الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال بعض الحنابلة: يجوز النسخ بالإجماع لكن لا بنفسه بل بسنده ، فإذا رأينا متنا صحيحا والإجماع بخلافه ، استدللنا بذلك على نسخ ، وأن أهل الإجماع اطلعوا على ناسخ وإلا لما خالفوه (1).
وقال الشنقيطي: " إذا وجد في كلام العلماء أن نصاً منسوخ بالإجماع، فإنهم إنما يعنون أنه منسوخ بالنص الذي هو مستند الإجماع، لا بنفس الإجماع "(2).
ومن ادعى إجماعا يخالف نص الرسول من غير نص، يكون موافقا لما يدعيه، واعتقد جواز مخالفة أهل الإجماع للرسول برأيهم، وأن الإجماع ينسخ النص، كما تقوله طائفة من أهل الكلام والرأي، فهذا من جنس هؤلاء (3).
الأمثلة التطبيقية على القاعدة:
1 -
مثال الوصية:
اختلف العلماء في هذه الآية أي في الوصية التي قرّرتها، هل هي منسوخة أو محكمة.
وقد ساق ابن عاشور هذا الخلاف في تفسيره، وملخص كلامه: إنه ذهب
(1) انظر إرشاد الفحول / الشوكاني، ج 2، ص 562.
(2)
أضواء البيان / الشنقيطي، ص 500.
(3)
مجلة البحوث الإسلامية / شيخ الإسلام ابن تيمية، ج 21، ص 276.
(4)
سورة البقرة، الآية (180).
جمهور أهل النظر من العلماء، الحسن وقتادة والنخعي والشعبي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وجابر بن زيد إلى أن الآية منسوخة بآية المواريث التي في سورة النساء حيث نسخت هذه الآية نسخاً مجملاً ،بينت ميراث كل قريب فلم يبق حقه موقوفاً على إيصاء الميت له بل صار حقه ثابتاً معيناً رضي الميت أم كره، ولذلك صدر الله تعالى آية الفرائض بقوله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (1).
وقال بعضهم: الآية محكمة لم تُنسخ ، والمقصود بها من أول الأمر الوصية لغير الوارث من الوالدين والأقربين مثل الأبوين الكافرين والعبْدين والأقارِب الذين لا ميراث لهم وبهذا قال الضحاك والحسن في رواية وطاووس واختاره الطبري (2).
ورجح ابن عاشور أن الآية منسوخة مستندا في ذلك إلى الإجماع المستند للأحاديث وفعل الصحابة ومن قوله: " ثبت حكم جديد للوصية وهو الندب أو الوجوب على الخلاف في غير الوارث وفي الثلث بدليل الإجماع المستند للأحاديث وفعل الصحابة، ولمَّا ثبت حكم جديد للوصية فهو حكم غير مأخوذ من الآية المنسوخة بل هو حكم مستند للإِجماع، هذا تقرير أصل استنباط العلماء في هذه المسألة وفيه ما يدفع عن الناظر إشكالات كثيرة للمفسرين
(1) سورة النساء، الآية (11).
(2)
انظر التحرير والتنوير، ج 2، ص 151.
والفقهاء في تقرير كيفية النسخ (1).
وممن وافق ابن عاشور في اختياره فيمن سبقه من المفسرين ابن عطية والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي (2).
ورجّح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة، وكذلك الرازي.
ولم يتطرق القاسمي، ولا الشنقيطي لهذا الخلاف ولا حتى إشارة (3).
حجة القائلين بأن الآية منسوخة:
حجتهم في ذلك آية المواريث {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} التي بينت نصيب كل من الوالدين والأقربين. قال ابن عاشور: " وهذه الآية صريحة في إيجاب الوصية؛ لأن قوله " كتب عليكم" صريح في ذلك ، وجمهور العلماء على أنها ثبت بها حكم وجوب الإيصاء للوالدين والأقربين، .. ثم إن آية المواريث التي في سورة النساء نسخت هذه الآية نسخاٍ مجملاً فبينت ميراث كل قريب معين فلم يبق حقه موقوفاً على إيصاء الميت له بل صار حقه ثابتاً معيناً رضي الميت أم كره "(4).
(1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 151.
(2)
انظر جامع البيان / الطبري ، ج 2، ص 146 ، والتفسير الكبير / الرازي ، ج 2 ، ص 234.
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 146، المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 248، والتفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 234، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 266، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 21، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 168، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 178، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 451.
(4)
التحرير والتنوير، ج 2، ص 140.
كما استدل أصحاب هذا القول بالسنة المتواترة، ومن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:" قال كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع "(1).
وحديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " (2).
قال ابن كثير: " اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين ، وقد كان ذلك واجبًا -على أصح القولين -قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه، وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله، يأخذها أهلوها حتمًا من غير وصية ولا تحمل منَّة الموصي، ولهذا جاء الحديث في السنن وغيرها عن عَمْرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول: "إن الله قد أعطى كلّ ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" (3).
وقال ابن أبي حاتم فيما يرويه بسنده عن ابن عباس، في قوله: {الْوَصِيَّةُ
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، ج 3، ص 1008، ح- 2595.
(2)
أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الوصايا، باب ماجاء لا وصية لوارث، ج 4، ص 1433، ح- 2120.
(3)
تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 167 - 168.
لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} نسختها هذه الآية: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (1).
