الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث المئة
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ. فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
قوله: "عن شقيق" في رواية يحيى الآتية بعد باب عن الأعمش حدّثني شقيق، وقوله:"كنَّا إذا صلّينا" في رواية يحيى المذكورة كنّا إذا كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة ولأبي داود عن مسدد إذا جلسنا، ومثله للإِسماعيلي ولابن إسحاق في مسنده عن الأعمش نحوه:"قلنا السلام على جبريل" في هذه الرواية اختصار ثبت في رواية يحيى المذكورة، وهو:"قلنا السلام على الله من عباده" وأخرجه أبو داود عن مسدد كذلك وكذا المصنف في "الاستئذان" عن حفص بن غياث ولفظه في رواية يحيى المذكورة: "لا تقولوا السَّلامُ على اللهِ فإنّ اللهَ هو السَّلامُ". وبهذه الزيادة يتبيّن موقع قوله صلى الله عليه وسلم إن الله هو السلام.
وقوله: "السلام على فلانٍ وفلان" في رواية عبد الله بن نمير عند ابن ماجه يعنون الملائكة، وللإِسماعيلي عن علي بن مسهر فنعدّ الملائكة. ومثله للسراج عن محمد بن فضيل، فنعدّ من الملائكة ما شاء الله.
وقوله: "فالتفت إلينا" ظاهره أنه كلمهم بذلك في أثناء الصلاة ونحوه في رواية حصين عن أبي وائل عند المصنف في أواخر الصلاة بلفظ فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قولوا" لكن بيّن حفص بن غياث في روايته المذكورة المحل الذي خاطبهم فيه بذلك، وأنه بعد الفراغ من الصلاة ولفظه:"فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا بوجهه". وفي رواية عيسى بن يونس أيضًا: "فلما انصرف من الصلاة" قال وقوله: "إن الله هو السلام" قال البيضاوي: ما حاصله أنه صلى الله عليه وسلم أنكر التسليم على الله، وبيّن أن ذلك عكس ما يجب أن يقال، فأن كل سلام ورحمة له ومنه وهو مالكها ومعطيها. وقال
التوربشتي: وجه النهي عن السلام على الله تعالى؛ لأنه هو المرجوع إليه بالمسائل المتعالي عن المعاني المذكورة فكيف يدعى له وهو المدعو على الحالات؟ وقال الخطابي: المراد أن الله هو ذو السلام، فلا تقولوا السلام على الله فإن السلام منه بدأ وإليه يعود ومرجع الأمر في إضافته إليه أنه ذو السلام من كل آفة وعيب، ويحتمل أن يكون مرجعها إلى حفظ العبد فيما يطلبه من السلامة من الآفات والمهالك. وقال النووي معناه أن السلام اسم من أسماء الله تعالى يعني السالم من النقائص. ويقال المسلم أولياءه وقيل المسلم عليهم قال ابن الأنباري: أمرهم أن يصرفوه إلى الخلق لحاجتهم إلى السلامة وغناه سبحانه وتعالى عنها.
