الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقبل التغيير والتبديل، فبدهي ألا يتعلق بها نسخ " (1).
وقال أبو عبد الله الحارث بن إسماعيل بن أسد المحاسبي في كتابه المسمى "فهم القرآن"، قال في كلامه على الناسخ والمنسوخ:" وأن النسخ لا يجوز في الأخبار. فلا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله وأسمائه وصفاته يجوز أن ينسخ منها شيء ...... إلى أن قال: " إذاً الأخبار الخالصة لا يجوز أن يدخلها النسخ؛ ولو دخلها النسخ لكان هذا كذبا، والله عز وجل منزه عن ذلك" (2).
أمثلة تطبيقية على القاعدة:
1 -
مثال الإيمان:
اختلف المفسرون في هذه الآية على عدة أقوال ، أوصلها أبو حيان إلى ثمانية أقوال في تفسيره (4)، وسأقتصر على المشهور منها.
وسبب اختلاف المفسرين في هذه الآية كما بينه الرازي هو: قوله تعالى في
(1) مناهل العرفان / الزرقاني، ج 2، ص 165.
(2)
العقل وفهم القرآن / الحارث المحاسبي، ص 359 - 360.
(3)
سورة البقرة آية (62).
(4)
انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 404.
آخر الآية: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من الإيمان في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} غير المراد منه في قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ} ونظيره في الإشكال قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} (1) فلأجل هذا الإشكال اختلفوا
فمنهم من ذهب إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) وهو قول ابن عباس رضي الله عنه (3).
ومنهم من ذهب إلى أن الآية غير منسوخة، وأن المقصود بالذين آمنوا هم أهل الحنيفية ممن لم يلحق محمداً صلى الله عليه وسلم، كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، والذين هادوا كذلك ممن لم يلحق محمداً صلى الله عليه وسلم، إلا من كفر بعيسى عليه السلام، والنصارى كذلك ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم، والصابئين كذلك، حيث إنها نزلت في سلمان الفارسي، وأصحابه النصارى، وذكر له الطبري قصة طويلة، مقتضاها أنه صحب عباداً من النصارى فقال له آخرهم: إن زمان نبي قد أظل، فإن لحقته فآمن به، ورأى منهم عبادة عظيمة فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له خبرهم، وسأله عنهم، فنزلت هذه الآية، وهذا
(1) سورة النساء ، الآية (136).
(2)
سورة آل عمران ، الآية (85).
(3)
أخرج رواية ابن عباس الطبري في تفسيره، ج 1، ص 372.
قول السدي (1).
وذهب آخرون إلى أن المراد من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} هم الذين يؤمنون باللسان دون القلب وهم المنافقون، فذكر المنافقين ثم اليهود والنصارى والصابئين فكأنه تعالى قال: هؤلاء المبطلون كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي صار من المؤمنين عند الله، وهو قول سفيان الثوري
…
(2).
ورجَّح ابن عاشور القول بأن الآية غير منسوخة (3) واختاره الطبري، والقاسمي (4).
في حين اختار الشوكاني القول الثالث (5).
وساق كلٌ من ابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والألوسي الأقوال كلها ولم يرجحوا (6).
(1) أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 1، ص 372.
(2)
انظر هذه الأقوال في المحرر الوجيز/ ابن عطية، ج 1، ص 156، والتفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 536.
(3)
انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 539.
(4)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 373، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 350.
(5)
انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 338.
(6)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 156، والتفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 536، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 436، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 403، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 431، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 279.
حجة أصحاب القول الأول وهم القائلون بأن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا .. } :
استدلوا على ذلك بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن هذه الآية نزلت في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (1).
قال ابن عاشور: " وأما القائلون بأنها منسوخة، فأحسب أن تأويلها عندهم أن الله أمهلهم في أول تلقي دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن ينظروا فلما عَاندُوا نسخها بقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} لئلا يفضي قولهم إلى دعوى نسخ الخبر"(2).
ويرتبون على ذلك أن الإسلام مقصور على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أي: إن أي إيمان بالله لا يؤجر وأي عمل صالح لا يثاب إلا إذا كان فاعله من المؤمنين بدعوة النبي الكريم وبرسالته.
حجة أصحاب القول الثاني وهم القائلون بأن الآية غير منسوخة:
استدلوا على ذلك بما رواه مجاهد في قوله: : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
(1) أخرج رواية ابن عباس الطبري في تفسيره، ج 1، ص 372، وإسناده منقطع عن ابن عباس؛ لأن في إسناده علي بن أبي طلحة يرويه عن ابن عباس وعلي بن طلحة لم يلق ابن عباس ولم يسمع منه التفسير. قال ابن حجر:" روى عن ابن عباس ولم يسمع منه "(انظر تهذيب التهذيب / ابن حجر العسقلاني، ج 7، ص 299).
(2)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 539.
هَادُوا} فيها أن سلمان الفارسي رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى، وما رأى من أعمالهم، قال:" لم يموتوا على الإسلام " قال سلمان: فأظلمت علي الأرض، وذكرت اجتهادهم، فنزلت هذه الآية، فدعا سلمان فقال:" نزلت هذه الآية في أصحابك " ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من مات على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي فهو على خير، ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك "(1).
قال الطبري: " والذي قلنا من التأويل أشبه بظاهر التنزيل؛ لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان بعض خلقه دون بعض منهم، والخبر بقوله: {مَنْ آمَنَ} عن جميع ما ذكر في أول الآية "(2).
وقال الراغب الأصفهاني كلاما جميلا في هذه الآية مقتضاه ما ذهب إليه الطبري، وقسّم الإيمان إلى قسمين أحدهما الإقرار بالشهادتين، والثاني تحري اليقين ،وأن قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} عني به المتدين بدين محمد أي على الحنيفية، وقوله:{مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} عني به المتحري للاعتقاد اليقيني إلى أن قال: وقول ابن عباس: إن هذا منسوخ بقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} يعنون أن هذه الأديان كلها منسوخة بدين الإسلام، وأن الله
(1) أخرجها الطبري في تفسيره، ج 1، ص 372.
