الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمثلة التطبيقية على القاعدة:
1 -
مثال الرياح:
اختلف المفسرون في قراءة الرياح بين الجمع والإفراد (2) وقد ساق ابن عاشور هذا الخلاف في تفسيره فقال: " وقرأ الجمهور: الرّياح بصيغة الجمع.
وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخَلف: الرّيحَ بصيغة المفرد باعتبار الجنس، فهو مساو لقراءة الجمع " (3).
ورجّح بعض المفسرين قراءة الجمع وذلك بناءً على المعنى الغالب في القرآن للرياح بالجمع أنها في الخير ، وقد جاءت هنا في الخير بدليل قوله بعدها: بشرا، وابن عاشور وإن كان يميل إلى هذا المعنى الأغلبي للرياح في القرآن حيث ساق قول ابن عطية في ذلك، إلا أنه هنا في هذا المثال لم يرجح قراءة على أخرى ، وذلك لأن كلا القراءتين متواترتان، وابن عاشور لا يرجح قراءة متواترة على
(1) سورة الأعراف، الآية (57).
(2)
انظر السبعة في القراءات / ابن مجاهد، ص 283، والنشر في القراءات العشر، ج 2، ص 168، والبدور الزاهرة / عبد الفتاح القاضي، ص 116.
(3)
التحرير والتنوير، ج 5، ص 179.
أخرى ، وإنما يأخذ بهما جميعاً.
وممن وافق قوله قول ابن عاشور في الأخذ بكلا القراءتين الرازي، والقرطبي، وأبو حيان، والألوسي (1).
حجة من أخذ بقراءة الجمع وترك قراءة الإفراد:
قال ابن عطيّة: " من قرأ بصيغة الجمع فقراءته أسعد ، اتفق المفسرون على أن الرياح إذا جمعت يراد بها الخير والبشرى، وإذا أفردت تكون مقترنة بعذاب؛ لأنّ الرّياح حيثما وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرّحمة، كقوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (2) وأكثر ذكر الرّيح المفردة أن تكون مقترنة بالعذاب كقوله: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) ونحو ذلك"(4).
قال الألوسي: " وخبر: اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً " مخرج على قراءة الأكثرين " (5).
حجة من أخذ بقراءة الإفراد وترك قراءة الجمع:
(1) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 287، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 203، والبحر المحيط / أبوحيان، ج 4، ص 320، وروح المعاني / الألوسي، ج 4، ص 383.
(2)
سورة الحجر، الآية (22).
(3)
سورة الأحقاف، الآية (24).
(4)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 412.
(5)
روح المعاني / الألوسي، ج 4، ص 383.
قال ابن عاشور: "من قرأ بالإفراد فتقييدها بالنشر ، يزيل الاشتراك"(1).
حيث قرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير نشرا، والنشور: الريح الطيبة (2).
القول الراجح:
هو الأخذ بكلا القراءتين لأنهما متواترتان، وذلك لا يناكد المعنى الغالب على لفظة الريح والرياح في القرآن.
قال الرازي: " قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (الريح) على لفظ الواحد ، والباقون (الرياح) على لفظ الجمع، فمن قرأ (الرياح) بالجمع حسن وصفها بقوله: (بَشَرًا) فإنه وصف الجمع بالجمع، ومن قرأ (الريح) واحدة قرأ (بُشرًا) جمعاً؛ لأنه أراد بالريح الكثرة كقولهم كثير الدرهم والدينار والشاة والبعير ، وكقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (4) فلما كان المراد بالريح الجمع ، وصفها بالجمع"(5).
ويقول القرطبي: " ومن جمع مع الرحمة ووحَّد مع العذاب؛ فإنه فعل ذلك اعتبارا بالأغلب في القرآن نحو: {الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} (6)، و {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (7)
(1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 179.
(2)
انظر السبعة في القراءات / ابن مجاهد ، ص 283.
(3)
سورة العصر، الآية (2).
(4)
سورة العصر، الآية (3).
(5)
التفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 287.
(6)
سورة الروم، الآية (46).
(7)
سورة الذاريات، الآية (41).
فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب" (1).
وهذه القاعدة ليست مطردة في جميع القرآن، لأن الريح ترد أحيانا مفردة وهي في الرحمة، كما في قراءة ابن كثير في هذه الآية.
2 -
مثال "هؤلاء":
قال تعالى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} (2)
اختلف المفسرون تعالى في المراد بـ (هؤلاء) في هذه الآية فذهب معظم المفسرين إلى أن المراد بها في هذه الآية مشركو قريش، وقليل منهم يرى أن المراد بهم كفار الأمم المذكورة في الآيات قبلها.
قال ابن عاشور: "و (هؤلاء) إشارة إلى كفار قريش
…
إلى أن قال: وقد تتبعتُ اصطلاح القرآن فوجدتُه إذا استعمل (هؤلاء) ولم يكن معه مشار إليه مذكور: أنه يريد به المشركين من أهل مكة كما نبَهتُ عليه فيما مضى غير مرة " (3).
وإلى ذلك ذهب معظم المفسرين (4).
