الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقيل: لأنه لم يملك قط، وقيل: لأنه أعتق من الغرق في الطوفان.
ثم قال: وقال عبيد الله: أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر، ويؤكل مما سوى ذلك، وصله ابن أبي شيبة عن ابن نمير عنه بمعناه قال: إذا اعطبت البدنة أكل منها صاحبها، ولم يبدلها إلا أن تكون نذرًا أو جزاء صيد، ورواه الطبري عن عبيد الله بلفظ التعليق المذكور، وهذا القول إحدى الروايتين عن أحمد، وهو قول مالك وزاد: إلا فدية، إلا أذى، والرواية الأخرى عن أحمد: ولا يؤكل إلا من هدي التطوع والتمتع والقِران، وهو قول الحنفية بناء على أصلهم أن دم التمتع والقِران دم نسك لا دم جبران، وعند المالكية تفصيل طويل فيما يأكل منه، وما لا يأكل.
رجاله ثلاثة:
قد مرّوا: مرَّ عبيد الله العمري في الرابع عشر من الوضوء، ومرَّ نافع في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه.
ثم قال: وقال عطاء: يأكل ويطعم من المتعة، وهذا وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه، وروى سعيد بن منصور عن عطاء: لا يؤكل من جزاء الصيد ولا مما يجعل للمساكين من النذور وغير ذلك، ولا من الفدية، ويؤكل مما سوى ذلك، وروى عبد بن حميد عنه: إن شاء أكل من الهدية والأضحية، وإن شاء لم يأكل، ولا تخالف بين هذه الآثار عن عطاء، فإن حاصلها ما دلَّ عليه الأثر الثاني، وزعم ابن القصار المالكي أن الشافعي تفرد بمنع الأكل من دم التمتع، رمز عطاء في التاسع والثلاثين من العلم.
الحديث السابع والتسعون والمائة
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنَا عَطَاءٌ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: كُنَّا لَا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلَاثِ مِنًى، فَرَخَّصَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"كُلُوا وَتَزَوَّدُوا". فَأَكَلْنَا وَتَزَوَّدْنَا. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَقَالَ: حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: لَا.
قوله: "فوق ثلاث منى" بإضافة ثلاثة إلى منى أي: الأيام الثلاثة التي يقام بها بمنى، وهي الأيام المعدودات، قال في المصابيح: الأصل ثلاث ليالي منى، كقولهم: حب رمان زيد، فإن القصد إضافة الحب المختص بكونه للرمان إلى زيد، ومثله ابن قيس الرقيات، فإن المتلبس بالرقيات ابن قيس لا قيس، قال سعد الدين التفتزاني: وتحقيقه أن مطلق الحب مضاف إلى الرمان، والحب المقيد بالإضافة إلى الرمان مضاف إلى زيد، قال الدماميني: وفيه نظر، قلت: لم أفهم وجه نظره، واختلف في أول الثلاث التي كان الإدخار فيها جائزًا، فقيل: أولها يوم النحر فمن ضحى فيه جاز له أن يمسك يومين بعده، ومن ضحى بعده أمسك
ما بقي له من الثلاثة، وقيل: أولها يوم يضحي فلو ضحى في آخر أيام النحر جاز له أن يمسك ثلاثًا بعدها، ويحتمل أن يؤخذ من قوله:"فوق ثلاث" أن لا يحسب اليوم الذي يقع فيه النحر من الثلاث، وتعتبر الليلة التي تليه وما بعدها، ويؤيده قول جابر في حديثه:"فوق ثلاث منى" فإن ثلاث منى تتناول يومًا بعد يوم النحر لأهل النفر الثاني، وقوله: قلت لعطاء: أقال: حتى جئنا المدينة، قال: لا. يعني: لم يقل جابر: حتى جئنا المدينة. وعند مسلم: نعم، بدل قوله: لا، ويجمع بين قوله: لا وقوله: نعم بأن يحمل على أنه نسي فقال: لا، ثم تذكر فقال: نعم، ويحتمل أن يكون ليس المراد بقوله: لا نفي الحكم، بل مراده أن جابرًا لم يصرح باستمرار ذلك منهم حتى قدموا المدينة، فيكون على هذا معنى قوله في رواية عمرو بن دينار عن عطاء: كنا نتزود لحوم الهدي إلى المدينة، أي لتوجهنا إلى المدينة، ولا يلزم من ذلك بقاؤها معهم حتى يصلوا المدينة.