(2)
جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 373.
عز وجل جعل لهم الأجر قبل وقت النبي عليه السلام ، فأما في وقته، فالأديان كلها منسوخة بدينه. أي فليس مراد ابن عباس ومن وافقه أنه تعالى كان وعد من عمل صالحاً من اليهود، ومن ذكر معهم على عمله في الجنة ثم نسخه بآية {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} بل مراده ما ذكر الراغب (1).
كما رجح ابن كثير هذا القول بناءً على كونه خبراً ، والخبر لا يدخله النسخ فقال:
" فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا، إلا ما كان موافقا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه ،فهو على هدى وسبيل ونجاة؛ فاليهود أتباع موسى عليه السلام والذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم، فلما بعث عيسى وجب على بني إسرائيل إتباعه والانقياد له ،فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، فلما بعث الله محمدا خاتما للنبيين، ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق ،وجب عليهم تصديقه فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر والانكفاف عما عنه زجر وهؤلاء هم المؤمنون حقا "(2).
حجة أصحاب القول الثالث الذين يرون أن المقصود بالذين آمنوا في أول الآية هم المنافقون:
حجتهم في ذلك أن الله تعالى قال في آخر الآية {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} فدل
(1) انظر قول الراغب في محاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 349 - 350.
(2)
تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 285.
ذلك على أن المقصود بالذين آمنوا في أول الآية المنافقون، بدلالة جعلهم مقترنين باليهود والنصارى والصابئين أي آمنوا في الظاهر.
واستبعده ابن عاشور وبين أنه غاية في البعد (1).
القول الراجح:
ومما تقدم تبين لنا أن القول الثاني هو القول الراجح، وهو الذي رجحه ابن عاشور، ووافق ما عليه أكثر المفسرين، وبنى ترجيحه هذا على قاعدة: النسخ لا يقع في الأخبار حيث قال: " وبهذا يعلم أن لا وجه لدعوى كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} إذ لا استقامة في دعوى نسخ الخبر إلا أن يقال: إن الله أخبر به عن مؤمني أهل الكتاب والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به رسل الله دون تحريف ولا تبديل ولا عصيان وماتوا على ذلك قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيكون معنى الآية كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر من يؤتى أجره مرتين " ورجل من أهل الكتاب آمن برسوله ثم أمن بي فله أجران " (2).
قال القاسمي في تفسيره: "أي فليس مراد ابن عباس، ومن وافقه، أنه تعالى كان وعد من عمل صالحاً من اليهود، ومن ذكر معهم، على عمله، في الآخرة، الجنة، ثم نسخه بآية: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 539.
(2)
انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 539.
فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} بل مراده ما ذكر الراغب ، وهذا مالا شبهة فيه " (1).
وفسّر السعدي هذه الآية بقوله: " وذلك والله أعلم - أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم، وذكر معاصيهم وقبائحهم، ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم، فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه"(2).
والواقع إن من يرى أن الآية منسوخة إنما يراه وقد غاب عنه المعنى الحقيقي للإسلام وخفيت عليه خطة الله في البشر، واضطرب في ذهنه معنى النسخ في القرآن، فالإسلام هو الدين الذي أوحى به الله إلى الأنبياء جميعا والرسل كلهم فدعوا إليه وكما قالت الآية الكريمة فإن من آمن بالله وعمل صالحاً من المؤمنين أو اليهود أو النصارى فأجره عند الله ولا خوف عليه ولا حزن ، وكل من كان قويم الخلق صحيح العقيدة فهو عند الله، وفي معنى القرآن مسلم ، والمقصود من آية {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} الذي دعى إليه كل الأنبياء والرسل والذي اعتنقه أتباعهم ، والقرآن يفرق بين المشركين والكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا بالرسل ولا يعملون صالحاً وبين أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن هؤلاء من يؤمن بالله ويعمل صالحاً،
(1) محاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 350.
(2)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 1، ص 64.
وهو المقصود بالآية الكريمة التي تبشر بأن لا خوف عليه ولا حزن. (1)
ومما يعضد ترجيح هذا القول قاعدة (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له على ما خالفه)، وقد رجّح ابن كثير هذا القول بناء على ما ورد في السنة عن سلمان الفارسي من رواية مجاهد، وقد تقدمت.
3 -
مثال المحاسبة:
قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (2).
اختلف المفسرون في هذه الآية، فذهبت جماعة من المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة، وأن ناسخها هو قوله عز وجل في السورة نفسها:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (3)
وذهب آخرون إلى أنها محكمة وأنها من باب الأخبار والبيان (4).
ورجّح ابن عاشور أنها محكمة لكونها من باب البيان والأخبار، وفي ذلك
(1) انظر على الشبكة العنكبوتية: ساحة الحوار الإسلامي / ملتقى الحوار العربي، الشيخ أبو عمر الأزدي بعنوان: الدين واحد والشرائع شتى.
(2)
سورة البقرة، الآية (284).
(3)
سورة البقرة، الآية (286).
(4)
انظر هذه الأقوال في جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 171 - 173، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 389، والتفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 105، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 3، ص 418.
يقول: " وإطلاق النسخ على هذا اصطلاح المتقدمين، والمراد البيان والتخصيص، لأن الذي تطمئن النفس إليه أن هذه الآيات متتابعة النظم، ومع ذلك يجوز أن تكون نزلت منجمة، فحدث بين فترة نزولها ما ظنه بعض المسلمين حرجاً "(1). وممن سبق ابن عاشور في القول بأنها محكمة مستنداً في ذلك إلى القاعدة الطبري، وابن عطية، والرازي، والقرطبي وأبو حيان، والألوسي (2).
في حين رجّح الشوكاني أن الآية منسوخة (3).
وذكر ابن كثير الخلاف الوارد فيها ولم يرجح أحدهما، ولكنه أسهب في ذكر أدلة من يرى أن الآية منسوخة، فكأنه يميل إلى هذا القول (4).
ولم يتطرق القاسمي لهذا الخلاف في كون الآية منسوخة أو محكمة (5).
