الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث عشر
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً، قَالَ أَحْسِبُهُ قَالَ هُنَيَّةً فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ قَالَ أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ.
استُشكلَ إيراد حديث أبي هريرة في ترجمة الباب، إذ لا ذكر للقراءة فيه. وقال الزين بن المنير ضمن قوله ما يقرأُ ما يقول من الدعاء قولًا متّصلًا بالقراءة. أوْ لما كان الدعاء والقراءة يُقصد بهما التقربُ إلى الله تعالى، استغنى بذكر أحدهما عن الآخر، كما جاء: عَلَفّتُها تِبنًا وماءً باردًا: وقال ابن رشد: دعاء الافتتاح يتضمن مناجاة الربّ والإقبال عليه بالسؤال، وقراءة الفاتحة يتضمن هذا المعنى، فظهرت المناسبة بين الحديثين. وهذا غير مفيد؛ لأن المقصود وجود المناسبة بين الترجمة وحديث الباب لا وجودها بين الحديثين. قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسْكُت أي: بفتح أوّله من السكوت. وفي بعض الروايات بضم أوله من الإسكات، قال الجوهري: يقال تكلم الرجل ثم سكت، بغير ألف، فإذا انقطع كلامه فلم يتكلم قلت أُسْكت.
وقوله: إسكاتة، بكسر أوله بوزن إفعالة من السكوت، وهي من المصادر الشاذّة نحو أثبته إثباتة. قال الخطابي: معناه سكوت يقتضي بعده كلامًا مع قصر المدة فيه. وسياق الحديث يدلّ على أنه أراد السكوت عن الجهر لا عن مطلق القول، أو السكوت عن القراءة لا عن الذكر.
وقوله: أحسبه، قال هنية: هذه رواية عبد الواحد بن زياد بالظن، ورواية جرير عند مسلم وغيره، وابن فضيل عند ابن ماجه وغيره، بلفظ: سكت هنية بغير تردد، وإنما اختار البخاري رواية عبد الواحد لوقوع التصريح بالتحديث فيها في جميع الإسناد. قيل: المراد أنه قال: هنية بدل إسكاتة، والظاهر أنه شك هل وصف الإسكاتة بكونها هنية أم لا، وهنية بالنون بلفظ التصغير وهو عند الأكثر بتشديد الياء.
وذكر عياض والقرطبي أن أكثر رواة مسلم قالوه بالهمز، وقال النووي: الهمز خطأ وأصله هنوة،
فلمّا صغر صار هنيوة، فاجتمعت الواو والياء وسكن السابق منهما، فقلبت الواو ياء، وادغمت فيها الياء السابقة.
وفي رواية الكشميهني هنيهة بهاء بعد الياء، وقوله بأبي وأمي، الباء متعلقة بمحذوف اسم أو فعل تقديره أنت مفدى بأبي أو أفديك، وحذف تخفيفًا لكثرة الاستعمال، وعلم المخاطب واستدل به على جواز التفدية مطلقا بدون كراهة. وقيل: أنه من خصائصة عليه الصلاة والسلام. وقيل: تجوز تفدية العلماء الصالحين الأخيار دون غيرهم.
وقوله: إسكاتك هو بالرفع في رواية الأكثر على الابتداء، وقيل: بالنصب على أنه منصوب بفعل مقدر أي: أسألك إسكاتَك، أو على تزع الخافض.
وفي رواية المستملي والسرخسي بفتح الهمزة وضم السين عدى الاستفهام، وفي رواية الحميدي: ما تقول في سكتتك بين التكبير والقراءة. ولمسلم أرايت سكوتك؟ وكله مشعر بأن هناك قولًا لأنه قال ما تقول ولم يقل هل تقول؟ ولعلّه استدل على أصل القول بحركة الفم، كما استدلّ غيره على القراءة باضطراب اللحيةكما يأتي في حديث خبّاب بعد باب ونقل ابن بطّال عن الشافعي أن سبب هذه السكتة للإمام أن يقرأ المأموم فيها الفاتحة.
