرون في قوله " فدى"، فمنهم من يرى: أن فدى بمعنى افتدى دون النظر إلى الغرض من زيادة التاء، في حين يرى البعض: أن زيادة التاء تدل على زيادة المعنى بمعنى تكلفت في فداء نفسها. وهذا ما ذهب إليه ابن عاشور حيث يقول: " و (افتدى) مرادف فدى. وفيه زيادة تاء الافتعال لتدل على زيادة المعنى، أي لتكلفت فداءها "(2)
ولم يتطرق أحد من المفسرين الذين اعتمدتهم في هذا البحث إلى مثل هذه الزيادة في الحرف في كلمة افتدى وأثرها في المعنى سوى ابن عاشور (3).
حجة من يرى أن افتدى فيها زيادة معنى على (فدى):
ومن حجتهم في ذلك: أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى (4).
(1) سورة يونس، الآية (54).
(2)
التحرير والتنوير، ج 6، ص 197.
(3)
انظر جامع البيان الطبري، ج 11، ص، 142.، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 125.
(4)
انظر التحرير والتنوير، ج 6، ص 197.
حجة من يرى أن فدى وافتدى بمعنى واحد ولا مزية لإحداهما على الأخرى:
قال أبو حيان: " لما ذكر العذاب وأقسم على حقيقته، وأنهم لا يفلتون منه، ذكر بعض أحوال الظالمين في الآخرة. وظلمت صفة لنفس. والظلم هنا الشرك والكفر، وافتدى يأتي مطاوعاً لفدى، فلا يتعدى تقول: فديته فافتدى، وبمعنى فدى فيتعدى، وهنا يحتمل الوجهين "(1).
وقال الألوسي: " {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} أي: بالكفر أو بالتعدي على الغير أو غير ذلك من أصناف الظلم كذا قيل، وربما يقتصر على الأول لأنه الفرد الكامل مع أن الكلام في حق الكفار و (لَوْ) قيل بمعنى أن وقيل على ظاهرها واستبعد ولا أراه بعيداً {مَا فِي الْأَرْضِ} أي ما في الدنيا من خزائنها وأموالها ومنافعها قاطبة {لَافْتَدَتْ بِهِ} أي لجعلته فدية لها من العذاب من افتداه بمعنى فداه فالمفعول محذوف أي لافتدت نفسها به. وجوز أن يكون افتدى لازماً على أنه مطاوع فدى المتعدي يقال فداه فافتدى، وتعقب بأنه غير مناسب للسياق إذ المتبادر منه أن غيره فداه لأن معناه قبلت الفدية والقابل غير الفاعل، ونظر فيه بأنه قد يتحد القابل والفاعل إذا فدى نفسه نعم المتبادر الأول "(2).
وقال القاسمي: " {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} أي بالشرك بالله، أو
(1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 5، ص 167.
(2)
روح المعاني / الألوسي، ج 6، ص 129.
التعدي على الغير، أو مطلقاً {مَا فِي الْأَرْضِ} أي من الأموال " لافتدت به" أي لجعلته فدية لها من العذاب " (1).
ومما تقدم ، وقد اطلعنا على أقوال معظم المفسرين في هذه الآية لم نجد منهم من نبه على تلك اللطيفة التي ذكرها ابن عاشور من زيادة المبنى وأثرها على المعنى في كلمة افتدت، وبذلك نصل إلى اهتمام ابن عاشور بهذه القاعدة وأثرها على التفسير.
3 -
مثال "استطاعوا":
قال تعالى:
…
{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} (2)
اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى:
…
اسْطَاعُوا واسْتَطَاعُوا
…
، والفرق بينهما، فمنهم من يرى أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى وعليه يكون قوله (وَمَا اسْتَطَاعُوا) فيه زيادة في المعنى على (اسْطَاعُوا)، ومنهم من لا يرى فرقاً بينهما
وقد ذهب ابن عاشور إلى أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، وقوله (استطاعوا) يدل على زيادة في المعنى، وهذا قوله: " ومن خصائص مخالفة مقتضى الظاهر هنا إيثار فعل ذي زيادة في المبنى بموقع فيه زيادة المعنى لأن استطاعة نقب السد أقوى من استطاعة تسلقه، فهذا من مواضع دلالة
(1) محاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 36.
(2)
سورة الكهف، الآية (97).
زيادة المبنى على زيادة في المعنى " (1).
