الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالمشاهدة، والإيمان الموجب للثواب هو الإيمان بالغيب، وينبغي أن يتأمل كيف أبقى الله الحجر على صفة السواد أبدًا مع ما مسه من أيدي الأنبياء والمرسلين المقتضي لتبييضه ليكون ذلك عبرة لذوي الأبصار، وواعظًا لكل من وافاه من ذوي الأفكار، ليكون ذلك باعثًا على مباينة الزلات، ومجانبة الذنوب الموبقات.
الحديث الثاني والثمانون
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ، فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ.
قوله: "عن إبرهيم" هو ابن يزيد النخعي، وقد رواه سفيان الثوري بإسناد آخر عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، عن عمر، أخرجه مسلم.
وقوله: "إني أعلم أنك حجر" في رواية أسلم الآتية بعد باب عن عمر أنَّه قال: أما والله إني لأعلم أنك.
وقوله: "لا تضر ولا تنفع"، أي: إلا بإذن الله، وروى الحاكم عن أبي سعيد الخدري أن عمر لما قال هذا، قال له علي بن أبي طالب: إنه يضر وينفع، وذكر أن الله لما أخذ المواثيق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر، وقال: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق، وعينان وشفتان يشهد لمن استلمه بالتوحيد"، وفي رواية: يتشهد لمن وافاه بالموافاة فهو أمين في هذا الكتاب"، فقال له عمر: لا أبقاني الله في أرض لستَ بها يا أبا الحسن، وفي إسناده أبو هارون العبدي، وهو ضعيف جدًا، وقد روى النسائي من وجه آخر ما يشعر بأن عمر رفع قوله ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه عن ابن عباس، قال: رأيت عمر قبَّل الحجر ثلاثًا، ثم قال: إنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبَّلَكَ ما قَبَّلْتُكَ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ذلك.
ومن غرائب المتون ما في ابن أبي شيبة في آخر مسند أبي بكر رضي الله تعالى عنه عن رجل رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقف عند الحجر، فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ثم قَبَّلَه، ثم حج أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فوقف عند الحجر فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبَّلك ما قَبَّلْتُكَ، فليراجع إسناده، فإن صح حكم ببطلان حديث الحاكم لبعد أن يصدر هذا الجواب عن علي، أعني قوله:"بل يضر وينفع" بعدما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تضر ولا تنفع" لأنه صورة معارضة لا جرم أن الذهبي قال
في مختصره عن العبدي: إنه ساقط، قال الطبري: إنما قال عمر ما قال؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته، كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان.
وقال المهلب: حديث عمر هذا يرد على من قال إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، فمعاذ الله أن تكون لله جارحة، وإنما شرع تقبيله اختيارًا ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع، وذلك شبيه بقصة إبليس حيث أمر بالسجود لآدم، قلت: ما نفاه المهلب لا يحتمل اعتقاد موحد له، وإنما المراد ما قاله الخطابي، فإنه قال: معنى أنه يمين الله في الأرض أن من صافحه في الأرض كان له عند الله عهد، وجرت العادة بأن العهد يعقده الملك بالمصافحة لمن يريد موالاته والاختصاص به، فخاطبهم بما يعهدونه، وقال المحب الطبري: معناه أن كل ملك إذا قدم عليه الوافد قبل يمينه، فلما كان الحاج أول ما يقدم يسن له تقبيله نزل منزلة الملك، ولله المثل الأعلى، وقول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله، ولو لم تعلم الحكمة فيه.
وفيه: وقع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر الأسود خاصة ترجع إلى ذاته.
وفيه بيان السنن بالقول والفعل، وأن الإِمام إذا خشي على أحد من فعله فساد اعتقاد أن يبادر إلى بيان الأمر ويوضح ذلك، وقد قال في "الفتح": قال شيخنا في شرح الترمذي: فيه كراهة تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله، وأما قول الشافعي: ومهما قُبِّل من البيت فهو حسن فلم يرد به الاستحباب؛ لأن المباح من جملة الحسن عند الأُصوليين، واستنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي وغيره، فأما تقبيل يد الآدمي لدينه أو لعلمه أو شرفه فإنه مستحب، وقد وردت فيه أحاديث كثيرة ذكرناها في كتابنا استحالة المعية بالذات، وذكرنا هناك ما فيه الكفاية، وأما ما روي عن مالك كراهته فمحله عنده: إذا كان على وجه التكبر والتعظيم، وأما غير الآدمي فنقل عن الإِمام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتقبيل قبره، فلم ير به بأسًا، قال في "الفتح": واستبعد بعض أتباعه صحة ذلك، قلت: الظاهر أنه ابن تيمية لأنه هو المنكر للتبرك بآثار الصالحين، ونقل عن ابن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة في الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء