الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القراءة التي يفضلها من القراءات العشر المتواترة، يفضلها لأنها تحفظ على الأسلوب القرآني جمالا وقوة في المعنى حسب نظره، أو لزيادة في معنى أحدها ومن ذلك قوله عند قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (1): " ومن قرأ يدافع فمعناه يبالغ في الدفع عنهم، كما يبالغ من يغالب فيه لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ"(2) ، وهكذا فضل القراءة التي أضافت معنى زائداً بليغاً مع أن القراءتين " يدفع" و"يدافع" كلاهما متواترتان.
أمثلة تطبيقية على القاعدة:
1 -
قراءة " حطة ":
اختلف المفسرون في تأويل قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} وذكر هذه الأقوال ابن عاشور في تفسيره فقال: "وقيل: المراد من الحطة سؤال غفران الذنوب أي حط عنا ذنوبنا أي اسألوا الله غفران ذنوبكم إن دخلتم القرية.
(1) سورة الحج، الآية (38).
(2)
الكشاف / الزمخشري، ج 4، ص 198.
(3)
سورة البقرة، الآية (58).
وقيل: من الحط بمعنى حط الرحال أي إقامة أي ادخلوا قائلين إنكم ناوون الإقامة بها إذ الحرب ودخول ديار العدو يكون فتحاً ويكون صلحاً ويكون للغنيمة ثم الإياب " (1).
واستبعد ابن عاشور هذين القولين ورجّح قولاً آخر بناءً على القراءة، فقال: " وهذان التأويلان بعيدان، ولأن القراءة بالرفع وهي المشهورة تنافي القول بأنها طلب المغفرة، لأن المصدر المراد به الدعاء لا يرتفع على معنى الإخبار نحو سَقياً ورعياً، وإنما يرتفع إذا قصد به المدح أو التعجب لقربهما من الخبر دون الدعاء ، ولا يستعمل الخبر في الدعاء إلا بصيغة الفعل نحو وي.
و(حطة) بالرفع على أنه مبتدأ أو خبر نحو سمعٌ وطاعة وصبرٌ جميل " (2).
وممن وافق قوله قول ابن عاشور فيمن سبقه القرطبي، والألوسي (3)
ورجّح الرازي وأبو حيان والقاسمي أن المراد من الحطة طلب المغفرة (4)
وساق كل من ابن عطية وابن كثير، والشوكاني الأقوال ولم يرجحوا ، وزاد ابن كثير فقال:" وحاصل الأمر: أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها"(5).
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 515.
(2)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 515.
(3)
انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 416، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 266.
(4)
انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 523، والبحر المحيط/ أبو حيان، ج 1، ص 384، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 344.
(5)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 150، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 419، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 89. .
حجة من قال: إن المراد بـ"حطة " طلب المغفرة:
قال الرازي: " الحاصل أنه أمر القوم بأن يدخلوا الباب على وجه الخضوع وأن يذكروا بلسانهم التماس حط الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب وخضوع الجوارح والاستغفار باللسان، وهذا الوجه أحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق "(1)
وقال الزمخشري: " الأصل النصب بمعنى: حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رُفعت لتعطي معنى الثبات "(2).
حجة من قال: إن المراد بـ " حطة" الإقامة:
وهو من قول أبي مسلم الأصفهاني قال: أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها (3).
حجة من قال: إن المراد بـ"حطة" أمرنا حطة:
قال الطبري: " والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب، وأشبه بظاهر الكتاب: أن يكون رفع"حطة" بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة، وهو دخولنا الباب سجدا حطة، فكفى من تكريره بهذا اللفظ، ما دل عليه الظاهر من التنزيل، وهو قوله:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} ، كما قال جل ثناؤه: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ
(1) التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 523.
(2)
الكشاف / الزمخشري، ج 1، ص 272.
(3)
التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 523.
عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} (1) يعني: موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم، فكذلك عندي تأويل قوله:{وَقُولُوا حِطَّةٌ} ، يعني بذلك: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: دخولنا ذلك سجدا حطة لذنوبنا (2).
قال القرطبي: " و {حِطَّةٌ} بالرفع قراءة الجمهور؛ على إضمار مبتدأ أي مسألتنا حطة "(3).
القول الراجح:
هو ما رجحه ابن عاشور والطبري، وذلك بناءً على القاعدة، وأما من فسرها بمعنى احطط عنا ذنوبنا تعارضه القراءة المتواترة قراءة الرفع.
قال القرطبي: " والأئمة من القراء على الرفع، وهو أولى في اللغة"(4).
وأما من فسرها بمعنى الإقامة أيضاً لا يستقيم.
قال الرازي: " وزيّف القاضي ذلك بأن قال: " لو كان المراد ذلك لم يكن غفران خطاياهم متعلقاً به ولكن قوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} يدل على أن غفران الخطايا كان لأجل قولهم حطة" (5).