وممن وافق ابن عاشور في كون الزيادة في الحرف تدل على زيادة المعنى ابن كثير، والألوسي (2).
في حين ذهب بعض المفسرين (3) إلى أن معناهما واحد وأن هذه الزيادة في قوله " وَمَا اسْتَطَاعُوا " بناءً على القراءات الواردة فيها.
حجة من قال: إن هناك فرقا بينهما، وأن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى:
حجتهم في ذلك اللغة، لأنه من القواعد العربية المعروفة عند جمهور أهل اللغة أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى؛ ولهذا السبب ذهب أصحاب هذا القول إليه.
ويرى ابن عاشور أن قوله: {وَمَا اسْتَطَاعُوا} فيها زيادة في المعنى يقتضيه الزيادة في مبناها ، واهتم بقاعدة المبحث كثيراً.
وفي ذلك يقول ابن كثير: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} وهو الصعود إلى أعلاه، {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} ، وهو أشق من ذلك، فقابل كلا بما يناسبه لفظًا ومعنى (4).
(1) التحرير والتنوير، ج 8، ص 38.
(2)
انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 9، ص 181، وروح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 363.
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 16، ص 34، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 453، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 11، 67، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 6، ص 156، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 313.
(4)
انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 9، ص 181.
قال البقاعي: " وزيادة التاء هنا تدل على أن العلو عليه أصعب من نقبه لارتفاعه وصلابته والتحام بعضه ببعض حتى صار سبيكة واحدة من حديد ونحاس في علو الجبل "(1).
وقال الألوسي: " ولا يخفى لطف الإتيان في استطاعوا هنا "(2).
وقال الدكتور فاضل السامرائي: " الفرق بين " استطاعوا " وَ " اسطاعوا " أن "اسطاعوا" هذه من الحذف للتقليل من الفعل وهو الصعود على ظهره، وأما "استطاعوا" تحتاج إلى جهد لنقب السدّ، وبالتأكيد أن إحداث نقب في السد المصنوع من الحديد والنحاس أشدّ من الصعود على ظهره ويستغرق وقتاً أطول فحذف من الفعل الذي مدته أقل وذكر في الحدث الممتد "(3).
حجة من قال: إنه لا فرق بين اسطاعوا وَاستطاعوا:
حجتهم في ذلك اللغة، لأن العرب يقولون اسطاع ويستطيع يريدون بها معنى واحد، كما احتجوا على قولهم هذا بالقراءات الواردة فيها.
قال أبو جعفر الطبري: " واختلف أهل العربية في وجه حذف التاء من قوله: (فَمَا اسْطَاعُوا) فقال بعض نحويي البصرة: فعل ذلك لأن لغة العرب أن تقول: اسطاع يسطيع، يريدون بها: استطاع يستطيع، ولكن حذفوا التاء إذا جُمعت مع الطاء ومخرجهما واحد. قال: وقال بعضهم: استاع، فحذف الطاء
(1) نظم الدرر / البقاعي، ج 4، ص 505.
(2)
روح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 363.
(3)
لمسات بيانية في نصوص من التنزيل / فاضل السامرائي، ج 1، ص 293.
لذلك. وقال بعضهم: أسطاع يسطيع، فجعلها من القطع كأنها أطاع يطيع، فجعل السين عوضًا من إسكان الواو. وقال بعض نحوييّ الكوفة: هذا حرف استعمل فكثر حتى حذف" (1).
وقال ابن عطية: " وقوله (اسطاعوا) بتخفيف الطاء، على قراءة الجمهور، قيل: هي لغة بمعنى استطاعوا وقيل بل استطاعوا بعينه، كثر في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء، فقالوا: (اسطاعوا)، وحذف بعضهم منه الطاء فقال: » استاع «يستيع بمعنى استطاع يستطيع، وهي لغة مشهورة وقرأ حمزة وحده) فما اسطّاعوا (بتشديد الطاء وهي قراءة ضعيفة الوجه (2)، قال أبو علي: هي غير جائزة (3)، وقرأ الأعمش: ) فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا (بالتاء في الموضعين "(4).
وذكر ابن الجوزي أن قوله تعالى: (فما اسطاعوا) أصله: فما «استطاعوا» فلما كانت التاء والطاء من مخرج واحد أحبُّوا التخفيف فحذفوا (5).
وقال الرازي: " فما اسطاعوا حذف التاء للخفة لأن التاء قريبة المخرج من
(1) جامع البيان / الطبري ، ج 16 ، ص 34.
