الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضًا وَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ.
قوله: في الترجمة سواء، هو ظاهر قوله في الحديث يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وفي رواية شعيب الآتية بعد باب يرفع يديه حين يكبر، وهذا دليل على المقارنة، وقد ورد تقديم الرفع على التكبير وعكسه، أخرجهما مسلم فروى حديث الباب عن ابن شهاب بلفظ رفع يديه ثم كبّر، وروى حديث مالك بن الحويرث كبّر ثم رفع يديه، وفي المقارنة وتقديم الرفع على التكبير خلافٌ بين العلماء، وأما تقديم التكبير على الرفع فلم أر من قال به، ورجح الأول حديث وائل بن حجر عند أبي داود بلفظ رفع يديه مع التكبير وهو المرجح عند الشافعية والمالكية.
وقضية المعية أنه ينتهي بانتهائه، وهو الذي صححه النووي في شرح المهذب ونقله عن نص الشافعي وهو المرجح عند المالكية، وصحح في الروضة تبعًا لأصلها أنه لا حد له لانتهائه، وقال صاحبُ الهدايةِ: الأصح عندَ الحنفيةِ يرفعُ يَدَيْهِ، ثمَّ يكبّر، لأنّ الرفعَ نفيُ صفة الكبرياء عن عبد الله، والتكبيرُ إثباتُ ذلك له، والنفيُ سابقٌ على الإِثباتِ كما في كلمة الشهادة، وهذا مبني على أن الحكمة في الرفع ما ذُكر.
وقد قيل: الحكمةُ في اقترانهما أن يراه الأصمّ ويسمعه الأعمى. وقيل: معناهُ الإشارة إلى طرح الدنيا، والإقبال بكليته على العبادة. وقيل: إشارة إلى الاستسلام والانقياد، ليناسب فعله قوله: الله أكبر. وقيل: إشارة إلى استعظام ما دخل فيه. وقيل إشارة إلى تمام القيام. وقيلَ إلى رفع الحجاب بين العبد والمعبود. وقيل: ليستقبل بجميع بدنه.
قال القرطبي: هذا أَنسبها. وقال الربيع: قلت للشافعي: ما معنى رفع اليدين؟ قال: تعظيم الله واتباع سنة نبيه. وقيل: إن سبب مشروعية الرفع هو أن المنافقين كانوا يجيئون بأصنامهم تحت آباطهم فأمرت الناس برفع اليدين لتسقط الأصنام من تحت آباطهم، فزال السبب وبقي المسبَّب.
ونقل ابن عبد البر عن ابن عمر أنه قال: رفع اليدين من زينة الصلاة. وعن عقبة بن عامر قال: بكل رفع عشر حسنات، بكل إصبع حسنة، وقوله: كان يرفع يديه حذو منكبيه.
قال النوويُّ: أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام. وقال ابنُ المنذر: لم يختلفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة. ونقل العبدريُّ عن الزيدية أنَّه لا يرفع. وخِلافهم لا يُعتد به وقال أبو جَوبة الأوزاعي والحميدي شيخ البخاري وابن خزيمة وداود وأحمد بن سيار بوجوبه. قال ابن عبد البر: كل من نقل عنه الإيجاب لا يُبطل الصلاة بتركه إلا في رواية عن الأوزاعي والحميدي. ونقل بعض الحنفية عن أبي حنيفة أنه يأثم بتركه. ونقل القفال عن أحمد بن سيار أنه أوجبه وأنه إذا لم يرفع لم تصح صلاته، وهو موافق لما مرَّ قريبًا عن الأوزاعي والحميدي.
