الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التلبية
هي مصدر لبَّى، أي قال: لبيك، ولا يكون عامله إلا مضمرًا. أ. هـ.
الحديث الرابع والثلاثون
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ.
قوله: "لبيك" هو لفظ مثنى عند سيبويه ومن تبعه إلى آخر ما مرّ معناه في باب من خصّ بالعلم قومًا دون قوم من كتاب العلم، وقال ابن عبد البر: قال جماعة من أهل العلم: معنى التلبية إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام حين أذَّن في الناس بالحج، وهذا خرّجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم بأسانيدهم في تفاسيرهم، عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وغير واحد، والأسانيد إليهم قوية، وأقوى ما فيه عن ابن عباس ما أخرجه أحمد بن منيع في مسنده، وابن أبي حاتم عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له: أذِّن في الناس بالحج، قال: ربِّ وما يبلغ صوتي، قال: أذِّن وعليَّ البلاغ، قال: فنادى إبراهيم: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيتِ العتيقِ، فسمعه مَن بين السماء والأرض، ألا ترون أن الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون. وعن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وفيه: فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وأول من أجابه أهل اليمن، فليس حاج يحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ، قال ابن المنير: في مشروعية التلبية تنبيه على إكرام الله تعالى لعباده بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه تعالى.
وقوله: "إن الحمد" روي بكسر الهمزة على الاستئناف وبفتحها على التعليل والكسر أجود لأن من كسر جعل معناه إن الحمد لك على كل حال، ومن فتح قال: معناه قال لبيك لهذا السبب، وقال الخطابي. لهج العامة بالفتح، وحكاه الزمخشري عن الشافعي، وقال ابن عبد البر: المعنى عندي واحد، لأن من فتح أراد لبيك لأن الحمد لك على كل حال، وتعقب
بأن التقييد ليس في الحمد، وإنما هو في التلبية، قال ابن دقيق العيد: الكسر أجود لأنه يقتضي أن تكون الإِجابة مطلقة غير معللة، وأن الحمد والنعمة لله على كل حال، والفتح يدل على التعليل، فكأنه يقول: أجبتك لهذا السبب، والأول أعم، فهو أكثر فائدة، ولما حكى الرافعي الوجهين من غير ترجيح، رجَّح النووي الكسر، وهذا خلاف ما نقله الزمخشري أن الشافعي اختار الفتح، وأن أبا حنيفة اختار الكسر.
وقوله: "والنعمة لك" المشهور فيه النصب، قال عياض: ويجوز الرفع على الابتداء، ويكون الخبر محذوفًا، والتقدير: أن الحمد لك والنعمة مستقرة لك، وقال ابن المنير: قرن الحمد والنعمة وأفرد الملك لأن الحمد متعلق النعمة، ولهذا يقال: الحمد لله على نِعَمِه، فجمع بينهما كأنه قال: لا حمد إلا لك؛ لأنه لا نعمة إلا لك، وأما الملك فهو معنى مستقل بنفسه ذكر لتحقيق أن النعمة كلها لله لأنه صاحب الملك.
وقوله: "والملك" بالنصب أيضًا على المشهور، ويجوز الرفع، وتقديره: والملك كذلك، وعند مسلم عن ابن عمر: كان النبي-صلى الله عليه وسلم إذا استوت به راحلته عند مسجد ذي الحليفة أهلَّ فقال: لبَّيك، الحديث. وللمصنف في اللباس عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلّ ملبّدًا، بقوله:"لبيك اللهم لبَّيك"، الحديث، وقال في آخره: لا يزيد على هذه الكلمات، زاد مسلم: قال ابن عمر: كان عمر يهلّ بهذا ويزيد: لبيك اللهم لبيك وسعديك والخير في يديك، والرغباء إليك، والعمل. وهذا القدر في رواية مالك عن ابن عمر أنه كان يزيد فيها، فذكر نحوه فعلم أن ابن عمر اقتدى بأبيه في ذلك، وأخرج ابن أبي شيبة عن المسور بن مخرمة، قال: كانت تلبية عمر، فذكر مثل المرفوع، وزاد: لبيك مرغوبًا ومرهوبًا إليك، ذا النعماء والفضل الحسن.
