الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع والستون
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ.
قوله: "كان القنون" أي: في أول الأمر واحتج بهذا على أن قول الصحابي كنا نفعل كذا في حكم المرفوع وإن لم يقيده بزمن النبي صلى الله عليه وسلم كما هو قول الحاكم وقد اتفق الشيخان على إخراج هذا الحديث في المسند الصحيح وليس فيه تقييد وقد اختلف في محله من الصلاة وفي أي الصلوات شرع وهل استمر مطلقًا أو مدة معينة أو في حالة دون حالة فاستدل بهذين الحديثين من القنوت في الصلوات المذكورة وعند الظاهرية القنوت فعل حسن في جميع الصلوات وعند مالك والشافعي وأحمد وإسحاق القنوت في الفجر خاصة وكذلك روى عن ابن سيرين وابن أبي ليلى وروي عن أبي بكر الصديق وباقي الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم في قول لكن عند مالك أن يكون قبل الركوع والذي في كتب الحنابلة أن القنوت مكروه في غير الوتر ويكون بعد الركوع ندبًا فلو كبر ورفع يديه بعد القراءة ثم قنت قبل الركوع جاز والذي مرَّ عنهم حكاه العيني وكذا قالت الحنفية أنه في الوتر خاصة قبل الركوع والراجح عند الشافعية أنه بعد الركوع فلو قنت شافعي قبل الركوع لم يجزه لوقوعه في غير محله فيعيده بعده ويسجد للسهو قال الشافعي في "الأم": لأن القنوت عمل من أعمال الصلاة فإذا عمله في غير محله أوجب سجود السهو واستدلت المالكية والشافعية على اختصاص الصبح بالقنوت وعلى استمراره فيه بما رواه البخاري عن أنس أنه سئل أقنت النبي صلى الله عليه وسلم في الصبح؟ قال: نعم، فقيل: أوقنت قبل الركوع؟ قال: قنت بعد الركوع يسيرًا، ومفهوم قوله بعد الركوع يسيرًا تحمل أن يكون وقبل الركوع كثيرًا ويحتمل أن يكون لا قنوت قبله أصلًا وبما أخرجه عنه أيضًا من أنه سئل عن القنوت فقال: قد كان القنوت فقلت: والقائل هو عاصم قبل الركوع أو بعده قال قبله قال: فإن فلانًا أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع فقال: كذب إلخ.
ومعنى قوله كذب أي: أخطأ وهو لغة أهل الحجاز يطلقون الكذب على ما هو أعم من العمد والخطأ ويحتمل أن يكون أراد بقوله كذب أي: كان حكى أن القنوت دائمًا بعد الركوع وهذا يرجح الاحتمال الأول من احتمال مفهوم قوله بعد الركوع يسيرًا ويبينه ما أخرجه ابن ماجه عن حميد عن أنس أنه سئل عن القنوت فقال: قبل الركوع وبعده وإسناده قوي وروى ابن المنذر من وجه آخر عن أنس أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قنتوا في صلاة الفجر قبل الركوع وبعضهم بعد الركوع وروى
محمد بن نصر عن أنس أن أوّل مَنْ جعل القنوت قبل الركوع دائمًا عثمان لكي يدرك الناس الركعة وبما رواه البخاري أيضًا عن أبي هريرة كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخرة بقول أنج عياش بن أبي ربيعة إلخ قال ابن أبي الزناد عن أبيه هذا كله في الصبح وبما رواه عبد الرزاق والدارقطني وصححه الحاكم عن أنس بن مالك قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وثبت عن أبي هريرة أنه كان يقنت في الصبح في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته فإن قيل روى الخلفاء عن الأربعة أيضًا وغيرهم ما كانوا يقنتون أجيب بأنه إذا تعارض إثبات ونفي قدم الإثبات على النفي وتمسك الشافعية في كونه بعد الركوع بالرواية المتقدمة عن أبي هريرة من كونه كان يقنت بعد رفع رأسه من الركعة الأخرة وقالوا إن رواة القنوت بعده أكثر وأحفظ فهو أولى وعليه درج الخلفاء الراشدون في أشهر الروايات عنهم وأكثرها وتمسك المالكية في كونه بعد القراءة قبل الركوع برواية عاصم عن أنس المتقدمة ففيها التصريح بكونه قبل الركوع وقد وافق عاصمًا على روايته هذه عبد العزيز بن صهيب عن أنس كما سيأتي في "المغازي" بلفظ سأل رجل أنسًا عن القنوت بعد الركوع أو عند الفراغ من القراءة قال: لا، بل عند الفراغ من القراءة.
قال في "الفتح": مجموع ما جاء عن أنس من ذلك أن القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف عنه في ذلك وأما لغير الحاجة فالصحيح عنه أنه قبل الركوع وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك والظاهر أنه من الاختلاف المباح.