(1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 203.
(2)
سورة ص، الآية (15).
(3)
التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 11، ص 223.
(4)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 23، ص 155، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 495، والتفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 372، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 150، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 372، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 424 وروح المعاني / الألوسي، ج 12، ص 165، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 128.
وقليل منهم ذهب إلى أن المراد بهم جميع الأحزاب (1)؛ أي جميع كفار الأمم المذكورة مثل قوم نوح وعاد وفرعون.
حجة من قال: إن المراد بـ (هؤلاء) مشركو قريش:
حجتهم في ذلك: إن الغالب في اصطلاح القرآن أن (هؤلاء) المراد بها مشركو قريش كما بيّن ذلك ابن عاشور.
وكذلك من حججهم على ذلك: إن الآية في معرض الحديث عن عقابهم؛ لأن الآيات السابقة ذكرت ما حلّ بالأمم المذكورة ، ثم جاءت هذه الآية لتبين أنه إذا كان هذا هو حالهم من شدة العناد والتصميم على الكفر فسيحل بهم ما حلّ بالأمم من قبلهم (2).
قال الألوسي: " شروع في بيان عقاب كفار مكة إثر بيان عقاب إضرابهم فإن الكلام السابق مما يوجب ترقب السامع بيانه، والنظر بمعنى الانتظار، وعبر به مجازاً بجعل محقق الوقوع كأنه أمر منتظر لهم، والإشارة بهؤلاء للتحقير، والمراد بالصيحة الواحدة النفخة الثانية، أي ما ينتظر هؤلاء الكفرة الحقيرون الذين هم أمثال أولئك الطوائف المهلكة في الكفر والتكذيب شيئاً إلا النفخة الثانية التي تقوم بها الساعة قاله قتادة "(3).
وقال ابن عاشور: " و (هؤلاء) إشارة إلى كفار قريش؛ لأن تجدد دعوتهم
(1) انظر الكشاف / الزمخشري، ج 5، ص، 247.
(2)
انظر نظم الدرر / البقاعي، ج 6، ص 367.
(3)
روح المعاني / الألوسي، ج 12، ص 165.
ووعيدهم وتكذيبهم يوماً فيوماً جعلهم كالحاضرين، فكانت الإِشارة مفهوماً منها أنها إليهم " (1).
حجة من قال: إن المراد بـ (هؤلاء) جميع الأحزاب:
جوز الزمخشري أن يكون المراد بـ (هؤلاء) جميع الأحزاب لاستحضارهم بالذكر في الآية، أو لأنهم كالحضور عند الله (2).
ولكن الذي يظهر لي أن هذا القول لا يستقيم؛ لأن الأمم قد وقع عليه العذاب وانتهى أمرها، ويدل عليه قوله تعالى في الآية التي سبقت:{إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} (3) والآية بعدها هنا عبرت بالانتظار للعذاب {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ} فترجح أن المراد بهؤلاء هم مشركو قريش، والله تعالى أعلم.
القول الراجح:
هو ما ذهب إليه ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين، في أن المراد بـ (هؤلاء) المشركون من قريش كما هو الغالب في اصطلاح القرآن، وفي ذلك يقول:" تتبعتُ اصطلاح القرآن فوجدتُه إذا استعمل (هؤلاء) ولم يكن معه مشار إليه مذكور: أنه يريد به المشركين من أهل مكة "(4).
(1) التحرير والتنوير، ج 11، ص 223.
(2)
انظر الكشاف / الزمخشري، ج 5، ص، 247، واحتمل هذا القول أيضاً الشوكاني في فتح القدير، ج 4، ص 424.
(3)
سورة ص، الآية (14).
(4)
التحرير والتنوير، ج 11، ص 223.
وقول ابن عاشور هذا يدل على مدى استحضاره للقاعدة، وقد قرر هذه القاعدة في أكثر من موضع في تفسيره ، ومن ذلك قوله:" و (هؤلاء) إشارة إلى غير مذكور في الكلام، وقد استقريْتُ أن مصطلح القرآن أن يريد بمثله مشركي العرب، ولم أر من اهتدى للتنبيه عليه، وقد قدّمتهُ عند قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (1) في سورة النساء وفي مواضع أخرى "(2).
ومما يرجح هذا القول القاعدة الترجيحية التالية: (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره) وهي قاعدة نصّ عليها ابن عاشور في تفسيره ،وعمل بها كما تقدم، وسياق الآية وما قبلها من الآيات يدل على أن المراد بهم مشركو مكة، وقد بين هذا البقاعي في" نظم الدرر"، والألوسي في تفسيره ، وقد تقدم قولهما عند الحديث عن حجة أصحاب هذا القول
…
.
3 -
مثال " الناس ":
اختلف المفسرون في المراد بالناس في هذه الآية على ثلاثة أقوال:
(1) سورة النساء، الآية (41).
(2)
التحرير والتنوير، ج 12، ص 197.
(3)
سورة الفتح، الآية (20).