أما الشنقيطي فلم يتعرض في تفسيره لهذه الآية ولكنه نص على أن الآية منسوخة في كتابه "دفع إيهام الاضطراب عن آيات كتاب الله"(6).
(1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 135.
(2)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 176، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 389، والتفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 105، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 3، ص 418، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 37، وروح المعاني / الألوسي، ج 2، ص 62.
(3)
انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 305.
(4)
انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 516.
(5)
انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 283.
(6)
انظر دفع أيهام الاضطراب عن آيات كتاب الله / الشنقيطي، ص 37.
حجة القائلين بأن الآية منسوخة:
قالوا: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ؛ لأن الآية الأولى تفيد أن الله يؤاخذ العباد حتى بالخطوات التي لا يملكون دفعها ، والآية الثانية تفيد أنه تعالى لا يكلفهم بها لأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها وهذا رفع للحكم الأول (1).
كما استدلوا على ذلك بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا قال فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} قال قد فعلت {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: قد فعلت {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا} قال قد فعلت " (2).
(1) انظر الناسخ والمنسوخ / ابن حزم، ج 1، ص 30، والناسخ والمنسوخ / قتادة، ج 1، ص 37، وفتح المنان في نسخ القرآن / علي حسن العريض، ص 286.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه لم يكلف إلا ما يطاق، ج 1، ص 116، ح- 126، وأحمد في مسنده، ج 1، ص 233، ح- 2070.
وأيضاً ماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم "(1).
قال الشنقيطي: : " قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية، هذه الآية تدل بظاهرها على أنّ الوسوسة وخواطر القلوب يؤاخذ بها الإنسان مع أنه لا قدرة له على دفعها، وقد جاءت آيات أخر تدل على أنّ الإنسان لا يكلّف إلا بما يطيق كقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) والجواب أنّ آية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} منسوخة بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} "(3).
حجة من يقول: إن الآية محكمة:
قال الطبري: " وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال: إنها محكمة، وليست بمنسوخة ، وذلك أن النسخ لا يكون في حكم إلا بنفيه بآخر، هو له ناف من كل وجوهه ، وليس في قوله جل وعز: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطلاق، باب إذا قال لامرأته وهو مكره هذه أختي، ج 5، ص 2020، ح- 4968.
(2)
سورة التغابن، الآية (16).
(3)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات كتاب الله / الشنقيطي، ص 37.
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، نفى الحكم الذي أعلم عبادَه بقوله:{أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} ؛ لأن المحاسبة ليست بموجبة عقوبةً ولا مؤاخذةً بما حوسب عليه العبد من ذنوبه.
وقد أخبر الله عز وجل عن المجرمين أنهم حين تعرض عليهم كتب أعمالهم يوم القيامة يقولون: {وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} (1).
فأخبر أن كتبهم محصيةٌ عليهم صغائرَ أعمالهم وكبائرَها، فلم تكن الكتب - وإن أحصت صغائرَ الذنوب وكبائرَها - بموجب إحصاؤها على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأهل الطاعة له، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبين؛ لأن الله عز وجل وَعدهم العفوَ عن الصغائر، باجتنابهم الكبائر فقال في تنزيله:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (2) فذلك محاسبة الله عبادَه المؤمنين بما هو محاسبهم به من الأمور التي أخفتها أنفسهم، غيرَ موجبٍ لهم منه عقوبة، بل محاسبته إياهم - إن شاء الله - عليها، ليعرّفهم تفضُّله عليهم بعفوه لهم عنها، كما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي رواه قتادة، عن صَفوان بن
(1) سورة الكهف، الآية (49).
(2)
سورة النساء، الآية (31).
مُحْرز (1)، عن ابن عمر، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: يُدْني الله عبدَه المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كَنَفه، فيقرِّره بسيئاته يقول: هل تعرف؟ فيقول: نعم! فيقول: سترتها في الدنيا وأغفرها اليوم! ثم يظهر له حسناته فيقول: {بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} (2) أو كما قال ، وأما الكافر فإنه ينادي به على رؤوس الأشهاد " (3).
كما نصّ ابن عطية على أن الآية محكمة ،وحجته في ذلك أن الآية خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ (4).
القول الر اجح:
إن الآية محكمة ، كما قرر ذلك ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين بناء على القاعدة أن النسخ لا يقع في الأخبار.
أما من استدل بالحديث على نسخ هذه الآية فهو استدلال في غير محله وقد ردّ الرازي على هذا القول وضعفه من وجوه:
" أحدها: أن هذا النسخ إنما يصح لو قلنا: إنهم كانوا قبل هذا النسخ
(1) صفوان بن محرز بن زياد المازني، كنيته أبو عبد الله، تابعي ثقة جليل من أهل البصرة، يروي عن أبي موسى وابن عمر، وكان من العباد اتخذ لنفسه سرباً يبكي فيه روى عنه الحسن وقتادة، ومات سنة (74) في ولاية عبد الملك. (الإصابة في تمييز الصحابة / ابن حجر، ج 2، ص 52).
(2)
سورة الحاقة، الآية (19).
(3)
جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 176.
(4)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 390.
مأمورين بالاحتراز عن تلك الخواطر التي كانوا عاجزين عن دفعها، وذلك باطل، لأن التكليف قط ما ورد إلا بما في القدرة، ولذلك قال عليه السلام:«بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» .
والثاني: أن النسخ إنما يحتاج إليه لو دلت الآية على حصول العقاب على تلك الخواطر، وقد بينا أن الآية لا تدل على ذلك.
والثالث: أن نسخ الخبر لا يجوز إنما الجائز هو نسخ الأوامر والنواهي " (1).
كما أنه يقال فيما روي عن ابن عباس وغيره في أن الآية منسوخة فإن ذلك يريد به تخصيص العموم والمتقدمون يسمون التخصيص نسخا.
3 -
مثال الدراية:
اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} على عدة أقوال، وقد ساق هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره فقال: "
منهم من ذهب إلى أن المراد بقوله: لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، أي لا أدري ما يفعل بي! أُخرج كما أُخرِجَت الأنبياء من قبلي، أو أُقتل كما قُتل الأنبياء من قبلي ولا أدري ما يفعل بكم، إنكم مصدقون أو مكذبون، أو
(1) التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 105.