ثم قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر وأبي موسى، وسعيد بن المسيَّب، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جُبَير، ومحمد بن سيرين، وعكرمة، وزيد بن أسلم، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حَيّان، وطاوس، وإبراهيم النَّخَعي، وشُرَيح، والضحاك، والزهري: أن هذه الآية منسوخة نسختها آية الميراث " (2).
وذكر أحد العلماء وجهاً آخر للقول بالنسخ، فقال:" هذه الآية نزلت بعد آية الوصية بالاتفاق وقد قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (3) فرتب الميراث على وصية منكرة والوصية الأولى كانت معهودة فلو كانت تلك الوصية باقية لوجب ترتيبه على المعهود فلما لم يترتب عليه ورتب على المطلق دل على نسخ الوصية المقيدة لأن الإطلاق بعد التقييد نسخ كما أن التقييد بعد الإطلاق كذلك لتغاير المعنيين "(4).
(1) سورة النساء، الآية (7).
(2)
تفسير ابن أبي حاتم، ج 1، ص 267.
(3)
سورة النساء، الآية (11).
(4)
انظر روح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 451،
حجة القائلين بأن الآية محكمة:
قالوا: الآية مُحكَمَة لم تُنسخ ، والمقصود بها من أول الأمر الوصية لغير الوارث من الوالدين والأقربين مثل الأبوين الكافرين والعبْدين والأقارِب الذين لا ميراث لهم، وبهذا قال الضحاك والحسن في رواية وطاووس (1).
وقد ذهب الشافعي والنخعي إلى عدم نسخ آية الوصية ، مستندين إلى أن حكمها هو الندب لا الوجوب فلا تعارض بينها وبين آيات المواريث، كما لا تعارض بينها وبين حديث " لا وصية لوارث" لأن معناها لا وصية واجبة، وهو لا ينافي ندب الوصية وحيث لا تعارض فلا نسخ.
القول الراجح:
الذي يظهر لي - والله أعلم - أن الآية محكمة وليست منسوخة بالإجماع كما ذكر ابن عاشور كما سبق وذكرت في المبحث الأول من هذا الفصل.
ويمكن الاعتراض على القائلين بالنسخ والمستدلين على ذلك بنص ابن عباس رضي الله عنه أن يقال لهم: إن مفهوم النسخ عند المتقدمين يراد به التخصيص، فيكون المعنى أن آية المواريث خصصت الوصية.
قال الرازي: " إن هذه الآية تفهم بعمومها أن الوصية واجبة لكل قريب، وآية المواريث أخرجت القريب الوارث فبقيت آية الوصية مراداً بها القريب الذي لا يرث ،إما لمانع من الإرث، وإما لإنه محجوب بأقرب منه، وإما لأنه من ذوي الأرحام "(2).
(1) انظر التحرير والتنوير، ج 2، ص 150، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 248،
(2)
التفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 233.
وقال محمد عبده: " لا دليل على أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا، كما أن السياق ينافي النسخ فإن الله إذا شرع للناس حكماً وعلم أنه مؤقت وأنه سينسخه بعد زمن قريب، فإنه لا يؤكده ويوثقه بمثل ما أكد به أمر الوصية هنا، من كونه حقاً على المتقين، ومن وعيد من بدله "(1).
وقال ابن المنذر: " أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم: على أن الوصية للوالدين الذين لا يرثان، والأقرباء الذين لا يرثون جائزة "(2).
2 -
مثال الإطاقة:
اختلف المفسرون في هذه الآية من قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} بين النسخ والإحكام ، حيث ذهب بعضهم إلى أن هذه الآية كانت تخير المقيم الصحيح بين الصيام والإفطار، على أن يفدي بإطعام مسكين عن كل يوم يفطر فيه، ثم نسخها الله عز وجل بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
(1) تفسير المنار / محمد رشيد رضا، ج 2 ، ص 136.
(2)
الإجماع / ابن المنذر، ص 89.
(3)
سورة البقرة، الآية (184).
فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) حيث أوجبت هذه الآية الصوم على الصحيح المقيم على التعيين، بعد أن كان واجباً على التخيير بينه وبين الفدية، وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة (2).
ورجّح ابن عاشور أن الآية منسوخة بالإجماع فقال: " وعلى تفسير الطاقة بالقدرة ، فالآية تدل على أن الذي يقدر على الصوم له أن يعوضه بالإطعام، ولما كان هذا الحكم غير مستمر بالإجماع قالوا في حمل الآية عليه: إنها حينئذٍ تضمنت حكماً كان فيه توسعة ورخصة ثم انعقد الإجماع على نسخه، وذكر أهل الناسخ والمنسوخ أن ذلك فُرِض في أول الإسلام لما شق عليهم الصوم ثم نسخ بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (3) ونقل ذلك عن ابن عباس وفي البخاري عن ابن عمر وسلَمةَ بن الأكْوَع نسختْها آية {شَهْرُ رَمَضَانَ} (4) .. ورويت في ذلك آثار كثيرة عن التابعين وهو الأقرب من عادة الشارع في تدرج تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس من تغيير معتادهم كما تدرج في تشريع منع الخمر "(5).
وممن سبق ابن عاشور في أن الآية منسوخة الطبري، وأبو حيان، وابن
(1) سورة البقرة، الآية (185).
(2)
انظر المحرر الوجيز/ ابن عطية، ج 1، ص 253، وروح المعاني/ الألوسي، ج 1، ص 456.
(3)
سورة البقرة، الآية (185).
(4)
سورة البقرة، الآية (185).
(5)
التحرير والتنوير، ج 3، ص 275.
كثير (1).
في حين يرى الرازي والقرطبي، والشنقيطي بأن الآية محكمة (2).
وذكر كلٌ من ابن عطية، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي الخلاف الوارد في الآية ولم يرجحوا (3).
حجة القائلين بأن الآية منسوخة:
بيّن الطبري الحجة بقوله: " وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: "وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، منسوخٌ بقول الله تعالى ذكره: : {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (4) "لأن"الهاء" التي في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} من ذكر"الصيام" ومعناه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعامُ مسكين. فإذْ كان ذلك كذلك، وكان الجميعُ من أهل الإسلام مجمعينَ على أن من كان مُطيقًا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوْمَ شهر رمضان، فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين - كان معلومًا
(1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص، 168، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 43.، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 178.
(2)
انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 242، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 290، وودفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب / الشنقيطي، ص 30.
(3)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 253، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 180، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 456، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 60.
(4)
سورة البقرة، الآية (185).
أنّ الآية منسوخةٌ. هذا مع ما يؤيد هذا القول من الأخبار التي ذكرناها آنفًا عن مُعاذ بن جبل، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع: من أنهم كانوا - بعد نزول هذه الآية على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صوم شهر رمضان بالخيار بين صومه وسُقوط الفدية عنهم، وبين الإفطار والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم؛ وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، فألزموا فرضَ صومه، وبطل الخيار والفديةُ " (1).
وكذلك من الأدلة التي استدلوا بها ما رواه البخاري: "وقال بن نمير حدثنا الأعمش حدثنا عمرو بن مرة حدثنا بن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها وأن تصوموا خير لكم "(2).
حجة القائلين بأن الآية محكمة:
قال الطبري: " وقال آخرون ممن قرأ ذلك: "وَعلى الذين يُطيقونه"، لم ينسخ ذلك ولا شيء منه، وهو حكم مثبتٌ من لَدُنْ نزلت هذه الآية إلى قيام الساعة، وقالوا: إنما تأويل ذلك: وعلى الذين يطيقونه - في حال شبابهم وَحداثتهم، وفي حال صحتهم وقوتهم - إذا مَرضوا وكبروا فعجزوا من الكبر عن الصوم، فدية طعام مسكين = لا أنَّ القوم كان رُخِّص لهم في الإفطار - وهم على الصوم قادرون - إذا افتدوا.
(1) جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 168.
(2)
أخرجه البخاري تعليقاً، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر ليس من البر الصوم في السفر، ج 2، ص 688، ح- 1847.
روى السدي: "وَعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: أما الذين يطيقونه، فالرجل كان يطيقه وقد صام قَبل ذلك، ثم يعرض له الوَجع أو العطش أو المرض الطويل، أو المرأة المرضعُ لا تستطيع أن تصوم، فإن أولئك عليهم مكانَ كل يوم إطعام مسكين، فإن أطعم مسكينًا فهو خيرٌ له، ومن تكلف الصيام فصامه فهو خيرٌ له.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إذا خَافت الحاملُ على نفسها، والمرضع على ولدها في رمضان، قال: يفطران ويطعمان مكانَ كل يوم مسكينًا، ولا يقضيان صومًا. وعن ابن عباس رضي الله عنه أيضاً: أنه رَأى أمَّ ولدٍ له حاملا أو مُرضعًا، فقال: أنت بمنزلة الذي لا يُطيقه، عليك أن تطعمي مكانَ كل يوم مسكينُا، ولا قَضَاء عليك.
وعنه رضي الله عنه أيضاً قوله: "وَعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين"، هو الشيخ الكبير كان يُطيق صومَ شهر رمضان وهو شاب، فكبر وهو لا يستطيع صومَه، فليتصدق على مسكين واحد لكل يوم أفطرَه، حين يُفطر وحينَ يَتسحَّر" (1).
القول الراجح:
إن الآية محكمة وليست منسوخة، وأن معنى (يطيقونه): لا يطيقونه؛ بتقدير "لا" النافية وعليه فتكون الآية محكمة، ويكون وجوب الإطعام على العاجز عن الصوم، كالهرم والزمن (2).
(1) جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 164.
(2)
انظر دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب / الشنقيطي، ص 30.
وأما ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه في كون الآية منسوخة فقد أزال الإشكال عنه القرطبي حيث يقول: " يحتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص، فكثيراً ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه، وقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن الآية ليست منسوخة وأنها محكمة "(1) ، وأما ماذهب إليه ابن عاشور من كون هذه الآية منسوخة بالإجماع تنازعه قواعد أقوى منه في الترجيح.
ومن تلك القواعد التي تعضد هذا الترجيح قاعدة: (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره .. ) وسياق الآية في أوله يخاطب المكلفين بالصيام فالله تعالى يقول في الآية قبلها {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} أي فرض، وجاءت الآية بعد ذلك في أحكام المريض والمسافر وأنه إذا تعذر عليهما الصوم فلهما القضاء في أيام أخر، فمن المفترض أن تكون الآية بعدها فيمن لا يقدرون على الصيام كالهرم أو المرضع، الحامل، وعليه يترجح والله أعلم أن الآية محكمة.
ومما يعضد هذا الترجيح أيضاً قاعدة ترجيحية أخرى، وهي:(تأتي القراءة في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة في الآية)، وقد وردت قراءة لبعض الصحابة يطَّوَّقونه بفتح الياء وتشديد الطاء والواو المفتوحين، بمعنى يتكلفونه مع عجزهم عنه. وعلى هذا القول، فيجب على الهرم ونحوه الفدية، وهو اختيار البخاري (2).
