الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
نشأة قواعد الترجيح
إن القرآن الكريم منذ اللحظات الأولى لنزوله على النبي صلى الله عليه وسلم، أثار حركة فكرية علمية ثقافية عند العرب، حيث دعاهم إلى الالتفات إلى ما جاءهم من جديد في أساليب التعبير والبيان، بما لم يعهدوه من قبل، فتعلقت قلوبهم وأسماعهم بروعة بيانه وبليغ نظمه
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم هو المرجع للصحابة في فهم معانيه وتوضيح غامضه.
ولم يكن تفسير القرآن وضبط قواعده يظهر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كعلم مستقل بنفسه، وإنما كان يروى منه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتعرض لتفسيره.
ولكن يمكننا القول أن قواعد التفسير - وقواعد الترجيح جزء منها - قد ظهرت بواكيرها والإشارة إليها منذ عهده صلى الله عليه وسلم، وإن كانت لم توجد كفن مدون ومستقل إلا في القرن الرابع عشر.
فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أول من اهتم بهذه القواعد من حيث التطبيق العملي، واستعملها في تفسيره لبعض الآيات، وصحح فهم الصحابة بناء عليها ، يدل على ذلك ما ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (1) قلنا: يا رسول الله! أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما
(1) سورة الأنعام، الآية (82).
تقولون: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} بشرك، أَوَلم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه:{يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1)(2).
حيث نبّه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته إلى هذه القاعدة، وإن لم ينص عليها ، وأرشدهم إلى اعتبارها، وهي تفسير القرآن بالقرآن.
وفي عهد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وهم العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، كان لديهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله تعالى ما أراد، ولهم من سليقتهم العربية ومعرفتهم لأسباب النزول وطبيعة الحال التي نزل فيها الوحي، وإدراكهم لأسرار القرآن الكريم، ما أغناهم عن وضع قواعد لتفسير القرآن الكريم.
وإذا كانت الأصول والقواعد والضوابط، توضع لتكون موازين ضبط للفهم والإدراك، منعاً للانحراف، فإن ما توفر للصحابة من ملكة اللسان والوقوف على مشاهد نزول الوحي وأسبابه، وبيان المبلغ عن ربه تبارك وتعالى، كافٍ كل الكفاية لأداء الغرض الذي من أجله توضع القواعد والضوابط.
ولذلك يحمل إلينا تاريخهم المضيء نماذج من الفهم للقرآن الكريم ،كانت الأساس الثاني بعد المنهج النبوي، لقواعد وضوابط التفسير وأصوله، التي وضعت فيما بعد.
(1) سورة لقمان، الآية (13).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى:{واتخذ الله إبراهيم خليلا} ، ج 3، ص 1226، ح- 3181.
وقد اهتم الصحابة رضوان الله عنهم بهذه القواعد التفسيرية وإن لم ينصوا عليها ومنهم:
أبي بن كعب، حيث أخرج الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: مرّ عمر بن الخطاب برجل يقرأ {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} .. حتى بلغ {وَرَضُوا عَنْهُ} (1) قال: وأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبي بن كعب، فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه، فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم. قال: أنت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم قال: لقد كنت أظن أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، فقال أبي: بلى تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2)، وفي سورة الحشر:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} (3)، وفي الأنفال {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} (4)(5).
(1) سورة التوبة، الآية (4).
(2)
سورة الجمعة، الآية (3).
(3)
سورة الحشر، الآية (10).
(4)
سورة الأنفال، الآية (75).
(5)
أخرجه الطبري في تفسيره، ج 11، ص 13.
فاحتج أبي رضي الله عنه بهذه الآيات التي تلاها من سورة الجمعة، والحشر، والأنفال؛ مما يدل على اعتمادهم لمضمون هذه القاعدة في الترجيح بين الأقوال.
وفي استنباط علي بن أبي طالب رضي الله عنه أقل مدة الحمل من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (1) ومن قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (2)، واعتراضه بذلك على حكم عمر رضي الله عنه بالرجم على المرأة التي ولدت لستة أشهر، ونزول عمر رضي الله عنه عن رأيه لأكبر دليل على اعتمادهم لما تقرره هذه القاعدة (3).