وقوله: "فإذا صلّى أحدكم فليقل" في رواية حفص في الاستيذان: "فإذا جلس أحدكم في الصلاة" وفي رواته حصين في أواخر الصلاة: "إذا قعد أحدكم في الصلاة". وللنسائي عن أبي الأحوص عن عبد الله كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين وأن محمدًا عَلِم فواتح الخير وخواتمه فقال: "إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا" وله من طريق الأسود عن عبد الله: "فقولوا في كل جلسة"، ولابن خزيمة عن الأسود عن عبد الله "علّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها". وزاد الطحاوي في أوله:"وأخذت التشهد من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقنيه كلمة كلمة". وللمصنف في الاستيذان عن أبي معمر عن ابن مسعود: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن". وقد قال الشافعي إن التشهد الأول سنة والثاني واجب. وقال أحمد: الأول واجب يجبر تركه بالسجود، والثاني ركن تبطل الصلاة بتركه، وقد مرّ أن التشهد كله سنة عند المالكية، ومرّ الخلاف فيه عند الحنفية في باب مَنْ لم يرَ التشهد الأول واجبًا. واستدل القائل بوجوبه يحمل قوله هنا فليقل على الوجوب. وأجاب النافون للوجوب بأن التسبيح في الركوع والسجود مندوب، وقد وقع الأمر به في قوله صلى الله عليه وسلم لما نزلت:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} اجعلوها في ركوعكم .. الحديث، فكذلك التشهد. وأجاب الكرماني بأن الأمر حقيقته الوجوب فيحمل عليه إلا إذا دلّ دليل على خلافه، ولولا الإِجماع على عدم وجوب التسبيح في الركوع والسجود لحملناه على الوجوب، وفي دعوى هذا الإِجماع نظر فإن أحمد يقول بوجوبه وبوجوب التشهد الأول أيضًا ورواية أبي الأحوص المتقدمة تقوية. وقد جاء عن ابن مسعود التصريح بفرضية التشهد، وذلك فيما رواه الدارقطني وغيره بإسناد صحيح عن علقمة عنه قال: كنّا لا ندري ما نقول قبل أن يفرض علينا التشهد. قلت: حديث ابن مسعود في أكثر طرقه التصريح بأن التشهد في كل ركعتين كرواية أبي الأحوص ورواية الأسود فقولوا في كل جلسة ولابن خزيمة في وسط الصلاة وفي آخرها، فلم خصصت الشافعية الوجوب بالتشهد الأخير؟
وقوله: "التحيّات" جمع تحية ومعناها السلام، وقيل البقاء، وقيل العظمة، وقيل السلامة من الآفات والنقص، وقيل الملك. وقال أبو سعيد الضرير: ليست التحية الملك نفسه، لكنها الكلام الذي يحيى به الملك. وقال ابن قتيبة: لم يكن يحيى إلا الملك خاصة، وكان لكل ملك تحية
تخصه؛ فلهذا جمعت فكان المعنى التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كلها مستحقة لله. وقال الخطابي ثم البغوي: ولم يكن في تحياتهم شيء يصلح للثناء على الله؛ فلهذا أبهمت ألفاظها واستعمل منها معنى التعظيم، فقال:"قولوا التحيات لله" أي: أنواع التعظيم له. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون لفظ التحية مشتركًا بين المعاني المقدم ذكرها وكونها بمعنى السلام أنسب.
وقوله: "والصلوات" قيل المراد الخمس أو ما هو أعم من ذلك من الفرائض والنوافل في كل شريعة. وقيل المراد العبادات كلها، وقيل الدعوات وقيل المراد الرحمة. وقيل التحيات العبادات القولية والصلوات العبادات الفعلية. و"الطيبات" الصدقات المالية.
وقوله: "والطيبات" أي: ما طاب من الكلام وحسن أن يثنى به على الله دون ما لا يليق بصفاته مما كان الملوك يحيون به. وقيل الطيبات ذكر الله وقيل الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء. وقيل الأعمال الصالحة وهو أعم، قال ابن دقيق العيد: إذا حمل التحية على السلام فيكون التقدير التحيات التي تعظم بها الملوك مستمرة لله، وإذا حمل على البقاء فلا شك في اختصاص الله به، وكذلك الملك الحقيقي والعظمة التامة، وإذا حملت الصلاة على الجنس أو العهد كان التقدير أنها لله واجبة لا يجوز أن يقصد بها غيره، وإذا حملت على الرحمة فيكون معنى قوله لله أنه المتفضل بها؛ لأن بها الرحمة التامة لله يؤتيها من يشاء، وإذا حملت على الدعاء فظاهر.
