الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التلبية إذا انحدر في الوادي
أورد فيها الحديث الدال على أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين. أ. هـ.
الحديث الأربعون
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ أَنَّهُ قَالَ: مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذِ انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّى.
قوله: "فذكروا الدجال" قد مرَّ استيفاء الكلام عليه في باب الدعاء قبل السلام من أبواب صفة الصلاة، وقوله:"أما موسى فكأني أنظر إليه إذا انحدر في الوادي يلبي" وسيأتي بهذا الإسناد بأتم من هذا السياق في كتاب اللباس، وفيه: وأما موسى فرجل آدم جعد على جمل أحمر مخطوم بخلبة كأني انظر إليه إذا انحدر في الوادي، قال المهلب: هذا وهم من بعض رواته لأنه لم يأت أثر ولا خبر أن موسى حي، وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى، فاشتبه على الراوي، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر:"ليهلنّ ابن مريم بفج الروحاء". أ. هـ. وهو تغليط للثقات بمجرد التوهم، وسيأتي في اللباس بالإسناد المذكور بزيادة إبراهيم فيه، أفيقال إن الراوي غلط فزاده.
وأخرج مسلم الحديث عن ابن عباس بلفظ: "كأني انظر إلى موسى هابطًا من الثنية واضعًا أصبعيه في أذنيه مارًّا بهذا الوادي وله جؤار إلى الله بالتلبية" قاله لما مرَّ بوادي الأزرق، واستفيد منه تسمية الوادي، وهو خلف أمج بينه وبين مكة ميل واحد، وأمج بفتح الهمزة والميم وبالجيم قرية ذات مزارع هناك، وفي هذا الحديث أيضًا ذكر يونس، أفيقال إن الراوي غلط فيه أيضًا فزاد يونس، وقد اختلف أهل التحقيق في معنى قوله:"كأني انظر" على أوجه:
الأول: هو على الحقيقة، فإن الأنبياء أفضل من الشهداء، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فكذلك الأنبياء، فلا مانع أن يحجوا في هذا الحال، ويصلوا ويتقربوا إلى الله بما
استطاعوا ما دامت الدنيا وهي دار تكليف باقية، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى قائمًا في قبره يصلي، قال القرطبي: حببت إليهم العبادة، فهم يتعبدون بما يجدونه من دواعي أنفسهم، لا بما يلزمون به، كما يُلهم أهل الجنة الذكر، ويؤيده أن عمل الآخر ذكر ودعاء لقوله تعالى:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} الآية، لكن تمام هذا التوجيه أن يقال: إن المنظور إليه هي أرواحهم، فلعلها مثلت له صلى الله عليه وسلم في الدنيا، كما مثلت له ليلة الإِسراء، وأما أجسادهم فهي في قبورهم، قال ابن المنير وغيره: يجعل الله لروحه مثالًا فيروى في اليقظة كما يرى في النوم.
ثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم أري حالهم التي كانوا عليها في حياتهم، فمثلوا له كيف كانوا، وكيف كان حجهم وتلبيتهم، ولهذا قال في رواية ابن عباس عند مسلم: كأني انظر إلى موسى، كأني انظر إلى يونس.
ثالثها: أنه أخبر عما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم من أمرهم، وما كان منهم، ولشدة القطع به، قال: كأني انظر إليه، ولأجل هذا أدخل حرف التشبيه في الرواية، وحيث أطلقها فهي محمولة على ذلك.
رابعها: كأنها رؤية منام تقدمت له، فأخبر عنها لما حج عندما تذكر ذلك، ورؤيا الأنبياء وحي، واعتمد هذا بعضهم قائلًا: كون هذا في المنام لا يبعد، وقال ابن المنير: توهيم المهلب للراوي وهم منه، وإلا فأي فرق بين موسى وعيسى؛ لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع نزل إلى الأرض، وإنما ثبت أنه سينزل، وأجيب بأن المهلب أراد أن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق، فقال: كأني انظر إليه، ولهذا استدل بحديث أبي هريرة الذي فيه:"ليهلنَّ ابن مريم"، قلت: إذا كانت صلاتهم في أوقات مختلفة، وفي أماكن مختلفة لا يردها العقل، وقد ثبت بها النقل دل ذلك على حياتهم، وإذا ثبت أنهم أحياء من حيث النقل، فإنه يقويه من حيث النظر كون الشهداء أحياء بنص القرآن، والأنبياء أفضل من الشهداء، وقد جمع البيهقي كتابًا لطيفًا في حياة الأنبياء في قبورهم أورد فيه حديث أنس: الأنبياء أحياء في قبورهم، يصلُّون، أخرجه عن المستلم بن سعيد، وثَّقه أحمد وابن حبان عن الحجاج الأسود، وقد وثقه أحمد، وابن معين، وأخرجه أبو يعلى في مسنده من هذا الوجه، وأخرجه البزار عن الحجاج الأسود، وصححه البيهقي، وأخرجه البيهقي أيضًا عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أحد فقهاء الكوفة بلفظ آخر، قال: إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور، ومحمد سيىء الحفظ.
وذكر الغزالي والرافعي حديثًا مرفوعًا: أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث، ولا أصلي له إلا أن يؤخذ من رواية ابن أبي ليلى هذه، وليس الأخذ بجيد لأن رواية ابن أبي ليلى قابلة للتأويل، قلت: كيف يصح الأخذ منها وهي فيها التصريح بقوله: بعد أربعين ليلة؟ قال البيهقي: إن صح، فالمراد أنهم لا يتركون يصلون إلا هذا المقدار، ثم يكونون مصلين بين يدي الله تعالى، قال البيهقي: وشاهد الحديث الأول ما ثبت في صحيح مسلم عن أنس رفعه: مررت بموسى ليلة أُسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم في قبره يصلي، فإن قيل: هذا خاص بموسى، قلنا: قد وجدنا له شاهدًا أخرجه مسلم عن أبي هريرة رفعه: "لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، الحديث، وفيه: وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرب جعد كأنه"، الخ، وفيه:"وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس شبهًا به عروة بن مسعود، وإذا إبراهيم قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم، فحانت الصلاة فأممتهم"، قال البيهقي: وفي حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه لقيهم ببيت المقدس، فحضرت الصلاة، فأمَّهم نبينا عليه الصلاة والسلام، ثم اجتمعوا في بيت المقدس.
وفي حديث أبي ذر ومالك بن صعصعة في قصة الإِسراء أنه لقيهم في السموات، وطرق ذلك صحيحة، فيحمل على أنه رأى موسى قائمًا يصلي في قبره، ثم عرج به هو ومن ذكر من الأنبياء إلى السموات، فلقيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اجتمعوا في بيت المقدس، فحضرت الصلاة، فأمهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن شواهد الحديث ما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رفعه وقال فيه:"وصلُّوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" سنده صحيح، وأخرجه أبو الشيخ بسند جيد بلفظ:"من صلَّى عليَّ عند قبري سمعته، ومن صلَّى عليَّ نائيًا بلغته"، وعند أبي داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وغيره عن أوس بن أوس، رفعه في فضل يوم الجمعة:"فأكثروا على من الصلاة فيه، فإنَّ صلاتكم معروضة عليَّ"، قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال:"إن اللهَ حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، ومما يشكل على ما تقدم ما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رفعه: "ما من أحد يسلم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام، ورجاله ثقات.
ووجه الإشكال فيه أن ظاهره أن عود الروح إلى الجسد يقتضي انفصالها عنه، وهو الموت، وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة:
أحدها أن المراد بقوله: "ردَّ الله عليَّ روحي" أن رد روحه كان سابقًا عقب دفنه لا أنها