قلت: يكفي المالكية من تشهير ما قالوه ما قاله صاحب الفتح هنا وتمسك الحنابلة والحنفية لقولهم لا قنوت إلا عند نازلة تنزل على المسلمين أو في الوتر بأن القنوت منسوخ فقالوا: إنه قنت شهرًا يدعو على عصية وذكوان فلما ظهر عليهم ترك القنوت وكان ابن مسعود لا يقنت في صلاته وكذلك ابن عمر قد كان روى القنوت ثم أخبر أن الله عز وجل نسخ ذلك بقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} إلخ، وروى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا ثم تركه قالوا: قوله: ثم تركه يدل على أن القنوت كان في الفرائض ثم نسخ وأجيب عن هذا بأن الذي تركه هو الدعاء على هؤلاء القبائل المذكورة وتمسك الطحاوي بحديث أنس في الباب كان القنوت في الفجر والمغرب في ترك القنوت في الصبح قال: لأنهم أجمعوا على نسخه في المغرب فيكون في الصبح كذلك وقد عارضه بعضهم فقال: أجمعوا على أنه صلى الله عليه وسلم قنت في الصبح ثم اختلفوا هل ترك فيتمسك بما أجمعوا عليه حتى يثبت ما اختلفوا فيه وفي صحيح ابن خزيمة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلَاّ إذا دعا لقوم أو دعا على قوم.
وأُجيب عن هذا بأنه محمول على ما بعد الركوع بناء على أن المراد بالحصر في قول أنس إنما قنت شهرًا أي متواليًا جمعًا بينه وبين الأحاديث الماضية وقال بعضهم في قول أنس في الحديث السابق كان القنوت في المغرب والفجر إنما خصهما لكونهما طرفي النهار لزيادة شرف وقتيهما رجاء إجابة الدعاء وكان تارة يقنت فيهما وتارة في جميع الصلوات حرصًا على إجابة الدعاء حتى نزلت
ليس لك من الأمر شيء فترك إِلاّ في الصبح كما روى أنس أنه صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا كما مرَّ وتعقب هذا بأن قوله إلا في الصبح يحتاج لدليل وإلا فهو نسخ فيهما وقد ترجم البخاري في أبواب الوتر بقوله باب القنوت قبل الركوع وبعده والقنوت يطلق على معان يأتي ذكرها قريبًا والمراد به هنا الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام قال الزين بن المنير: أثبت بهذه الترجمة مشروعية القنوت ردًا على مَنْ روى عنه أنه بدعة كابن عمر.
وفي "الموطأ" عنه أنه كان لا يقنت في شيء من الصلوات ووجه الرد عليه ثبوته من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرتفع عن درجة المباح قال: ولم يقيده في الترجمة بصبح ولا غيره مع كونه مقيدًا في بعض الأحاديث بالصبح وأوردها في أبواب الوتر أخذًا من إطلاق أنس في بعض الأحاديث كذا قال والظاهر أنه أشار بذلك إلى قول أنس في الطريقة المذكورة في هذا الباب كان القنوت في الفجر والمغرب لأنه ثبت أن المغرب وتر النهار فإذا ثبت القنوت فيها ثبت في وتر الليل بجامع ما بينهما من الوترية مع أنه قد ورد الأمر به صريحًا في الوتر فروى أصحاب السنن وصححه الترمذي وغيره لكنه ليس على شرط البخاري من حديث الحسن بن علي قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وأنه لا يذل مَنْ واليت تباركت ربنا وتعاليت" وبهذا الحديث تمسكت الحنفية والحنابلة في كون القنوت في الوتر في جميع السنة وروى البيهقي عن ابن عباس وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذه الكلمات ليقنت بها في الصبح والوتر فإن نزل بالمسلمين نازلة من خوف أو قحط أو وباء أو جرادًا ونحوها استحب القنوت في سائر المكتوبات عند الشافعية والحنابلة والحنفية وإلَاّ ففي الصبح عندنا وعند الشافعية أو في أخيرة الوتر في النصف الأخير من رمضان عندهم أيضًا عملًا بما رواه البيهقي وفي القنوت عندنا خمس مناديب هو في نفسه مندوب على المشهور من أربعة أقوال نظمها شيخنا عبد الله بن محمد سالم بقوله:
يندب ويسن أو لا يشرع
…
قنوت أو يفسد تركه فعوا
وكونه سرًا لأنه دعاء والدعاء يسر به وكونه في الصبح خاصة وكونه قبل الركوع لما فيه من الرفق بالمسبوق وعدم الفصل به بين ركني الصلاة المجمع عليهما الركوع والسجود وكونه باللفظ الراوي له مالك تقديمًا لرواية صاحب المذهب ووثوقًا به ولفظه المروي عنه: "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونخنع لك ونخلع ونترك من يكفرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد إِن عذابك للكافرين مُلحِق" وقيل في سبب اختيار هذا عند المالكية أن أصله سورتان في مصحَف ابن مسعود رضي الله عنه فمن قوله: اللهم إِنّا نستعينك إلى قوله: ونترك من يكفرك سورة وباقيه سورة وقد ورد في القنوت عشرون رواية.