وهذا النقل غير معروف عن الشافعي ولا عن أصحابه، إلَاّ أن الغزالي قال في الإحياء: إن المأموم يقرأ الفاتحة إذا اشتغل الإِمام بدعاء الافتتاح وخولف في ذلك، بل أطلق المتولي وغيره كراهة تقديم قراءة الفاتحة على الإِمام، وفي وجه أن فرغ منها قبله بطلت صلاته، والمعروف أن المأموم يقرؤها إذا سكت بين الفاتحة والسورة والسكتة التي بعد الفاتحة ثبت فيها حديث سمرة عند أبي داود ولفظه قال سمرة: حفظت سكتتين في الصلاة: سكتةٌ إذا كبّر الإِمام حين يقرأ، وسكتةٌ إذا فرغ من فاتحة الكتاب وسورة، عند الركوع. فأنكر ذلك عليه عمران بن الحصين. فكتبوا في ذلك إلى المدينة إلى أبي، فصدق سمع. قال الخطابي، وهذه السكتة يعني الأخيرة ليقرأ من خلف الإِمام ولا ينازعه في القراءة، وهو مذهب الشافعي.
قال العيني: وعند أصحابنا لا يقرأ المقتدي خلف الإمام فتحمل هذه السكتة عندنا على الفصل بين القراءة والركوع بالثاني وترك الاستعجال بالركوع بعد الفراغ من القراءة، ولكن حدّ هذه السكتة قدر ما يقع الفصل بين الركوع والقراءة، حتّى إذا طال جدًّا، فإن كان عمدًا يكره، وإن كان سهوًا يجب عليه سجدة السهو؛ لأن فيه تأخير الركن، وقد حمل البعض هذه السكتة على ترك رفع الصوت بالقراءة دون السكوت عن القراءة.
وعند المالكية قراءة المقتدي في الجهرية مكروهة، وفي السرية مستحبّة، ولا تطلب عند سكتة ولا دعاء الاستفتاح على المشهور، بل الدعاء قبل القراءة وبعد الفاتحة مكروه على المشهور مستدلًا على عدم السكتة وعدم الافتتاح بحديث البخاري السابق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر
وعمر يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، وبحديث المسيء صلاته أخرجه الشيخان عن أبي هريرة.
وقول النووي: إنما علمه فيه الفرائض مردود بما أخرجه الحاكم في المستدرك على شرط الشيخين، وأبو داود عن رفاعة بن رافع، فقد علّمه فيه الفرائض والمندوبات، وذكر في الفتح روايات فيها ما ليس واجبًا كرواية محمد بن عمرو: فإذا رفعت رأسك فاجلس على فخذك اليسرى، ورواية إسحاق: فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن جالسًا ثم افترش فخذك اليسرى ثم تشهّد.
وفي رواية لأحمد: فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك، وامدُد ظهرك، فبما ذكر فيه من المندوبات يتجه الاستدلال به على عدم دعاء الافتتاح، واستدلوا أيضًا بأن هذه السكتة التي يقرأ فيها دعاء الافتتاح لو كانت فيما واظب عليه الشارع لنقلها أهل المدينة عيانًا وعملًا فيحتمل أنه عليه الصلاة والسلام فعلها في وقت ثم تركها، فتركها واسع.
وأجيب عن هذا بأن لفظ: إذا قام إلى الصلاة، ولفظ: كان إذا قام يصلّي تطوعًا، ولفظ: كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة قاله، ولفظ: كان يشعر بالمداومة، وردّ هذا بأنه إذا ثبتت المداومة يثبت الوجوب، ولم يقل به أحد، وتأتي زيادة على هذا قريبًا.
وقوله: باعد، المراد بالمباعدة هو ما حصل منها، والعصمة عمّا سيأتي منها وهو مجاز؛ لأن حقيقة المباعدة إنما هي في الزمان والمكان، وموقع التشبيه أن التقاء المشرق والمغرب مستحيل، فكأنه أراد أن لا يبقى لها منه اقتراب بالكلية.