(1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 291.
(2)
انظر التحرير والتنوير، ج 3، ص 275.
وكذلك ذكر الطبري أنه قرأ ذلك آخرون {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وقالوا: إنه الشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذان قد كبرا عن الصوم، فهما يكلفان الصوم ولا يطيقانه، فلهما أن يفطرا ويطعما مكانَ كلّ يوم أفطراه مسكينًا. وقالوا: الآية ثابتة الحكم منذ أنزلت، لم تنسخ، وأنكروا قول من قال: إنها منسوخة" (1).
وذكر الباحث الدكتور مصطفى زيد ما يؤكد هذا الترجيح، وإن كنت لا أتفق معه في أسلوب طرحه لرفض النسخ فالكل مجتهد، ولكل مجتهد نصيب، وهذ قوله: " ولكنا لا ندري كيف يسوغ في نظر هؤلاء الذين يرون تخيير المقيم الصحيح بين الصوم والفدية - أن يوجب الله عز وجل (في الآية نفسها) الصوم على المريض والمسافر، بدليل إيجاب القضاء عليهما إذا أفطر؟ وبعبارة أخرى: كيف يسوغ في نظرهم أن تكفي الفدية من لا عذر له، ويتحتم القضاء على المعذور الذي يباح له الإفطار بسبب عذره؟ .
كذلك لا ندري: كيف يفهم هؤلاء ما تقرره أولى آيات الصيام: من أن الصيام قد كتب علينا، وهي إنما تخاطب المطيقين؛ لأنه لا تكليف إلا بما يطاق ، وما تقرره الآية الثانية من أن الصيام قد كتب على التخيير، لا على الإلزام، مع أنهم لم يزعموا أن آية التخيير ناسخة لآية الإلزام؟ .
ونحن لا ندري ثالثاً: كيف يسوغ على تفسيرهم هذا أن يقول الله عز وجل، في الآية التي تنسخ التخيير بالتعيين - وهي الآية التي تحتم الصوم على
(1) جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 164.
كل مطيق، ولا تقبل بدلاً منه الفدية:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} مع أن الإلزام بعد التخيير عسر وليس يسراً؟ ! . من أجل هذا نرفض دعوى النسخ هنا بالرغم من الآثار الكثيرة التي استند إليها أصحاب هذه الدعوى، ومن ترجيح الطبري لها، ومن قول أبي عبيد القاسم بن سلام:(لا تكون الآية على قراءة يطيقونه إلا منسوخة) اهـ " (1).
2 -
مثال عقوبة الفاحشة:
اختلف العلماء بين النسخ والإحكام في هذه الآية، فقيل كان حد الزانيين الأذى لهما والحبس للمرأة، ثم نسخ ذلك بالجلد في سورة النور، وإن كانا محصنين بالرجم في السُنَّة، وذهب آخرون إلى الآية محكمة وأنه لا تعارض بين الآيتين يوجب النسخ (3).
ورجّح ابن عاشور أن الآية منسوخة بآية سورة النور، وحكى إجماع العلماء على ذلك ومن قوله: " واعلَمْ أنّ شأن النسخ في العقوبات على الجرائم
(1) النسخ في القرآن الكريم / مصطفى زيد، ج 2، ص 157.
(2)
سورة النساء، الآية (15).
(3)
انظر نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 121، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، 206.
التي لم تكن فيها عقوبة قبل الإسلام، أن تنسخ بأثقل منها، فشرع الحبس والأذى للزناة في هذه السورة، وشرع الجلد بآية سورة النور، والجلد أشدّ من الحبس ومن الأذى " (1) وممن وافق قوله قول ابن عاشور في كون الآية منسوخة الطبري، ابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي، والشنقيطي في كتابه دفع إيهام الاضطراب (2)
أما الرازي، والقرطبي، وأبو حيان فقد ذهبوا إلى أن الآية محكمة (3).
حجة القائلين بأن الآية منسوخة:
قالوا هي منسوخة بآية النور، وهي قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (4).
(1) التحرير والتنوير ، ج 3 ، ص 276.
(2)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 4، ص 346، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 21، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 3، ص 384، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 438، وروح المعاني الألوسي، ج 2، ص 444 ، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 3، ص 51، ودفع إيهام الاضطراب / الشنقيطي، ص 56.
(3)
انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 528، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 5، ص 90، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 204.
(4)
سورة النور، الآية (2).
كان هذا بدء عقوبة الزنا كانت المرأة تحبس فيؤذيان جميعا ، فيعيران بالقول جميعا في الشتيمة بعد ذلك.
ثم إن الله عز وجل نسخ ذلك بعد في سورة النور فجعل لهن سبيلا فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وصارت السنة فيمن أحصن جلد مائة ثم الرجم بالحجارة ، وفيمن لم يحصن جلد مائة ونفي سنة هذا سبيل الزانية والزاني " (1).
وقال ابن كثير: " قال ابن عباس: كان الحكم كذلك، حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد، أو الرجم.
وكذا رُوي عن عِكْرِمة، وسَعيد بن جُبَيْر، والحسن، وعَطاء الخُراساني، وأبي صالح، وقتادة، وزيد بن أسلم، والضحاك: أنها منسوخة. وهو أمر متفق عليه " (2).
