الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وغيره كما رواه عبد بن حميد وغيره، وقال الإسماعيلي: البادي: الذي يكون في البدو، وكذا من كان ظاهر البلد فهو باد ومعنى الآية أن المقيم والطارىء سيان، وروى عبدالرزاق عن قتادة: سواء العاكف فيه والباد، قال: سواء فيه أهل مكة وغيرهم.
وقوله: "معكوفًا: محبوسًا" كذا وقع هنا وليست هذه الكلمة في الآية المذكورة وإنما هي في آية الفتح ومناسبة ذكرهاهنا قوله في الآية العاكف، والتفسير المذكور قاله أبو عبيدة في المجاز والمراد بالعاكف المقيم، وروى الطحاوي عن أبي حصين، قال: أردت أن أعتكف وأنا بمكة، فسألت سعيد بن جبير، فقال: أنت عاكف، ثم قرأ هذه الآية.
الحديث الثالث والسبعون
حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟. فَقَالَ:"وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟ ". وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ رضي الله عنهما شَيْئًا؛ لأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الآيَةَ.
في رواية مسلم أن علي بن الحسين أخبره أن عمرو بن عثمان أخبره.
وقوله: "أين تنزل في دارك؟ " حذف أداة الاستفهام من قوله: في دارك بدليل رواية ابن خزيمة والطحاوي عن ابن وهب بلفظ: أتنزل في دارك؟ وكذا أخرجه الجوزقي عن أصبغ، وللمصنف في "المغازي" عن الزهري: أين تنزل غدًا؟ فكأنه استفهمه أولًا عن مكان نزوله، ثم ظنّ أنه ينزل في داره، فاستفهمه عن ذلك، وظاهر هذه القصة أن ذلك كان حين أراد دخول مكة، ويزيده وضوحًا رواية زمعة بن صالح عن الزهري بلفظ: لما كان يوم الفتح قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة، قيل: أين تنزل، أفي بيوتكم؟ الحديث.
وروى علي ابن المديني عن محمد بن علي بن الحسين، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة: أين تنزل؟ قال: "وهل ترك لنا عقيل من طل؟ " قال علي ابن المديني: ما أشك أن محمد بن علي بن الحسين أخذ هذا الحديث عن أبيه، لكن في حديث أبي هريرة أنه عليه
الصلاة والسلام قال ذلك حين أراد أن ينفر من مني فيحمل على تعدد القصة، وقوله:"وهل ترك عقيل؟ " في رواية مسلم وغيره: "وهل ترك لنا؟ ".
وقوله: "من رباع أو دور"؛ الرباع جمع رَبْع بفتح الراء وسكون الموحدة، وهو المنزل المشتمل على أبيات، وقيل: هو الدار فعلى هذا، فقوله: أو دور إما للتأكيد أو من شك الراوي، وفي رواية محمد بن أبي حفصة: من منزل، وجمع النكرة وإن كانت في سياق الاستفهام الإنكاري يفيد العموم للإشعار بأنه لم يترك من الرباع المتعددة شيئًا، ومن للتبعيض، وأخرج الفاكهاني هذا الحديث عن محمد بن أبي حفصة، وقال في آخره: ويقال: إن الدار التي أشار إليها كانت دار هاشم بن عبد مناف، ثم صارت لعبد المطلب ابنه، فقسمها بين ولده حين عمر، ثم صار للنبي صلى الله عليه وسلم حق أبيه عبد الله، وفيها ولد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "وكان عقيل ورث أبا طالب" الخ، محصله أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر استولى عقيل وطالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما لكونهما كانا لم يسلما، وباعتبار ترك النبي صلى الله عليه وسلم لحقه منها بالهجرة، وفقد طالب ببدر، فباع عقيل الدار كلها، وحكى الفاكهاني أن الدار لم تزل بأولاد عقيل إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار، وزاد في روايته عن محمد بن أبي حفصة، فكان علي بن الحسين يقول: من أجل ذلك تركنا نصيبنا من الشعب، أي: حصة جدهم علي من أبيه أبي طالب، وقال الداودي وغيره: كان من هاجر من المؤمنين باع قريبه الكافر داره وأمضى النبي صلى الله عليه وسلم تصرفات الجاهلية تأليفًا لقلوب من أسلم منهم. وقال الخطابي: وعندي أن تلك الدار كانت قائمة على ملك عقيل، فإنما لم ينزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها دور هجروها في الله تعالى، فلم يرجعوا فيما تركوه، وتعقب بأن سياق الحديث يقتضي أن عقيلًا باعها، ومفهومه أنه لو تركها لنزلها، وقد مرَّ قريبًا أن هذه القصة وقعت عند دخول مكة يوم الفتح.