وقال الكرماني: كرّر لفظ بين؛ لأن العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الخافض، ويردّ على هذا قوله السابق بين التكبير والقراءة. وقوله: نقّني: مجاز عن زوال الذنوب ومحو أثرها، ولمّا كان الدنس في الثوب الأبيض أظهر من غيره من الألوان وقع التشبيه به، وقوله بالماء والثلج والبرَد، قال الخطابي: ذكر الثلج والبرد تأكيدًا أو لأنهما ماءان لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال، وقيل عبّر بذلك عن غاية المحو، فإن الثوب الذي يتكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء، ويحتمل أن يكون المراد أن كل واحد من هذه الأشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو، وكأنه كقوله تعالى:{وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} قال الطيبي: يمكن أن يكون المطلوب من الثلج والبرد بعد الماء شمول أنواع الرحمة والمغفرة بعد العفو لإطفاء حرارة عذاب النار التي هي في غاية الحرارة، ومنه قولهم: برّد الله مضجعه، أي: رحمه ووقاه، ويؤيده ورود وصف الماء بالبرودة في حديث عبد الله بن أبي أوفى عند مسلم. وكأنه جعل الخطايا بمنزلة جهنّم لكونها مسببة عنها، فعبّر عن إطفاء حرارتها بالغسل، وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيًا عن الماء إلى أبرد منه. وقيل: خصّ هذه الثلاثة بالذكر لأنها منزلة من السماء.
وقال الكرماني: يحتمل أن يكون في الدعوات الثلاث إشارة إلى الأزمنة الثلاثة، فالمباعدة للمستقبل، والتنقية للحال، والغسل للماضي. وكان تقديم المستقبل للاهتمام بدفع ما سيأتي قبل رفع ما حصل، واستدل بالحديث على مشروعية الدعاء بين التكبير والقراءة خلافًا للمشهور عن مالك، وورد فيه أيضًا حديث علي: وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ربي، وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدني لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبّيك وسعديك، والخير كلّه بيديك، والشرّ ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك.
أخرجه مسلم. وفيه ألفاظ قليلة متفاوتة، لكن قيّده بصلاة الليل وأخرجه الشافعي وابن خزيمة وغيرهما بلفظ: إذا صلّى المكتوية. واعتمده الشافعي في الأم.
وفي الترمذي وصحيح ابن حبّان عن أبي سعيد الخدري: الافتتاح سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك.
ونقل الساجي عن الشافعي استحباب الجمع بين التوجّه والتسبيح، وهو اختيار ابن خزيمة وجماعة من الشافعية، وحديث أبي هريرة أصحّ ما ورد في ذلك. ومشهور مذهب الشافعية الافتتاح بحديث علي رضي الله تعالى عنه، وعند أبي حنيفة وأصحابه، وأحمد، والثوري، وإسحاق، والأوزاعي الافتتاح بسبحانك اللهم .. الخ.
وقال أبو يوسف: يجمع بين التوجه والتسبيح، ويبدأ بأيّهما شاء، ومقابل المشهور عن مالك رواية ابن حبيب، أنّه يندب عنده الافتتاح، لكن بعد الإقامة وقبل الإِحرام، يقول: سبحانك اللهم إلى قوله ولا إله غيرك، وجّهت وجهي .. الآية، اللهم باعد بيني وبين خطاياي .. الخ الحديث. بجمع هذه الأذكار الثلاثة، واستدل بالحديث على جواز الدعاء في الصلاة بما ليس في القرآن خلافاً للحنفية، ثم هذا الدعاء صدر منه عليه الصلاة والسلام على سبيل المبالغة في إظهار العبودية.
وقيل: قاله على سبيل التعليم لأمته، واعترض بأنه لو أراد ذلك لجهر به، وأجيب بورود ذلك في حديث عند البزار، وفيه ما كان عليه الصحابة من المحافظة على تتيع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته وإسراره وإعلانه، حتى حفظ الله بهم الدين.
واستدل بعض الشافعية على أن الثلج والبرَد مطهّران، واستبعده ابن عبد السلام. قلت: وهذا هو مذهبنا معاشر المالكية، وأبعد منه استدلال بعض الحنفية به على نجاسة الماء المستعمل.