لكن أخرج مسلم عن ثوبان قال: ذبح النبي صلى الله عليه وسلم أضحيته ثم قال لي: "يا ثوبان أصلح لحم هذه" فلم أزل أطعمه منه حتى قدم المدينة، قال ابن بطال: في الحديث رد على من زعم من الصوفية أنه لا يجوز ادِّخار طعام لغدٍ، وأن اسم الولاية لا يستحق لمن ادخر شيئًا ولو قلّ، وأن من ادخر أساء الظنّ بالله تعالى. وفيه هذه الأحاديث كفاية في الرد على من زعم ذلك.
وحديث جابر هذا يخالف ما رواه مسلم عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نأكل من لحوم نُسكنا بعد ثلاث، وفي لفظ: قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليالٍ، فلا تأكلوا، وروي أيضًا عن ابن عمر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يأكل أحدكم من أضحيته فوق ثلاثة أيام" قال الشافعي: لعل عليًّا لم يبلغه النسخ وقال غيره: يحتمل أن يكون الوقت الذي قال فيه ذلك، كان بالناس حاجة كما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك جزم ابن حزم فقال: إنما خطب عليّ بالمدينة في الوقت الذي كان عثمان حوصر فيه، وكان أهل البوادي قد ألجأتهم الفتنة إلى المدينة، فأصابهم الجهد، فلذلك قال عليّ ما قال، وقد أخرج الطحاوي كون خطبة عليّ كانت في زمن حصر عثمان، وقال القاضي: اختلف العلماء في الأخذ بهذه الأحاديث فقال قوم: يحرم إمساك لحوم الأضاحي والأكل منها بعد ثلاث، وإن حكم التحريم باقٍ كما قاله عليّ وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، وقال جماهير العلماء: يباح الأكل والإمساك بعد الثلاث، والنهي منسوخ بحديث جابر هذا، وحديث بريدة عند مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم"، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وهذا من نسخ السنة بالسنة، وقال بعضهم: ليس هو نسخًا، بل كان التحريم لعلة، فلما زالت زال التحريم، وتلك العلة هي الدافة، وكانوا منعوا من ذلك في أول الإِسلام من أجل الدافّة فلما
زالت العلة الموجبة لذلك أمرهم أن يأكلوا، ويدخروا، فقد روى مسلم عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن واقد قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، قال عبد الله بن أبي بكر فذكرت ذلك لعمرة فقالت: صدق، سمعت عائشة تقول: دف أهل أبيات من أهل البادية حضرت الأضحى زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام:"ادخروا ثلاثًا، ثم تصدقوا بما بقي" فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله: إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، ويحملون فيها الودك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وما ذاك؟ " قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال:"إنما نهيتكم من أجل الدافّة التي دفّت، فكلوا وادّخروا وتصدقوا".
قال أهل اللغة: الدافّة -بتشيد الفاء- قوم يسيرون جميعًا سيرًا خفيفًا، من دفّ يدفّ بكسر الدال، ودافّة الأعراب: من يرد منهم المصر، والمراد هنا: من ورد من ضعفاء الأعراب للمواساة، وقيل: كان النهي الأول للكراهة لا للتحريم، قول هؤلاء: والكراهة باقية إلى يومنا هذا، ولكن لا يحرم، قالوا: ولو وقع مثل تلك العلة اليوم فدفت دافة واساهم الناس، وحملوا على هذا مذهب علي، وابن عمر، والصحيح نسخ النهي مطلقًا، وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة، فيباح اليوم الادخار فوق ثلاث، والآكل إلى متى شاء، وإنما رجح ذلك؛ لأنه يلزم من القول بالتحريم إذا دفت الدافّة إيجاب الإطعام، وقد قامت الأدلة عند الشافعية أنه لا يلزم في المال حق سوى الزكاة، وقال الشافعي: يحتمل أن يكون النهي عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث منسوخًا في كل حال، وبهذا أخذ المتأخرون من الشافعية، فقال الرافعي: الظاهر أنه لا يحرم اليوم بحال، وتبعه النووي فقال: الصواب المعروف أنه لا يحرم اليوم الإدخار بحال، ونقل ابن عبد البر ما