الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ذات عرق لأهل العراق
وعِرق: بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف، سُمِّي بذلك لأن فيه عرقًا وهو الجبل الصغير، وهي أرض سبخة تنبت الطرفاء، بينها وبين مكة مرحلتان، والمسافة اثنان وأربعون ميلًا، وهو الحد الفاصل بين نجد وتهامة، وهي أول بلاد تهامة، ودونها بميلين ونصف مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي لبني هلال بن عامر بن صعصعة، وبها بركة تعرف بقصر الوصيف، وبها من الآبار الكبار ثلاثة آبار، ومن الصغار كثير، وبقربه قبر أبي رغال، وبالقرب منها بستان منه إلى مكة ثمانية عشر ميلًا. أ. هـ.
الحديث الثامن عشر
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ، أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا. قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ.
كذا للأكثر "فُتح" بضم الفاء على البناء لما لم يسم فاعله، وفي رواية الكشميهني: لما فتح هذين المصرين، بفتح الفاء والتاء على حذف الفاعل، والتقدير: لما فتح الله، وكذا ثبت لأبي نعيم في "المستخرج" وبه جزم عياض، وأما ابن مالك، فقال: تنازع "فتح"، و"أتوا" وهو على إعمال الثاني، وإسناد الأول إلى ضمير عمر، وعند الإِسماعيلي: عن عبيد الله مختصرًا، وزاد في الإِسناد عن عمر أنه حدَّ لأهل العراق ذات عرق، والمصران: تثنية مصر، والمراد بهما البصرة والكوفة، وهما سرّتا العراق، والمراد بفتحهما غلبة المسلمين على مكان أرضهما، وإلا فهما من تمصير المسلمين، بُنيتا في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
وقوله: "جَوْر" بفتح الجيم وسكون الواو بعدها راء، أي: مَيْل، والجور: الميْل عن القصد، ومنه قوله تعالى:{وَمِنْهَا جَائِرٌ} .
وقوله: "فانظروا حذوها"، أي: اعتبروا ما يقابل الميقات من الأرض التي تسلكونها من غير ميل، فاجعلوه ميقاتًا.
وقوله: "فحدَّ لهم ذات عرق"، ظاهره أن عمر حدَّ لهم ذات عرق باجتهاد منه، وقد روى الشافعي عن أبي الشعثاء، قال: لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق شيئًا، فاتخذ الناس بحيال قرن ذات عرق، وروى أحمد عن ابن عمر حديث المواقيت، وزاد: قال ابن عمر: فآثر الناس ذات عرق على قرن. وله عن سفيان، عن صدقة، عن ابن عمر، فذكر حديث المواقيت، قال: فقال له قائل: فأين العراق؟ فقال ابن عمر: لم يكن يومئذ عراق، وسيأتي في الاعتصام عنه: لم يكن يومئذ عراق، وفي "غرائب مالك": للدارقطني عن عبد الرزاق، عن مالك، عن ابن عمر، قال: وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل العراق قرنًا، قال عبد الرزاق: قال لي بعضهم: إن مالكًا محاه من كتابه، وقال الدارقطني: تفرد به عبد الرزاق، قال في "الفتح": والإِسناد إليه ثقات، أثبات، وأخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده" عنه، وهو غريب جدًا، وحديث الباب يرده، وروى الشافعي عن طاووس، قال: لم يوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عرق، ولم يكن حينئذ أهل المشرق، وقال في "الأم": لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حدَّ ذات عرق، وإنما أجمع عليه الناس.
وهذا كله يدل على أن ميقات ذات عرق ليس منصوصًا، وبه قطع الغزالي والرافعي في "شرح المسند"، والنووي في "شرح مسلم"، وكذا وقع في "المدونة" لمالك، وصحح الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية والرافعي في "الشرح الصغير"، والنووي في "شرح المهذب" أنه منصوص، ووقع ذلك في حديث جابر عند مسلم، إلا أنه مشكوك في رفعه، وأخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" كذلك، وأخرجه أحمد وابن ماجه، ولم يشكّا في رفعه، ووقع في حديث عائشة والحارث بن عمرو السهمي عند أحمد وأبي داود والنسائي. وهذا يدل على أن للحديث أصلًا، فلعلَّ من قال إنه غير منصوص لم يبلغه، أو رأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق لا يخلو عن مقال، ولهذا قال ابن خزيمة: رويت في ذات عراق أخبار لا يثبت شيء منها عند أهل الحديث، وقال ابن المنذر: لم نجد في ذات عرق حديثًا ثابتًا، لكن الحديث بمجموع الطرق يقوى، وأما إعلال من أعلَّه بأن العراق لم تكن فتحت حينئذ، فقال ابن عبد البر: هو غفلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح، لكن علم أنها ستفتح، فلا فرق في ذلك بين الشام والعراق. أ. هـ.
