الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحجاج بابن الزبير، الحديث، نبه على ذلك الإسماعيلي.
رجاله أربعة:
قد مرّوا: مرَّ أبو اليمان وشعيب في السابع من بدء الوحي، ومرَّ محل نافع وابن عمر في الذي قبله.
الحديث الخامس والمائتان
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ". قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ". قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَالْمُقَصِّرِينَ".
أخرج البخاري هنا ثلاثة أحاديث عن ابن عمر، وكأنه لم يقع له على شرطه التصريح يحمل الدعاء للمحلقين، فاستنبط من الحديث الأول، والثالث أن ذلك كان في حجة الوداع، لأن الأول صرَّح بأن حلاقه كان في حجته، والثالث لم يصرح بذلك، إلا أنه بين فيه أن بعض الصحابة حلق، وبعضهم قصّر، وقد أخرجه في المغازي عن موسى بن عقبة، عن نافع بلفظ:"حلق في حجة الوداع، وأناس من أصحابه، وقصر بعضهم" وأخرج مسلم عن نافع مثل حديث جويرية سواء، وزاد فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يرحم الله المحلقين" فأشعر ذلك أن ذلك وقع في حجة الوداع، وقد تعارضت الأحاديث في وقت وقوع هذا الدعاء، فمنها ما دل على أن ذلك كان في الحديبية، ومنها ما دل على أنه كان في حجة الوداع، قال ابن عبد البر: إنما جرى ذلك يوم الحديبية حين صد عن البيت، قال: وهذا محفوظ مشهور من حديث ابن عمر، وابن عباس، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وحبشي بن جنادة، ثم ساق تخريج أحاديث المذكورين، إلَاّ أن حديث أبي هريرة ليس فيه تعيين الموضع، ولم يقع في شيء من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع، لأنه شهدها ولم يشهد الحديبية، ولم يسق ابن عبد البر عن ابن عمر في هذا شيئًا، وليس في شيء من الطرق المروية عنه تعيين الموضع، وقد قدمت قريبًا أنه مخرج من مجموع الأحاديث عنه، أن ذلك كان في حجة الوداع، وكذلك حديث حبشي بن جنادة ليس فيه تعيين المكان، وقد أخرجه أحمد وزاد في سياقه عن حبشي: وكان ممن شهد حجة الوداع، فذكر هذا الحديث، وهذا يشعر بأنه كان في حجة الوداع، وفي حديث جابر عن أبي قرة في السنن تعيين الحديبية وفي حديث المسور بن مخرمة، عند ابن إسحاق في المغازي تعيينها أيضًا، وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم الحصين عند مسلم، ومن حديث قارب بن الأسود عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث
أم عمارة عند الحارث، قال في الفتح، فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددًا، وأصح إسنادًا، ولهذا قال النووي عقيب أحاديث ابن عمر، وأبي هريرة وأم الحصين: هذه الأحاديث تدل على أن هذه الواقع كانت في حجة الوداع.
قال: وهو الصحيح المشهور، وقيل: كان في الحديبية، وجزم بأن ذلك كان في الحديبية إمام الحرمين في النهاية، ثم قال النووي: لا يبعد أن يكون وقع في الموضعين، وقال عياض: كان في الموضعين، ولذا قال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب، قال في الفتح: بل هو المتعين، لتظافر الروايات بذلك في الموضعين كما مرَّ، إلا أن السبب في الموضعين مختلف، فالذي في الحديبية كان بسبب توقف مَنْ توقف مِنَ الصحابة عن الإحلال، لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت، مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم وصالح قريشًا على أن يرجع من العام المقبل. والقصة مشهورة ستأتي في مكانها -إن شاء الله تعالى-.
فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال توقفوا، فأشارت أم سلمة أن يحل هو عليه الصلاة والسلام قبلهم، ففعل فتبعوه، فحلق بعضهم، وقصّر بعض، وكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس المشار إليه قبل، فإن في آخره عند ابن ماجه وغيره أنهم قالوا: يا رسول الله: ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة؟ قال: "لأنهم لم يشكوا".
وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع، فقال ابن الأثير في النهاية: كان أكثر من حج مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يسق الهدي فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ثم يتحللوا منها، ويحلقوا رؤوسهم شقّ عليهم، ثم لما لم يكن لهم بدٌّ من الطاعة، كان التقصير أقرب، وأخف في أنفسهم من الحلق، ففعله أكثرهم فرجح النبي صلى الله عليه وسلم فعل من حلق لكونه أبين في امتثال الأمر، وفيما قاله نظر، وإن تابعه عليه غير واحد لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة، ويحلق في الحج، إذا كان ما بين النسكين متقاربًا، وقد كان ذلك في حقهم كذلك، والأولى ما قاله الخطابي وغيره: أن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعر والتزين به، وكان الحلق فيهم قليلًا، وربما كانوا يرونه من الشهرة، ومن زي الأعاجم فلذلك كرهوا الحلق، واقتصروا على التقصير، ووجه بعضهم كون الحلق أفضل من التقصير بأنه أبلغ في العبادة، وأبين للخضوع والذلة، وأدل على صدق النية، والذي يقصر يبقي على نفسه شيئًا مما يتزين به بخلاف الحالق، فإنه يشعر بأنه ترك ذلك لله تعالى، وفيها إشارة إلى التجرد، ومن ثم استحب الصلحاء إلقاء الشعور عند التوبة.
وأما قول النووي تبعًا لغيره في تعليل ذلك بأن المقصر يبقي على نفسه الشعر الذي هو زينته، والحاج مأمور بترك الزينة، بل هو أشعث أغبر، ففيه نظر؛ لأن الحلق إنما يقع بعد
انقضاء زمن الأمر بالتقشف، فإنه يحل له عقبه كل شيء إلا النِّساء في الحج خاصة، والحالق لرأسه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع هو معمر بن عبد الله بن نضلة، كما أفاده ابن خزيمة في صحيحه.
وقال النووي: إنه الصحيح المشهور، وقيل: الذي حلق رأسه عليه الصلاة والسلام خراش بن أمية بن ربيعة، حكاه النووي في شرح مسلم، وقال زين الدين العراقي: هذا وهم من قائله، وإنما حلق رأسه خراش في الحديبية، وقد بينه ابن عبد البر فقال في ترجمة خراش هو الذي حلق رأس النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية.
وكيفية حلقه عليه الصلاة والسلام هي ما رواه مسلم عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام أتى مني، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، وقال للحلاق:"خذ" وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس، وروى الترمذي عن أنس أيضًا قال: ثم ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه، فأعطاه أبا طلحة، ثم ناوله شقه الأيسر فحلقه، فقال له:"اقسمه بين الناس" وظاهر رواية الترمذي أن الذي قسمه أبو طلحة بأمره ببن الناس هو الشق الأيسر، وهكذا رواية مسلم عن ابن عيينة، وأما رواية حفص بن غياث، وعبد الأعلى ففيهما أن الشق الذي قسمه بين الناس هو الأيمن، وكلا الروايتين عند مسلم، ففي رواية حفص قال للحلاق:"ها" وأشار بيده إلى الجانب الأيمن، هكذا، فقسم شعره بين من يليه، ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه، فأعطاه أم سليم، ورواية عبد الأعلى قال فيها: وقال بيده، فحلق شقه الأيمن، فقسمه فيمن يليه، ثم قال:"احلق الشق الآخر" فقال: "أين أبو طلحة؟ " فأعطاه إياه، واختلف أهل الحديث في الاختلاف الواقع في هذا الحديث، فذهب بعضهم إلى الجمع بينهما، وذهب بعضهم إلى الترجيح لتعذر الجمع عنده، قال صاحب المفهم: إن قوله: لما حلق شق رأسه الأيمن أعطاه أبا طلحة، لا منافاة فيه لما في الرواية الثانية من أنه قسم شعر الجانب الأيمن بين الناس، وأعطى أم سليم شعر الجانب الأيسر فقال: إنه أعطاه لأبي طلحة ليقسمه بين الناس ففعل، وأعطى الآخر أم سليم ليكون عند أبي طلحة، فصحت نسبة ذلك إلى كل من نسب إليه.