يوافق ما نقله النووي، فقال: لا خلاف بين فقهاء المسلمين في إجازة أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، وأن النهي عن ذلك منسوخ، كذا أطلق وليس بجيد، فقد قال القرطبي: حديث سلمة وعائشة نص على أن المنع كان لعلة، فلما ارتفعت ارتفع لارتفاع موجبه، فتعيَّن الأخذ به، ويعود الحكم لعود العلة، فلو قدم على أهل بلد ناس محتاجون في زمان الأضحى ولم يكن عند أهل البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا تعين عليهم أن لا يدخروا فوق ثلاث، والتقييد بالثلاث واقعة حال، وإلا فلو لم تستد الخلة إلا بتفرقة الجميع لزم على هذا التقرير عدم الإمساك، ولو ليلة واحدة، وقد حكى الرافعي عن بعض الشافعية أن التحريم كان لعلة فلما زالت زال الحكم، لكن لا يلزم عود الحكم عند عود العلة، واستبعدوه، وليس ببعيد؛ لأن صاحبه قد نظر إلى أن الخلة لم تستد يومئذٍ إلا بما ذكر، فأما الآن، فإن الخلة تستد بغير لحم الأضحية فلا يعود الحكم إلا لو فرض أن الخلة لا تستد إلا بلحم الأضحية، وهذا في غاية الندور، وحكى البيهقي عن الشافعي: أن النهي عن أكل لحوم الأضاحي كان في الأصل للتنزيه، قال: وهو كالأمر في
قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} وحكى الرافعي عن أبي علي الطبري احتمالًا، وقال المهلب: إنه الصحيح لقول عائشة: وليس بعزيمة، واستدل بهذه الأحاديث على أن النهي عن الأكل فوق ثلاث خاص بصاحب الأضحية، فأما من أهدي له أو تصدق عليه فلا، لمفهوم قوله: من أضحيته، وقد جاء في حديث الزبير بن العوام عند أحمد وأبي يعلى ما يفيد ذلك. ولفظه: قلت يا رسول الله: أرأيت قد نهي المسلمون أن يأكلوا من لحم نسكهم فوق ثلاث، فكيف نصنع بما أهدي لنا؟ قال:"أما ما أهدي إليكم فشأنكم به" فهذا نص في الهدية، وأما الصدقة فإن الفقير لا حجر عليه في التصرف فيما يُهدى له؛ لأن القصد أن تقع المواساة من الغني للفقير، وقد حصلت، واختلف في مقدار ما يؤكل منها ويتصدق؛ فذكر علقمة أن ابن مسعود أمره أن يتصدق بثلثه ويأكل ثلثه، ويهدي ثلثه، وروي عن عطاء وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق لقوله:"كلوا وتصدقوا وأطعموا".
قال ابن عبد البر: كان غير الشافعي يقول: يستحب أن يأكل النصف ويطعم النصف، وقال الثوري: يتصدق بأكثره، وعند المالكية يندب جمع الأكل والصدقة والإعطاء بلا حد، وقال أبو حنيفة: ما يجب أن يتصدق بأقل من الثلث، قال صاحب الهداية: ويأكل من لحم الأضحية غير المنذورة، أمّا المنذورة فلا يأكل الناذر معسرًا كان أو موسرًا، وبه قالت الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، وعن أحمد: يجوز الأكل في المنذورة، قال النووي: مذهب الجمهور أنه لا يجب الأكل من الأضحية، وإنما الأمر فيه للإذن، فيندب للمضحي أن يأكل من الأضحية شيئًا، ويطعم الباقي صدقة وهدية.
وعند الظاهرية الأكل واجب عملًا بظاهر الأمر، وذهب بعض السلف إلى الأخذ بظاهر الأمر، وحكاه الماوردي عن أبي الطيب بن سلمة من الشافعية، وأما الصدقة منها فالصحيح أنه يجب التصدق من الأُضحية بما يقع عليه الاسم، والأكمل أن يتصدق بمعظمها، ومتى جاز أكله وهو غني جاز أن يؤكل غنيًا.
وقوله في الحديث: "ادخروا" هو بالمهملة وأصله من ذخر بالمعجمة دخلت عليها تاء الافتعال ثم أدغمت، ومنه قوله تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} ويؤخذ من الإذن في الادخار الجواز خلافًا لمن كرهه. وقد ورد في الادخار: "كان يدخر لأهله قوت سنة" وفي رواية: "كان لا يدخر لغد" والأول في الصحيحين، والثاني في مسلم والجمع بينهما أنه كان لا يدخر لنفسه ويدخر لعياله، أو أن ذلك كان باختلاف الحال، فيتركه عند حاجة الناس إليه، ويفعله عند عدم الحاجة.
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم: نسخ الأثقل بالأخف؛ لأن النهي عن ادخار لحم الأضحية بعد ثلاث مما يثقل على المضحين والإذن في الادخار أخف منه.