(2)
سورة الأحقاف، الآية (9).
معذبون أو مؤخرون.
ومنهم من يرى أن المراد: لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة ، وهذا قبل نزول:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية. فلما نزل عليه ذلك عام الحديبية علم ما يفعل به في الآخرة.
وذهب آخرون إلى أن المراد: لا أدري ما أؤمر به ولا ما تؤمرون به، قاله الضحاك (1).
ورجّح ابن عاشور أن المراد بالآية أي ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، واستنكر على ما أطال به بعض المفسرين من قولهم: إن الآية منسوخة، وذلك لأن الآية في معرض الأخبار ، والخبر لا يدخله النسخ، ومن قوله:{وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} تتميم لقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} وهو بمنزلة الاعتراض فإن المشركين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن مغيباتٍ استهزاءً فيقول أحدهم إذا ضلَّت ناقته: أين ناقتي؟ ويقول أحدهم: مَن أبي، أو نحو ذلك فأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم بأنه لا يدري ما يفعل به ولا بهم، أي في الدنيا
…
إلى أن يقول: " فدع ما أطال به بعض المفسرين هنا من المراد بقوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} ومن كونها منسوخة أو محكمة
(1) التحرير والتنوير، ج 12، ص 17، انظر هذه الأقوال في جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 12، والنكت والعيون/ الماوردي، ج 5، ص 273، والتفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 9، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 49.
ومن حُكم نسخ الخبر " (1).
وقد وافق ترجيح ابن عاشور هذا ما اختاره الطبري بناءً على هذه القاعدة.
وكذلك رجحه القرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والقاسمي، والشنقيطي (2).
ورجح ابن عطية أن المراد الآخرة (3).
وساق الرازي تلك الأقوال وفصّل فيها ولم يرجح (4).
أما الألوسي فقد اختار معنىً آخر للآية حيث يقول: "والذي أختاره أن المعنى على نفي الدراية من غير جهة الوحي سواء كانت الدراية تفصيلية أو إجمالية ، وسواء كان ذلك في الأمور الدنيوية أو الأخروية ، وأعتقد أنه صلى الله عليه وسلم لم ينتقل من الدنيا حتى أوتي من العلم بالله تعالى وصفاته وشؤونه ، والعلم بأشياء يعد العلم بها كمالاً ما لم يؤته أحد غيره من العالمين "(5).
(1) انظر التحرير والتنوير، ج 12، ص 17.
(2)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 13، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 187، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 58، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 9، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 15، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 336، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1571.
(3)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 94.
(4)
انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 9.
(5)
روح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 168.
حجة أصحاب القول الأول الذين يقولون أن المراد (ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا):
قال الطبري: " وإنما قلنا ذلك أولاها بالصواب؛ لأن الخطاب من مبتدأ هذه السورة إلى هذه الآية، والخبر خرج من الله عز وجل خطابا للمشركين وخبرا عنهم، وتوبيخا لهم، واحتجاجا من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عليهم، فإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن هذه الآية أيضًا سبيلها سبيل ما قبلها وما بعدها في أنها احتجاج عليهم، وتوبيخ لهم، أو خبر عنهم. وإذا كان ذلك كذلك، فمحال أن يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: قل للمشركين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، وآيات كتاب الله عز وجل في تنزيله ووحيه إليه متتابعة بأن المشركين في النار مخلدون، والمؤمنون به في الجنان منعمون، وبذلك يرهبهم مرّة، ويرغبهم أخرى، ولو قال لهم ذلك، لقالوا له: فعلام نتبعك إذن وأنت لا تدري إلى أيّ حال تصير غدا في القيامة، إلى خفض ودعة، أم إلى شدّة وعذاب "(1).
قال الحسن البصري: أما في الآخرة فمعاذ الله ، قد علم أنه في الجنة (2)، ورجح الطبري قول الحسن بقوله:" وأولى الأقوال في ذلك بالصحة وأشبهها بما دلّ عليه التنزيل، القول الذي قاله الحسن البصري "(3).
(1) جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 13.
(2)
أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 25، ص 12.
(3)
جامع البيان / الطبري، ج 25، ص 12.
حجة أصحاب القول الثاني الذين يقولون أن المراد (ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة):
أصحاب هذا القول يرون أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} .
ذكر الرازي حجتهم على قولهم ، وهو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا كيف نتبع نبياً لايدري ما يفعل به وبنا؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} إلى قوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} (1) ، فبيّن تعالى ما يفعل به وبمن اتبعه ونسخت هذه الآية، وأرغم الله المنافقين والمشركين (2).
روى الطبراني في الأوسط بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما أنزلت عليه هذه الآية، قال:«لقد أنزلت علي آية أحب إلي من الدنيا جميعا» ، فلما تلا نبي الله صلى الله عليه وسلم قال رجل من القوم: هنيئا لك يا نبي الله، قد بين الله لك ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله:{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} (3) لم يرو هذا الحديث عن
(1) سورة الفتح، الآية (1 - 5).
(2)
انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 9.
(3)
سورة الفتح، الآية (5).
همام إلا عبد الله بن محمد بن المغيرة (1).
كما استدلوا على ذلك أيضاً بما جاء في صحيح البخاري من أن أم العلاء امرأة من نسائهم - أي من الأنصار - قد بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن عثمان بن مظعون طار له سهمه في السكنى حين أقرعت الأنصار سكنى المهاجرين ، قالت أم العلاء: فسكن عندنا عثمان بن مظعون، فاشتكى فمرضناه حتى إذا توفي ، وجعلناه في ثيابه ، دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم " وما يدريك أن الله أكرمه ". فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أما عثمان فقد جاءه والله اليقين ، وإني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي " قالت: فو الله لا أزكي أحداً بعده أبداً وأحزنني ذلك قالت: فنمت فأريت لعثمان عيناً تجري، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال:" ذلك عمله"(2).