(1) سورة الأعراف، الآية (164).
(2)
جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 346
(3)
الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 416.
(4)
الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 1، ص 416.
(5)
التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 523.
وكذلك ردّ الألوسي قول أبي مسلم بقوله: " ومن البعيد قول أبي مسلم: إن المعنى أمرنا -حطة- أي أن نحط في هذه القرية ونقيم بها لعدم ظهور تعلق الغفران به وترتب التبديل عليه "(1).
2 -
قراءة " أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم":
اختلف المفسرون في هذه الآية {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} إلى أي فريق ينصرف معناها، حتى قال عنها القرطبي: إنها أشكل آية في هذه السورة (3)، وذكر ابن عطية وجوها ثمانية في تأويلها ترجع إلى احتمالين، وقد ذكرها ابن عاشور في تفسيره فقال:
الاحتمال الأول: أنها تكملة لمحاورة الطائفةِ من أهل الكتاب بعضهم بعضاً، وأن جملة {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} معترضة في أثناء ذلك الحِوار، وعلى هذا الاحتمال تأتي وجوه نقتصر منها على وجهين واضحين:
أحدهما: أنهم أرادوا تعليل قولهم: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}
(1) روح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 266.
(2)
سورة آل عمران، الآية (72).
(3)
انظر الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 4، ص 120.
على أن سياق الكلام يقتضي إرادتهم استحالة نسخ شريعة التوراة، واستحالة بعثة رسول بعد موسى، وأنه يُقدّر لام تعليل محذوف قبل (أنْ) المصدرية وهو حذف شائع مثلُه. ثم إما أن يقدر حرف نفي بعد (أنْ) يدل عليه هذا السياق ويَقتضيه لفظ (أحد) المرادِ منه شمول كلّ أحد؛ لأنّ ذلك اللفظَ لا يستعمل مراداً منه الشمول إلاّ في سياق النفي، ومَا في معنيّ النفي مثلِ استفهام الإنكار، فأما إذا استعمل (أحَد) في الكلام الموجَب فإنه يكون بمعنى الوصف بالوحْدة، وليس ذلك بمناسب في هذه الآية.
فتقدير الكلام لأن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، وحذفُ حرف النفي بعد لام التعليل، ظاهرةً ومقدّرةً، كثيرٌ في الكلام، ومنه قوله تعالى:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} (1)، أي لئلاّ تضلوا.
والمعنى: أنّ قصدهم من هذا الكلام تثبيتُ أنفسهم على ملازمة دين اليهودية، لأن اليهود لا يجوِّزون نسخَ أحكام الله، ويتوهمون أنّ النسخ يقتضي البَدَاء.
الوجه الثاني: أنهم أرادوا إنكار أن يوتَى أحد النبوة كما أوتيها أنبياءُ بني إسرائيل فيكون الكلام استفهاماً إنكارياً حذفت منه أداة الاستفهام لدلالة السياق؛ ويؤيده قراءةُ ابن كثير قوله: (أأن يؤتى أحد) بهمزتين.
الاحتمال الثاني: أن تكون الجملة مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم بقيةً لقوله: «إنّ الهُدى هُدى الله» .
(1) سورة النساء، الآية (176).
والكلام على هذا ردّ على قولهم: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} (1)، وقولهم {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} (2) على طريقة اللفّ والنشر المعكوس (3).
ورجّح ابن عاشور أن المراد بقوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} أنها من قول أهل الكتاب واستدل على ذلك بقراءة ابن كثير، وهذا قوله: ": أنهم أرادوا إنكار أن يوتَى أحد النبوة كما أوتيها أنبياءُ بني إسرائيل فيكون الكلام استفهاماً إنكارياً حذفت منه أداة الاستفهام لدلالة السياق؛ ويؤيده قراءةُ ابن كثير قوله: (أأن يؤتى أحد) بهمزتين (4).
وممن وافق قوله قول ابن عاشور فيمن سبقه من المفسرين: الطبري، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي (5).
واحتمل ابن عطية، والرازي والقاسمي كلا الوجهين ولم يرجحوا (6).
(1) سورة آل عمران، الآية (72).
(2)
سورة آل عمران، الآية (73).
(3)
التحرير والتنوير، ج 3، ص 281 - 282.
(4)
التحرير والتنوير، ج 3، ص 281 - 282.
(5)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 368، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 4، ص 120، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 518، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 3، ص 88، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 351، وروح المعاني / الألوسي، ج 2، ص 193.
(6)
انظر المحرر الوجيز/ ابن عطية، ج 1، ص 455، والتفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 261، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 2، 382.
حجة من قال: إن الجملة من قول أهل الكتاب:
حجتهم في ذلك قراءة ابن كثير، وهي قراءة متواترة.
