الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس والعشرون بعد المئة
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ.
قد مرّ قريبًا وجه إيراده هنا ومطابقته للترجمة، وقوله:"الغُسلُ يوم الجمعةِ واجبٌ على كلِّ محتلمٍ" وفي الرواية الآتية في "الجمعةِ" غسلُ يوم الجمعةِ واجبٌ على كلِّ محتلمٍ. واستدل بهذه الرواية الأخيرة من قال الغُسل لليوم للإضافة إليه ويأتي ما فيه من أول الجمعة واستنبط منه أيضًا أن ليوم الجمعة غُسلًا مخصوصًا حتى لو وجدت صورة الغُسل فيه لم يجز عن غُسل الجمعة إلا بالنيّة وقد أخذ به أبو قتادة: "فقال لابنه وقد رآه يغتسل يوم الجمعة: إن كان غسلك عن جنابة، فأعدْ غسلًا آخر للجمعة" أخرجه الطحاوي وابن المنذر وغيرهما. وعند المالكية إن نوى غُسل الجنابة والجمعة أو قصد نيابة الجنابة عن الجمعة حصل الغسلان، وإن نسي الجنابة أو قصد نيابة الجمعة عنها انتفيا. ورواية مسلم كرواية حديث الباب الغُسل يوم الجمعة وظاهره أن الغُسل حيث وجد فيه كفى لكون اليوم جعل ظرفًا للغسل، ويحتمل أن يكون اللام للعهد فتتفق الروايتان.
وقوله: "على كلّ محتلم" أي: بالغ، وإنما ذكر الاحتلام لكونه الغالب، واستدل به على دخول النساء في ذلك ويأتي في الجمعة ما قيل في ذلك، واستدل بقوله واجب على فرضية غُسل الجمعة. وقد حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمّار بن ياسر وغيرهما وهو قول أهل الظاهر ورواية عن أحمد، وحكاه ابن حزم عن عمر وجم الصحابة ومَنْ بعدهم، ثم ساق الرواية عنهم لكن ليس فيها عن أحد منهم التصريح بذلك إلا نادرًا وإنما اعتمد في ذلك على أشياء محتملة كقول سعد: ما كنت أظن مسلمًا يدع غسل يوم الجمعة. وحكاه ابن المنذر والخطابي عن مالك. وقال عياض وغيره: ليس ذلك بمعروف في مذهبه. وقال ابن دقيق العيد: قد نص مالك على وجوبه فحمله من لمن يمارس مذهبه على ظاهره، وأبى ذلك أصحابه والرواية عن مالك في "التمهيد"، وفيه أيضًا من طريق أشهب عن مالك أنه سئل عنه فقال: حسن بواجب. قلت: مشهور مذهب مالك أنه سنة على مَنْ يريد حضور الجمعة ولو لم تلزمه، وسن أيضًا اتصاله بالذهاب إلى الجمعة. وقيل إنه مندوب، وقيل واجب، وقيل واجب في ذوي الرائحة دون غيره، ونظم شيخنا عبد الله الأقوال المذكورة فقال:
يسنُ غسلُ جمعةٍ أو يجبُ
…
أو في ذوي رائحةٍ أو يُندبُ
وحكى بعض المتأخرين الوجوب عن ابن خزيمة وهو غلط عليه، فقد صرّح في "صحيحه" أنه على الاختيار، واحتج لكونه مندوبًا بعدة أحاديث في عدة تراجم، وحكاه شارح "الغُنية" لابن سريج قولًا للشافعي، واستغرب وقد قال الشافعي في "الرسالة" بعد أن أورد حديثي ابن عمر وأبي سعيد احتمل قوله معنيين الظاهر منهما أنه واجب، فلا تجزىء الطهارة لصلاة الجمعة إلا بالغسل، واحتمل أنه واجب في الاختيار ومكارم الأخلاق والنظافة، ثم استدل للاحتمال الثاني بقصة عثمان مع عمر الآتية في الجمعة قال: فلما لم يترك عثمان الصلاة للغُسل ولم يأمره عمر بالخروج للغُسل دلّ ذلك على أنهما قد علما بأن الأمر بالغُسل للاختيار، وعلى هذا الجواب عوّل كثير من المصنفين في هذه المسألة كابن خزيمة والطبري والطحاوي وابن حِبّان وابن عبد البر وهلّم جرا. وزاد بعضهم أن مَنْ حضر من الصحابة وافقهما على ذلك، فكان إجماعًا منهم على أن الغسل ليس شرطًا في صحة الصلاة، وهو استدلال قوي. وقد نقل الخطابي وغيره الإجماع على أن صلاة الجمعة بدون الغُسل مجزئة، لكن حكى الطبري عن قوم أنهم قالوا بوجوبه ولم يقولوا إنه شرط بل هو واجب مستقل تصح الصلاة بدونه كأن أصله قصد التنظيف وإزالة الروائح الكريهة التي يتأذى بها الحاضرون من الملائكة والناس، وهو موافق لقول مَنْ قال يحرم أكل الثوم على مَنْ قصد الصلاة في الجماعة، ويرد عليه أنه يلزم من ذلك تأثيم عثمان. والجواب أنه كان معذورًا؛ لأنه إنما تركه ذاهلًا عن الوقت مع أنه يحتمل أن يكون قد اغتسل في أوّل النهار لما ثبت في "مسلم" عن حمران أن عثمان لم يكن يمضي عليه يوم حتى يفيض عليه الماء، وإنما لم يعتذر بذلك لعمر كما اعتذر عن التأخر؛ لأنه لم يتصل غسله بذهابه إلى الجمعة كما هو الأفضل.