فقيل: المراد بالناس أهل مكة، وقيل: الأعراب المشركين، وقيل: اليهود، وقد ذكر هذه الأقوال ابن عاشور في تفسيره فقال: " فالمراد بـ (الناس): أهل مكة جرياً على مصطلح القرآن في إطلاق هذا اللفظ غالباً.
وقيل: المراد كف أيدي الأعراب المشركين من بني أسد وغطفان ، وكانوا أحلافاً ليهود خيبر وجاءوا لنصرتهم لما حاصر المسلمون خيبر فألقى الله في قلوبهم الرعب فنكصوا.
وقيل: إن المشركين بعثوا أربعين رجلاً ليصيبوا من المسلمين في الحديبية ، فأسرهم المسلمون، وهو ما سيجيء في قوله:{وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} (1).
وقيل: كفّ أيدي اليهود عنكم، أي عن أهلكم وذراريكم إذ كانوا يستطيعون أن يهجموا على المدينة في مدة غيبة معظم أهلها في الحديبية (2)، وهذا القول لا يناسبه إطلاق لفظ (الناس) في غالب مصطلح القرآن " (3).
ومن هذا المثال نلحظ اهتمام ابن عاشور بقاعدة المبحث حيث رجّح أن المراد بالناس كفار مكة جرياً على مصطلح القرآن، وقد سبق ابن عاشور إلى هذا الاختيار عدد من المفسرين منهم الرازي، والقرطبي، وأبو حيان، والشوكاني (4).
(1) سورة الفتح، الآية (24).
(2)
وهذا القول لقتادة أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 26، ص 105.
(3)
التحرير والتنوير، ج 12، ص 178.
(4)
انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 81، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 16، ص 267، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 96، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 52.
ورجّح الطبري، وابن عطية أن المراد بالناس في هذه الآية اليهود (1).
وجوّز ابن كثير والقاسمي كلا المعنيين ، أي أهل مكة واليهود (2).
واختار الألوسي أن المراد بالناس أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان (3).
وإليك الآن حجة أصحاب كل قول:
حجة من قال: إن المراد بالناس كفار مكة:
حجتهم في ذلك: إن من معهود القرآن أنه إذا أطلق لفظ الناس فالمراد به كفار مكة.
قال ابن عاشور: " امتنان عليهم بنعمة غفلوا عنها حين حزنوا لوقوع صلح الحديبية ، وهي نعمة السلم، أي كف أيدي المشركين عنهم فإنهم لو واجهوهم يوم الحديبية بالقتال دون المراجعة في سبب قدومهم لرجع المسلمون بعد القتال متعبين ، ولَمَا تهيأ لهم فتح خيبر، وأنهم لو اقتتلوا مع أهل مكّة لدُحِض في ذلك مؤمنون ومؤمنات كانوا في مكة كما أشار إليه قوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} (4). فالمراد بـ (الناس): أهل مكة جرياً على مصطلح القرآن في إطلاق هذا اللفظ غالباً "(5).
(1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 26، ص، 105، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 135.
(2)
تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 106، وانظر محاسن التأويل/ القاسمي، ج 8، ص 400.
(3)
روح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 263.
(4)
سورة الفتح، الآية (25).
(5)
التحرير والتنوير، ج 12، ص 177.
حجة من قال: إن المراد بالناس اليهود:
قالوا إن الله ذكر كف أيدي المشركين في الآية التي تليها فلا يحسن أن يكون المراد بالناس هنا المشركين أيضاً وإلا ليفضي هذا إلى التكرار.
قال الطبري: " والذي قاله قتادة (1) في ذلك عندي أشبه بتأويل الآية، وذلك أن كفّ الله أيدي المشركين من أهل مكة عن أهل الحُديبية ، قد ذكره الله بعد هذه الآية في قوله:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} (2) فعلم بذلك أن الكفّ الذي ذكره الله تعالى في قوله: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} (3) غير الكفّ الذي ذكر الله بعد هذه الآية في قوله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} (4).
حجة من قال: إن المراد بالناس الأعراب المشركين من بني أسد وغطفان، وكانوا أحلافاً ليهود خيبر:
وهذا قول مقاتل (5)، وعلل البغوي هذا القول بقوله: " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصد خيبر وحاصر أهلها همت قبائل من بني أسد وغطفان أن يغيروا على عيال
(1) أخرج رواية قتادة الطبري في تفسيره، ج 26، ص 105.
(2)
سورة الفتح، الآية (24).
(3)
سورة الفتح، الآية (20).
(4)
جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 105.
(5)
تفسير مقاتل / مقاتل بن سليمان، ج 3، ص 250.
المسلمين وذراريهم بالمدينة، فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم " (1)،
وكذا قال الألوسي في قوله تعالى: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} أي: أيدي أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان حين جاؤوا لنصرتهم ، فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فنكصوا (2).
القول الراجح:
هو ما ذهب إليه ابن عاشور من أن المراد بالناس في هذه الآية أهل مكة، وذلك جرياً على مصطلح القرآن.
قال سيد طنطاوي: " ويرى بعض المفسرين أن الإِشارة فى قوله: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} (3) إلى صلح الحديبية وقد روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه.