كما اهتم الصحابة ومن تبعهم رضوان الله عليهم بتفسير القرآن بناءً على ضوابط وقواعد أخرى، ومن تلك القواعد على سبيل المثال: الترجيح بناءً على السياق، فعلى الرغم من أن التفسير في عهد الصحابة الكرام كان ذا طابع جزئي يُعنى بتفسير المفردة القرآنية، إلا أنه لم يكن يغفل سياقها؛ ولهذا جاء تفسيرهم سليماً خالياً من الخلل بعامة، وإن لم يكن قد ورد عنهم صراحة ما يعد توصيفاً للسياق وتأصيلاً له، عدا إشارات قد تدل علي ما نحن بصدده، ومن ذلك إنكار عبد الله بن عمر رضي الله عنهما على الخوارج، ونعته لهم بأنهم شرار الخلق، حين عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار؛ فجعلوها في المسلمين (4) وهذا لا يكون إلا بتجاهل السياق.
(1) سورة الأحقاف، الآية (15).
(2)
سورة البقرة، الآية (233).
(3)
أخرجه البيهقي في سننه، باب ما جاء في أقل الحمل، ج 7، ص 442، ح-15326.
(4)
صحيح البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل الخوارج والملحدين، ج 6، ص 2539، ح-.
ثم مضى عصر الصحابة، وجاء عهد تلامذتهم من التابعين الذين أخذوا علم الكتاب والسنة عنهم، وكل طبقة من هؤلاء التابعين تخرجت على يد من كان عندها من الصحابة، وتطور الزمن، واتسع الفتح الإسلامي، واختلط العرب بغيرهم من الأمم الداخلة في دين الله تعالى أفواجاً، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، فلم تعد اللغة العربية سليقة لكثير من المسلمين وخاصة سكان الحضر ، فكان ذلك وغيره من الأسباب مدعاة للتدوين.
ثم يمضي عهد التابعين، ويليه عهد تابعي التابعين، ومع كل جيل تتسع آفاق المعرفة، خاصة وأنهم كانوا قد تفرقوا في الأمصار المفتوحة.
وفي أواخر عهد بني أمية وأول عهد العباسيين كانت الخطوات الأولى للتصنيف والتدوين، حيث دونت السنة النبوية وهي تضم بين جنباتها تفسير القرآن الكريم، ومناهج تفسيره، ثم سرعان ما اتجه العلماء إلى فصل العلوم بعضها عن بعض.
فأصبح للحديث علماؤه ومصنفاته، وللتفسير علماؤه ومصنفاته، وللقراءات علماؤها ومصنفاتها .. ثم أخذ العلماء يضعون لكل هذه العلوم تفصيلات تكون قواعد وضوابط وأصولاً لإدراك تلك العلوم.
وليس من السهل معرفة أول من دوّن قواعد علم التفسير وضوابطه وأصوله، ولكن بالتأكيد أن هذه العلوم والقواعد والأصول كانت حصيلة بحوث طويلة ودراسات كبيرة قام بها علماؤنا الأفذاذ من عهد حركة التدوين.
وقد اهتم بهذا الطريق من السلف عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقد ظهر هذا واضحاً من خلال المرويات عنه في تفسير الطبري.
وهذا صالح بن كيسان (1)
يستند إلى السياق في تحديد المراد بالنفس في قوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} (2) فيقول: "إنما يراد بهذا الكافر، اقرأ ما بعدها يدلك على ذلك"(3).
أما عن موقف أئمة التفسير من هذه القواعد فقد اعتنوا بها، حيث كان المفسرون يُضمّنون مقدمات تفاسيرهم أهم تلك القواعد والأصول.
فقد أشار العز بن عبد السلام في كتابه الموسوم بـ (الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز) حيث ذكر بعض القواعد الترجيحية دون ذكر أمثلة لها (4).
وذكر المفسر محمد بن جزي الكلبي في مقدمة تفسيره اثني عشر وجهاً في الترجيح (5).