كما استدلوا بما روي عن مسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر
(1) الناسخ والمنسوخ / قتادة، ج 1، ص 39.
(2)
تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 3، ص 384.
جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". (1).
قال ابن عاشور: " جاء حدّ الزنا في سورة النور، وهي نازلة في سنة ست بعد غزوة بني المصطلق على الصحيح، والحكم الثابت في سورة النور أشدّ من العقوبة المذكورة هنا، ولا جائز أن يكون الحدّ الذي في سورة النور قد نسخ بما هنا لأنّه لا قائل به. فإذا مضينا على معتادنا في اعتبار الآي نازلة على ترتيبها في القراءة في سورها، قلنا إنّ هذه الآية نزلت في سورة النساء عقب أحكام المواريث وحراسة أموال اليتامى، وجعلنا الواو عاطفة هذا الحكم على ما تقدّم من الآيات في أوّل السورة بما يتعلّق بمعاشرة النساء، كقوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (2) وجزمنا بأنّ أوّل هذه السورة نزل قبل أوّل سورة النور، وأنّ هذه العقوبة كانت مبدأ شرع العقوبة على الزنا فتكون هاته الآية منسوخة بآية سورة النور لا محالة، كما يدلّ عليه قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} "(3).
حجة القائلين بأن الآية محكمة:
قالوا: إن النسخ لا يكون إلا عند تعذر الجمع بين الدليلين، وهنا يمكن
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب حد الزنى، ج 3، ص 1316، ح-1690، والترمذي في سننه، كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم على الميت، ج 4، ص 41، ح- 1434 وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(2)
سورة النساء، الآية (4).
(3)
التحرير والتنوير، ج 3، ص 269.
الجمع بين الآيتين (1).
قال السعدي: " وهذه الآية ليست منسوخة، وإنما هي مغياة إلى ذلك الوقت، فكان الأمر في أول الإسلام كذلك حتى جعل الله لهن سبيلا ، وهو رجم المحصن وجلد غير المحصن "(2).
وذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أن الآية محكمة وأن المراد بقوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} : السحاقات، وحدَّهُن الحبس إلى الموت، والآية الثانية {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} (3) أهل اللواط، وحدّهما الأذى بالقول والفعل
وماذهب إليه أبو مسلم إنما بناه على أصل له وهو أنه لا يرى النسخ في القرآن الكريم (4).
القول الراجح:
إن الآية منسوخة ، كما قرر ذلك ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين ونسخها الإجماع المستند إلى الدليل.
قال ابن عطية: "أجمع العلماء على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في
(1) انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 438.
(2)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 1، ص 329.
(3)
سورة النساء، الآية (16).
(4)
انظر قول أبي مسلم في التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 528.
سورة النور" (1).
وردّ ابن عاشور قول من قال أن الآية محكمة لقوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} فقال: " إنّ قوله: إنّ آية النساء مغيّاة، لا يُجدي لأنّ الغاية المبهمة لمّا كان بيانها إبطالا لحكم المغيَّي فاعتبارُها اعتبارُ النسخ، وهل النسخ كلّه إلاّ إيذان بوصول غاية الحكم المرادة لله غير مذكورة في اللفظ، فذكرها في بعض الأحكام على إبهامها لا يكسو النزول غير شعار النسخ"(2).
أما قول أبي مسلم الأصفهاني وما احتج به فقد ذكر الرازي: " أن العلماء احتجوا على إبطال كلام أبي مسلم بوجوه ذكرها:
الأول: أن هذا قول لم يقله أحد من المفسرين المتقدمين فكان باطلا.
والثاني: أنه روي في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «قد جعل الله لهن سبيلا الثيب ترجم، والبكر تجلد» وهذا يدل على أن هذه الآية نازلة في حق الزناة.
الثالث: أن الصحابة اختلفوا في أحكام اللواط، ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية، فعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على هذا الحكم من أقوى الدلائل على أن هذه الآية ليست في اللواطة " (3).
ومما يعضد هذا الترجيح قاعدة أخرى وهي: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له) ، والقول بالنسخ قد نصّ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم
(1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 22.
(2)
التحرير والتنوير، ج 3، ص 275.
(3)
التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 529.
في حديث: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" بيان منه أيضاً لنسخ حكم الآية من سورة النساء: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ .. } (1).
4 -
مثال المؤلفة قلوبهم:
اختلف أهل العلم في بَقَاءِ المؤلفة قلوبهم، فمنهم من قال: هم زائلون؛ قاله جماعة، وأخذ به مالك، وقد قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين.
ومنهم من قال: هم باقون؛ لأن ربما احتاج أن يستألف على الإسلام (3).
وقد ذكر هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره فقال: " اختلف العلماء في استمرار هذا المصرف، عن عمر بن الخطاب أنّه انقطع سهمهم بعزة الإسلام، وبه قال الحسن، والشعبي، ومالك بن أنس وأبو حنيفة، وقد قيل: إنّ الصحابة أجمعوا على سقوط سهم المؤلّفة قلوبهم من عهد خلافة أبي بكر حكاه القرطبي،
(1) تقدم تخريجه.
(2)
سورة التوبة، الآية (60).
(3)
انظر أحكام القرآن / ابن العربي، ج 2، ص 428.
ولا شكّ أن عمر قَطع إعطاء المؤلّفة قلوبهم مع أنّ صنفهم لا يزال موجوداً، رأى أنّ الله أغنى دين الإسلام بكثرة أتْباعه فلا مصلحة للإسلام في دفع أموال المسلمين لتأليف قلوب من لم يتمكّن الإسلام من قلوبهم.