وعليه يكون المراد بالناس في قوله: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} مشركي قريش، أي: منعهم من حربكم، بأن قذف في قلوبهم الرعب منكم، وهذا الرأي الذي قاله ابن عباس رضي الله عنه هو الأقرب إلى الصواب، لأنه يتسق مع سياق الآيات " (4).
وأما قول من قال: إن المراد بهم اليهود فقد استبعده عدد من العلماء، منهم: الرازي والقاسمي وابن عاشور.
(1) معالم التنزيل / البغوي، ج 7، ص 306.
(2)
روح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 263.
(3)
سورة الفتح، الآية (20).
(4)
التفسير الوسيط / محمد سيد طنطاوي، ج 13، ص 276.
قال الرازي: " إن الآية: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} (1) تبييناً لما تقدم من قوله: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} (2) أي هو بتقدير الله، لأنه كف أيديهم عنكم بالفرار، وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم، وقوله تعالى: (بِبَطْنِ مَكَّةَ) إشارة إلى أمر كان هناك يقتضي عدم الكف، ومع ذاك وجد كف الأيدي"(3).
وقال القاسمي: " قد يقول قائل مؤيداً لاختيار ابن جرير ، والتأسيس خير من التأكيد ولك أن تقول: لا مانع من التأكيد، لا سيما في مقام التذكير بالنعم، والتنويه بشأنها. وتكون الآية الثانية بمثابة التفسير للأولى، والتبيين لمطلقها "(4).
وذكر ابن عاشور أن هذا القول لا يناسبه إطلاق لفظ الناس في غالب مصطلح القرآن (5) كما يؤكد هذا القول ويقويه القاعدة الترجيحية التالية: (إذا صحّ سبب النزول الصريح فهو مرجح لما وافقه من أوجه التفسير) وقد أخرج أحمد ومسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه: أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة النبي صلى الله عليه وسلم فأخذهم أسراء ، فاستحياهم ، فأنزل الله الآية: {وَهُوَ الَّذِي
(1) سورة الفتح، الآية (24).
(2)
سورة الفتح، الآية (22).
(3)
التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 81.
(4)
محاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 400.
(5)
انظر التحرير والتنوير، ج 12، ص 178.
كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} (1)(2).
4 -
مثال الفاحشة:
اختلف العلماء في المراد بالفاحشة في هذه الآية على عدة أقوال ، فمنهم من يرى أن المقصود بالفاحشة الزنا، ومنهم من يرى أن المراد بها البذاء على الأهل والجيران، ومنهم من يرى أن المراد بها المعصية عموماً، وغير ذلك من الأقوال، وقد ذكر هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره فقال: " وقد اختلفوا في المراد من الفاحشة هنا وفي معنى الخروج لأجلها:
فعن ابن مسعود رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنه والشعبي والحسن وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث بن سعْد وأبي يوسف: أن الفاحشة الزنا،
(1) سورة الفتح، الآية (24).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب قول الله تعالى:" وهو الذي كفَّ أيديهم عنكم"، ج 3، ص 1442، ح- 1808، وأحمد في مسنده، ج 3، ص 124، ح- 12376.
(3)
سورة الطلاق، الآية (1).
قالوا: ومفاد الاستثناء الإِذن في إخراجهن، أي ليقام عليهن الحد.
وفسرت الفاحشة بالبَذَاء على الجيران والأحماء أو على الزوج ، بحيث أن بقاء أمثالهن في جوار أهل البيت يفضي إلى تكرر الخصام فيكون إخراجها من ارتكاب أخف الضررين، ونسب هذا إلى أبي بن كعب رضي الله عنه لأنه قرأ «إلا أن يَفحُشن عليكم» (بفتح التحتية وضم الحاء المهملة أي الاعتداء بكلام فاحش) وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أيضاً واختاره الشافعي
وفسرت الفاحشة: بالمعصية من سرقة أو سب أو خروج من البيت ، فإن العدة بَلْه الزنا ونسب إلى ابن عباس رضي الله عنه أيضاً وابن عُمر رضي الله عنه وقاله السدي وأبو حنيفة.
وعن قتادة: الفاحشة: النشوز، أي إذا طلقها لأجللِ النشوز فلا سكنى لها " (1).
ورجّح ابن عاشور بعد أن ذكر تلك الأقوال أن الفاحشة في هذه الآية تشمل جميع أنواع الفساد، فقال:
" والفاحشة: الفِعلة الشديدة السوء بهذا غلب إطلاقها في عرف اللغة ، فتشمل الزنا كما في قوله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} (2)، وشَمل غيره من الأعمال ذات الفساد كما في قوله:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} (3)(4).
(1) التحرير والتنوير، ج 13، ص 300.
(2)
سورة النساء، الآية (15).
(3)
سورة الأعراف، الآية (28).
(4)
التحرير والتنوير، ج 13، ص 300.
وهذا هو مصطلح القرآن في الفاحشة أن المراد بها الزنى وكل معصية.