وقوله: "اللهم" أصله يا الله حذفت الياء وعوض عنها الميم وهو مبني على ضمة مقدرة على الميم منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الإِدغام وكانت فتحة للتخفيف.
وقوله: "إنّا نستعينك" أي: نطلب منك العون وحذف متعلقه ليعم. وقوله: "ونستغفرك" أي: نطلب، "مغفرتك" أي: سترك على معاصينا وترك مواخذتك والمتعلق محذوف للتعميم، "ونؤمن بك" أي: نصدق بما ظهر من آياتك، "ونتوكل عليك" أي: نفوض أُمورنا إليك، "ونخنع" أي: نخضع، "ونذل لك ونخلع" أي: الأديان كلها لدينك، "ونترك من يكفرك" أي: نترك موالاة من يجحد نعمتك، "اللهم إياك نعبد" أي: لا نعبد إلا إياك فقدم المعمول للتخصيص وكذا في قوله: "ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفِد" أي: لا نصلي ولا نسجد ولا نسعى أي: نبادر في طاعة وعبادة إلا لك وخص السجود وإن كان داخلًا في عموم الصلاة لشرفه إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، ومعنى نحفِد بكسر الفاء وفتحها أي: نحذم ونبادر إلى طاعتك وعبادتك ومنه سمى الحذم حفدة لمسارعتهم ومثابرتهم على الحذمة نرجو رحمتك لأن أعمالنا لا تفي بشكر نعمتك فما لنا ملجأ إلا رجاء رحمتك، "ونخاف عذابك" أي: نحذر عقابك فنحن بين الرَّجاء والخوف لأن شأن القادر أن يرجى فضله ويخاف عذابه، الجد بكسر الجيم على المشهور الحق ضد الهزل أو الثابت أو الدائم أن عذابك بالكافرين ملحِق أي بَكسر الحاء أي لاحَق بهم الهوان بفتح الحاء اسم مفعول والفاعل هو الله أو الملائكة وزاد عبد الوهاب في التلقين اللهم اهدنا فيمن هديت إلى آخر ما مرَّ في الحديث وهو قنوت الشافعية والحنابلة وقنوت الحنفية قريب من قنوت المالكية وهو اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك الخير كله ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد إلى آخر ما مرَّ إلا أنهم يبدلون ونخاف بلفظ ونخشى ويجعلون لفظ الجد بعد أن عذابك أي: الجد بالكافر ملحق.
ومعنى قوله: اهدنا أي: وصلنا للمطلوب مع مَنْ هديت ففي بمعنى مع وكذا ما بعد وآثر التعبير بفي إشارة إلى قوة ارتباط هدايته بهدايتهم التي تفيده الظرفية أو المراد اهدنا حال كوننا داخلين في جملة مَنْ هديت وهو أبلغ وكذا يقال في قوله وعافنا وأصل الهدى الرشاد والبيان قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} والهداية من الله التوفيق والإرشاد وطلب الهداية من المؤمنين مع كونهم مهتدين بمعنى طلب التثبيت عليها أو بمعنى المزيد منها.
وعافنا فيمن عافيت المراد بها العافية من الأَسقام والبلايا والعافية أن يعافيك الله من الناس ويعافيهم منك وحاصل هذا طلب العافية في الآخرة وفي الدنيا وقدم الأول لأنه أهم.
وقولنا فيمن توليت الولي ضد العدو وهو مأخوذ من تليت الشيء إذا اعتنيت به ونظرت فيه نظر الولي في حال اليتم؛ لأنه سبحانه وتعالى ينظر في أمر موليه بالعناية ويجوز أن يكون من وليت الشيء إذا لم يكن بينك وبينه واسطة بمعنى أن الولي يقطع الوسائط بينه وبين الله تعالى حتى يصير في مقام المراقبة والمشاهدة وهو الإِحسان وبارك لنا فيما أعطيت البركة الزيادة وقيل هي حلول الخير الإلهي في الشيء والعطية الهبة والمراد بها هنا ما أنعم الله به وقنا شر ما قضيت معناه أن الله يقدر المكروه بعدم دعاء العبيد المستجاب فإذا استجاب دعاءهم لم يقطع القضاء لفوات شرطه وليس هو