حجة أصحاب القول الثالث الذين يقولون: إن المراد بالآية الأوامر والنواهي:
وذهب إليه الضحاك فيما يبدو لي لأنه لما استبعد أن يكون معنى الآية وارد في الآخرة ظهر له أن المقصود بذلك الأوامر والنواهي لأنها كانت تتنزل بين فترة وأخرى دون أن يكون له صلى الله عليه وسلم سابق علم بها.
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط، ج 19، ص 357.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب القرعة في المشكلات وقوله:" إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم"، ج 2، ص 954، ح - 2687.
القول الراجح:
هو القول الأول، وذلك بناءً على أن هذه الآية جاءت في معرض الخبر، والأخبار لا يدخلها النسخ، وهذا ما قرره ابن عاشور في تفسيره.
قال ابن كثير: " وهذا القول هو الذي عَوّل عليه ابن جرير، وأنه لا يجوز غيره، ولا شك أن هذا هو اللائق به صلوات الله وسلامه عليه، فإنه بالنسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره وأمر مشركي قريش إلى ماذا: أيؤمنون أم يكفرون، فيعذبون فيستأصلون بكفرهم "(1).
قال ابن الجوزي: "والقول بنسخها لا يصح لأنه إذا خفى عليه علم شيء ثم أعلم به لم يدخل ذلك في ناسخ ولا منسوخ "(2).
ومما يعضد الترجيح بهذه القاعدة، قاعدة (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره، ما لم توجد حجة يجب إعمالها) وقد أبان عنها النحاس في "معاني القرآن " ومن بعده ابن جرير الطبري في معرض ترجيحه وبيّن أن سياق الآية فيما قبلها وبعدها قد جاء في سبيل الإخبار عن المشركين والتوبيخ لهم والاحتجاج عليهم، فكيف يقول لهم لا أدري ما يفعل بكم في الآخرة (3).
كما أن هذا المعنى قد يعضده القاعدة الترجيحية الآتية وهي أن (القول الذي تؤيده الآيات القرآنية أولى من غيره).
(1) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 9.
(2)
نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 227.
(3)
انظر معاني القرآن / النحاس، وجامع البيان / الطبري، ج 25، ص 13، وقد تقدم قوله عند ذكر حجة أصحاب هذا القول.
حيث ذكر الشنقيطي بعد أن رجّح هذا القول: أن هذا المعنى قد دلت عليه آيات كثر من كتاب الله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (1)، وقوله تعالى آمراً له صلى الله عليه وسلم:{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (2)(3).
وأما من استدل على أن الآية منسوخة بحديث البخاري ، فإن هذا الحديث لا يصلح؛ لأن يكون حجة على قولهم.
قال ابن كثير عن حديث البخاري: " إنه وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا إذا نص الشارع على تعيينهم "(4).
وقال النحاس: " محال أن يكون في هذا ناسخ ولا منسوخ ، من جهتين: أحدهما أنه خبر، والآخر أنه من أول السورة إلى هذا الموضع خطاب للمشركين واحتجاج عليهم وتوبيخ لهم، فوجب أن يكون هذا أيضا خطابا للمشركين كما كان قبله وما بعده، ومحال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين: " ما أدري ما يفعل بي ولا بكم " في الآخرة، ولم يزل صلى الله عليه وسلم من أول مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلد في النار، ومن مات على الإيمان واتبعه وأطاعه فهو في الجنة، فقد رأى صلى الله عليه وسلم ما يفعل به وبهم في الآخرة.
(1) سورة الأعراف، الآية (188).
(2)
سورة الأنعام، الآية (50).
(3)
أضواء البيان / الشنقيطي ، ص 1574.
(4)
تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 10.
وليس يجوز أن يقول لهم ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، فيقولون كيف نتبعك وأنت لا تدري أتصير إلى خفض ودعة أم إلى عذاب وعقاب" (1).
وذكر الرازي أن أكثر المحققين استبعدوا هذا القول واحتجوا عليه بوجوه هي:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا بد وأن يعلم من نفسه كونه نبياً ، ومتى علم كونه نبياً علم أنه لا تصدر عنه الكبائر وأنه مغفور له، وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكاً في أنه هل هو مغفور له أم لا.
الثاني: لا شك أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء، فلما قال في هذا:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأتقياء وقدوة الأنبياء والأولياء شاكاً في أنه هل هو من المغفورين أو من المعذبين؟ .
الثالث: أنه تعالى قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (3) والمراد منه كمال حاله ونهاية قربه من حضرة الله تعالى، ومن هذا حاله كيف يليق به أن يبقى شاكاً في أنه من المعذبين أو من المغفورين؟ فثبت أن هذا القول
(1) الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 665.
(2)
سورة الأحقاف، الآية (13).
(3)
سورة الأنعام، الآية (124).
ضعيف " (1).
وكذلك استبعده أبو حيان في البحر المحيط، وذكر بأنه قول غير ظاهر (2).
وبذلك نصل إلى أن هذه الآية محكمة؛ لأنها من باب الأخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ.
4 -
مثال سعي الإنسان:
قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (3).
اختلف العلماء في هذه الآية ، فمنهم من قال: إنها منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (4)، فلا ينفع أحدا أن يصدق عنه أحد ، ولا أن يجعل له ثواب شيء عمله قالوا: وليس للإنسان إلا ما سعى ، كما قال الله جل وعز.
ومنهم من قال بأن الآية محكمة، والآيتان خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ. ثم ذكر أصحاب هذا القول جملة من الأحاديث الثابتة التي تدل على لحاق ثواب بعض الأعمال إلى غير من عملها، وقد ساق ابن عاشور جملة من هذه الأحاديث.
(1) التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 9.
(2)
انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 58.
(3)
سورة النجم، الآية (39).
(4)
سورة الطور، الآية (21).
ومنهم من تأول الإنسان في هذه الآية بالكافر، وأما المؤمن فله سعيه وما يسعى له غيره (1).