وبهذا أجاب الماوردي وآخرون، ولكن يظهر أن مراد من قال: لم يكن العراق يومئذ،
أي: لم يكن في تلك الجهة ناس مسلمون، والسبب في قول ابن عمر ذلك أنه روى الحديث بلفظ أن رجلًا قال: يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهلّ؟ فأجابه، وكل جهة عينها في حديث ابن عمر كان من قبلها ناس مسلمون بخلاف المشرق. أ. هـ.
قلت: الشام في زمنه عليه الصلاة والسلام مثل العراق لم يكن في جهته مسلمون.
وأما ما أخرجه أبو داود والترمذي من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المشرق العقيق، وهو وادٍ يتدفق ماؤه في غَوْرَيْ تهامة وهو غير عقيق المدينة الآتي ذكره، فقد تفرّد به يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، وإن كان حفظه، فقد يجمع بينه وبين حديث جابر وغيره بأجوبة منها أن ذات عرق ميقات الوجوب، والعقيق ميقات الاستحباب لأنه أبعد من ذات عرق، ومنها أن العقيق لبعض العراقيين وهم أهل المدائن، والآخر ميقات لأهل البصرة وقع ذلك في حديث أنس عند الطبراني، وإسناده ضعيف، ومنها أن ذات عرق كانت أولًا في موضع العقيق الآن، ثم حولت وقربت إلى مكة، فعلى هذا فذات عرق والعقيق شيء واحد، ويتعين الاحرام من العقيق، ولم يقل به أحد، وإنما قالوا: يستحب احتياطًا، وحكى ابن المنذر، عن الحسن بن صالح أنه كان يُحرم من الربذة، وهو قول القاسم بن عبد الرحمن وخصيف الجزري، قال ابن المنذر: وهو أشبه في النظر إن كانت ذات عرق غير منصوصة، وذلك أنها تحاذي ذا الحليفة وذات عرق بعد.
والحكم فيمن ليس له ميقات أن يحرم من أول ميقات يحاذيه، لكن لما سن عمر ذات عرق، وتبعه عليه الصحابة، واستمر عليه العمل، كان أولى بالاتباع، واستدل به على أن من ليس عليه ميقات أن عليه أن يحرم إذا حاذى ميقاتًا من هذه المواقيت الخمسة، ولا شك أنها محيطة بالحرم، فذو الحليفة شامية، ويلملم يمانية فهي مقابلها، وإن كانت إحداهما أقرب إلى مكة من الأخرى، وقرن شرقية، والجحفة غربية فهي مقابلها، وان كانت إحداهما كذلك، وذات عرق تحاذي قرنًا، فعلى هذا فلا تخلو بقعة من بقاع الأرض من أن تحاذي ميقاتًا من هذه المواقيت، فبطل قول من قال: من ليس له ميقات، ولا يحاذي ميقاتًا هل يحرم من مقدار أبعد المواقيت أو أقربها؟ ثم حكى فيه خلافًا، والغرض أن هذه الصورة لا تحقق لما مرَّ إلا إذا كان قائله فرضه فيمن لم يطلع على المحاذاة كمن يجهلها.
وقد نقل النووي في "شرح المهذب" أنه يلزمه أن يحرم على مرحلتين اعتبارًا بقول عمر هذا في توقيته ذات عرق، وتعقب بأن عمر إنما حدها لأنها تحاذي قرنًا، وهذه الصورة إنما هي حيث يجهل المحاذاة، فلعل القائل بالمرحلتين أخذ بالأقل؛ لأن ما زاد عليه مشكوك فيه،