الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم
قال ابن بطال: غرضه أن يبين أن المستحب أن لا يشعر المحرم ولا يقلد إلا في ميقات بلده والذي يظهر أن غرضه الإشارة إلى رد قول مجاهد لا يشعر حتى يحرم أخرجه ابن أبي شيبة لقوله في الترجمة: من أشعر ثم أحرم ووجه الدلالة لذلك من حديث المسور قوله: حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد الهدي وأحرم فإن ظاهره البداءة بالتقليد ومن حديث عائشة.
قوله: ثم قلدها وأشعرها وما حرم عليه شيء، فإنه يدل على أن تقدم الإحرام ليس شرطًا في صحة التقليد والإشعار وأبين من ذلك لتحصيل مقصود الترجمة ما أخرجه مسلم عن ابن عباس قال صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهل بالحج.
ثم قال: وقال نافع: كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا أهدى زمن الحديبية وأشعره بذي الحليفة يطعن في شق سنامه الأيمن بالشفرة ووجهها قبل القبلة باركة قوله زمن الحديبية، وقع عند الكشميهني من المدينة، وهذا وصله مالك في الموطأ عن نافع أن ابن عمر كان إذا أهدى هديًا من المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام قلده بذي الحليفة يقلده قبل أن يشعره وذلك في مكان واحد وهو متوجه إلى القبلة يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر، ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة، ثم يدفع به، فإذا قدم غداة النحر نحوه، وعن نافع عن ابن عمر كان إذا طعن في سنام هديه وهو يشعره قال:"بسم الله والله أكبر".
وأخرج البيهقي عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يشعر بدنه من الشق الأيسر إلا أن تكون صعابًا، فإذا لم يستطع أن يدخل بينها أشعرها من الشق الأيمن، وإذا أراد أن يشعرها وجهها إلى القبلة، وتبين بهذا أن ابن عمر كان يطعن بالأيمن تارة، وفي الأيسر تارة بحسب ما يتهيأ له ذلك، فإن كانت البدنة ذللا أشعرها من الأيسر وإن كانت صعبة قرن بدنتين، ثم قام بينهما وأشعر إحداهما من الأيمن والأخرى من الأيسر وإلى الإشعار في الجانب الأيمن ذهب الشافعي وصاحبا أبي حنيفة وأحمد في رواية، وإلى الأيسر ذهب مالك وأحمد في رواية، قال في الفتح: ولم أر في حديث ابن عمر ما يدل على تقدم ذلك على إحرامه وذكر ابن عبد البر في الاستذكار عن مالك قال: لا يشعر الهدي إلا عند الإهلال يقلده ثم يشعره ثم يصلي ثم يحرم.
وفي الحديث مشروعية الإشعار وبه قال الجمهور من السلف والخلف، وذكر الطحاوي كراهته عن أبي حنيفة وذهب غيره إلى استحبابه للإتباع حتى صاحباه فقالا: هو حسن، وقال مالك يختص الإشعار بما لها سنام وصفته أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل دم ثم يسلته فيكون ذلك علامة على كونها هديًا أو يضرب صفحة سنامها بحديدة حتى يتلطخ بالدم ظاهرًا ولا نظر إلى ما فيه من الإِيلام؛ لأنه لا منع إلا ما منعه الشرع، وقال ابن حبيب: يشعر طولًا. وقال السفاقسي: عرضًا، والعرض عرض السنام من العنق إلى الذنب، وقال مجاهد: أشعر من حيث شئت، وأبعد من منع الإشعار واعتل بأنه كان مشروعًا قبل النهي عن المثلة فإن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، بل وقع الإشعار في حجة الوداع، وذلك بعد النهي عن المثلة بزمان وقال الخطابي وغيره: اعتلال من كره الإِشعار بأنه من المثلة مردود، بل هو من باب آخر كالكي وشق أذن الحيوان ليصير علامة، وغير ذلك من الوسم وكالختان والحجامة، وشفقة الإنسان على المال عادة فلا يخشى ما توهموه من سريان الحرج حتى يفضي ذلك إلى الهلاك ولو كان ذلك هو الملحوظ لقيده الذي كرهه به كان يقول: الإشعار الذي يفضي بالجرح إلى السراية حتى تهلك البدنة مكروه فيكون قريبًا، وقد قال الطحاوي: ثبت عن عائشة وابن عباس التخيير في الإشعار وتركه فدل على أنه ليس بنسك، لكنه غير مكروه لثبوت فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد كثر تشنيع المتقدمين على أبي حنيفة في إطلاقه كراهة الإِشعار، وانتصر له الطحاوي في المعاني فقال: لم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار، وإنما كره ما يفعل على وجه يخاف من هلاك البدن كسراية الجرح لاسيما مع الطعن بالشفرة، فأراد سد الباب على العامة، لأنهم كانوا لا يراعون الحد في ذلك.
وأما من كان عارفًا بالسنة في ذلك فلا، قلت: أبو حنيفة ليس مذهبه سد الذرائع، فلو كان في هذا ذريعة كان مالك أولى بسدها منه؛ لأن ذلك مذهبه، وروي عن إبراهيم النخعي أنه كره الإشعار أيضًا، ذكر ذلك الترمذي قال: سمعت أبا السائب قال: كنا عند وكيع فقال له رجل: روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة؟ فقال له وكيع: أقول لك: أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: قال إبراهيم، ما أحقك بأن تحبس، وبهذا يتعقب على الخطابي حيث قال: لا أعلم أحدًا كره الإِشعار إلا أبا حنيفة، وخالفه صاحباه فقالا بقول الجماعة، وعلى ابن حزم أيضًا في زعمه أنه ليس لأبي حنيفة في ذلك سلف، وقد بالغ ابن حزم في هذا الموضع ويتعين الرجوع إلى ما قال الطحاوي، فإنه أعلم من غيره بأقوال أصحابه واتفق من قال بالإشعار بإلحاق البقر في ذلك بالإبل إلا سعيد بن جبير، وعند المالكية ما له أسنمة من البقر يشعر وما لا فلا، واتفقوا على أن الغنم لا تشعر لضعفها ولكون صوفها أو شعرها يستر موضع الإشعار، وكذا لا تقلد كراهة عند مالك، وإشعارها حرام، ويقلد البقر مطلقًا وندب كون التقليد نعلين معلقين بشيء من نبات الأرض وفائدة الإشعار الإعلام بأنها صارت هديًا ليتبعها من يحتاج إلى ذلك وحتى لو اختلطت بغيرها تميزت أو ضلَّت عرفت أو عطبت عرفها