قال أبو حيان: " ويؤيد هذا المعنى قراءة ابن كثير (أن يؤتى) على الاستفهام الذي معناه الإنكار عليهم والتقرير والتوبيخ، والاستفهام الذي معناه الإنكار هو مثبت من حيث المعنى أي: المخافة أن أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قلتم ذلك وفعلتموه ويكون (أو يحاجوكم معطوفا على (يؤتى)(1).
كما استدلوا على ذلك بسياق الآية حيث يدل عليه.
قال الطبري فيما يرويه بسنده عن ابن جريج قوله: "إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم"، يقول: هذا الأمر الذي أنتم عليه: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قال: قال بعضهم لبعض: لا تخبروهم بما بيَّن الله لكم في كتابه، ليحاجُّوكم قال: ليخاصموكم به عند ربكم "قل إن الهدى هدى الله" معترض به، وسائر الكلام متَّسِقٌ على سياقٍ واحد. فيكون تأويله حينئذ: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم بمعنى: لا يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم "أو يحاجوكم عند ربكم"، بمعنى: أو أن يحاجوكم عند ربكم أحد بإيمانكم، لأنكم أكرمُ على الله منهم بما فضلكم به عليهم. فيكون الكلام كله خبرًا عن قول الطائفة التي قال الله عز وجل:{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} (2) سوى قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} ثم
(1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 518.
(2)
سورة آل عمران، الآية (72).
يكون الكلامُ مبتدأ بتكذيبهم في قولهم: قل يا محمد، للقائلين ما قالوا من الطائفة التي وصفتُ لك قولها لتُبَّاعها من اليهود {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} ، إن التوفيق توفيقُ الله والبيانَ بيانُه، "وإن الفضل بيده يؤتيه من يشاء" لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود.
وإنما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التي ذكرناها، لأنه أصحها معنًى، وأحسنُها استقامةً، على معنى كلام العرب، وأشدُّها اتساقًا على نظم الكلام وسياقه. وما عدا ذلك من القول، فانتزاع يبعُد من الصحة، على استكراه شديدٍ للكلام " (1).
حجة من قال: إن الجملة مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقولها بقية لقوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} :
ذكر الطبري حجتهم فقال: " وقال آخرون: تأويل ذلك: قل يا محمد: "إن الهدى هدى الله"، إنّ البيان بيانُ الله أن يؤتى أحدٌ، قالوا: ومعناه: لا يؤتى أحدٌ من الأمم مثل ما أوتيتم، كما قال:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} ، بمعنى: لا تضلون، وكقوله:{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} (2).
(1) جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 368، وانظر روح المعاني / الألوسي، ج 2، ص 193، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 382.
(2)
سورة الشعراء، الآية (200 - 201).
يعني: أن لا يؤمنوا "مثل ما أوتيتم"، يقول: مثل ما أوتيتَ، أنت يا محمد، وأمتك من الإسلام والهدى "أو يحاجوكم عند ربكم"، قالوا: ومعنى"أو": "إلا"، أيْ: إلا أن"يحاجوكم"، يعني: إلا أن يجادلوكم عند ربكم عند ما فَعل بهم ربُّكم " (1).
قال الفراء: " يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} ثم قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} أي: أن البيان الحق بيان الله أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم على تقدير لا كقوله تعالى {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أي لئلا تضلوا "(2).
القول الراجح:
هو القول الذي ذهب إليه ابن عاشور وهو أن هذا القول من قول أهل الكتاب ، بناءً على القاعدة، ولكن هذا القول يرد عليه قوله في الآية نفسها:{قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} كيف وقعت بين جزأي كلام واحد؟ ؟
وقد أجاب الرازي عن هذا الإشكال فيما نقله عن القفال (3) حيث
(1) جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 366.
(2)
فتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 351.
(3)
هو أبو بكر محمد بن على بن إسماعيل القفال الشاشى، نسبة إلى شاش بلدة مشهور من بلاد ما وراء النهر، ينسب إليه خلق كثير من العلماء والفقهاء ورواة الحديث، ، درس على أبى العباس أحمد بن شريح وله تصانيف، وهو أول من صنف في الجدل الحسن من الفقهاء، وعنه انتشر فقه الشافعى فيما وراء النهر ، مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. (انظر مغاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار/ العيني، ج 3، ص 1250، وطبقات الشافعية الكبرى / السبكي، ج 3، ص 200).
يقول: " قال القفال: يحتمل أن يكون قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} كلام أمر الله نبيه أن يقوله عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً لا جرم أدب رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقابله بقول حق، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولاً فيه كفر، فيقول: عند بلوغه إلى تلك الكلمة آمنت بالله، أو يقول لا إله إلا الله، أو يقول تعالى الله ثم يعود إلى تمام الحكاية فيكون قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} من هذا الباب، ثم أتى بعده بتمام قول اليهود إلى قوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمحاجتهم في هذا وتنبيههم على بطلان قولهم، فقيل له: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} إلى آخر الآية"(1)
ويقوي هذا القول القاعدة الترجيحية) القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره) وسياق الآية وما قبلها يدل على أنه من قول أهل الكتاب.