وأما الطيبات فقد فسرت بالأقوال، ولعل تفسيرها بما هو أعم أولى فتشمل الأقوال والأفعال والأوصاف وطيبها كونها كاملة خالصة عن الشوائب. وقال القرطبي: قوله: "لله" فيه تنبيه على الإِخلاص في العبادة أي أن ذلك لا يفعل إلا الله، ويحتمل أن يراد به الاعتراف بأنه ملك الملوك وغير ذلك مما ذكر كله في الحقيقة لله تعالى. وقال البيضاوي: ويحتمل أن يكون والصلوات والطيبات عطفا على التحيات، ويحتمل أن يكون الصلوات مبتدأ وخبره محذوف والطيبات معطوفة عليها والواو الأولى لعطف الجملة على الجملة، والثانية لعطف المفرد على الجملة. وقال ابن مالك: إذا جعلت التحيات مبتدأ ولم تكن صفة لموصوف محذوف، كان قولك والصلوات مبتدأ لئلا يعطف نعت على منعوته، فيكون من باب عطف الجمل بعضها على بعض، وكل جملة مستقلة بفائدتها وهذا المعنى لا يوجد عند إسقاط الواو؛ لأن الواو تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فتكون كل جملة ثناء مستقلًا بخلاف ما إذا حذفت فإنها تكون صفة لما قبلها، وتعدد الثناء صريح في الأول فيكون أولى. ولو قيل إن الواو مقدرة في الثاني.
وقوله: "السلام عليك أيها النبي" قال النووي: يجوز فيه وفيما بعده حذف اللام وإثباتها والإِثبات أفضل وهو الموجود في روايات "الصحيحين". قال في "الفتح": لم يقع في شيء من طريق حديث ابن مسعود حذف اللام وإنما اختلف ذلك في حديث ابن عباس وهو من أفراد مسلم.
قال الطيبي: أصل سلام عليك سلمت سلامًا عليك ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه، وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره، ثم التعريف إما للعهد التقديري أي ذلك السلام الذي وجه إلى الرسل والأنبياء عليك أيها النبي، وكذلك السلام الذي وجه إلى الأُمم السالفة علينا وعلى إخواننا. وأما للجنس والمعنى أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل واحد وعمن يصدر وعلى مَنْ ينزل عليك وعلينا ويجوز أن يكون للعهد الخارجي إشارة إلى قوله تعالى:{وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال: ولا شك أن هذه التقادير أولى من تقدير النكرة، وحكى عن أبي حامد أن التنكير فيه للتعظيم وهو وجه من وجوه الترجيح لا يقصر عن الوجوه المتقدمة. وقال البيضاوي: علمهم أن يفردوه صلى الله عليه وسلم بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم، ثم علمهم أن يخصصوا أنفسهم أولًا؛ لأن الاهتمام بها أهم ثم أمرهم بتعميم السلام على الصالحين إعلامًا منه بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملًا لهم. وقال التوربشتي: السلام بمعنى السلامة كالمقام والمقامة، والسلام من أسماء الله تعالى وضع المصدر موضع الاسم مبالغة، والمعنى سالم من كل عيب وآفة ونقص وفساد. ومعنى قولنا: السلام عليك كأنه تبرك عليه باسم الله تعالى فإن قيل كيف شرع هذا اللفظ وهو خطاب بشر مع كونه منهيًا عنه في الصلاة؟ فالجواب أن ذلك من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فإن قيل ما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب في قوله عليك أيها النبي مع أن لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق كأَن يقول السلام على النبي فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي، ثم إلى تحية النفس، ثم إلى الصالحين. أجاب الطيبي بما محصله نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي كان علمه الصحابة ويحتمل أن يقال على طريق أهل العرفان أن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات أذن لهم بالدخول في حريم الحي الذي لا يموت، فقرت أعينهم بالمناجاة فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابعته فالتفتوا فإذا الحبيب في حرم الحبيب حاضر، فأقبلوا عليه قائلين السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