وعن بعض الحنابلة التفصيل بين ذي النظافة فيجب على الثاني دون الأول نظرًا إلى العلة وحكى ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه أن قصة عمر وعثمان تدل على وجوب الغُسل لا على عدم وجوبه من جهة ترك عمر الخطبة واشتغاله بمعاتبة عثمان وتوبيخ مثله على رؤوس الناس، فلو كان ترك الغُسل مباحًا لما فعل عمر ذلك وإنما لم يرجع عثمان للغُسل لضيق الوقت أو لو فعل لفاتته الجمعة أو لكونه كان اغتسل كما مرّ. وقال ابن دقيق العيد: ذهب الأكثرون إلى استحباب غُسل الجمعة وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر، وقد أوّلوا صيغة الأمر على الندب وصيغة الوجوب على التأكيد كما يقال (إكرامك عليّ واجب) وهو تأويل ضعيف إنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحًا على هذا الظاهر، وأقوى ما عارضوا به هذا الظاهر حديث:"مَنْ توضأَ يومَ الجمعةِ فيها ونعمتْ وَمنْ اغتسلَ فالغُسلُ أفضلُ" فعوّل على المعارضة به كثير من المصنفين، ووجه الدلالة منه قوله:"فالغُسلُ أفضل" فإنه يقتضي اشتراك الوضوء والغُسل في أصل الفضل، فيستلزم إجزاء الوضوء ولهذا الحديث طرق أشهرها وأقواها رواية الحسن عن سمرة أخرجها أصحاب "السنن" الثلاثة وابن خزيمة وابن حِبّان وله علتان: إحداهما أنه من عنعنة الحسن. والأخرى أنه
اختلف عليه فيه، وعلى كل حال سنده لا يعارض سند هذه الأحاديث. وأخرجه ابن ماجه عن أنس والطبراني عن عبد الرحمن بن سمرة والبزار عن أبي سعيد وابن عدي عن جابر وكلها ضعيفة، وقد تأولوا حديث الباب بتأويل مستنكر وهو ما نقله ابن دحية عن القدوري من الحنفية فحمل لفظ الوجوب على السقوط فقال: قوله: "واجب" أي: ساقط، وقوله:"على" بمعنى (عن) فيكون المعنى أنه غير لازم ولا يخفى ما فيه من التكلف.
وقال الزين بن المنير: أصل الوجوب في اللغة السقوط، فلما كان في الخطاب على غث ثقيل كان كل ما أكد طلبه منه يسمى واجبًا كأنه سقط عليه، وهم أعم من كونه فرضًا أو ندبًا، وتعقب هذا بأن اللفظ الشرعي خاص بمقتضاه شرعًا لا وضعًا. وكأن الزين استشعر هذا الجواب فزاد أن تخصيص الواجب بالفرض اصطلاح حادث. وأجيب بأن لفظ وجب في اللغة لم ينحصر في السقوط، بل ورد بمعنى مات واضطرب ولزم وغير ذلك والذي يتبادر إلى الفهم منها في الأحاديث أنها بمعنى لزم لاسيما إذا سيقت لبيان الحكم، وفي بعض طرق حديث ابن عمر الآتي في الجمعة "الجمعة واجبة على كل مُحتلمٍ" وهو بمعنى اللزوم وأجاب عنه بعض القائلين بالندبية بأن التشبيه في الكيفية لا في الحكم. وقال ابن الجوزي يحتمل أن يكون لفظة الوجوب مغيرة من بعض الرواة أو ثابتة، ونسخ الوجوب وردّ بأن الطعن في الروايات الثابتة بالظن الذين لا مستند له لا يقبل، والنسخ لا يصار إليه إلابدليل، ومجموع الأحاديث يدل على استمرار الحكم فإن في حديث عائشة أن ذلك كان في أول الحال حيث كانوا مجهودين وأبو هريرة وابن عباس إنما صحبا النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن حصل التوسع بالنسبة إلى ما كانوا فيه أولًا، ومع ذلك فقد سمع كل منهما منه صلى الله عليه وسلم الأمر بالغُسل والحث عليه والترغيب فيه، فكيف يدعى النسخ بعد ذلك وقد عارضوا حديث الباب أيضًا بأحاديث منها الحديث الآتي في الجمعة عن أبي سعيد فإن فيه "وأن يستن وأن يمسّ طيبًا". قال القرطبي: ظاهره وجوب الاستنان والطيب كذلك قال: وليسا واجبين اتفاقًا فدل على أن الغُسل ليس بواجب إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب بلفظ واحد، وتعقب بأنه لا يمتنع عطف ما ليس بواجب على الواجب لاسيما ولم يقع التصريح بحكم المعطوف.
وقال ابن المنير: إن سلم أن المراد بالواجب الفرض لم ينفع دفعه بعطف ما ليس بواجب عليه؛ لأن للقائل أن يقول أخرج بدليل فبقي ما عداه على الأصل وعلى أن دعوى الإِجماع في الطيب مردود ففي "جامع سفيان بن عُيينة" عن أبي هريرة "أنه كان يُوجبُ الطيبَ يومَ الجمعةِ" وإسناده صحيح، وكذا قال بوجوله بعض أهل الظاهر. قلت: يجاب عن هذا بأن الإجماع انعقد بعد عصر أبي هريرة، وبأن خلاف بعض أهل الظاهر لا يبطل الإجماع كما هو مقرر عند أهل الأُصول ومنها حديث أبي هريرة مرفوعًا أخرجه مسلم:"مَنْ توضأ فأحسنَ الوضوءَ ثم أتى الجمعةَ فاستمعَ وأنصتَ غُفرَ له". وقال القرطبي: ذكر الوضوء وما معه مرتبًا عليه الثواب المقتضي للصحة، فدل على أن الوضوء كاف وأجيب بأنه ليس فيه نفي الغُسل، وقد ورد من وجه آخر في "الصحيحين"