ومِن العلماء من جعل فعل عمر وسكوتَ الصحابة عليه إجماعاً سكوتياً ، فجعلوا ذلك ناسخاً لبعض هذه الآية وهو من النسخ بالإجماع، وفي عدّ الإجماع السكوتي في قوة الإجماع القولي نزاع بين أئمّة الأصول وفي هذا البناء نظر، كما علمت آنفاً.
وقال كثير من العلماء: هم باقون إذا وُجدوا فإنّ ربما احتاج إلى أن يستألف على الإسلام، وبه قال الزهري، وعمر بن عبد العزيز، والشافعي، وأحمد بن حنبل، واختاره عبد الوهاب، وابن العربي، من المالكية قال ابن العربي: الصحيح عندي أنّه إن قوي الإسلام زالوا وإن احتيج إليهم أعطوا " (1).
ومما تقدم نجد ابن عاشور ذكر الأقوال ولم يرجح، وذلك يدلنا على أن هذه القاعدة موجودة عنده ويعمل بها إذا كان الإجماع يستند إلى أصل شرعي ، أما إذا لم يكن له أصل شرعي فإنه يتوقف فيه وفي ذلك يقول:" وهي مسألة غريبة لأنّها مبنية على جواز النسخ بدليل العَقْل وقياس الاستنباط أي دون وجود أصل يقاس عليه نظيره وفي كونها مبنيّة على هذا الأصل نظر "(2).
ورجح الطبري وابن عطية، والرازي وجودهم إلى اليوم (3).
(1) التحرير والتنوير، ج 6، ص 239.
(2)
التحرير والتنوير، ج 6، ص 238.
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 10، ص 185، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 49، والتفسير الكبير / الرازي، ج 6، ص 86.
وذكر القرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، الخلاف الوارد فيهم ولم يرجحوا (1).
وذكر القاسمي معنى المؤلفة قلوبهم، ولم يتطرق للخلاف الوارد فيها ولا حتى بإشارة (2).
حجة القائلين بأن المؤلفة قلوبهم انقطع وجودهم وُنسخ حكمهم:
حجتهم في ذلك إجماع الصحابة على ذلك في خلافة الصديق رضي الله عنه، وحينئذ يكون هذا الإجماع أو مستنده ناسخاً للآية في صنف المؤلفة.
واستدلوا على ذلك بفعل أبي بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه، فقد روي عن ابن سيرين عن عبيدة قال جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة ، فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نزرعها ونحرثها ، فذكر الحديث في الإقطاع وإشهاد عمر رضي الله عنه عليه ومحوه إياه قال: فقال عمر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما ، والإسلام يومئذ ذليل ،وإن الله قد أعز الإسلام فاذهبا فاجهدا جهدكما لا أرعى الله عليكما إن رعيتما ، ويذكر عن الشعبي أنه قال: لم يبق من المؤلفة قلوبهم أحد إنما كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 8، ص 168، والبحر المحيط، / أبو حيان، ج 5، ص 59.، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 7، ص 222، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 373، وروح المعاني / الألوسي، ج 5، ص 312.
(2)
انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 5، ص 450.
استخلف أبو بكر رضي الله عنه انقطعت الرشا " (1).
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن جابر عن عامر قال: إنما كانت المؤلفة قلوبهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ولي أبو بكر انقطعت " (2).
وقال صاحب بدائع الصنائع: " والصحيح قول العامة لإجماع الصحابة على ذلك، فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئاً من الصدقات ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا إلى أبي بكر واستبدلوا الخط منه لسهامهم فبدل لهم الخط، ثم جاءوا إلى عمر رضي الله عنه وأخبروه بذلك فأخذ الخط من أيديهم ومزقه وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام ، فأما اليوم فقد أعز الله دينه فإن ثبتّم على الإسلام وإلا فليس بيننا وبينكم إلا السيف ، فانصرفوا إلى أبي بكر فأخبروه بما صنع عمر رضي الله عنهما وقالوا: أنت الخليفة أم هو؟ فقال: إن شاء الله هو ، ولم ينكر أبو بكر قوله وفعله وبلغ ذلك الصحابة فلم ينكروا فيكون إجماعاً منهم على ذلك، ولأنه ثبت باتفاق الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الإسلام ، ولهذا سمّاهم الله المؤلفة قلوبهم والإسلام يومئذ في ضعف وأهله في قلة وأولئك كثير ذو قوة وعدد واليوم بحمد الله عز الإسلام وكثر أهله واشتدت دعائمه ورسخ بنيانه وصار أهل الشرك أذلاء، والحكم متى ثبت معقولاً بمعنى خاص ينتهي بذهاب
(1) أخرجه البيهقي في الكبرى، ج 7، ص 20.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، ج 2، ص 435، ح- 10759.
ذلك المعنى" (1).
حجة القائلين بأن المؤلفة قلوبهم لم ينقطع وجودهم ولم يُنسخ حكمهم:
حجتهم في ذلك أنه لا دليل على نسخ هذا الحكم، وأن الأصل عدم النسخ.
