الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحاضرين مع أهل الفساد لولا أنهم مؤاخذون بمعصتهم ما خسف بهم، وكذلك المجالس لشربة الخمر، فإنه عاص فيعاقب على ذلك، وهذا مثل قوله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} ، وفي هذا الحديث أن الأعمال تعتبر بنية العامل، والتحذير من مصاحبة أهل الظلم، ومجالستهم وتكثير سوادهم إلا لمن اضطر إلى ذلك، ويتردد النظر في مصاحبة التاجر لأهل الفتنة هل هي إعانة لهم على ظلمهم، أو هي من ضرورة البشرية، ثم يعتبر عمل كل أحد بنيته، وعلى الثاني يدل ظاهر الحديث، وقال ابن التين: يحتمل أن يكون هذا الجيش الذي يخسف بهم هم الذين يهدمون الكعبة، فينتقم منهم فيخسف بهم، وتعقب بأن في بعض طرقه عند مسلم:"أن ناسًا من أمتي" والذين يهدمونها من كفار الحبشة، وأيضًا فمقتضى كلامهم أنه يخسف بهم بعد أن يهدموها، ويرجعوا، وظاهر الخبر أنه يخسف بهم قبل أن يصلوا إليها، قلت: قد مرَّ في أول الكلام على الحديث أن غزو الذين يخربونه متأخر عن الأولين، وعائشة مرت في الثاني من بدء الوحي.
الحديث الثمانون
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الأَخْنَسِ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ، يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا".
قوله: "كأني به" كذا في جميع الروايات عن ابن عباس في هذا الحديث، والظاهر أن فيه شيئًا حذف، ويحتمل أن يكون هو ما وقع في حديث علي رضي الله تعالى عنه عند أبي عبيد في غريب الحديث، قال:"استكثروا من الطواف بالبيت قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني برجل من الحبشة أصلع -أو قال: أصمع- حمش الساقين، قاعد عليها وهي تهدم"، ورواه الفاكهاني من هذا الوجه، ولفظه: أصعل بدل أصلع، وقال:"قائمًا عليها يهدمها بمسحاته"، وروى يحيى الحماني في مسنده من وجه آخر عن علي مرفوعًا، قلت: هذا له حكم الرفع، على كل حال سواء صرح الراوي برفعه أو لم يصرح لأنه لا يعلم إلا من جهته صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "كأني به"، قال العيني: لفظ به يحتمل الضمير فيه ثلاثة أوجه:
الأول: أن يعود على البيت والقرينة الحالية تدل عليه، أي: كأني متلبس به.
الثاني: أن يعود إلى القالع بالقرينة الحالية أيضًا.
الثالث: أنه ضمير مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} فإن ضمير هنّ هو المبهم الذي فسره سبع سموات، وهو تمييز والظاهر ما مرَّ أن في الحديث حذفًا، وهو الذي ارتضاه في الفتح، وكل الاحتمالات المذكورة لا يتضح معها المعنى.
وقوله في حديث علي: "أصلع أو أصعل أو أصمع: الأصلع من ذهب شعر مقدم رأسه، والأصعل: الصغير الرأس، والأصمع: الصغير الأذنين، وقول: "حمش الساقين" بفتح المهملة وسكون الميم ثم معجمة: أي دقيق الساقين، وهو موافق لما في رواية أبي هريرة "ذو السويقتين".
وقوله: "أسود أفحج" بوزن أفعل بفاء ثم حاء مهملة، ثم جيم، والفحج تباعد ما بين الساقين، قال الطيبي: وفي إعرابه أوجه، قيل: أسود منصوب على الذم، والمنصوب على الذم قد يكون نكرة، كما في قول النابغة:
مقارع عوف لا أحاول غيرها
…
وجوه قرود تبتغي من تجادع
فوجوه منصوب على الذم، وأفحج منصوب صفة لسابقه، ويجوز أن يكون أسود أفحج حالين متداخلين أو مترادفين من ضمير به، وقيل: هما بدلان من الضمير المجرور وفتحا لأنهما غير منصرفين، وإبدال المظهر من المضمر جائز: كزره خالدًا وقبله اليد، وفي بعض الأصول: أسود أفحج برفعهما على أن أسود مبتدأ خبره يقلعها، والجملة حال بدون الواو، والضمير في به للبيت، أي: كأني متلبس به أو أسود خبر مبتدأ محذوف، والضمير في به للقالع، أي: كأني بالقالع هو أسود.
وقوله: "أفحج" خبر بعد خبر.
وقوله: "يقلعها حجرًا حجرًا"، أي: يقلع الأسودُ الأفحجُ الكعبةَ حجرًا حجرًا حال نحو بوبته بابًا بابًا، أي: مبوبًا، أو هو بدل من الضمير المنصوب في يقلعها، وقد روى ابن الجوزجي حديثاً طويلًا مرفوعًا فيه:"وخراب مكة من الحبشة، على يد حبشي أفحج الساقين، أزرق اليين، أفطس الأنف كبير البطن، معه أصحاب ينقضونها حجرًا حجرًا، ويتناولونها حتى يرموا بها -يعني الكعبة- إلى البحر، وخراب المدينة من الجوع، واليمن من الجراد"، وذكر الحليمي أن خراب الكعبة يكون في زمن عيسى عليه السلام، وقال القرطبي: بعد رفع القرآن من الصدور والمصاحف، وذلك بعد موت عيسى، وهذا هو الصحيح.