وقد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود هذا ما يقتضي المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم فيقال بلفظ الخطاب وما بعده، فيقال بلفظ الغيبة ففي "الاستئذان" عند المصنف عن أبي معمر عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التشهد قال: وهو بين ظهرانينا فلما قبض قلنا السلام يعني على النبي. وأخرجه أبو عوانة في صحيحه والسراج والجوزقي وأبو نعيم الأصبهاني والبيهقي من طرق متعددة إلى أبي نعيم شيخ البخاري بلفظ: "فلما قبض قلنا السلام على النبي" بحذف لفظ يعني، وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي نعيم. قال السبكي: إن صحت رواية أبي عوانة عن الصحابة دلّت على أن الخطاب في السلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم غير واجب فيقال: السلام على النبي. قال في "الفتح": الرواية صحيحة ولها متابع قوي، أخرجه عبد الرزاق عن عطاء أن الصحابة كانوا يقولون: والنبي صلى الله عليه وسلم حي السلام عليك أيها النبي، فلما مات قالوا: السلام على النبي. وهذا إسناد صحيح. وأما ما روى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد
فذكره قال، فقال ابن عباس:"إنما كنا نقول السلام عليك أيها النبي إذا كان حيًا". فقال ابن مسعود: هكذا علّمنا، وهكذا نعلّم. فظاهره أن ابن عباس قاله بحثًا وأن ابن مسعود لم يرجع إليه، لكن رواية أبي معمر أصح؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه والإسناد إليه ضعيف. فإن قيل: لم عدل عن الوصف بالرسالة إلى الوصف بالنبوءة مع أن الوصف بالرسالة أعم في حق البشر؟ أجاب بعضهم بأن الحكمة في ذلك أن يجمع له الوصفين لكونه وصفه بالرسالة في آخر التشهد وإن كان الرسول البشري يستلزم النبوءة لكن التصريح بهما أبلغ. قيل: والحكمة في تقديم الوصف للنبوءة أنها كذلك وجدت في الخارج لنزول قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} قبل قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} .
وقوله: "ورحمة الله" أي: إحسانه، "وبركاته" أي: زيادته من كل خير. وقوله: "السلام علينا" استدل به على استحباب البداءة بالنفس في الدعاء، وفي "الترمذيّ" مصححًا من حديث أُبي بن كعب:"أنّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكرَ أحدًا فدعا لهُ بدأ بنفسهِ". وأصله في "مسلم"، ومنه قول نوح وإبراهيم عليهما السلام كما في التنزيل.
وقوله: "وعلى عباد الله الصالحين" الأشهر في تفسير الصالح أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده، وتتفاوت درجاته قال الترمذِيّ الحكيم: مَنْ أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في الصلاة، فليكن عبدًا صالحًا وإلا حُرم هذا الفضل العظيم. وقال الفاكهاني: ينبغي للمصلي أن يستحضر في هذا المحل جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين ليتوافق لفظه مع قصده.
وقوله: "فإنكم إذا قلتموها" أي كلمة: "وعلى عباد الله الصالحين" وهو كلام معترض بين قوله الصالحين وقوله: "أشهد أن لا إله إلَاّ الله" إلخ، وإنما قدمت للاهتمام بها لكونه أنكر عدّ الملائكة واحدًا واحدًا، ولا يمكن استيعابهم لهم مع ذلك فعلَّمهم لفظًا يشمل الجميع مع غير الملائكة من النبيين والمرسلين والصدّيقين وغيرهم بغير مشقة، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم وإلى ذلك الإِشارة يقول ابن مسعود:"وأن محمدًا عُلِّم فواتح الخير وخواتمه" كما تقدم. وقد ورد في بعض طرقه سياق التشهد متواليًا وتأخير الكلام المذكور بعد، وهو من تصرف الرواة وسيأتي في أواخر الصلاة.