والصحيح أن الذي وزعه على الناس هو الأيمن، وأعطى الأيسر أبا طلحة وأم سليم، ولا تضاد بين الروايتين؛ لأن أم سليم امرأة أبي طلحة، فكان الإعطاء لهما فنسبت العطية تارة له، وتارة لها، وقال زين الدين: كأن المحب الطبري رجّح رواية تفرقة الشق الأيمن بكثرة الرواة، وقد ترجح تفرقة الأيسر بكونه متفقًا عليه، وتفرقة الأيمن من أفراد مسلم، فعند البخاري عن ابن سيرين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق، كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره، وهذا يدل على أن الذي أخذه أبو طلحة الأيمن، وإن كان يجوز أن يقال: إنه أخذه
ليفرقه، ولكن ظاهره أنه أخذه لنفسه، ويبدأ الحالق بيمين المحلوق وروى الكرماني عن أبي حنيفة أنه يبدأ بيمين الحالق ويسار المحلوق، والصحيح عنه الأول، ويدخل وقت الحلق من طلوع الفجر عند المالكية وعند الشافعية بنصف ليلة النحر، ولا آخر لوقته، والحلق بمنى يوم النحر أفضل، قالوا: ولو آخره حتى بلغ بلده حلق وأهدى، ولو وطيء قبل الحلق فعليه هدي، بخلاف الصيد على المشهور عندهم، وعند المالكية، وقال ابن قدامة: يجوز تأخيره إلى آخر أيام النحر، فإن آخره عن ذلك ففيه روايتان، ولا دَمَ عليه، وبه قال عطاء وأبو يوسف وأبو ثور، ويشبه مذهب الشافعي، لأن الله تعالى بيّن أول وقته بقوله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ولم يبين آخره، فمتى أتى به أجزأه، وعن أحمد عليه دم بتأخيره وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأنه نسك أخَّره عن محله، ولا فرق في التأخير بين القليل والكثير، والساهي والعامد، وقال مالك وإسحاق والثوري، وأبو حنيفة، ومحمد: من تركه حتى حل فعليه دم؛ لأنه نسك، فيأتي به في إحرام الحج كسائر مناسكه.
وفي حديث الباب من الفوائد أن التقصير يجزىء عن الحلق، وهو مجمع عليه إلا ما روي عن الحسن البصري أن الحلق يتعين في أول حجة، حكاه ابن المنذر بصيغة التمريض، وقد ثبت عن الحسن خلافه، وروى ابن أبي شيبة عن الحسن في الذي لم يحج قط، فإن شاء حلق، وإن شاء قصَّر، نعم روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال: إذا حج الرجل أول حجة حلق، فإن حج أخرى، فإن شاء حلق، وإن شاء قصّر، ثم روى عنه أنه قال: كانوا يحبون أن يحلقوا في أول حجة، وأول عمرة، وهذا يدل على أن ذلك للاستحباب، لا للزوم، وقد مرَّ حكم الملبّد في باب من لبّد رأسه.
وفي الحديث أيضًا مشروعية الدعاء لمن فعل ما شرع له، وتكرار الدعاء لمن فعل الراجح من الأمرين المخير فيهما، والتنبيه بالتكرار على الرجحان، وطلب الدعاء لمن فعل الجائز، وإن كان مرجوحًا، وفي هذه الأحاديث طهارة شعر الآدمي، وهو قول جمهور العلماء، وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وخالف في ذلك أبو جعفر الترمذي منهم، فخصص الطهارة بشعره عليه الصلاة والسلام، وقال بنجاسة شعر غيره، وفيها التبرك بشعره عليه الصلاة والسلام، وغير ذلك من آثاره بأبي وأمي ونفسي هو، وقد روى أحمد في مسنده إلى ابن سيرين، عن عبيدة السلماني قال: لأن تكون لي شعرة منه أحب إلى من كل بيضاء وصفراء على وجه الأرض، وفي بطنها.
وأخرج البخاري هذا الحديث في باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان بلفظ أحب إليّ من الدنيا وما فيها. وروى غير واحد أن خالد بن الوليد كان في قلنسوته شعرات من شعره عليه الصلاة والسلام، فلذلك كان لا يقدم على وجه إلا فتح له، ويؤيد ذلك ما ذكره الملأ في سيرته أن خالدًا سأل أبا طلحة -حين فرق شعره عليه الصلاة والسلام بين الناس- أن