وحكى القاضي حسين أيضًا لوجوب عن الإِمام أحمد. ونقله القرطبي في أوائل تفسيره عن بعض المالكية، واحتج ابن حزم بمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وقد قال:"صلّوا كما رأيتموني أصلّي". وقوله: حذْو منكبيه أي: بفتح المهملة وإسكان الذال المعجمة أي مقابلها. والمَنكِب مجمع عظم العضد والكتف، وبهذا أخذ الجمهور وهو أحد قولين مشهورين عند المالكية كما يأتي في تحرير مذهبهم. وذهبت الحنفية إلى أنه يرفع يديه حذاء أذنيه حتى يحاذي بإبهاميه شحمتيهما، وبرؤوس أصابعه فروع أذنيه، مستدلين بما رواه مسلم عن مالك بن الحويرث، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وفي لفظ: حتى يحاذي بهما فروع أذنيه. وعند الطحاوي عن البراء: حتى يكون إبهاماه قريبًا من شحمتي أذنيه.
وروى أبو ثور عن الشافعي أنه جمع بين حديث الباب وحديث مالك بن الحويرث فقال: يحاذي بظهر كفيه المنكبين وبأطراف أصابعه الأذنين. ويؤيده رواية عن وائل عند أبي داود بلفظ: حتى كانتا حيال منكبيه وحاذى بإبهاميه أذنيه. وبهذا قال المتأخرون من المالكية كما حكاه ابن عباس في الجواهر. لكن روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرفع يديه حذو منكبيه في الافتتاح وفي غيره دون ذلك. أخرجه أبو داود. ويعارضه قول ابن جريح قلنا لنافع: أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهن؟ قال: لا. ذكره أبو داود أيضًا، وقال: لم يذكر رفعهما دون ذلك غير مالك. وكيفية اليدين حالة الرفع مختلفة عند العلماء.
قال الطحاوي من الحنفية: يرفع ناشرًا أصابعه مستقبلًا بباطن كفّيه، لما في الأوسط للطبراني عن ابن عمر مرفوعًا: إذا استفتح أحدكم الصلاة فليرفع يديه وليستقبل بباطنهما القِبلة، فإن الله عز وجل أمامه.
وفي المحيط: ولا يفرج بين الأصابع تفريجًا، لما في الترمذي عن أبي هريرة قال: ثلاث كان يعمل بهن فتركهن الناس: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدكم إلى الصلاة هكذا، وأشار أبو عامر العقدي بيده ولم يفرج بين أصابعه ولم يضمها، وضعّفه. وفي الحاوي للماوردي يجعل باطن كل كف إلى
الأخرى. وعن القاضي يقيمهما محنيتين شيئًا يسيرًا. ونقل المحاملي عن أصحابهم: يستحب تفريق الأصابع.
وقال الغزالي لا يتكلف ضمًا ولا تفريقًا بل يتركهما على هيئتهما. وقال الرافعي: يفرق تفريقًا وسطًا. وفي المغني لابن قدامة يستحب أن يمد أصابعه ويضم بعضها إلى بعض. وتحرير ما قيل في رفعهما عند المالكية هو ما نظمه بعض علمائنا بقوله:
ارفع يديك حيث كنت قائمًا
…
بطنهما للأرض قيل للسما
فالأول الجمهور قال المذهبُ
…
وأصلها للفاكهانيْ ينسبُ
رعيًا لحال راهب والثاني
…
لراغب في نعم الديانِ
وقيل بل قائمتين يجري
…
كنابذ الدنيا وراء ظهرِ
وقيل بل واحدة إلى السما
…
والأخرى للتراب رعيًا لهما
ومنتهى الرفع على المشهور
…
إلى المناكب أو الصدور
وقيل للأذْن وقيل بل إلى
…
فوق الرؤوس رافعًا قد نُقلا
والرفع مندوب وقيل سُنة
…
وأصله أنّ النبيّ سَنَّه
كي تسقط الأصنام من آباط
…
من كان بالنفاق ذا ارتباط
من الذي يزول منه السبب
…
من بعده وبقي المسبَّب
وقد رويت آثار مشهورة دالة على ما قالوه. فقد قال ابن عبد البر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الرفع مداً مع الرأس وروي إلى صدره. وعن طاووس أنه كان يرفع يديه حتى يجاوز بهما رأسه. وقال رأيت ابن عباس يصنعه، ولا أعلم إلا أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه. وصححه ابن القطان.