وممن وافق قوله قول ابن عاشور في أن المراد بالفاحشة في هذه الآية كل معصية، الطبري حيث يقول:" والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال: " عنى بالفاحشة في هذا الموضع: المعصية، وذلك أن الفاحشة هي كلّ أمر قبيح تعدّى فيه حدّه، فالزنى من ذلك، والسرق والبذاء على الأحماء، وخروجها متحوّلة عن منزلها الذي يلزمها أن تعتدّ فيه منه، فأي ذلك فعلت وهي في عدتها، فلزوجها إخراجها من بيتها ذلك، لإتيانها بالفاحشة التي ركبتها " (1) وتبعه ابن عطية في ترجيحه هذا وكذلك ذهب إلى هذا القول ابن كثير، والقاسمي (2) وذكر ابن عطية عند تفسيره لهذه الآية قول بعض الناس ولم يسميه ، وهو أن:(الفاحشة متى وردت معرفة فهي الزنا، ومتى جاءت منكرة فهي المعاصي) وكذلك نقله ابن عاشور عن ابن عطية، ولم يعلقا عليه (3).
والذي يبدو لي أن ما ذكره ابن عطية ونقله عنه ابن عاشور في معنى الفاحشة معنى غير مطرد في القرآن ، ولا يمكن أن يكون قاعدة أغلبية وسيأتي توضيح ذلك عند ذكر القول الراجح.
أما الرازي وأبو حيان فقد ساقا الأقوال في معنى الفاحشة ولم يرجحا (4).
(1) جامع البيان / الطبري، ج 28، ص 151.
(2)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 323، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 28، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 151، وأضواء البيان / الشنقيطي ،ص 90.
(3)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 323، والتحرير والتنوير، ج 13، ص 300.
(4)
انظر التفسير الكبير/ الرازي، ج 10، ص 560، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 278.
ومال القرطبي، وكذلك الشوكاني إلى أن معنى الفاحشة في هذه الآية البذاءة على الأحماء (1).
ورجح الألوسي أن المراد بالفاحشة هنا الخروج قبل انقضاء العدة (2).
وإليك الآن حجة أصحاب كل قول:
حجة من فسّر الفاحشة في هذه الآية بالزنا:
استدلوا بما روي عن ابن عباس وابن عمر والشعبي والحسن ومجاهد أن المراد بالفاحشة في هذه الآية: هو الزنى؛ والإخراج هو إخراجها لإقامة الحد (3).
وردّ ابن العربي هذا المعنى بقوله: "فأما من قال: إنه الخروج للزنا فلا وجه له؛ لأن ذلك الخروج هو خروج القتل والإعدام، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام "(4).
حجة من فسر االفاحشة بالبذاءة على الأهل والأحماء:
ذكر ابن عطية إن من حجة أصحاب هذا القول قراءة في مصحف أبي بن كعب: " إلا أن يفحشن عليكم "(5) وهذا قول لابن عباس أيضاً (6).
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 18، ص 151، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 241.
(2)
انظر روح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 329.
(3)
أخرج روايتهم الطبري في تفسيره، ج 28، ص 149.
(4)
أحكام القرآن / ابن العربي، ج 4، ص / 209.
(5)
وهذه قراءة شاذة، انظر القراءات الشاذة / ابن خالويه، ص 158.
(6)
رواه الطبري في تفسيره، ج 28، ص 150.
قال ابن العربي: "وأما من قال: إنه البذاء فهو معتبر في حديث فاطمة بنت قيس (1).
وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة: تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها؛ فأمرها عليه الصلاة والسلام أن تنتقل " (2).
قال القرطبي: " ويقوي هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روى أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس: اتقي الله فإنك تعلمين لم أُخرجت "(3).
حجة من فسّر الفاحشة في هذه الآية بجميع أنواع المعصية:
استدلوا بقول ابن عباس رضي الله عنه (4). أيضا: " الفاحشة كل معصية كالزنى والسرقة والبذاء على الأهل، وهو اختيار معظم المفسرين منهم الطبري وابن عطية وابن كثير والقاسمي، وهو الذي اختاره ابن عاشور، وقد تقدم ذكر ذلك.
قال القاسمي: عموم اللفظ الكريم يدل على ذلك (5).
وقال السعدي موضحاً معنى الآية: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي: بأمر قبيح واضح، موجب لإخراجها، بحيث يدخل على أهل البيت الضرر
(1) أحكام القرآن / ابن العربي، ج 4، ص / 209.
(2)
أخرجه الشافعي في الأم، ج 5، ص 217 - 218، والطحاوي في شرح معاني الآثار، ج 3، ص 69.
(3)
أخرجه الشافعي في الأم، ج 5، ص 217، ومن طريقه البيهقي في الكبرى، ج 7، ص 433 ،ح - 15270.
(4)
أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 28، ص 150.
(5)
محاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 151.
من عدم إخراجها، كالأذى بالأقوال والأفعال الفاحشة، ففي هذه الحال يجوز لهم إخراجها، لأنها هي التي تسببت لإخراج نفسها، والإسكان فيه جبر لخاطرها، ورفق بها، فهي التي أدخلت الضرر على نفسها، وهذا في المعتدة الرجعية، وأما البائن، فليس لها سكنى واجبة، لأن السكن تبع للنفقة، والنفقة تجب للرجعية دون البائن " (1).