وقوله: "أصابت كل عبد لله صالح" استدل به على الجمع المضاف، والجمع المحلى بالألف واللام يعمّ لقوله أولًا عباد الله الصالحين، ثم قال: أصابت كل عبدٍ صالح، واستدل به على أن للعموم صيغة. قال ابن دقيق العيد: وهو مقطوع به عندنا في لسان العرب وتصرفات ألفاظ الكتاب والسنة والاستدلال بهذا فرد من أفراد لا تحصى لا للاقتصار عليه قوله: "في السماء والأرض" في رواية مسدد عن يحيى أو بين السماء والأرض، والشك فيه من مسدد وإلا فقد رواه غيره عن يحيى
بلفظ من أهل السماء والأرض أخرجه الإسماعيلي وغيره. قلت: استنبط الفقهاء من هذا أن من قال لعبد صالح فلان يسلم عليك من غير أن يأمره المسلم بذلك لا يكون كاذبًا فيما قال؛ لشمول اللفظ له، وقد رأيت في بعض كتب المالكية أن التشهد كان وقوعه ليلة الإسراء فإن النبي عليه الصلاة والسلام عند مفاتحة التكليم تفكر فيما يحيى به الله جل جلاله لكونه داخلًا في حضرة القدس، فألهمه الله تعالى التحيات لله إلخ، ثم حيّاه الله تعالى بقوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فتذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمته فقال السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين جامعًا مع أُمته كل عبد لله صالح، فلما سمعت الملائكة هذه المراجعة قالت: أشهد أن لا إله إلا الله إلخ لما رأوا من تعظيم الله تعالى لنبيّه وثبات جنان نبيّه عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف العظيم حيث تذكر أمته ولم يذهل عنهم. وهذا المعنى في غاية الحسن إلَاّ أنني لم أقف على سنده، وهو لا يكون من جهة الرأي.
وقوله: "أشهد أن لا إله إلاّ الله" زاد ابن أبي شيبة عن أبي عبيدة عن أبيه وجده: "لا شريكَ له" وسنده ضعيف، لكن ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى عند مسلم، وفي حديث عائشة الموقوف في "الموطأ" وفي حديث ابن عمر عند الدارقطني إلا أن سنده ضعيف. وقد روى أبو داود من وجه آخر صحيح عن ابن عمر في التشهد:"أشهد أن لا إله إلَاّ الله"، قال ابن عمر: زدت فيها: "وحده لا شريك له"، وهذا ظاهره الوقف.
وقوله: "وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" لم تختلف الطرق عن ابن مسعود في ذلك، وكذا هو في حديث أبي موسى وابن عمر وعائشة المذكور وجابر وابن الزبير عند الطحاوي وغيره. وروى عبد الرزاق عن عطاء قال:"بينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعلمُ التشهدَ إذ قال رجل: وأشهد أن محمدًا رسولُهُ وعبدُه، فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد كنتُ عبدًا قبلَ أن أكونَ رسولًا، قُلْ عبدُهُ ورسولُهُ"، ورجاله ثقات إلا أنه مرسل. وفي حديث ابن عباس عند مسلم وأصحاب السنن: "وأشهد أن محمدًا رسول الله" ومنهم مَنْ حذف وأشهد، ورواه ابن ماجه بلفظ ابن مسعود.
قال التِّرمِذِيّ: حديث ابن مسعود عنه من غير وجه وهو أصح حديث روي في التشهد والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة، ومن بعدهم وأخذ به أبو حنيفة وأحمد من الأئمة، ولما سُئل البزار عن أصح حديث في التشهد قال: هو عندي حديث ابن مسعود روي من نيف وعشرين طريقًا، ثم سرد أكثرها وقال: لا أعلم في التشهد أثبت منه ولا أصح أسانيدًا. ولا أشهر رجالًا. ولا اختلاف بين أهل الحديث في ذلك وممن جزم بذلك البغوي في "شرح السنة"، ومن رجحانه أنه متفق عليه دون غيره، وأن الرواة عنه من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره، وأنه تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم تلقيًا كما مرّ عن الطحاوي وعن أبي معمر وروى ابن أبي شيبة عن أبي وائل عنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّمُنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآنِ، وقدْ وافقَهُ على هذا اللفظِ أبو سعيدٍ الخدري، وساقَهُ بلفظِ ابن مسعودٍ" أخرجه الطحاوي لكن هذا الأخير ثبت مثله في
حديث ابن عباس عند مسلم كما يأتي قريبًا عند ذكر لفظه ورجح أيضًا بثبوت الواو في الصلوات والطيبات؛ لأنها تقتضي المغايرة إلخ ما مرّ، ورجّح أيضًا بأنه ورد بصيغة الأمر بخلاف غير فإنه مجرد حكاية.