قال الطبري: " إن الله جعل الصدقة في معنيين أحدهما: سدُّ خَلَّة المسلمين، والآخر: معونة الإسلام وتقويته. فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه، فإنه يُعطاه الغني والفقير،
…
وكذلك المؤلفة قلوبهم، يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء، استصلاحًا بإعطائهم أمرَ الإسلام وطلبَ تقويته وتأييده. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم، بعد أن فتح الله عليه الفتوح، وفشا الإسلام وعز أهله. فلا حجة لمحتجّ بأن يقول:"لا يتألف اليوم على الإسلام أحد، لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم"، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى منهم في الحال التي وصفت " (2).
وقال ابن عطية بعد أن ذكر قول عمر بن الخطاب في أنهم انقطعوا بعزة الإسلام وظهوره قال: " وأما أن ينكر عمر الاستئلاف جملة وفي ثغور الإسلام ، فبعيد "(3).
وقال الرازي: " والصحيح أن هذا الحكم غير منسوخ وأن للإمام أن يتألف قوماً على هذا الوصف ويدفع إليهم سهم المؤلفة لأنه لا دليل على نسخه
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ج 4، ص 24.
(2)
جامع البيان / الطبري، ج 10، ص 185.
(3)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 49.
ألبتة " (1).
وفي ذلك يقول سيد قطب في الظلال: " المنهج الحركي لهذا الدين سيظل يواجه في مراحله المتعددة كثيراً من الحالات، تحتاج إلى إعطاء جماعة من الناس على هذا الوجه؛ إما إعانة لهم على الثبات على الإسلام إن كانوا يحاربون في أرزاقهم لإسلامهم، وإما تقريباً لهم من الإسلام كبعض الشخصيات غير المسلمة التي يرجى أن تنفع الإسلام بالدعوة له والذب عنه هنا وهناك ، ندرك هذه الحقيقة فنرى مظهراً لكمال حكمة الله في تدبيره لأمر المسلمين على اختلاف الظروف والأحوال "(2).
القول الراجح:
هو أن الآية محكمة كما مال إلى ذلك ابن عاشور ورجحه عدد من المفسرين، وفعل أبي بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه كان اجتهادا منهما في فترة زمنية لما رأوه من ملائمة الأحوال على عدم إعطاء المؤلفة قلوبهم، ولكن الأحوال تختلف من زمن إلى زمن وقد نحتاج إلى هذا الحكم، كما أنه لا يوجد دليل ينسخ حكمهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم شرعا معلقا بسبب إنما يكون مشروعا عند وجود السبب كإعطاء المؤلفة قلوبهم ، فإنه ثابت بالكتاب والسنة وبعض الناس ظن أن هذا نسخ لما روي عن عمر أنه ذكر أن الله أغنى عن التألف فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وهذا الظن غلط ولكن عمر
(1) التفسير الكبير / الرازي، ج 6، ص 86.
(2)
في ظلال القرآن / سيد قطب، ج 3، ص 1669.
استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم فترك ذلك لعدم الحاجة إليه لا لنسخه كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل والغارم ونحو ذلك " (1).
5 -
مثال الفيء:
اختلف العلماء في هذه الآية وأشكلت عليهم كثيراً؛ وذلك أن هذه الآية فيها أن ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى لا يخمّس مع إن مصارفه التي بيّن أنه يصرف فيها كمصارف خمس الغنيمة المذكورة في سورة الأنفال في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (3)، ولذلك اختلفوا:
قال ابن الفرس (4): " آية: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} من
(1) مجموع الفتاوى / شيخ الإسلام ابن تيمية، ج 33، ص 94.
(2)
سورة الحشر، الآية (7).
(3)
سورة الأنفال، الآية (41).
(4)
ابن الفرس هو: الحافظ محمد بن عبد الرحيم بن محمد بن الفرج بن خلف أبو عبد الله ابن الفرس الأنصاري الخزرجي الغرناطي، ولي قضاء بلنيسة وكان في وقته أحد حفاظ الأندلس وكان أصوله أعلاقاً نيسة أكثرها بخطه، توفي سنة سبع وستين وخمس مائة. (الوافي بالوفيات، ج 1، ص 396).
المشكلات إذا نُظرت مع الآية التي قبلها ومع آية الغنيمة من سورة الأنفال. ولا خلاف في أن قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} (1) إنما نزلت فيما صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال الكفار بغير إيجاف، وبذلك فسّرها عُمر ولم يخالفه أحد.
وأما آية الأنفال {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ .. } فلا خلاف أنها نزلت فيما صار من أموال الكفار بإيجاف، وأما الآية الثانية من الحشر {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فاختلف أهل العلم فيها ، فمنهم من أضافها إلى التي قبلها، ومنهم من أضافها إلى آية الأنفال وأنهما نزلتا بحكمين مختلفين في الغنيمة الموجف عليها، وأن آية الأنفال نسخت آية الحشر.
ومنهم من قال: إنها نزلت في معنى ثالث غير المعنيين المذكورين في الآيتين: واختلف الذاهبون إلى هذا: فقيل نزلت في خراج الأرض والجزية دون بقية الأموال، وقيل نزلت في حكم الأرض خاصة دون سائر أموال الكفار (فتكون تخصيصاً لآية الأنفال) وإلى هذا ذهب مالك ، والآية عند أهل هذه المقالة غير
(1) سورة الحشر، الآية (6).
منسوخة ، ومنهم من ذهب إلى تخيير اهـ (1).