وقال ابن عاشور عند تفسيره لقوله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (2): " والفاحشة الفَعلة المتجاوزة الحدّ في الفساد، ولذلك جمعت في قوله تعالى:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} (3) واشتقاقها من فَحُش بمعنى قال قولاً ذميماً، كما في قول عائشة:«لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحّشاً» ، أو فعلَ فعلاً ذميماً، ومنه:{قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (4)
…
.
ولا شك أنّ التَّعريف هنا تعريف الجنس، أي فعلوا الفواحش، وظلمُ النفس هو الذنوب الكبائر، وعطفها هنا على الفواحش كعطف الفواحش عليها في قوله:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} فقيل:
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 5، ص 260.
(2)
سورة آل عمران، الآية (135).
(3)
سورة النجم، الآية (33).
(4)
سورة الأعراف، الآية (28).
الفاحشة المعصية الكبيرة، وظلم النَّفس الكبيرة مطلقاً، وقيل: الفاحشة هي الكبيرة المتعدية إلى الغير، وظلم النَّفس الكبيرة القاصرة على النَّفس، وقيل: الفاحشة الزنا، وهذا تفسير على معنى المثال" (1).
أما ابن العربي فقد اعترض على هذا القول بقوله: " وأما من قال: إنه كل معصية ، فوهم؛ لأن الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج "(2).
حجة من فسر الزنا بخروجها من بيتها في العدة:
وهو قول السدي (3)، قال ابن العربي: " وأما من قال: أنه الخروج بغير حق فهو صحيح، وتقدير الكلام: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعاً إلا أن يخرجن تعدياً.
وتحقيق القول في الآية أن الله تعالى أوجب السكنى، وحرّم الخروج والإخراج تحريماً عاماً " (4).
واستبعد الشوكاني أن يكون القول بأن خروجهن على هذا الوجه يسمى فاحشة (5).
القول الراجح
هو ما ذهب إليه ابن عاشور وأكثر المفسرين مستندين في ذلك على القاعدة
(1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 92.
(2)
أحكام القرآن / ابن العربي، ج 4، ص / 209.
(3)
أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 28، ص 150.
(4)
أحكام القرآن / ابن العربي، ج 4، ص / 209.
(5)
انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 241.
الترجيحية وهو أن الغالب في مصطلح القرآن أن الفاحشة يراد بها الفعلة الشديدة السوء فتشمل الزنى، وكل أعمال الفساد.
أما قول القائل: أن (الفاحشة متى وردت معرفة فهي الزنا، ومتى جاءت منكرة فهي المعاصي)(1)، فهذا قول لا يستقيم ، ويعارضه ما جاء في القرآن من آيات جاءت فيها الفاحشة معرفة ، ولم تدل على الزنى بدلالة السياق، ومن ذلك قوله تعالى:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} (2).
وقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (3).
وكذلك العكس جاءت آيات نُكِّرت فيها الفاحشة وهي تدل على الزنى بدلالة سياق الآيات، ومن ذلك قوله تعالى:
{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (4)
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة حين ردت على اليهود الذين دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا محمد- يعنون بالسام: الموت- فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "وعليكم". فقالت عائشة رضي عنها: "عليكم السام واللعنة وغضب الله عليكم". فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولي ذلك يا عائشة، فإن الله لا يحب
(1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، 323.
(2)
سورة الأنعام، الآية (151).
(3)
سورة النجم، الآية (33).
(4)
سورة النساء، الآية (25).
الفحش ولا التفاحش " (1).
فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بالفحش التعدي.
ومما يعضد هذه القاعدة وهذا الترجيح قاعدة (إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها)(2)، وهي من القواعد الترجيحية التي اعتمدها ابن عاشور في تفسيره وبذلك يتبين لنا صحة ما ذهب إليه ابن عاشور من كون المراد بالفاحشة: كل معصية أي جميع ما ذكر من الأقوال ، وذلك حسب مصطلح القرآن يدخل في ذلك الزنا وغيره مما فبح فعله، إلا ما خصصته الآيات، ودل عليه السياق في اقتصار المعنى على أمر معين.
5 -
مثال السفرة:
اختلف بعض المفسرين في المراد بالسفرة في هذه الآية، فمنهم من ذهب إلى أن المراد بهم الكتبة، ومنهم من قال هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال هم القراء، في حين ذهب معظم المفسرين إلى أن المراد بهم الملائكة (4).
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، ج 4، ص 1707 ،ح- 2165
(2)
انظر التحرير والتنوير، ج 9، ص 45.
(3)
سورة عبس، الآية (11 - 16).
(4)
انظر هذه الأقوال في جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 68، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 348، والنكت والعيون / الماوردي، ج 6، ص 204.