وفي ذلك يقول الألوسي: " وأرجح الوجه الثاني لتأيده بقراءة ابن كثير، وأنه أفيد من الأول وأقل تكلفا من باقي الأوجه، وأقرب إلى المساق "(2).
(1) التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 261.
(2)
روح المعاني / الألوسي، ج 2، ص 193.
3 -
قراءة " قبل موته":
قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (1).
اختلف المفسرون في لمن يعود الضمير في قوله تعالى: {قَبْلَ مَوْتِهِ} على قولين:
أحدها: المقصود به عيسى ، أي: إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته، إذا نزل من السماء، وهذا قول ابن عباس، وأبي مالك وقتادة، وابن زيد.
والثاني: إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت الكتابي عند المعاينة، فيؤمن بما أنزل الله من الحق وبالمسيح عيسى ابن مريم، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والضحاك، وابن سيرين، وجويبر (2).
ورجّح ابن عاشور أن المراد به الكتابي بناءً على القاعدة فقال: " والضمير في (موته) يحتمل أن يعود إلى أحد أهل الكتاب، أي قبل أن يموت الكتابيّ، ويؤيّده قراءة أبَي بن كعب (إلا ليؤمنن به قبل موتهم). وأهل الكتاب يطلق على اليهود والنّصارى؛ فأمّا النصارى فهم مؤمنون بعيسى من قبل، فيتعيّن أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود. والمعنى أنّ اليهود مع شدّة كفرهم بعيسى لا يموت أحد منهم إلاّ وهو يؤمن بنبوّته قبل موته، أي ينكشف له ذلك عند الاحْتضار قبل
(1) سورة النساء، الآية (159).
(2)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 6، ص 25 - 28،
انزهاق روحه، وهذه منّة مَنّ الله بها على عيسى، إذ جعل أعداءه لا يخرجون من الدنيا إلاّ وقد آمنوا به جزاء له على ما لقي من تكذيبهم، لأنّه لم يتمتّع بمشاهدة أمّةٍ تتبعه. وقيل: كذلك النصرانيّ عند موته ينكشف له أنّ عيسى عبد الله " (1).
وسبق ابن عاشور إلى هذا الترجيح ابن عطية، والرازي، والألوسي (2).
في حين رجّح الطبري، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والقاسمي والشنقيطي أن المراد بالضمير في موته عيسى عليه السلام (3).
واستظهر القرطبي كلا القولين ولكنه ساق بعد ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه قوله:
" قبل موت عيسى؛ يعيدها ثلاثاً، فكأنه مال إلى القول الثاني (4).
وكذلك رجّح ابن كثير القول الثاني، ولكنه ذكر أن من فسر هذه الآية بأن المعنى كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد، عليهما الصلاة والسلام فهذا هو الواقع، وذلك أن كل أحد عند احتضاره يَتَجَلي له ما كان جاهلا به، فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له، إذا كان قد شاهد الملك، كما قال تعالى في أول هذه السورة: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
(1) التحرير والتنوير، ج 4، ص 24.
(2)
انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 134، والتفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 263، وروح المعاني / الألوسي، ج 3، ص 188،
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 6، ص 28، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 408، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 4، ص 534، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 535، ومحاسن التأويل/ القاسمي، ج 3، ص 442.
(4)
انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 6، ص 15.
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} (1)(2).
حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن المراد بالضمير في "موته" الكتابي أي اليهودي أو النصراني:
حجتهم في ذلك قراءة أبي بن كعب كما ذكر ابن عاشور.
قال ابن عطية: " وفي مصحف أبي بن كعب " قبل موتهم" ففي هذه القراءة تقوية لعود الضمير على الكتابي "(3).
وقال الرازي مرجحا هذا القول: " واعلم أن كلمة (إن) بمعنى (ما) النافية كقوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} (4) التقدير: وما أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به. ثم إنا نرى أكثر اليهود يموتون ولا يؤمنون بعيسى عليه السلام.
والجواب: فيما روي عن شهر بن حوشب (5) قال: قال الحجاج إني ما
(1) سورة النساء، الآية (18).
(2)
انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 4، ص 345.
(3)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 134.
(4)
سورة مريم، الآية (71).