وقد اختلف العلماء هل مكة فتحت عنوة أو صلحًا، فذهب الجمهور إلى أنها فتحت عنوة، وتمسكوا بما أخرجه مسلم وأحمد والنسائي عن أبي هريرة، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بعث على إحدى الجنبتين خالد بن الوليد، وبعث الزبير على الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحُسَّر بضم المهملة وتشديد السين المهملة، جمع حاسر، أي: الذين لا سلاح لهم، فقال لي: يا أبا هريرة اهتف لي بالأنصار، فهتف بهم، فجاؤوا فأطافوا به، فقال لهم: أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم، ثم قال بإحدى يديه على الأخرى: احصدوهم حصدًا حتى توافوني بالصفا، قال أبو هريرة: فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدًا منهم إلا قتلناه، فجاء أبو
سفيان، وقال: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أغلق بابه فهو آمن".
وعند الشافعي ورواية عن أحمد أنها فتحت صلحًا لما وقع من التأمين ولإضافة الدور إلى أهلها، ولأنها لم تقسم، ولأن القائمين لم يملكوا دورها وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها.
واحتج الجمهور بما وقع من التصريح بالأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد، وبتصريحه عليه الصلاة والسلام بأنها أحلت ساعة من نهار، ونهيه عن التأسي به في ذلك، وأجابوا عن ترك القسمة بأنها لا تستلزم عدم العنوة، فقد تفتح عنوة، ويمنّ على أهلها، ويترك لهم دورهم وغنائمهم، لأن قسمة الأرض المغنومة ليس متفقًا عليها، بل الخلاف ثابت عن الصحابة ومن بعدهم، وقد فتحت أكثر البلاد عنوة، فلم تقسم وذلك في زمن عمر وعثمان مع وجود أكثر الصحابة، وقد زادت مكة عن ذلك بأمر يمكن أن يدعي اختصاصها به دون بقية البلاد، وهي أنها دار النسك ومتعبد الخلق، وقد جعلها الله تعالى حرمًا سواء العاكف فيه والبادي.
وأما قول النووي: "احتج الشافعي بالأحاديث المشهورة من أن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة" ففيه نظر؛ لأن الذي أشار إليه إن كان مراده ما وقع له من قوله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن كما تقدّم، وكذا من دخل المسجد كما عند ابن إسحاق، فإن ذلك لا يسمى صلحًا إلا إذا التزم من أُشير إليه بذلك الكف عن القتال، والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشًا لم يلتزموا ذلك لأنهم استعدوا للحرب كما ثبت في حديث أبي هريرة عند مسلم أن قريشًا وبشت أوباشًا لها وأتباعًا، فقالوا: تقدم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنا معهم وإن أُصيبوا أعطيناه الذي سألنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أترون أوباش قريش"، ثم قال بإحدى يديه على الأخرى إلى آخر الحديث المار قريبًا، وإن كان مراده بالصلح وقوع عقد به، فهذا لم ينقل، والظن أنه عني الاحتمال الأول، وفيه ما ذكر وتمسك أيضًا من قال أنه آمنهم بما وقع عند ابن إسحاق في سياق قصة الفتح، فقال العباس: أحد بعض المطابة، أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة، ثم قال في القصة: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن" فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، وعند موسى بن عقبة في "المغازي" أن أبا سفيان وحكيم بن حزام قالا: يا رسول الله! كنت حقيقًا أن تجعل عدتك
وكيدك بهوازن، فإنهم أبعد رحما وأشد عداوة، فقال:"إني لأرجو أن يجمعها الله لي فتح مكة، وإعزاز الإِسلام بها، وهزيمة هوازن، وغنيمة أموالهم"، فقال أبو سفيان وحكيم: ادعوا الناس بالأمان، أرأيت إن اعتزلت قريش فكفت أيديها أآمنون هم؟ قال:"من كف يده، وأغلق داره فهو آمن"، قالوا: فابعثنا نؤذن فيهم بذلك، قال:"انطلقوا، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم فهو آمن"، ودار أبي سفيان بأعلى مكة، ودار حكيم بأسفلها، فلما توجها قال العباس: يا رسول الله! إني لا آمن أبا سفيان أن يرتد فرده حتى تريه جنود الله، قال:"افعل".