ولأحمد عن ابن مسعود: "أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم علَّمَهُ التشهدَ وأمرَهُ أن يعلِّمه الناسَ". ولم ينقل ذلك لغيره، ففيه دليل على مزيته. وذهب جماعة من محدثي الشافعية كابن المنذر إلى اختياره، وذهب بعضهم كابن خزيمة إلى عدم الترجيح، واختار الشافعي لفظ حديث ابن عباس المخرج عند الجماعة إلا البخاري ولفظه:"كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يعلِّمُنا التشهدَ كما يعلِّمُنا السورةَ مِنَ القرآنِ، وكانَ يقولُ: التحيّاتُ المباركاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله، السَّلامُ عليكَ أيها النَّبيُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ، السَّلامُ علينا وعلى عبادِ اللهِ الصالحينَ، أشهدُ أنَّ لا إِلهَ إلَاّ الله، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ". أي: بالإضافة إلى الاسم الظاهر وهو الذي رجحه الشيخان: النووي، والرافعي، وأن الإضافة للضمير لا تكفي لكن المختار أنه يجوز ورسوله لما ثبت في "مسلم" ورواه البخاري هنا، وإنما اختاره الشافعي لزيادة لفظ "المباركات" فيه وهي موافقة لقوله تعالى:{تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} وأجيب بأن الزيادة مختلف فيها. وحديث ابن مسعود متفق عليه، وقال الشافعي: رويت أحاديث في التشهد مختلفة وكان هذا أحب إليّ؛ لأنه أكملها. وقال في موضع آخر وقد سئل عن اختياره تشهد ابن عباس: لما رأيتُه واسعًا وسمعته عن ابن عباس صحيحًا كان عندي أجمع وأكثر لفظًا من غيره، وأخذت به غير معنف لمن يأخذ بغيره مما صح. قال الشافعي: هو فرض لكن لو لم يزد رجل على قوله: "التحيات لله سلام عليك أيها النبي" إلخ كرهت ذلك له ولم أرَ عليه إعادة. هذا لفظه في "الأم".
وقال صاحب "الروضة" تبعًا لأصله: وأما أقل التشهد فقال الشافعي: وأكثر الأصحاب أنه فذكره لكنه قال: "وأن محمدًا رسول الله" قال ونقله ابن كج والصيدلاني فقالا وأشهد أن محمدًا رسول الله لكن اسقطا وبركاته وقد استشكل جواز حذف الصلوات مع ثبوتها في جميع الروايات الصحيحة، وكذلك "الطيبات" مع جزم جماعة من الشافعية بأن المقتصر عليه هو الثابت في جميع الروايات، ومنهم من وجه الحذف بكونهما صفتين كما هو الظاهر من سياق ابن عباس، لكن يعكر على هذا ما تقدم من البحث في ثبوت العطف فيهما في سياق غيره وهو يقتضي المغايرة. واختار مالك وأصحابه لفظ التشهد المروي عن عمر بن الخطاب أخرجه الطحاوي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفهما عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه سمع عمر بن الخطاب يعلَّم الناس التشهد على المنبر وهو يقول:"التحيّاتُ للهِ الزّاكياتُ للهِ الطيّباتُ للهِ الصلواتُ للهِ السَّلامُ عليك أَيُّها النبيُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ، السَّلامُ علينا وعلى عبادِ اللهِ الصالحين أشهدُ أنَّ لا إِلهَ إِلاّ اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ". وإنما اختاره مالك لكونه علّمه للناس وهو على المنبر ولم ينكروه، فيكون إجماعًا وتعقب بأنه موقوف فلا يلحق بالمرفوع وأُجيب بأن ابن مردويه رواه في كتاب "التشهد" مرفوعًا، وصححه الحاكم مع كونه موقوفًا. وجاءت عن الشافعي زيادة "باسم الله" في أول التشهد
ووقع ذلك في رواية عمر المذكورة لكن من غير الطريق التي أخرجها مالك منه، ولم تصح هذه الزيادة. وقد ترجم البيهقي عليها من استحب أو أباح التسمية قبل التحية وهو وجه لبعض الشافعية وضعف. ويدل على عدم اعتبارها أنه ثبت في حديث أبي موسى المرفوع في التشهد وغيره:"فإذا قعد أحدُكُم فليكن أولَ قوله التحياتُ للهِ" الحديث رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بسنده، وأخرجه مسلم عن عبد الرزاق بهذه الطريق.