(5)
شهر بن حوشب الأشعري الشامي ، أبو سعيد، ويقال: أبو الجعد الشامى الحمصى، مولى أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية، روى عن بلال المؤذن، وتميم الدارى، وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجابر بن عبد الله الأنصارى، وغيرهم روى عنه أبان بن صالح، وأبان بن جمعة، وإبراهيم بن حنان الأزدى، وثابت البنانى، وحجاج الأسود، وغيرهم. توفي سنة (112)، وكان ضعيفاً في الحديث. (انظر لسان الميزان / ابن حجر، ج 7، ص 244، وطبقات الفقهاء / الشيرازي، ج 1، ص 74، والطبقات الكبرى / ابن سعد، ج 7، ص 449).
قرأتها إلا وفي نفسي منها شيء، يعني هذه الآية فإني أضرب عنق اليهودي ولا أسمع منه ذلك. فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره، وقالوا يا عدو الله أتاك عيسى نبيّاً فكذبت به، فيقول آمنت أنه عبد الله، وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبياً فزعمت أنه هو الله وابن الله، فيقول: آمنت أنه عبد الله فأهل الكتاب يؤمنون به، ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان، فاستوى الحجاج جالساً وقال: عمن نقلت هذا؟ فقلت: حدّثني به محمد بن علي بن الحنفية فأخذ ينكت في الأرض بقضيب ثم قال: لقد أخذتها من عين صافية.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه فسّره كذلك ، فقال له عكرمة: فإن خر من سقف بيت أو احترق أو أكله سبع قال: يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به، ويدل عليه قراءة أُبي (إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِم) بضم النون على معنى وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم لأن أحداً يصلح للجمع، قال صاحب «الكشاف»: والفائدة في أخبار الله تعالى بإيمانهم بعيسى قبل موتهم أنهم متى علموا أنه لا بدّ من الإيمان به لا محالة فلأن يؤمنوا به حال ما ينفعهم ذلك الإيمان أولى من أن يؤمنوا به حال ما لا ينفعهم ذلك الإيمان" (1).
(1) التفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 263.
حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن المراد بالضمير في " موته" عيسى عليه السلام:
حجتهم في ذلك:
قال الطبري: " وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال، لأن الله جل ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم بحكم أهل الإيمان، في الموارثة والصلاة عليه، وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة. فلو كان كل كتابيّ يؤمن بعيسى قبل موته، لوجب أن لا يرث الكتابيّ إذا مات على مِلّته إلا أولاده الصغار، أو البالغون منهم من أهل الإسلام، إن كان له ولد صغير أو بالغ مسلم. وإن لم يكن له ولد صغير ولا بالغٌ مسلم، كان ميراثه مصروفًا حيث يصرف مال المسلم يموت ولا وارث له، وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغَسْله وتقبيره. لأن من مات مؤمنًا بعيسى، فقد مات مؤمنًا بمحمد وبجميع الرسل. وذلك أن عيسى صلوات الله عليه، جاء بتصديق محمد وجميع المرسلين صلوات الله عليهم، فالمصدّق بعيسى والمؤمن به، مصدق بمحمد وبجميع أنبياء الله ورسله. كما أن المؤمن بمحمد، مؤمن بعيسى وبجميع أنبياء الله ورسله. فغير جائز أن يكون مؤمنًا بعيسى من كان بمحمد مكذِّبًا "(1).
وقال أبو حيان مرجحاً هذا القول أيضاً ومبيناً فساد قول الزجاج: " وهو غلط فاحش إذ زعم أنّ ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف إلى آخره، وصفة أحد المحذوف إنما هو الجار والمجرور وهو من أهل الكتاب،
(1) جامع البيان / الطبري، ج 6، ص 28.
والتقدير كما ذكرناه: وإن أحد من أهل الكتاب. وأما قوله: ليؤمنن به، فليست صفة لموصوف، ولا هي جملة قسمية كما زعم، إنما هي جملة جواب القسم، والقسم محذوف، والقسم وجوابه في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو أحد المحذوف، إذ لا ينتظم من أحد. والمجرور إسناد لأنه لا يفيد، وإنما ينتظم الإسناد بالجملة القسمية وجوابها، فذلك هو محط الفائدة وكذلك أيضاً الخبر هو إلا له مقام، وكذلك إلا واردها، إذ لا ينتظم مما قبل إلا تركيب إسنادي. والظاهر أن الضميرين في: به، وموته، عائدان أنّ على عيسى وهو سياق الكلام، والمعنى: من أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله " (1).
القول الراجح:
هو ما رجحه الطبري وهو: أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلا آمن به قبل موته أي قبل موت عيسى عليه السلام.
قال ابن كثير: " ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح؛ لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شبه لهم فقتلوا الشبيه وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باق حي، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية -يعني: لا يقبلها
(1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 408.
من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف-فأخبرت هذه الآية الكريمة أن يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم؛ ولهذا قال:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: قبل موت عيسى، الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب " (1).