(2)
قلت: لا وجه لتضعيف ابن عطية لها، وذلك لأنها قراءة متواترة فلا يجوز ردها. انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 401، التيسير في القراءات السبع / الداني، ص 146.
(3)
ووجه تضعيف أبي علي الفارسي لها أنه جمع بين ساكنين - انظر الحجة للقراء السبعة / أبو علي الفارسي، ج 3، ص 108.
(4)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 543.
(5)
زاد المسير / ابن الجوزي، ج 3، ص 110.
الطاء، وقرئ فما اصطاعوا بقلب السين صاداً (1).
القول الراجح
هو ما ذهب إليه ابن عاشور من أن هناك فرقا بينهما، وذلك بناء على القاعدة الترجيحية أن (الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى).
وفي تفسير هذه الآية يقول الشيخ محمد بن عثيمين: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} لم تأتِ التاء في الفعل الأول (اسطاعوا) وأتت فيه ثانياً، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أيهما أشق أن يصعدوا الجبل أو أن يَنقبوا هذا الحديد؟
الجواب: الثاني أصعب ولهذا قال: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} لأنه حديد ممسوك بالنحاس، فصاروا لا يستطيعون ظهوره لعلوه وملاسته، فيما يظهر، ولم يستطيعوا له نقباً لصلابته وقوته، إذاً صار سداً منيعاً وكفى الله شر هؤلاء المفسدين وهم يأجوج ومأجوج.
وقد يقول قائل لماذا لم تحذف التاء في قوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} وحذفت في قوله تعالى: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} والجواب: لأن المقام في الآية الأولى مقام شرح وإيضاح وتبيين فلم يحذف من الفعل، أما في الآية الثانية فهي في مقام مفارقة ولم يتكلم بعدها الخضر بكلمة وفارق موسى فاقتضى
(1) التفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 500.
الحذف من الفعل" (1).
4 -
مثال "كبكبوا":
قال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} (2).
اختلفت أقوال المفسرين حول قوله: {فَكُبْكِبُوا} فمنهم من يرى أن الزيادة في الفعل تدل على معنى زائد، ومنهم من يرى أن كب وكبكب بمعنى واحد.
ويرى ابن عاشور أن التضعيف فيها لأجل الزيادة في المعنى، وفي ذلك يقول:" ومعنى (كُبكِبوا) كُبُّوا فيها كَباً بعد كَبَ فإنَّ (كبكبوا) مضاعف كُبُّوا بالتكرير ، وتكرير اللفظ مفيد تكرير المعنى مثل: كفكَف الدمعَ، ونظيره في الأسماء: جيش لَمْلَم، أي كثير، مبالغة في اللَّم، وذلك لأن له فعلاً مرادفاً له مشتملاً على حروفه ولا تضعيف فيه فكان التضعيف في مرادفه لأجل الدلالة على الزيادة في معنى الفعل"(3).
وممن ذهب إلى هذا المعنى من المفسرين الذين سبقوا ابن عاشور الرازي، والألوسي
وساق القاسمي قول الزمخشري في ذلك (4).
(1) تفسير الشيخ محمد بن عثيمين، ج 6، ص 108.
(2)
سورة الشعراء، الآية (94).
(3)
التحرير والتنوير، ج 9، ص 152.
(4)
انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 518، وروح المعاني / الألوسي، ج 10، ص 101، محاسن التأويل / القاسمي، ج 7، 484.
ولم يتطرق الطبري ولا من جاء بعده إلى الزيادة في المعنى (1).
وذكر ابن عطية أن كبّ وكبكب بمعنى واحد (2).
حجة من قال: إن تكرير اللفظ في " فَكُبْكِبُوا " يعني الزيادة في المعنى:
حجتهم في ذلك: إن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى ، وهو من أساليب اللغة العربية.
قال الزمخشري: "الكَبْكَبَةُ تكريرُ الكَبِّ جَعَلَ التكريرَ في اللفظِ دليلاً على التكريرِ في المعنى ، كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها"(3).
قال الرازي: " والكبكبة تكرير الكب، كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها"(4).
وقال ابن جزي: " وإنما كرر دلالةً على شدة العقاب وأنهم لا يكبون مرة واحدة بل دفعات "(5).