وقد أنكر ابن مسعود وابن عباس وغيرهما على من زادها أخرجه البيهقي وغيره ثم إن هذا الاختلاف إنما هو في الأفضل، وكلام الشافعي المتقدم من قوله: وأخذت به غير مصنف لمن يأخذ بغيره مما صح يدل على ذلك، ونقل جماعة من العلماء الاتفاق على جواز التشهد بكل ما ثبت لكن كلام الطحاوي يشعر بأن بعض العلماء يقول بوجوب التشهد المروي عن عمر.
وعندنا معاشر المالكية في لفظه قولان: بالسنة، والندب. ويندب عند المالكية في كل تشهد أن يعقد الخنصر والبنصر والوسطى ويمد السبابة والإبهام جاعلًا أطراف أصابعه الثلاثة على طرف الكف وهذه صفة تسعة وعشرين، أو جاعلًا لها وسط الكف وهذه صفة ثلاث وعشرين، ويحرك السبابة دائمًا يمينًا وشمالًا إلى السلام أو القيام ناصبًا حرفًا إلي وجهه كالمدية وفائدة تحريكها أنها تذكره أحوال الصلاة، فلا يوقعه الشيطان في سهو وإنما اختصت السبابة بالإشارة دون غيرها؛ لأن عروقها متصلة بنياط القلب وإذا حركت انزعج القلب فينتبه لذلك. واستدلوا على تحريكها بما رواه أبو داود والنَّسائيّ والدارمي عن وائل بن حجر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"وضعَ يَدُه اليسرى على فخذِهِ اليسرى وحدّ مرفقَهُ اليمنى على فخذِهِ اليمنى (أي جعله منفردًا عن فخذه) وقبضَ ثنتين مِنَ الأصابعِ والخنصرَ والبنصرَ، وحلقَ حلقةً أخذ إبهامها بإصبعِهِ الوسطى كالحلقةِ ثمَّ رفعَ إصَبعَهُ المُسَبَّحَةَ وَرأيتُهُ يحركُها"، فهذا نص في أصل التحريك.
واستدلوا على دوام التحريك بما رواه مالك في "الموطأ" ومسلم وأبو داود والنَّسائي عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: "كان صلى الله عليه وسلم إذا جلسَ في الصلاةِ وضعَ كفَّهُ اليمنى على فخذِهِ، وقبضَ أصابعَهُ كلَّها وأشارَ بإصبعِهِ التي تلي الإِبهامَ، ووضعَ يَدهُ اليسرى على فخذِهِ اليسرى".
قال الباجي روى سفيان بن عيينة هذا الحديث عن مسلم بن أبي مريم وزاد فيه، وقال:"هي مَذَبَّةُ للشيطانِ لا يسهو أحدُكم ما دامَ يشيرُ بإصبعهِ" قال الباجي: ففيه أن معنى الإشارة رفع السهو وقمع الشيطان الذي يوسوس. قلت: هذا مأخوذ من لفظ المذبة وهي مشتقة من "الذَّبِّ" فهو يحركها دائمًا ذبًّا للشيطان لما مرّ مِن اتصالها بنياط القلب.
وأخرج ابن السكن في "صحاحه" عن ابن عمر أيضًا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإِشارةُ بالإِصبعِ أشدُّ على الشيطانِ من الحديدِ". وعنه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هي مذعرةٌ للشيطانِ". فعلم من هذه الأحاديث أن العلة في الإِشارة بالإصبع وتحريكها طرد الشيطان؛ فلهذا كان الأفضل