أما ترجيح ابن عاشور واستناده إلى قراءة أبي (إلا ليؤمنن به قبل موتهم) بضم النون وإلحاق ميم الجميع فلا أراه قد وافق الصواب فيها ، لاسيما وقراءة أبي هذه ليست قراءة سبعية، أضف إلى أن هناك أكثر من قاعدة تفيد ترجيح هذا القول، منها:(القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره)، وسياق الآيات قبل هذه الآية تتحدث عن عيسى عليه السلام.
قال الشنقيطي: " فالجواب أن يكون الضمير راجعاً إلى عيسى، يجب المصير إليه، دون القول الآخر، لأنه أرجح منه من أربعة أوجه:
الأول: أنه هو ظاهر القرآن المتبادر منه، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض. والقول الآخر بخلاف ذلك. وإيضاح هذا أن الله تعالى قال: : {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ} (2).
ثم قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ} أي عيسى {وَمَا صَلَبُوهُ} أي عيسى
(1) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 4، ص 345.
(2)
سورة النساء، الآية (157).
{وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} أي عيسى {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي عيسى {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} أي عيسى {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} (1) أي عيسى، {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (2) أي عيسى {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (3) أي عيسى {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أي عيسى {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أي عيسى {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (4) أي يكون هو، أي عيسى عليهم شهيداً.
فهذا السياق القرآني الذي ترى، ظاهر ظهوراً لا ينبغي العدول عنه، في أن الضمير في قوله قبل موته، راجع إلى عيسى.
الوجه الثاني: من مرجحات هذا القول، أنه على هذا القول الصحيح، فمفسر الضمير، ملفوظ مصرح به، في قوله تعالى:{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ} (5).
وأما على القول الآخر فمفسر الضمير ليس مذكوراً في الآية أصلاً، بل هو مقدر تقديره: ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته، أي موت أحد
(1) سورة النساء، الآية (157).
(2)
سورة النساء، الآية (157).
(3)
سورة النساء، الآية (158).
(4)
سورة النساء، الآية (159).
(5)
سورة النساء، الآية (157).
أهل الكتاب المقدر. ومما لا شك فيه، أن ما لا يحتاج إلى تقدير، أرجح وأولى، مما يحتاج إلى تقدير (1).
ومما يؤيد هذا القول قاعدة أخرى قوية أيضاً وهي: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له).
قال الشنقيطي: " من مرجحات هذا القول الصحيح، أنه تشهد له السنة النبوية المتواترة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد تواترت عنه الأحاديث بأن عيسى حي الآن، وأنه سينزل في آخر الزمان حكماً مقسطاً. ولا ينكر تواتر السنة بذلك إلا مكابر "(2).
قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر هذا القول الصحيح ونسبه إلى جماعة من المفسرين ما نصه: "وهذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى"(3).
وقوله بالدليل القاطع يعني السنة المتواترة، لأنها قطعية وهو صادق في ذلك.
منها: مارواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ،حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها ثم يقول أبو هريرة واقرؤوا إن شئتم:
(1) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1535.
(2)
أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1535.
(3)
تفسير القرآن العظيم / ابن كثير ، ج 4 ، ص 342.
4 -
قراءة " أنجيناكم ":
اختلف المفسرون في هذه الآية من قول من؟ .
فذهب بعضهم إلى أنها من قول الله عز وجل، وذهب آخرون إلى أنها من تتمة قول موسى عليه السلام (3)، ورجّح ابن عاشور أن الآية من كلام موسى بناءً على قاعدة المبحث، وإن كان يُجوِّز القول الآخر، وهذا قوله في الآية: " - هو - من تتمة كلام موسى عليه السلام كما يقتضيه السياق، ويجوز أن يكون هذا امْتناناً من الله اعترضه بين القصة وعدَةِ موسى عليه السلام انتقالاً من الخبر والعبرة إلى النعمة والمنة، فيكون الضمير ضَمير تعظيم، وقرأ الجمهور:(أنجيناكم) بنون المتكلم المشارك، وقرأه ابن عامر:(وإذ أنجاكم)
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام، ج 3، ص 1272، ح- 3264.
(2)
سورة الأعراف، الآية (141).
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 9، ص 58، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 448.
على إعادة الضمير إلى الله في قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا} (1)، وكذلك هو مرسوم في مصحف الشام فيكون من كلام موسى وبمجموع القراءتين يحصُل المعنيان " (2).
وممن وافق ابن عاشور في كون هذه الآية من تتمة كلام موسى الشوكاني، والألوسي (3)
ورجّح الطبري، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والقاسمي، والشنقيطي: أن الآية من من كلام الله تعالى في بيان النعم التي امتن بها عليهم (4).