وفي ذلك يقول ابن عاشور: "سَفَرة يجوز أن يكون جمع سَافر، مثل كاتب وكتبة، ويجوز أن يكون اسم جمع سَفير، وهو المرسَل في أمر مهم، فهو فَعيل بمعنى فاعل، وقياس جمعه سفراء وتكون (في) للظرفية المجازية، أي المماثلة في المعاني ".
ثم ذكر ابن عاشور عدة وجوه في معنى سفرة فقال: إما أن يكون السفرة محمله الملائكة لأنهم سفراءُ بين الله ورسله ، والمراد بأيْديهم: حِفْظهم إياه إلى تبليغه، فمثّل حال الملائكة بحال السفراء الذين يحملون بأيديهم الألوك والعُهود.
وإما أن يراد: الرسلُ الذين كانت بأيديهم كتُبهم مثل موسى وعيسى عليهما السلام.
وإما أن يراد كتَّاب الوحي مثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعمر وعثمان وعلي وعامر بن فهيرة.
وفي وصفهم بالسفرة ثناء عليهم؛ لأنهم يبلغون القرآن للناس وهم حفاظه ووعاته قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (1) فهذا معنى السفرة (2).
ثم رجَّح ابن عاشور أن السفرة المراد بهم الملائكة مستدلاً على ذلك بأدلة ستأتي.
وممن سبق ابن عاشور في ترجيح هذا القول من المفسرين الطبري وابن
(1) سورة العنكبوت، الآية (49).
(2)
التحرير والتنوير، ج 15، ص 119.
عطية، والرازي، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، وكذلك الشنقيطي من بعده (1).
وساق أبوحيان جميع الأقوال في معنى السفرة، ولم يعلق عليها، وكذلك القاسمي ساق بعضها ولم يرجح (2).
وهنا يجدر بي أن أذكر حجة كل قول من الأقوال في معنى السفرة؛ لنصل بعد ذلك إلى القول الراجح منها:
حجة من قال: بأن المقصود بالسفرة هم الكتبة:
حجتهم في ذلك: إن المعنى اللغوي يدل عليه.
قال الزجاج: إنما قيل للكتَاب سِفْر وللكاتب سافر من تبيين الشيء وإيضاحه، كما يقال أسفر الصبح إذا وضح ضياؤه وظهر، وسفرت المرأة إذا كشفت نقابها (3) وهو قول لابن عباس (4).
والكتبة يدخل فيهم: كتبة الوحي وكتبة الملائكة.
قال الشوكاني: " السفرة جمع سافر ككتبة وكاتب، والمعنى: أنها بأيدي كتبة
(1) جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 68، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 438، والتفسير الكبير / الرازي، ج 11، ص 56، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 206، ، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 249. وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 383، وروح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 245، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1902.
(2)
انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 420، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 328.
(3)
انظر معاني القرآن / الزجاج، ج 5، ص 284، والنكت والعيون / الماوردي، ج 6، ص 204.
(4)
أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 30، ص 68.
من الملائكة ينسخون الكتب من اللوح المحفوظ" (1).
قال الطبري: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الملائكة الذين يَسْفِرون بين الله ورسله بالوحي
…
- إلى أن قال: "وإذا وُجِّه التأويل إلى ما قلنا، احتمل الوجه الذي قاله القائلون: هم الكَتَبة، والذي قاله القائلون: هم القرّاء لأن الملائكة هي التي تقرأ الكتب، وتَسْفِر بين الله وبين رسله "(2).
كما استدل أصحاب هذا القول ومنهم ابن كثير وابن عاشور (3) بالحديث الصحيح في ذلك " الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة -والذي يقرؤه - وهو عليه شاق - له أجران "(4).
حجة من قال: بأن المقصود بالسفرة هم القراء:
وهو قول قتادة (5)، وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنه:(سفرة) قال: بالنبطية القراء (6).
وردَّ هذا القول الألوسي ، وذكر أنه قولاً لا يعول عليه (7).
(1) فتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 383.
(2)
جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 68.
(3)
انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 249، والتحرير والتنوير، ج 15، ص 119.
(4)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب سورة عبس، ج 8، ص 691 ،ح - 4937، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتعتع فيه، ج 6، ص 121 ،ح- 244.
(5)
أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 30، ص 68.
(6)
أخرج روايته ابن أبي حاتم في تفسيره، ج 7، ص 521.
(7)
روح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 244.
حجة من قال: إن المقصود بالسفرة هم الأنبياء:
قالوا: هم الأنبياء عليهم السلام؛ لأنهم سفراء بين الله تعالى والأمة أو لأنهم يكتبون الوحي (1).
حجة من قال: بأن المقصود بالسفرة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
حجتهم في ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم سفراء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلقه. أخرج عبد بن حميد عن وهب بن منبه: إنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم " (2).
قال ابن عطية في سبب تسميتهم بالسفرة: " لأنهم سفراء ووسائط بينه عليه الصلاة والسلام وبين سائر الأمة، وقيل: لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخير والتعليم والتعلم "(3).