جاء في هذا النصّ اختيار لفظ (كُبْكِبُوا) ملائماً تماماً للمعنى المراد منه، وذلك لأنّ فعل:"كَبّ" يَدُلُّ على المرّة الواحدة، والمعنيّون لا يُجْمَعُونَ ويُكَبُّونَ
(1) انظر جامع البيان، ج 19، ص 103، الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 13، ص 124، تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 10، ص 356.، وفتح القدير/ الشوكاني، ج 4، ص 106.
(2)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 236.
(3)
الكشاف / الزمخشري، ج 4، ص 400.
(4)
التفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 518.
(5)
التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي، ج 3، ص 160.
كبَّةٌ واحدة. أمّا فعل: (كَبْكَبَ) فهو يَدُلُّ على معنى الكبّ المتكرّر المتتابع، وهو أمْرٌ تدلُّ عليه الصيغة الّتي فيها تكرير للحروف كدلالة "الوسوسة" على التكرير، ودلالة "السلسلة" على تتابع الحلقات، ودلالة "الصلصلة" على تكرار الصوت، كصَوت الجرس (1).
حجة من قال: إن (كبكبوا) وَ (كبوا) بمعنى واحد:
قال ابن عطية: "إن "كبكب" مضاعف من كبّ ، وأن معناهما واحد"(2).
وقال ابن منظور: " وقيل: قوله فكُبْكِبُوا فيها أَي جُمِعُوا ، مأْخوذ من الكَبْكَب"(3).
القول الراجح
هو ما ذهب إليه ابن عاشور من أن المعنى كبوا فيها مرة بعد أخرى ، وذلك بناءً على القاعدة الترجيحية:(الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى).
قال الزجاج: " كُبْكِبُوا طُرحَ بعضُهم على بعض ، قال أَهلُ اللغة: معناه دُهْوِرُوا وحقيقةُ ذلك في اللغة تكرير الانْكِبابِ ، كأَنه إِذا أُلْقِيَ يَنْكَبُّ مَرَّةً بعد مرَّة حتى يَسْتَقِرَّ فيها نَسْتَجيرُ بالله منها "(4).
(1) انظر البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها / عبد الرحمن حبنكه، ج 1، ص 853.
(2)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 236.
(3)
لسان العرب / ابن منظور، ج 12، ص 8.
(4)
معاني القرآن / الزجاج، ج 4، ص 94.
5 -
مثال الكوثر:
قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (1).
اختلف المفسرون في معنى الكوثر على عدة أقوال، فمنهم من فسره بالخير الكثير، ومنهم من فسره بنهر في الجنة، ومنهم من فسره بالنبوة، ومنهم من فسره بالقرآن، ومنهم من فسره بالحوض .. وقد جمع ابن عاشور تلك الأقوال في تفسيره فقال:
" وقد فسر السلف الكوثر في هذه الآية بتفاسير أعمها أنه الخير الكثير، وروي عن ابن عباس، قال سعيد بن جبير: فقلت لابن عباس رضي الله عنه: إن ناساً يقولون هو نهر في الجنة، فقال: هو من الخير الكثير. وعن عكرمة: الكوثر هنا: النبوة والكتاب، وعن الحسن: هو القرآن، وعن المغيرة: أنه الإِسلام، وعن أبي بكر بن عَيَّاش: هو كثرة الأمة، وحكى الماوردي: أنه رفعة الذكر، وأنه نور القلب، وأنه الشفاعة، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم المروي في حديث أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره.
وأريد من هذا الخبر بشارة النبي صلى الله عليه وسلم وإزالةُ ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه: هو أبتر، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر، إبطالاً لقولهم " (2).
ورجّح ابن عاشور كون الكوثر بمعنى الخير الكثير ، وذلك بناء على القاعدة أن (الزيادة في المبنى دليل على الزيادة في المعنى) وفي ذلك يقول: " و (الكوثر):
(1) سورة الكوثر، الآية (1).
(2)
التحرير والتنوير، ج 15، ص 573.
اسم في اللغة للخير الكثير صيغ على زِنة فوْعل، وهي من صيغ الأسماء الجامدة غالباً نحو الكوكب، والجورب، والحوشب والدوسر، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها، ولما وقع هنا فيها مادة الكَثْر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة، وهو أحسن ما فُسر به وأضبطُه، ونظيره: جَوْهر، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوّه، والصومعة لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء لأن الصومعة دقيقة لأن طولها أفرط من غلظها " (1).