حجة القائلين: إن الآية من كلام الله تعالى:
قال الطبري: " يقول تعالى ذكره لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم: واذكروا مع قيلكم هذا الذي قلتموه لموسى بعد رؤيتكم من الآيات والعبر، وبعد النعم التي سلفت مني إليكم، والأيادي التي تقدمت فعلكم ما فعلتم إذ أنجيناكم من آل فرعون، وهم الذين كانوا على
(1) سورة الأعراف، الآية (140).
(2)
التحرير والتنوير، ج 5، ص 84 - 85.
(3)
انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 241، وروح المعاني / الألوسي، ج 5، ص 41. .
(4)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 9، ص 58، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 448، والتفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 351، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 262، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 350، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 6، ص 381، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 335، وأضواء البيان / الشنقيطي ، ص 804.
منهاجه وطريقته في الكفر بالله من قومه يسومونكم سوء العذاب)، يقول: إذ يحملونكم أقبح العذاب وسيئه " (1).
ويقول ابن عطية: " ثم عدد _ الله _ عليهم في هذه الآية النعم التي يجب من أجلها أن لا يكفروا به ولا يرغبوا عبادة غيره "(2).
كما ذكر أبو حيان في تفسيره أن هذا الفعل الذي هو الإنجاء من عدوهم هو من أعظم النعم، فناسب الأعظم نسبته للمعظم نفسه (3).
وللشعراوي تعليل في ترجيح هذا القول حيث يقول: " لقد جاء "بالواو " هنا للعطف. لأن المتكلم هنا مختلف، فقد يكون المتكلم الله، وسبحانه يمتن بقمة النعم"(4).
حجة القائلين: إن الآية من كلام موسى عليه السلام:
حجتهم في ذلك قراءة ابن عامر، قال ابن عاشور: " ويعضده قراءة ابن عامر: (واذ أنجاكم)(5) والمعنى: أأبتغي لكم إلهاً غير الله في حال أنه فضلكم على العالمين، وفي زمان أنجاكم فيه من آل فرعون بواسطتي، فابتغاء إله غيره كفران لنعمته، فضمير المتكلم المشارَك يعود إلى الله وموسى، ومعاده يدل عليه
(1) جامع البيان / الطبري، ج 9، ص 58.
(2)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 448.
(3)
انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 350.
(4)
تفسير الشعراوي، ج 7، ص 4334.
(5)
انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 293، والتيسير / الداني، ص 113.
قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا} " (1).
قال الألوسي: " وقرأ ابن عامر (أَنجَاكُم) فيكون من مقول موسى عليه السلام "(2).
القول الراجح:
هو ما اختاره ابن عاشور للقاعدة الترجيحية موضع البحث.
ويعضد هذا القول قاعدة أخرى وهي: (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره)
وهذه القاعدة رجّح بها ابن عاشور في هذه الآية كما تقدّم حيث يقول في الآية: " من تتمة كلام موسى عليه السلام كما يقتضيه السياق "(3) قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
(1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 85.
(2)
روح المعاني / الألوسي، ج 5، ص 41.
(3)
التحرير والتنوير، ج 5، ص 85.
نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (1).
كما يعضد هذا القول أيضا قاعدة أخرى وهي: (القول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره) وقد جاء في سورة إبراهيم ما يدل على أن ذلك من كلام موسى مبينا لقومه ما امتن الله به عليهم من النعم.
5 -
قراءة "ويجعل لك ":
قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} (3).
اختلف المفسرون في المراد بالجنات والقصور في هذه الآية هل المقصود بها في الدنيا أو الآخرة؟ .
وذكر هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره، وهذا ملخص قوله: " يجوز أن يكون المراد بالجنات والقصور جناتٍ في الدنيا وقصوراً فيها، أي خيراً من الذي اقترحوه دليلاً على صدقك في زعمهم بأن تكون عدة جنات وفيها قصور.
(1) سورة الأعراف، الآية (138 - 141).
(2)
سورة إبراهيم، الآية (6).
(3)
سورة الفرقان، الآية (10).
وبهذا فسر جمهور المفسرين. وعلى هذا التأويل تكون (إن) الشرطية واقعة موقع (لو)، أي أنه لم يشأ ولو شاءه لفعله ولكن الحكمة اقتضت عدم البسط للرسول في هذه الدنيا ولكن المشركين لا يدركون المطالب العالية.
ويحتمل أن يكون المراد بالجنات والقصور ليست التي في الدنيا، أي هي جنات الخلد وقصور الجنة فيكون وعداً من الله لرسوله.
واقتران هذا الوعد بشرط المشيئة جار على ما تقتضيه العظمة الإلهية وإلا فسياق الوعد يقتضي الجزم بحصوله، فالله شاء ذلك لا محالة، بأن يقال: تبارك الذي جعل لك خيراً من ذلك. فموقع) إن شاء (اعتراض " (1).