القول الراجح:
هو ما ذهب إليه ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين من أن المراد بالسفرة: الملائكة وذلك بناء على قاعدة الأغلب في القرآن، حيث يقول:" والغالب في اصطلاح القرآن أن البررة هم الملائكة"(4)، والبررة إنما جاءت صفة لما قبلها وهم السفرة.
قال الفراء: "السفرة هنا الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله ورسوله، من
(1) هذا القول ذكره ابن عاشور ولم ينسبه، انظر التحرير والتنوير، ج 15، ص 119.
(2)
لم أقف عليه في المنتخب من المسند.
(3)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 438.
(4)
التحرير والتنوير، ج 15، ص 119.
السفارة وهو: السعي بين القوم " (1).
ومما يعضد هذا القول قاعدة: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له) وهذه القاعدة قد استدل بها ابن عاشور ابتداءً أيضا في ترجيحه لهذا القول ، حيث يقول:" ورد وصف البررة صفة للملائكة في الحديث الصحيح " الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة " (2) وقد تقدم.
والذي ظهر لي بعد النظر في تلك الأقوال في معنى السفرة: أنه لا خلاف حقيقي بين بعض المفسرين في معنى السفرة ، وليس هناك تناقض في أقوال ابن عباس رضي الله عنه في معنى السفرة؛ فقول ابن عباس رضي الله عنه: إن المقصود بالسفرة الكتبة، يعني الكتبة من الملائكة وكذلك تفسيره السفرة بالقراء ، فإنه ينزل على الملائكة فهم قراء لما يأتون به.
وقال أبو السعود: " بأيدي سفرة أي كتبة من الملائكة ينتسخون الكتب من اللوح على أنه جمع سافر من السفر وهو الكتب، وقيل بأيدي رسل من الملائكة يسفرون بالوحي بينه تعالى وبين الأنبياء على أنه جمع سفيرا من السفارة، وحملُهم على الأنبياءِ عليهم السلام بعيدٌ فإن وظيفتَهم التلقِّي من الوَحْي لا الكتبُ منه وإرشادُ الأمةِ بالأمرِ والنَّهي وتعليمُ الشرائعِ والأحكامِ لا مجردُ السفارةِ إليهم "(3).
وأبعد منه من قال: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ردّ ابن العربي هذا القول
(1) معاني القرآن / الفراء، ج 3، ص 236.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم / أبو السعود، 9، ص 109.
فقال: " لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة، كراما بررة، ولكن ليسوا بمرادين بهذه الآية، ولا قاربوا المرادين بها، بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الاطلاق، ولا يشاركهم فيها سواهم، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم"(1).
(1) أحكام القرآن / ابن العربي، ج 4، ص 273.
ونظائر هذه الأمثلة كثيرة جداً في تفسيره منها:
1 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} (سورة البقرة: 26).وفيه قول ابن عاشور: " فالأظهر أن المراد من الفاسقين اليهود وقد أطلق عليهم هذا الوصف في مواضع من القرآن". (التحرير والتنوير، ج 1، ص 367).
2 -
…
ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (فاطر: 29)
…
.
اختلف المفسرون في المراد بالإنفاق في هذه الآية، فمنهم من ذهب إلى أن المراد به الزكاة المفروضة وصدقة التطوع، ومنهم من ذهب إلى أن المراد به صدقة التطوع فقط، وذكر ابن عاشور في تفسيره هذا الخلاف، واختار ابن عاشور أن المراد بالإنفاق في هذه الآية صدقة التطوع بناءً على الغالب في القرآن. وهذا قوله:" والمراد بالإِنفاق حيثما أطلق في القرآن هو الصدقات واجبها ومستحبها وما ورد الإِنفاق في السور المكية إلا والمراد به الصدقات المستحبة إذ لم تكن الزكاة قد فرضت أيامئذ؛ على أنه قد تكون الصدقة مفروضة دون نُصب ولا تَحديد ثم حدِّدت بالنصب والمقادير "(التحرير والتنوير، ج 11، ص 306).
3 -
ماجاء في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} (سورة الصافات: 158) رجح ابن عاشور أنهم المحضرون في العذاب وترجيحه هذا بناءً على الغالب في القرآن وكذلك القرينة، حيث قال: " والمحضرون =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المجلوبون للحضور، والمراد محضرون للعقاب، بقرينة مقام التوبيخ فإن التوبيخ يتبعه التهديد، والغالب في فعل الإحضار أن يراد به إحضار سوء قال تعالى:{وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} " (سورة الصافات: 57). (انظر التحرير والتنوير ج 11، ص 187).
4 -
ماجاء في قوله تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (سورة القمر: 46)، وفيه قول ابن عاشور:" والساعة علم بالغلبة في القرآن على يوم الجزاء ". (التحرير والتنوير، ج 8، ص 38).
5 -
ما جاء في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} (سورة الممتحنة: 13) وفيها قول ابن عاشور " وقد نعتهم الله بأنهم قوم غضب الله عليهم، وهذه صفة تكرر في القرآن إلحاقها باليهود كما جاء في سورة الفاتحة أنهم المغضوب عليهم ". (التحرير والتنوير، 13، ص 169).