فذكر القصة، وفي ذلك تصريح بعموم التأمين، فكان هذا أمانًا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة، فمن ثم قال الشافعي: كانت مكة مأمونة ولم يكن فتحها عنوة، والأمان كالصلح، وأما الذين تعرضوا للقتال أو الذين استثنوا من الأمان وأمر أن يقتلوا ولو تعلقوا بأستار الكعبة فلا يستلزم ذلك أنها فتحت عنوة، ويمكن الجمع بين حديث أبي هريرة في أمره صلى الله عليه وسلم بالقتال وبين حديث تأمينه صلى الله عليه وسلم لهم بأن يكون التأمين علق على شرط، وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال، فلما تفرقوا إلى دورهم ورضوا بالتأمين المذكور لم يستلزم أن أوباشهم الذين لم يقبلوا ذلك، وقاتلوا خالد بن الوليد ومن معه، فقاتلهم حتى قتلهم وهزمهم أن تكون البلد فتحت عنوة؛ لأن العبرة بالأصول لا بالأتباع، وبالأكثر لا بالأقل، ولا خلاف مع ذلك أنها لم يجر فيها قسم غنيمة ولا سبي من أهلها ممن باشر القتال أحد، وهو مما يؤيد قول من قال: لم يكن فتحها عنوة، وعند أبي داود بإسناد حسن عن جابر أنه سئل: هل غنمتم يوم الفتح شيئًا؟ قال: لا وجنحت طائفة -منهم الماوردي- إلى أن بعضها فتح عنوة لما وقع من قصة خالد بن الوليد المذكورة، وقرر ذلك الحاكم في "الإكليل"، والحق أن صورة فتحها كان عنوة ومعاملة أهلها معاملة من دخلت بأمان، ومنع جمع منهم السهيلي ترتب عدم قسمتها، وجواز بيع دورها وإجارتها على أنها فتحت صلحًا.
أما أولًا: فلأن الإِمام مخير في قسمة الأرض بين الغانمين إذا انتزعت من الكفار وبين إبقائها وقفًا على المسلمين، ولا يلزم من ذلك منع بيع الدور وإجارتها.
وأما ثانيًا: فقال بعضهم: لا تدخل الأرض في حكم الأموال؛ لأن من مضى كانوا إذا غلبوا الكفار لم يغنموا الأموال فتنزل النار فتأكل، أو تصير الأرض عمومًا لهم كما قال الله تعالى:{ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ، وقال:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} ، والمسألة مشهورة، هذا حاصل ما ذكر
في كون مكة فتحت عنوة أو صلحًا.
وقوله في آخر الحديث: "فكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: لا يرث المؤمن الكافر" في رواية الإسماعيلي، فمن أجل ذلك كان عمر يقول، وهذا القدر الموقوف على عمر قد ثبت مرفوعًا بهذا الإسناد، وهو عند المصنف في المغازي عن محمد بن أبي حفصة ومعمر، عن الزهري، وأخرجه مفردًا في الفرائض عن ابن جريج، ولفظ رواية المغازي: لا يرث المؤمن الكافر ولا السفر المؤمن، ولفظ رواية الفرائض: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، ويأتي قريبًا ما فيها من الروايات.
وقوله: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الآية، بالنصب يعني: بتمامها أو بتقدير اقرا، يعني أنهم كانوا يفسرون قوله تعالى:{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} بولاية الميراث، أي: يتولى بعضهم بعضًا في الميراث وغيره وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب حتى نسخ الله تعالى ذلك بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ، والذي يفهم من الآية المسوقة هنا أن المؤمنين يرث بعضهم بعضًا، ولا يلزم منه أن المؤمن لا يرث الكافر، لكنه مستفاد من بقية الآية المشار إليها بقول المصنف الآية، وهي قوله:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} أي: من توليهم في الميراث لأن الهجرة كانت في أول عهد البعثة من تمام الإيمان، فمن لم يكن مهاجرًا كأنه ليس مؤمنًا، فلهذا لم يرث المؤمن المهاجر من لم يهاجر تقدم لفظ الحديث:"لا يرث المؤمن الكافر"، وأخرجه النسائي بلفظ:"لا يتوارث أهل ملتين"، وجاءت رواية شاذة عن ابن عيينة مثلها، وله شاهد عند الترمذي، عن جابر، وآخر عند أبي يعلى عن عائشة، وثالث من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده في السنن الأربعة، وسند أبي داود فيه إلى عمرو صحيح، وتمسك بها من قال: لا يرث أهل ملة كافرة من أهل ملة أخرى كافرة.