ورجّح ابن عاشور أن المراد بها في الآخرة، مستدلاً على ذلك بالقراءة ضمن قاعدة المبحث، حيث يقول:" وأصل المعنى: تبارك الذي جعل لك خيراً من ذلك جنات إلى آخره. ويساعد هذا قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم) ويجعلُ لك قصوراً (برفع) يجعلُ (على الاستئناف دون إعمال حرف الشرط، وقراءة الأكثر بالجزم عطفاً على فعل الشرط وفعل الشرط محقق الحصول بالقرينة "(2).
وممن وافق قوله قول ابن عاشور فيمن سبقه من المفسرين: الطبري، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، والشنقيطي (3).
(1) التحرير والتنوير، ج 9، ص 331.
(2)
التحرير والتنوير، ج 9، ص 331.
(3)
انظر جامع البيان / الطبري، ج 18، ص 220، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 201، والتفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 436، والجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 13، ص 10، 201، وأضواء البيان / الشنقيطي، ج 1308.
في حين يرى أبو حيان، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي أن المراد بها في الدنيا وهو قول مجاهد (1).
وذكر ابن كثير كلا القولين ولم يرجح (2).
حجة القائلين: إن المراد بالجنات والقصور في الدنيا:
استدلوا على ذلك بقراءة الجزم، وهي قراءة أبي عمرو، ونافع، وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم (3).
قال الألوسي عن هذا القول: " هو أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم "(4).
وقال الصابوني: "
{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} أي تمجّد وتعظم الله الكبير الجليل الذي لو أراد لجعل لك خيراً من ذلك الذي ذكروه من نعيم الدنيا {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي لو شاء لأعطاك بساتين وحدائق تسير فيها الأنهار لا جنة واحدة كما قالوا {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} أي ويجعل لك مع الحدائق القصور الرفيعة المشيدة كما هو حال الملوك " (5).
(1) انظر تفسير مجاهد، ص 496، جامع البيان / الطبري، ج 18، ص 220، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 6، ص، 444، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 63، وروح المعاني / الألوسي، ج 9، ص 429، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 436.
(2)
انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 10، ص 288.
(3)
انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 462 ، ومتن الشاطبية / الشاطبي ، ص 136.
(4)
روح المعاني / الألوسي، ج 9، ص 429.
(5)
صفوة التفاسير / الصابوني، ج 2، ص 340.
حجة من قال: إن المراد بالجنات والقصور في الآخرة:
استدلوا على ذلك بقراءة الرفع "ويجعلُ لك" أي سيجعل لك في الآخرة قصوراً (1).وهي قراءة ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم (2).
كما استدلوا بما رواه سفيان عن حبيب عن خيثمة قال: قيل: للنبي صلى الله عليه وسلم إن شئت أعطيناك مفاتح الأرض وخزائنها لا ينقصك ذلك عندنا شيئا في الآخرة، وإن شئت جمعتها لك في الآخرة. قال: لا بل اجمعها لي في الآخرة فنزلت: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} (3).
القول الراجح:
هو ما رجحه ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين بناءً على القاعدة،
قال الطبري: " والقول الذي ذكرناه عن مجاهد في ذلك أشبه بتأويل الآية، لأن المشركين إنما استعظموا أن لا تكون له جنة يأكل منها، وأن لا يلقى إليه كنز واستنكروا أن يمشي في الأسواق، وهو لله رسول، فالذي هو أولى بوعد الله إياه أن يكون وعدا بما هو خير مما كان عند المشركين عظيما، لا مما كان منكرا
(1) انظر إعراب القرآن / النحاس، ج 3، ص 153.
(2)
انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 462.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الفضائل، باب ما أعطى الله محمدا، ج 6، ص 327، ح- 31800.
عندهم، وعني بقوله:(جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) بساتين تجري في أصول أشجارها الأنهار " (1).
ومما يرجح هذا القول ويعضده قاعدة أخرى وهي (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره) وفي السياق قرينة تؤكد هذا المعنى.
وقد أشار إليها ابن عاشور في تفسيره ،فقال:" وهذا المحمل أشد تبكيتاً للمشركين وقطعاً لمجادلتهم، وقرينة ذلك قوله بعده: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} (2) ، وهو ضد ومقابل لما أعده لرسوله والمؤمنين "(3).
وكذلك أكد ذلك ابن عطية من قبله حيث يقول: " هذا التأويل الثاني يوهم أن الجنات
والقصور التي في هذه الآية هي في الدنيا وهذا تأويل الثعلبي وغيره، ويرد ذلك قوله تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} " (4).
كما يعضد هذا الترجيح قاعدة أخرى وهي: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له) وقد ثبت في الحديث ما يدل عليه، وقد تقدم.
(1) جامع البيان / الطبري، ج 18، ص 220.
(2)
سورة الفرقان، الآية (11).
(3)
التحرير والتنوير، ج 9، ص 331.
(4)
المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 201.