والعجيب أن ابن عاشور رجّح أن الآية منسوخة مع أنه نصّ على هذه القاعدة في تفسيره، وهي أن الأخبار لا يدخلها النسخ، ولكنه يرى هنا أن هذا الخبر في شرع من قبلنا، وأن شريعة الإسلام نسخت ذلك فيقول: " وهذه الآية حكاية عن شرعي إبراهيم وموسى، وإذا تقرر أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، تدل هذه الآية على أن عمل أحد لا يجزئ عن أحد فرضاً أو نفلاً
…
- إلى أن ساق قول عكرمة في محمل هذه الآية فقال: فعن عكرمة أن قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} حكاية عن شريعة سابقة فلا تلزم في شريعتنا، يريد أن شريعة الإسلام نسخت ذلك فيكون قبول عمل أحد عن غيره من خصائص هذه الأمة " (2).
أما الطبري فقد ساق رواية ابن عباس بسنده في أن هذه الآية منسوخة، ولم يعقب عليها فكأنه قبلها مع أن هذه الرواية منقطعة كما سيأتي (3).
في حين ذهب جمهور المفسرين الذين اعتمدتهم: ابن عطية والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي، إلى أن الآية محكمة، وأنها من باب الأخبار ، أو أنها منى باب العام الذي خصصته آيات
(1) انظر الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 689، والتحرير والتنوير، ج 13، ص 133.
(2)
التحرير والتنوير، ج 13، ص 133.
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 27، ص 87.
إلحاق ثواب العمل (1).
حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن الآية منسوخة:
استدلوا على القول بالنسخ بقوله تعالى: " {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (2) حيث قالوا أُدْخِل الأبناء الجنة بصلاح الآباء ، فالآية على هذا منسوخة.
قال ابن حزم: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} نسخت بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ
…
} فيجعل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه ويشفع الله تعالى الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء ، ويدل على ذلك قوله تعالى:{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} (3)(4). .
وكذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا
(1) انظر المحرر الوجيز /ابن عطية، ج 5، ص 206، والتفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 276، والجامع لأحكام القرآن القرطبي، ج 17، ص 113، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 164، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 280، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 114، وروح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 65، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 536، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1674.
(2)
سورة الطور، الآية (21).
(3)
سورة النساء، الآية (11).
(4)
الناسخ والمنسوخ / ابن حزم ج 1 / ص 58.
سَعَى} منسوخة بقوله {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ
…
} (1).
كما استدل أصحاب هذا القول على ذلك بما جاء في السنة من الأخبار الصحيحة التي تدل على لحاق ثواب بعض الأعمال إلى غير من عملها.
منها ما أخرجه البخاري والنسائي عن ابن عباس قال: «أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أختي نذرت أن تحج، وأنها ماتت ، فقال النبي رضي الله عنه: لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم قال: فحق الله أحق بالقضاء» (2).
وفي حديث مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له "(3).
وقد ساق ابن عاشور أدلة كثيرة من السنة تدل على أن بعض الأعمال تصلح للنيابة ، وهذا قوله: " وثبتت أخبار صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن عمل أحد عن آخر يُجزي عن المنوب عنه، ففي «الموطأ» حديث الفضل بن عباس
(1) أخرج رواية ابن عباس الطبري في تفسيره، ج 27، ص 87، والرواية منقطعة لأنها بطريق علي بن أبي طلحة وهو كما تقدم لم يلق ابن عباس، ولم يسمع منه.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان والنذور، باب من مات وعليه نذر، ج 6، ص 2464، ح- 6321، والنسائي في الكبرى، باب الحج عن الميت الذي نذر أن يحج، ج 2، ص 322، ح- 3612.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، ج 3، ص 1255، ح- 1631.
«أن امرأة من خثعم سألت رسول الله فقالت: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفيجزئ أن أحج عنه؟ قال: نعم حُجّي عنه» . وفي قولها: لا يثبت على الراحلة دلالة على أن حجها عنه كان نافلة.
وفي «كتاب أبي داود» حديثُ بريدَة «أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفيجزئ أو يَقضي عنها أن أصوم عنها؟ قال: نعم. قالت: وإنها لم تحج أفيجزئ أو يقضي أن أحج عنها؟ قال: نعم» .
وفيه أيضاً حديث ابن عباس «أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أمي توفيت أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم» .
وفيه حديث عمرو بن العاص وقد أعتق أخوه هشام عن أبيهم العاص بن وائل عبيداً فسأل عَمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أَن يفعل مثل فعل أخيه فقال له «لو كان أبوكَ مسلماً فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك» .
وروي أن عائشة أعتقت عن أخيها عبد الرحمن بعد موته رقاباً ،واعتكفت عنه " (1).
حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن الآية محكمة:
حجتهم في ذلك أن الآية خبر، والخبر لا يدخله النسخ.
قال ابن عطية: " ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} منسوخ بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ
(1) التحرير والتنوير، ج 13، ص 134.
ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ
…
} وهذا لا يصح عندي على ابن عباس، لأنه خبر لا ينسخ، ولأن شروط النسخ ليست هنا، اللهم إلا أن يتجوز في لفظة النسخ ليفهم سائلاً " (1).
كما أنهم احتجوا على كونها محكمة بأن الآية لا تعارض الآيات والأحاديث التي فيها أن الإنسان يلحقه ثواب غيره، وقد أجابوا على الأحاديث الواردة في ذلك، وفي ذلك يقول ابن كثير:"وأما الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به " فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث:" إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وأن ولده من كسبه "(2). والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، وثبت في الصحيح:" من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً "(3).
القول الراجح:
إن الآية محكمة وليست منسوخة ، وهي من باب الخبر ، ولا تحتمل هذا
(1) المحرر الوجيز/ ابن عطية، ج 5، ص 206.
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك، ج 2، ص 53، ح- 2295.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن آخر الزمان، ج 4، ص 2060، ح- 2674.
الخلاف، وظاهر الآية حق ، لا يخالف بقية النصوص.
قال ابن الجوزي: " قول من قال إن هذا نسخ غلط؛ لأن الآيتين خبر والأخبار لا يدخلها النسخ، ثم إن إلحاق الأبناء بالآباء إدخالهم في حكم الآباء بسبب إيمان الآباء فهم بالبعض تبع الجملة ذاك ليس لهم إنما فعله الله سبحانه بفضله ، وهذه الآية تثبت ما للإنسان إلا ما يتفضل به عليه "(1).