وقوله: وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما، كذلك رواية القعنبي هذه عن مالك خلاف ما في روايته عنه في الموطأ، قال الدارقطني: رواه الشافعي والقعنبي وسرد جماعة من رواة الموطأ، فلم يذكروا فيه الرفع من الركوع، قال: وحدث به عن مالك في غير الموطأ ابن المبارك، وابن مهدي والقطان وغيرهم بإثباته، وقال ابن عبد البر: كل من رواه عن ابن شهاب أثبته غير مالك في الموطأ.
ورفع اليدين عند تكبير الركوع وعند رفع رأسه من الركوع هو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وابن جرير الطبري ورواية عن مالك والحسن البصري وابن سيرين وعطاء بن أبي رباح وابن المبارك وغيرهم.
قال البخاري في كتابه: رفع اليدين في الصلاة بعد أن أخرجه من طريق علي رضي الله تعالى عنه، وكذلك روي عن تسعة عشر رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يرفعون أيديهم عند الركوع، وعند أكثرهم. وزاد البيهقي جماعات.
وذكر ابن الأثير في شرحه أن ذلك روى عن أكثر من عشرين نفرًا، وزاد فيهم الخدري. وقال الحاكم: من جملتهم العشرةُ المشهودُ لهم بالجنة. وقال القاضي أبو الطيب: روى الرفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نيّف وثلاثون من الصحابة.
وعند أبي حنيفة وأصحابه لا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى، وبه قال الثوري والنخعي وابن أبي ليلى وعلقمة بن قيس وعامر الشعبي وأبو إسحاق السبيعي وهو رواية ابن القاسم عن مالك، وهو المشهور من مذهبه والمعمول به عند أصحابه. وقال الترمذي: وبه يقول غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين وهو قول سفيان وأهل الكوفة.
وفي البدائع عن ابن عباس أنه قال: العشرةُ الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ما كانوا يرفعون أيدَيهم إلا في افتتاح الصلاة. وقد قال ابن عبد البر: لم يروِ أحد عن مالك ترك الرفع فيهما إلا ابن القاسم. والذي نأخذ به الرفع لحديث ابن عمر وهو الذي رواه ابن وهْب وغيره ولم يحك الترمذي عن مالك غيره.
ونقل الخطابي وتبعه القرطبي في المفهم أنه آخر قولي مالك وأصحهما. قال: ولم أر للمالكية دليلًا عن تركه ولا متمسكًا إلا بقول ابن القاسم. قلت: دليل المالكية والحنفية ومن وافقهما النسخ. أما المالكية فيكلفيهم في نسخه كونه ليس عليه عمل أهل المدينة لكون عملها عندهم بمنزلة المتواتر مقدم على خبر الآحاد فلا يحتاجون إلى معارضة أحاديث الرفع بغيرها من الأدلة.
وعارضتها الحنفية وغيرهم بغيرها من الأدلة الدالة على نسخ الرفع لكونهم غير متّمسكين بهذا الأصل المتمسكة به المالكية. فاستدلوا على النسخ بما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لأصلّين لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع يديه إلا مرة واحدة. ورواه ابن عدي والدارقطني والبيهقي عن إبراهيم عن علقمة عنه بلفظ: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم يرفعوا أيديهم إلا عند الاستفتاح وهذا الحديث حسّنه الترمذي وصححه ابن حزم.
وقد قال إبراهيم النخعي للمغيرة حين قال له: إن وائلًا حدّث أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع: إنْ كان وائل رآه مرة فقد رآه عبد الله بن مسعود خمسين مرة لا يفعل ذلك.