وممن وافق قوله قول ابن عاشور من المفسرين قبله ابن عطية ، وقريب منهم أبو حيان والألوسي، والقاسمي، والشنقيطي، ويرى أبو حيان أنه لا ينبغي حصر الكوثر في واحد من تلك الأقوال - وهي التي ذكر بعضها ابن عاشور- وإنما تحمل تلك الأقوال على إنها من باب التمثيل (2).
وذهب آخرون إلى أن الكوثر نهر في الجنة وهو الذي رجحه الطبري، والقرطبي، والشوكاني (3).
وساق ابن كثير الأقوال في الكوثر ولم يرجح (4).
(1) التحرير والتنوير، ج 15، ص 572.
(2)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 529، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 521.، وروح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 479.، محاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 492
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 394، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 20، ص 215.، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 503.، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 2014.
(4)
انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 467 - 477.
حجة من قال: إن الكوثر نهر في الجنة:
استدلوا بالأخبار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك منها:
ماروي عن أبي عبيدة عن عائشة رضي الله عنها قال: سألتها عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قالت: نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم، شاطئاه عليه در مجوف، آنيته كعدد النجوم " (1).
وأخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا فقرأ: : {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم ، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتي فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك " (2).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الكوثر: الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه.
قال: أبو بشر: قلت لسعيد: إن أناساً يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه " (3).
(1) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة قل ياأيها الكافرون، ج 4، ص 1900، ح- 4681.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب حجة من قال:" البسملة آية من أول كل سورة "، ج 1، ص 300، ح- 400.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب في الحوض، ج 5، ص 2405، ح- 2237.
حجة من قال: إن الكوثر الخير الكثير:
استدلوا بقول ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الكوثر: الخير الكثير، وقد تقدم.
قال ابن عطية: " كوثر: بناء مبالغة من الكثرة، ولا مجال أن الذي أعطى الله محمداً صلى الله عليه وسلم من النبوة والحكمة العلم بربه والفوز برضوانه والشرف على عباده هو أكثر الأشياء وأعظمها كأنه يقول في هذه الآية: (إنا أعطيناك) الحظ الأعظم "(1).
وقال الشنقيطي: والذي تطمئن إليه النفس أن الكوثر: هو الخير الكثير، وأن الحوض أو النهر من جملة ذلك. وقد أتت آيات تدل على إعطاء الله لرسوله الخير الكثير، كما جاء في قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (2).
وفي القريب سورة الضحى وفيها: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (3)، أعقبها بنعم جليلة من شرح الصدور، ووضع الوزر، ورفع الذكر، واليسر بعد العسر.
وبعدها في سورة التين جعل بلده الأمين، وأعطى المؤمنين الذين يعملون الصالحات أجراً غير ممنون - وغيرها من الآيات التي تدل على ذلك " (4).
(1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 529.
(2)
سورة الحجر، الآية (87).
(3)
سورة الضحى، الآية (5).
(4)
أضواء البيان / الشنقيطي، ص 2014.
حجة من قال: إن الكوثر حوض أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الناس عليه يوم القيامة:
استدلوا بما رواه مسلم في صحيحه بسنده من حديث أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما ، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله قال: أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتي فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك " (1).
قال القاضي عياض: " أحاديث الحوض صحيحة ، والإيمان به فرض ، والتصديق به من الإيمان ، وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة لا يتأول ولا يختلف فيه، قال القاضي وحديثه متواتر النقل رواه خلائق من الصحابة "(2).
ولكن هنا يرد تساؤل هل الحوض هو الكوثر؟
جاء في الحديث عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب حجة من قال البسملة آية من كل سورة، ج 1، ص 300، ح- 400.
(2)
انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج 15، ص 53.
رسول الله! ما آنية الحوض؟ قال: والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها، ألا في الليلة المظلمة المصحية آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ. آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لم يظمأ، عرضه مثل طوله بين عُمان إلى آيلة، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل " (1).
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينه أو طيبه مسك أذفر (2).
والذي يظهر لي بعد النظر في الأدلة أن الكوثر غير الحوض، فالحوض المورود حوض في الأرض للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، والكوثر نهر في الجنة يصب منه ميزابان في الأرض في هذا الحوض الذي وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم ويرد عليه المؤمنون من أمته، وهو حوض عظيم طوله شهر وعرضه شهر، يرد عليه أهل الإيمان ومن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، وآنيته عدد نجوم السماء، وماءه من الجنة ينزل من نهر الكوثر.