وقد يعود الخلاف بين الآيتين لكون بعض العلماء لم يفرقوا بين معنى الفيء ومعنى الغنيمة، وعدّوهما شيئاً واحد .. وقد وضّح الشنقيطي الفرق بين الفيء والغنيمة حيث يقول: " اعلم أولاً أن أكثر العلماء: فرقوا بين الفيء والغنيمة فقالوا: الفيء: هو ما يسره الله للمسلمين من أموال الكفار من غير انتزاعه منهم بالقهر، كفيء بني النضير الذين نزلوا على حكم النَّبي صلى الله عليه وسلم ومكنوه من أنفسهم وأموالهم يفعل فيها ما يشاء لشدة الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم، ورضي لهم صلى الله عليه وسلم أن يرتحلو بما يحملون على الإبل غير السلاح، وأما الغنيمة: فهي ما انتزعه المسلمون من الكفار بالغلبة والقهر، وهذا التفريق يفهم من قوله:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ .. } الآية مع قوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} فإن قوله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} الآية: ظاهر في أنه يراد به بيان الفرق بين ما أوجفوا عليه وما لم يوجفوا عليه كما ترى، والفرق المذكور بين الغنيمة والفيء عقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي بقوله في غزوة بني النضير:
وفيئهم والفيء في الأنفال
…
ما لم يكن أخذ عن قتال
أما الغنيمة فعن زحاف
…
والأخذ عنوة لدى الزحاف (2).
(1) انظر التحرير، ج 13، ص 82.
(2)
أضواء البيان / الشنقيطي، ص 308.
ورجّح ابن عاشور أن هذه الآية لها حكم خاص بها ثم نُسخ وهذا قوله: " وليس يبعد عندي أن تكون القرى التي عنتها آية الحشر فتحت بحالة مترددة بين مجرد الفيء وبين الغنيمة، فشُرع لها حكم خاص بها، وإذ قد كانت حالتها غير منضبطة تعذر أن نقيس عليها ونُسخ حكمها ، واستقرّ الأمر على انحصار الفتوح في حالتين: حالة الفيء المجرد وما ليس مجردَ فيء. وسقط حكم آية الحشر بالنسخ أو بالإِجماع. والإِجماع على مخالفة حكم النص يعتبر ناسخاً لأنه يتضمن ناسخاً "(1).
ورجّح الطبري، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني أن الآية محكمة (2).
ولم يتطرق كل من الرازي، وأبو حيان، والألوسي ولا القاسمي لهذا الخلاف حول نسخ الآية وإحكامها (3).
حجة القائلين: إن الآية منسوخة بآية الأنفال:
قال ابن كثير: " ومن العلماء من يطلق الفيء على ما تطلق عليه الغنيمة، والغنيمة على الفيء أيضا؛ ولهذا ذهب قتادة إلى أن هذه الآية ناسخة
(1) التحرير والتنوير، ج 13، ص 84.
(2)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 28، ص 46، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 286، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 18، ص 16، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 7، ص 81، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 198، وروح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 240، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 308 ..
(3)
انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 507، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 244، وروح المعاني / اللوسي، ج 14، ص 240، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 77.
لآية "الحشر": {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ، قال: فنسخت آية "الأنفال" تلك، وجعلت الغنائم: أربعة أخماسها للمجاهدين، وخمسًا منها لهؤلاء المذكورين " (1).
حجة القائلين بأن الآية محكمة:
ذكر الطبري أنه يروى عن أهل العلم في المراد بالفيء ثلاثة مذاهب:
"المذهب الأول: إنه عز وجل عنى بذلك الجزية والخراج؛ فقد أخرج عن معمر بسند صحيح: قوله {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} بلغني أنها الجزية والخراج: خراج أهل القرى.
والمذهب الثاني: إنه جل ثناؤه عنى بذلك الغنيمة التي يصيبها المسلمون من عدوهم، من أهل الحرب، بالقتال عنوة.
والمذهب الثالث: إنه تعالى عنى بذلك ما صالح عليه أهل الحرب المسلمين من أموالهم، وقال أصحاب هذا المذهب: قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} بيان قسم المال الذي ذكره الله في الآية التي قبل هذه الآية، وذلك قوله:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} ،وهذا قول كان يقوله بعض المتفقهة من المتأخرين (2).
(1) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 7، ص 81.
(2)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 28، ص 47.
القول الراجح:
إن الآية محكمة وليست منسوخة كما احتمل ابن عاشور ، وذلك أن آية الحشر لا تعارض آية الأنفال، فلا تنسخ بها وبخاصة أن سورة الحشر نزلت بعد الأنفال بسنة، كما يقول ابن الجوزي نقلاً عن بعض شيوخ السلف ومحال أن يمسح المتقدم المتأخر (1).
قال النحاس: " القول أنها منسوخة فلا معنى له لأنه ليست إحداهما تنافي الأخرى فيكون النسخ "(2).
وذكر بعض العلماء أن كل آية من هذه الآيات لها معناها فلا نسخ بينها.
قال ابن العربي: " لا إشكال أنها ثلاثة معانٍ في ثلاث آيات.
أما الآية الأولى: وهي قوله: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} فهي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة له، وهي أموال بني النضير وما كان مثلها.
وأما الآية الثانية: وهي قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} فهذا كلام مبتدأ غير الأوّل بمستحق غير الأول، وإن اشتركت هي والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئًا أفاءه الله على رسوله، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية الأنفال، وهي الآية الثالثة: أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثانية، وهي قوله:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} عن ذكر حصوله بقتال، أو بغير قتال " (3).
(1) نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 237.
(2)
الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 704.
(3)
الناسخ والمنسوخ / ابن العربي، ص 212.