ولا يقال إن خبر إبراهيم غير متصل لأنه لم يدرك عبد الله، لأنّا نقول إن عادة إبراهيم إذا أرسل حديثًا عن عبد الله لم يرسله إلا بعد صحته عنده من الرواة عنه وتكاثر الروايات عنه. ولا شك أن خبر الجماعة أقوى من خبر الواحد وأولى.
وأخرج الطحاوي بإسناد صحيح عن مجاهد قال: صلّيت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا عند التكبيرة الأولى من الصلاة. وأخرجه ابن أبي شَيبة في مصنَّفه عن مجاهد قال: ما رأيتُ ابنَ عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح.
قال الطحاوي: فهذا ابن عمر قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع، ثم ترك هو الرفع بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يكون ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ ما كان رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعله. وأجابوا عن هذا بأن في إسناده أبا بكر بن عيّاش قد ساء حفظه في آخره، وعلى تقدير صحته فقد أثبت ذلك سالم ونافع وغيرهما عنه، وستأتي رواية نافع بعد بابين، والعدد الكثير أولى من واحد لاسيّما وهم مثبتون، وهو ناف مع أن الجمع بين الروايتين ممكن، وهو أنه لم يكن يراه واجبًا، ففعله تارة وتركه أخرى.
ومما يدل على ضعفه ما رواه البخاري في جزء رفع اليدين عن مالك: أن ابن عمر كان إذا رأى رجلًا لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصى. وأجابوا أيضًا بأن طاوسًا قد ذكر أنه رأى ابن عمر يفعل ما يوافق ما روي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك.
وأجيب عن هذا كلّه: بأنه يجوز أن يكون ابن عمر فعل ما رواه طاوس وغيره يفعله قبل أن تقوم الحجة عنده بنسخه، ثم قامت الحجة عنده بنسخه فتركه وفعل ما ذكره عنه مجاهد. وهذا الجواب في غاية الحسن والجمع.
ومن دليل النسخ أيضًا ما روي أن عبد الله بن الزبير رأى رجلًا يرفع يديه في الصلاة عند الركوع وعند رفع رأسه منه، فقال له: لا تفعل. فإن هذا شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركه. واحتج القائلون بالرفع بما أخرجه الأربعة عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه رفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته إذا أراد أن يركع، ويصنعه إذا ركع ورفع من الركوع.
وهذا يعارضه ما أخرجه الطحاوي وأبو بكر بن أبي شَيبة عن عاصم بن كليب، وإسناده صحيح على شرط مسلم أن عليًا كان يرفع يديه في أول تكبيرة من الصلاة، ثم لا يرفع بعد. ومعلوم بديهة أن عليًا رضي الله تعالى عنه لا يجوزله أن يرى ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ثم يترك هو ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ الرفع في غير تكبيرة الإحرام.
ويدل على هذا ما روي عن ابن عبد البر المنتصر للرفع غاية فإنه قال: من روَى ترك الرفع في الركوع والرفع منه روي عنه فعلُه إلا ابنَ مسعود.
وقد قال بعض الحنفية إنه يُبطل الصلاة. ونسب بعض متأخري المغاربة فاعله إلى البدعة. ولهذا مال بعض محققيهم كما حكاه ابن دقيق العيد إلى تركه درءًا لهذه المفسدة. قال في الفتح: قد قال البخاري في جزء رفع اليدين: من زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة، فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركه. قال: ولا أسانيد أصح من أسانيد الرفع.
قلت: قوله: لم يثبت عن أحد منهم تركه، معارَض بما روي عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن الزبير، وعلي -رضي الله تعالى عنهم-. وقوله إن كونه بدعة طعن في الصحابة، يجاب عن هذا بأنه مبني على أن الصحابة الفاعلين له رجَعوا عنه لثبوت النسخ عندهم.
والمباحث هنا كثيرة، وقد أعرضنا عن باقيها اكتفاء بما ذكرنا. وقوله: وكان لا يفعل ذلك في