واستعمل ابن جرير الطبري هذه القواعد الترجيحية في تفسيره، ومن أمثلة ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ
(1) صالح بن كيسان المدني، مولى غفار، روى عن ابن عمر وابن الزبير وسالم ونافع وطائفة،
وعنه مالك وابن جريج وعمرو بن دينار وابن إسحاق وابن عيينة وحماد بن زيد وآخرون.
قال الحاكم: مات وهو ابن مائة ونيف وستين سنة ، وكان قد لقي جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (طبقات الحفاظ / السيوطي، ص 70).
(2)
سورة ق، الآية (21).
(3)
جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 188.
(4)
انظر الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز / العز بن عبد السلام، ص 276.
(5)
انظر التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الكلبي، ج 1، ص 20 - 21.
وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (1): " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معنى ذلك: أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا من المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} على ذلك، وأنه جلّ ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه " (2).
ومن الذين أسهموا في إبراز دور السياق واستثمروه الراغب الأصفهاني (ت 502 هـ)، في كتابه (مفردات القرآن) ، فقد أثنى الزركشي على منهجه وهو يتحدث عن تفسير بعض آي القرآن الذي لم يرد فيه نقل، حيث قال:"وطريق التوصل إلى فهمه: النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب، ومدلولاتها، واستعمالاتها، بحسب السياق، وهذا يعتني به الراغب كثيراً في كتاب (المفردات) ، فيذكر قيداً زائداً على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ؛ لأنه اقتنصه من السياق"(3).
كما يمكننا الإشارة إلى ما فعله الشافعي في إخراجه كتاب (الرسالة) التي
(1) سورة الأنبياء، الآية (30).
(2)
جامع البيان / الطبري، ج 17، ص 26.
(3)
البرهان في علوم القرآن / الزركشي، ج 2، ص 172.
تعتبر أول إخراج علمي في علم أصول الفقه وقواعد التفسير، حيث تحدث فيها عن الكتاب والسنة، وعن مراتب البيان، كما تحدث فيها عن الناسخ والمنسوخ، والعموم والخصوص، والمجمل والمفصل، والأمر والنهي، وهذه كلها علوم مشتركة بين أصول الفقه وأصول التفسير.
قال الجويني في شرح الرسالة: لم يُسبق الشافعي في تصانيف الأصول ومعرفتها.
غير أن هذه العلوم الأصولية كانت مفرقة مبعثرة حتى جاء الشافعي فجمع بين أشتاتها وألف بين متفرقاتها .. ثم سار العلماء من بعده ينهجون نهجه ويقتفون أثره (1).
كما اعتنى ابن عاشور تعالى بهذه القواعد في تفسيره ونصّ على بعض منها في المقدمات التي ذكرها لتفسيره ، من ذلك ما ذكره في المقدمة التاسعة فيما يتعلق بالمفردة القرآنية من أن اللفظ إذا احتمل معانٍ عدّة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها (2).
وكذلك الشنقيطي اعتنى بهذه القواعد الترجيحية في تفسيره ، ومن أكثر تلك القواعد التي بنى عليها تفسيره قاعدة (القول الذي تؤيده الآيات القرآنية أولى من غيره) بل كان الترجيح بهذه القاعدة هدفا سعى إليه في تفسيره، ولذلك سماه بـ (أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن).
(1) انظر أصول التفسير وقواعده /خالد العك، ص 32 - 35.
(2)
انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 94.
ثم دون هذا العلم كفن مستقل نظري في القرن الرابع عشر، ومن تلك الكتب المعاصرة التي بحثت في هذا الفن:"القواعد الحسان لتفسير القرآن " للعلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي، و" عقود المرجان في قواعد المنهج الأمثل في تفسير القرآن من خلال أضواء البيان " للدكتور أحمد سلامة أبو الفتوح، و "قواعد الترجيح عند المفسرين " للدكتور حسين الحربي
وهكذا بقي هذا المنهج محل عناية المفسرين قديماً وحديثاً.