واستدل به على استحباب الزيادة على ما روي عن النبي-صلى الله عليه وسلم في ذلك، قال الطحاوي بعد أن أخرجه عن ابن عمر وابن مسعود وجابر وعائشة وعمرو بن معدي كرب: أجمع المسلمون جميعًا على هذه التلبية، غير أن قومًا قالوا: لا بأس أن يزيد فيها من الذكر ما أحب بلا استحباب ولا كراهة، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، لكن حكى ابن عبد البر عن مالك الكراهة، قال: وهو أحد قولي الشافعي، وحكى البيهقي الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي، فقال: الاقتصار على المرفوع أحب، ولا ضيق أن يزيد عليها، قال: وقال أبو حنيفة: وإن زاد فحسن، وحكى في المعرفة عن الشافعي، قال: ولا ضيق على أحد في قول ما جاء عن ابن عمر وغيره من تعظيم الله ودعائه، غير أن الاختيار عندي أن يفرد ما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا، وإذا اختار قول ما جاء موقوفًا أو أنشأه هو من نفسه مما يليق، قاله على انفراده حتى لا يختلط بالمرفوع، وهذا أعدل الوجوه، وهو شبيه بحال الدعاء في التشهد، فإنه قال فيه: ثم ليختر من المسألة والثناء ما شاء بعد أن يفرغ من المرفوع.
واستدل المجوزون للزيادة بما أخرجه النسائي، وصححه ابن حبان والحاكم عن أبي هريرة، قال: كان من تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لبيك إله الخلق لبيك"، وبزيادة ابن عمر المذكورة، وبما أخرجه أبو داود وابن ماجه عن جابر، قال: أهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر التلبية، قال: والناس يزيدون: ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع، فلم يقل لهم شيئًا، وروى سعيد بن منصور عن الأسود بن يزيد أنه كان يقول:"لبيك غفار الذنوب"، وفي "تاريخ مكة" للأزرقي بسند معضل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقد مرَّ بفج الروحاء سبعون نبيًا تلبيتهم شتى منهم يونس بن متى، وكان يقول: لبيك فرَّاج الكرب، لبَّيك، وكان موسى يقول: لبَّيك أنا عبدك لديك لبيك، قال: وتلبية عيسى: أنا عبدك وابن أمتك بنت عبديك".
وقال قوم: لا ينبغي أن يزاد على ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم الناس كما في حديث عمرو بن معدي كرب، ثم فعله هو، ولم يقل لبُّوا بما شئتم مما هو من جنس هذا، بل علَّمهم كما علَّمهم التكبير في الصلاة، فكذلك لا ينبغي أن يتعدى في ذلك شيئًا مما علمه، وأخرج الطحاوي عن سعد بن أبي وقاص أنه سمع رجلًا يقول: لبيك ذا المعارج، فقال: إنه لذو المعارج، وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا سعد قد كره الزيادة في التلبية، قال الطحاوي: وبه نأخذ، وهذا يدل على أن الاقتصار على التلبية المرفوعة أفضل لمداومته هو صلى الله عليه وسلم عليها، وأنه لا بأس بالزيادة لكونه لم يردّها عليهم، وأقرّهم عليها، وهو قول الجمهور كما مرّ.
واستحب الشافعية أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من التلبية، ويسأل الله رضاه والجنة، ويتعوذ به من النار، واستأنسوا لذلك بما رواه الشافعي والدارقطني والبيهقي عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله تعالى رضوانه والجنة، واستعفاه برحمته من النار.
وقوله: "وسعديك" في الحديث هو من باب لبيك، فيأتي فيه ما سبق من التثنية والإفراد، ومعناه: أسعِدني إسعادًا بعد إسعاد، فالمصدر فيه مضاف للفاعل، وإن كان الأصل في معناه أسعدك بالإجابة إسعادًا بعد إسعاد على أن المصدر فيه مضاف للمفعول لاستحالة ذلك هنا، وقيل: المعنى مساعدة على طاعتك بعد مساعدة، فيكون من المضاف للمنصوب، وقد وقع