يقول القرطبي في التذكرة: " ذهب صاحب قوت القلوب وغيره إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، وذهب آخرون إلى العكس والصحيح أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين أحدهما في الموقف قبل الصراط والآخر داخل الجنة وكل منهما
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا وصفاته، ج 4، ص 1798، ح- 2300.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب في الحوض، ج 5، ص 2406، ح- 6210.
يسمى كوثرا " (1).
القول الراجح
فيما يظهر لي والله أعلم أن القول الراجح في معنى الكوثر أنه نهر في الجنة، وذلك لثبوته بالنص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهر في الجنة، وما ذهب إليه ابن عاشور من أن الكوثر يدل على الكثرة والخير الكثير ، بناء على أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى ترجيح تعارضه قاعدة أقوى منه وهي أنه (إذا ثبت الحديث وكان نصاً في تفسير الآية فلا يصار إلى غيره) ، وقد تتابعت الأخبار في أن الكوثر نهر في الجنة، وعليه فيتأكد الأمر وتبقى الدلالة على الكوثر بأنه يعني الكثرة من حيث كثرة الواردة والشاربة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويسمى أيضا بالكوثر لما فيه من الخير الكثير والماء الكثير.
قال الشوكاني بعد أن ساق الأحاديث الواردة في الكوثر: " فهذه الأحاديث تدلّ على أن الكوثر هو النهر الذي في الجنة، فيتعين المصير إليها، وعدم التعويل على غيرها، وإن كان معنى الكوثر: هو الخير الكثير في لغة العرب، فمن فسره بما هو أعمّ مما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهو تفسير ناظر إلى المعنى اللغويّ. أخرج أحمد، والترمذي وصححه، وابن ماجه، وابن جرير عن عطاء بن السائب قال: سعيد بن جبير في الكوثر: حدّثنا عن ابن عباس أنه قال: هو الخير الكثير، فقال: صدق إنه للخير الكثير، ولكن حدّثنا ابن عمر قال: نزلت: (إِنَّا أعطيناك الكوثر) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب يجري على الدرّ،
(1) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة / القرطبي، ص 256.
والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل " (1).
وأخرج البخاري من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير، فإن ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة، قال: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه (2). وهذا التفسير من حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه ناظر إلى المعنى اللغويّ كما عرّفناك، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فسّره فيما صح عنه أنه النهر الذي في الجنة " (3).
(1) أخرجه أحمد في مسنده، ج 2، ص 67، ح- 5355، والترمذي في سننه باب ومن سورة الكوثر، ج 5، ص 449، وابن ماجه في سننه، باب صفة الجنة، ج 2، ص 1450، ح- 4334، والطبري في تفسيره، ج 30، ص 392.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الكوثر، ج 4، ص 1900، ح- 4682.
(3)
فتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 503.
ونظائر هذه الأمثلة كثيرة في تفسيره منها:
1 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف: 23).قال ابن عاشور: " غلّقت لإفادة شدّة الفعل وقوته، أي أغلقت إغلاقاً محكماً ". (التحرير والنوير، ج 6، ص 250.
2 -
…
ماجاء في قوله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (القصص: 24)، وفيه قول ابن عاشور:"ويظهر أن تولى مرادف (ولى) ولكن زيادة المبنى من شأنها أن تقتضي زيادة المعنى فيكون تولى أشد من ولى ". (التحرير والتنوير (10/ 102).
3 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (فاطر: 37)، وفيه قول ابن عاشور:" و {يصطرخون} مبالغة في (يصرخون) لأنه افتعال من الصراخ وهو الصياح بشدة وجهد، فالاصطراخ مبالغة فيه، أي يصيحون من شدة ما نابهم"(التحرير والتنوير، ج 11، ص 318).
4 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (الفتح: 25) وفيه قول ابن عاشور: " والتزيَّل: مضارع زيَّله إذا أبعده عن مكان، وزيلهم: أي أبعد بعضهم عن بعض، أي فرقهم، وهو هنا بمعنى التفرق والتميز من غير مراعاة مطاوعة لفعل فاعل لأن أفعال المطاوعة كثيراً ما تطلق لإرادة المبالغة لدلالة زيادة المبنى على زيادة المعنى وذلك أصل من أصول اللغة"(التحرير والتنوير، ج 12، ص 192).
5 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (الأعلى: 1) وفيه قول ابن عاشور: " فلفظ (الأعلى) اسم يفيد الزيادة في صفة العلو، أي الارتفاع "(التحرير والتنوير، ج 15، ص 274).