وجملها الجمهور على أن المراد بإحدى الملتين الإِسلام وبالأخرى الكفر، فيكون مساويًا للرواية التي بلفظ حديث: وهو أولى من حملها على ظاهر عمومها، حتى يمتنع على اليهودي مثلًا أن يرث من النصراني.
ومذهب مالك أن اليهودي والنصراني لا يتوارثان، وما سواهما من الكفر كمجوسي وعابد وثن، ودهري ملّة واحدة يرث بعضهم بعضًا.
والأصح عند الشافعية أن الكافر يرث الكافر، وهو قول الحنفية والأكثر ومقابله عن أحمد،
وعنه: التفرقة بين الذمي والحربي، وكذا عند الشافعية، وعن أبي حنيفة: لا يتوارث حربي من ذمي، فإن كانا حربيين شرطا أن يكونا من دار واحدة.
وعند الشافعية لا فرق، وعندهم وجه كالحنفية، وعن الثوري وربيعة: وطائفة الكفر ثلاث ملل: يهودية ونصرانية وغيرهم، فلا ترث ملة من هذه من ملة من الملتين، وعن طائفة من أهل المدينة والبصرة: كل فريق من الكفار ملة، فلم يورثوا مجوسيًا، من وثني ولا يهوديًا من نصراني وهو قول الأوزاعي، وبالغ فقال: لا يرث أهل نِحلة من دين واحد أهل نحلة أُخرى منه كاليعقويية والملكية من النصارى.
واختلف في المرتد، فقال الشافعي وأحمد: يصير ماله إذا مات فيئًا للمسلمين، وقال مالك: يكون فيئًا إلا إن قصد بردته أن يحرم ورثته المسلمين فيكون لهم، وكذا قال في الزنديق، وعن أبي يوسف ومحمد: لورثته المسلمين، وعن أبي حنيفة: ما كسبه قبل الردة لورثته المسلمين، وبعد الردة لبيت المال، وعن بعض التابعين كعلقمة: يستحقه أهل دينه الذي انتقل إليه، وعن داود: يختص بورثته من أهل الدين الذي انتقل إليه، ولم يفصّل.
والحاصل من ذلك ستة مذاهب حررها الماوردي، واحتج القرطبي في "المفهم" لمذهبه بقوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} ، فهي ملل متعددة، وشرائع مختلفة، وأما ما احتجوا به من قوله تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} فوحد الملة، فلا حجة فيه لأن الوحدة في اللفظ، وفي المعنى الكثرة لأنه أضافه إلى مفيد الكثرة كقول القائل: أخذ من علماء الدين علمهم، يريد علم كل منهم، قال: واحتجوا بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، الخ، والجواب أن الخطاب بذلك وقع لكفار قريش، وهم أهل وثن، وأما ما أجابوا به عن حديث:"لا يتوارث أهل ملتين"، بأن المراد ملة الإِسلام، وملة الكفر، فالجواب عنه بأنه إذا صح في حديث أسامة فمردود في غيره، واستدل بقوله:"لا يرث المسلم الكافر" على جواز تخصيص عموم الكتاب بالآحاد؛ لأن قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} عام في الأولاد، فخص منه الولد الكافر، فلا يرث من المسلم بالحديث المذكور، وأجيب بأن المنع حصل بالإجماع، وخبر الواحد إذا حصل الإجماع على وفقه كان التخصيص بالإجماع لا بالخبر فقط، لكن يحتاج من احتج في الشق الثاني به إلى جواب، وقد قال بعض الحذاق: طريق العام هنا قطعي، ودلالته على كل فرد ظنية، وطريق الخاص هنا ظنية، ودلالته عليه قطعية فيتعادلان، ثم يترجح الخاص بأن العمل به يستلزم الجمع بين الدليلين المذكورين بخلاف عكسه، وحديث:"لا يرث المسلم الكافر"، قال