وأكد الألوسي هذا المعنى بقوله: " إن الغير لما نوى ذلك الفعل له صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعاً فكأنه بسعيه، وهذا لا يتأتى إلا بطريق عموم المجاز، أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه، وأجيب أيضاً بأن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه من الإيمان فكأنه سعيه "(2).
كما وضح ذلك الشنقيطي في كتابه "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" حيث يقول: " (وأن ليس للإنسان) محكمة كما أن القول بأن المراد بالإنسان خصوص الكافر غير صحيح أيضا ، والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: إن الآية إنما دلت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره لأنه لم يقل وأن لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى ، وإنما قال: وأن ليس للإنسان وبين الأمرين فرق ظاهر لأن سعي الغير ملك لساعيه إن شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير وإن شاء أبقاه لنفسه، وقد أجمع العلماء على انتفاع الميت بالصلاة عليه والدعاء له والحج عنه ونحو ذلك مما ثبت
(1) نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 233.
(2)
روح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 65.
الانتفاع بعمل الغير فيه.
الثاني: إن إيمان الذرية هو السبب الأكبر في رفع درجاتهم إذ لو كانوا كفارا لما حصل لهم ذلك فإيمان العبد وطاعته سعي منه في انتفاعه بعمل غيره من المسلمين ،كما وقع في الصلاة في الجماعة فإن صلاة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفردا وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في الجماعة، وهذا الوجه يشير إليه قوله تعالى:{وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} .
الثالث: إن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد ليس للأولاد كما هو نص قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ولكنه من سعي الآباء فهو سعي الآباء أقر الله عيونه بسببه بأن رفع إليهم أولادهم ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها؛ لأن المقصود بالرفع إكرام الآباء لا الأولاد فانتفاع الأولاد تبع فهو بالنسبة إليهم تفضل من الله عليهم بما ليس لهم كما تفضل بذلك على الولدان والحور العين والخلق الذين ينشؤهم للجنة ، والعلم عند الله تعالى " (1).
ومما يعضد هذا القول ويرجحه القاعدة الترجيحية: (إذا ثبت تاريخ نزول الآية أو السورة فهو مرجح لما وافقه من أوجه التفسير)(2).
(1) دفع إيهام الاضطراب عن آيات كتاب الله / الشنقيطي، ص 224 - 225.
(2)
قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 1، ص 258.
قال الطبري: " وإنما عُني بقوله: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الذي ضَمِن للوليد ابن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة، يقول: ألم يُخْبَرْ قائل هذا القول، وضامن هذا الضمان بالذي في صحف موسى وإبراهيم مكتوب: أن لا تأثم آثمة إثم أخرى غيرها: : {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} يقول جلّ ثناؤه: أوَ لم يُنَبأ أنه لا يُجَازي عامل إلا بعمله، خيرا كان ذلك أو شرّا "(1).
قال القاسمي: " وظاهر السياق يشعر بنزول الآيات رداً على ما كانوا يتخرصونه ويتمنونه، ويتحكمون فيه على الغيب لجاجاً وجهلاً "(2).
قال القرطبي: " وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره، ، وليس في الصدقة اختلاف "(3).
5 -
مثال الأحقاب:
قال تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} (4).
اختلف المفسرون في هذه الآية، فذهب بعض العلماء إلى أنها منسوخة بقوله تعالى:{فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} (5).
(1) جامع البيان / الطبري، ج 27، ص 87.
(2)
محاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 536.
(3)
الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 17، ص 113.
(4)
سورة النبأ، الآية (23).
(5)
سورة النبأ، الآية (30).
وذهب أكثرهم إلى أنها محكمة (1) ، وهو الذي رجحه ابن عاشور مستنداً في ذلك إلى أن ذلك خبر ، والخبر لا ينسخ ، وفي ذلك يقول:" وليس فيه دلالة على أن لهذا اللبث نهاية حتى يحتاج إلى دعوى نسخ ذلك بآيات الخلود، وهو وهم لأن الأخبار لا تنسخ، أو يحتاج إلى جعل الآية لعصاة المؤمنين، فإن ذلك ليس من شأن القرآن المكي الأول ، إذ قد كان المؤمنون أيامئذ صالحين مخلصين مجدين في أعمالهم "(2).
وما رجحه ابن عاشور قد سبقه إليه الطبري حيث قال بعد أن ذكر قول مقاتل بن حيان في أن الآية منسوخة: " ولا معنى لهذا القول، لأن قوله: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} خبر والأخبار لا يكون فيها نسخ، وإنما النسخ يكون في الأمر والنهي "(3).
وكذلك ابن عطية، والرازي، والقرطبي رجحوا أن الآية محكمة بناءً على قاعدة المبحث، واستظهر أبو حيان، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي أيضاً هذا القول وذكروا أنه قول الجمهور ولكنهم لم يتطرقوا إلى القاعدة، وبحث الشنقيطي في كتابه "دفع إيهام الاضطراب" هذه الآية، ودفع التعارض بين هذه الآية وبالآيات التي تفيد الدوام الأبدي لعذاب الكفار، أما ابن كثير فقد ذكر أقوال العلماء في المراد بالحقب ولكنه لم يذكر الخلاف في كونها محكمة أو
(1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 18، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 426
(2)
التحرير والتنوير، ج 15، ص 37.
(3)
جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 18.
منسوخة " (1).
حجة أصحاب القول الأول الذين يقولون بأن الآية منسوخة:
قال مقاتل بن حيان: الحقب الواحد سبع عشرة ألف سنة. قال: وهذه الآية منسوخة نسختها {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل.
واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه " الحقب ثمانون سنة "(2)
واستدلوا بما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال «ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً» (3).
حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن الآية محكمة:
قالوا: لو أنه قال «لابثين فيها عشرة أحقاب أو خمسة» دل على غاية، هذا قول ابن قتيبة والجمهور، وبيانه: إن زمان أهل الجنة والنار يُتَصَوَّرُ دخوله تحت
(1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 18، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 426، . والتفسير الكبير / الرازي، ج والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 173، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 405، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 232، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 366، وروح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 215، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 311، ودفع إيهام الاضطراب / الشنقيطي، ص 250.
(2)
أخرجه الطبري في تفسيره، ج 30، ص 16.قال الهيثمي في مجمع الزوائد: " رواه البزار وفيه حجاج بن نصير وثقه ابن حبان ، وقال يخطئ ويهم ، وضعفه جماعة ، وبقية رجاله ثقات. (مجمع الزوائد / الهيثمي، ج 7، ص 133).
(3)
أخرجه الطبري في تفسيره، ج 12، ص 142، وقال الذهبي: حديث منكر (ميزان الاعتدال / الذهبي، 7، 189).
العدد، وإن لم يكن لها نهاية (1).
وذكر الرازي أيضا وجه التحديد بالحقب وإن كان المراد الأبدية فقال:
الأول: أن لفظ الأحقاب لا يدل على مضي حقب له نهاية وإنما الحقب الواحد متناه، والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً كلما مضى حقب تبعه حقب آخر، وهكذا إلى الأبد.
والثاني: أنهم يلبثون فيها أحقاباً لا يذوقوق في الأحقاب برداً ولا شراباً، فهذه الأحقاب توقيت لنوع من العذاب. وهو أن لا يذوقوا برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً، ثم يبدلون بعد الأحقاب عن الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب.
وثالثها: هب أن قوله: أحقاباً يفيد التناهي، لكن دلالة هذا على الخروج دلالة المفهوم، والمنطوق دل على أنهم لا يخرجون ، قال تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (2) ولا شك أن المنطوق راجح " (3).
وللقرطبي كلام جميل أيضاً في معنى الحقب حيث يقول: "والمعنى في الآية، لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها، فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه، إذ في الكلام ذكر الآخرة وهو كما يقال أيام الآخرة، أي أيام بعد أيام إلى غير
(1) انظر زاد المسير / ابن الجوزي، ج 4، ص 389.
(2)
سورة المائدة، الآية (37).
(3)
التفسير الكبير/ الرازي، ج 11، ص 15.
نهاية، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب.
وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام، لأن الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود.
والمعنى متقارب، وهذا الخلود في حق المشركين.
ويمكن حمل الآية على العصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب" (1).
القول الراجح:
إن الآية محكمة وليست منسوخة.
كما قرر ذلك ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين بناءً على القاعدة الترجيحية (النسخ لا يقع في الأخبار).
ومما يعضد هذه القاعدة الترجيح بما هو معروف من كلام العرب، والحقب في عرف العرب المدة الزمنية التي لانهاية لها (2).
قال السمرقندي: " وإنما ذكر أحقاباً، لأن ذلك كان أبعد شيء عندهم. فذكر وتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونه، وهو كناية عن التأبيد، أي: يمكثون فيها أبداً"(3).
وقال البيضاوي: " أحقاباً أي دهوراً متتابعة، وليس فيها ما يدل على خروجهم منها إذ لو صح أن الحقب ثمانون سنة أو سبعون ألف سنة، فليس فيه ما يقتضي تناهي تلك الأحقاب لجواز أن يكون المراد أحقاباً مترادفة كلما مضى
(1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 171.
(2)
لسان العرب / ابن منظور، ج 3، ص 253.
(3)
بحر العلوم / السمرقندي، ج 3، ص 439.
حقب تبعه آخر، وإن كان فمن قبيل المفهوم فلا يعارض المنطوق الدال على خلود الكفار، ولو جعل قوله:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} (1) ، حالاً من المستكن في (لابثين) أو نصب (أَحْقَاباً بـ (لَا يَذُوقُونَ) احتمل أن يلبثوا فيها أحقاباً غير ذائقين إلا حميماً وغساقاً، ثم يبدلون جنساً آخر من العذاب" (2).
وردّ الزمخشري على من استدل بحديث ابن مسعود رضي الله عنه بقوله: " وقد بلغني أن من الضلال من اغترّ بهذا الحديث، فاعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار.
وهذا ونحوه والعياذ بالله من الخذلان المبين، زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه، وتنبيهاً على أن نعقل عنه، ولئن صح هذا عن ابن العاص، فمعناه أنهم يخرجون من حرّ النار إلى برد الزمهرير فذلك خلوّ جهنم وصفق أبوابها " (3).
وكذلك قال الخازن: " محمول عند أهل السنة على إخلاء أماكن المؤمنين الذي استحقوا النار من النار بعد إخراجهم منها لأنه ثبت بالدليل الصحيح القاطع إخراج جميع الموحدين وخلود الكفار فيها ، أو يكون محمولاً على إخراج الكفار من حر النار إلى برد الزمهرير ليزدادوا عذاباً فوق عذابهم ، والله أعلم"(4).
(1) سورة النبأ، الآية (24).
(2)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل / البيضاوي، ج 5، ص 441.
(3)
الكشاف / الزمخشري، ج 3، ص 238، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا} (هود: 106 - 107).
(4)
لباب التأويل في معاني التنزيل / الخازن، ج 3، ص 485. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ومن نظائر هذه الأمثلة في تفسيره:
ما جاء في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 103) وهذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية. وحقّ التقوى هو أن لا يكون فيها تقصير، وتظاهر بما ليس من عمله، وذلك هو معنى قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16) لأنّ الاستطاعة هي القدرة، والتَّقوى مقدورة للنَّاس. وبذلك لم يكن تعارض بين الآيتين، ولا نسخ، وقيل: هاته منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} لأنّ هاته دلّت على تقوى كاملة كما فسَّرها ابن مسعود: أن يطاع فلا يعصى، ويُشكر فلا يكفر، ويذكر فلا يُنْسى،
…
والحقّ أنّ هذا بيان لا نسخ، كما حقَّقه المحقِّقون، ولكن شاع عند المتقدّمين إطلاق النَّسخ على ما يشمل البيان (التحرير والتنوير، ج 3، ص 30).