الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث والثلاثون
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مَا لَكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارٍ، وَقَدْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِطُولِ الطُّولَيَيْنِ.
قوله: "عن ابن أبي مليكة" في رواية عبد الرزاق عن ابن جريج حدثني ابن أبي مليكة ومن طريقه أخرجه أبو داود وغيره. وقوله:"عن عروة" في رواية الإسماعيليّ عن ابن جريج سمعت ابن أبي مليكة أخبرني عروة أن مروان أخبره. وقوله: "قال لي زيد بن ثابت ما لَكَ تقرأ" كان مروان حينئذ أميرًا على المدينة من قبل معاوية. وقوله: "بقصار" كذا للأكثر بالتنوين وهو عوض عن المضاف إليه، وفي رواية الكشميهنيّ بقصار المفصل وكذا للطبراني، والبيهقيّ عن أبي عاصم شيخ البخاري فيه، وكذا عند أبي داود والنَّسائيّ وغيرهما لكن في رواية النَّسائيّ بقصار السور.
وعند النَّسائيّ أيضًا عن زيد بن ثابت أنه قال لمروان: يا أبا عبد الملك أتقرأ في المغرب بقل هو الله أحد وإنا أعطيناك الكوثر؟ وصرح الطحاوي من هذا الوجه بالإخبار بين عروة وزيد فكأن عروة سمعه من مروان عن زيد ثم لقي زيدًا فأخبره. وقوله: "وقد سمعت" استدل به ابن المنير على أن ذلك وقع منه صلى الله عليه وسلم نادرًا قال: لأنه لو لم يكن نادرًا لقال: كان يفعل يشعر بأن عادته كانت كذلك، وغفل عمّا في رواية البَيْهَقيّ عن أبي عاصم شيخ البخاري بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ، ومثله عند الإسماعيلىّ عن ابن جريج، وقوله:"بطولى الطوليين" أي: بأطول السورتين الطويلتين وطولى تأنيث أطول والطوليين بتحتانيتين تثنية طولى. وهذه رواية الأكثر، وفي رواية كريمة بِطُول بباء الجر وضم الطاء وسكون الواو. ووجه الكرماني بأنه أطلق المصدر وأراد الوصف أي: كان يقرأ بمقدار طول الطوليين وفيه نظر؛ لأنه يلزم منه أن يكون بقرأ بقدر السورتين وليس هو المراد وضبطه بعضهم بكسر الطاء وفتح الواو وليس بشيء لأن الطّوَل الحبل ولا معنى له هنا، وفي رواية الإسماعيليّ بأطول الطوليين بالتذكير ولم يقع تفسيرهما في رواية البخاري، وفي رواية أبي الأسود عند النَّسائيّ بأطول الطوليين المص.
وفي رواية أبي داو قال: قلت: وما طول الطوليين؟ قال: الأعراف والتفسير من لفظ عروة كما قال النَّسائيّ والبَيْهَقيّ وعند أبي داود قال ابن جريج: وسألت ابن أبي مليكة فقال لي من قبل نفسه:
المائدة والأعراف، وللجوزقي عن عبد الرزاق مثله لكن قال: الأنعام بدل المائدة فحصل الاتفاق على تفسير الطولى بالأعراف. وفي تفسير الأخرى ثلاثة أقوال المحفوظ منها الأنعام قال ابن بطال: البقرة أطول السبع الطوال فلو أرادها لقال طولى الطوال فلما لم يردها دل على أنه أراد الأعراف لأنها أطول السور بعد البقرة، وتعقب بأن النساء أطول من الأعراف، وليس هذا التعقب بمرض لأنه اعتبر عدد الآيات وعدد آيات الأعراف أكثر من عدد آيات النساء، وغيرها من السبع بعد البقرة والمتعقب اعتبر عدد الكلمات لأن كلمات النساء تزيد على كلمات الأعراف بمئتين. وقال ابن المنير: تسميته الأعراف والأنعام بالطوليين إنما لعرف فيهما لا أنهما أطول من غيرهما، واستدل بهذين الحديثين على امتداد وقت المغرب وعلى استحباب القراءة فيها بغير قصار المفصل. أما امتداد وقت المغرب فقد مرَّ الكلام عليه في باب وقت المغرب، وباب تأخير الظهر إلى العصر، واستدل الخطابي على امتداد وقتها إلى غروب الشفق بهذا الحديث والذي بعده فيه نظر؛ لأن مَنْ قال: إن لها وقتًا واحدًا لم يحده بقراءة معينة بل قالوا: لا يجوز تأخيرها عن أول غروب الشمس بل له أن يمد القراءة فيها ولو غاب الشفق.
قلت: هذا خلاف مذهب مالك فمالك لا يقرأ عنده فيها إلا بقصار المفصل كما يأتي قريبًا واستشكل المحب الطبري إطلاق هذا، وحمله الخطابي قبله على أن يوقع ركعة في أول الوقت ويديم الباقي ولو غاب الشفق ولا يخفى ما فيه لأن تعمد إخراج الصلاة عن الوقت ممنوع ولو أجزات فلا يحمل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقد مرَّ في الباب المذكور من الأحاديث ما يدل على انصرافه عليه الصلاة والسلام منها بسرعة، فقد مرَّ في حديث أنس قال: كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرمي أحدنا ليرى موضع نبله. وروى عن جابر بن عبد الله أنهم كانوا يصلون المغرب ثم ينتضلون.
وروي عن علي بن بلال قال: صليت مع نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار فحدثوني أنهم كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب ثم ينطلقون فيرتمون لا يخفى عليهم موقع سمهامهم حتى يأتوا ديارهم وهو أقصى المدينة في بني سَلِمة.
رواه أحمد كما مرّ، ورواه الطحاوي وإذا كان هذا وقت انصرافه عليه الصلاة والسلام من صلاة المغرب استحال أن يكون قد قرأ منها الأعراف ولا نصفها وقد أنكر على معاذ حين صلّى العشاء بالبقرة مع إتساع وقتها فالمغرب أولى بذلك فينبغي على هذا أن يقرأ بقصار المفصل في المغرب وهذا هو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وإسحاق والثوري والنخعي وعبد الله بن المبارك.
وذهب حميد وعروة بن الزبير وابن هشام والظاهرية إلى استحباب القراءة في المغرب بطولى الطوليين فقالوا: الأحسن أن يقول بالسورة التي قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم نحو الأعراف، والطور، والمرسلات
فعند المالكية والشافعية يقرأ في الصبح والظهر من طوال المفصل، وفي العصر والعشاء من أوساطه، وفي المغرب من قصاره؛ لأن الصبح وقت النوم، والظهر وقت القيلولة فطولا ليدرك المتأخر، والعصر وقت إتمام الأعمال فخفف، والعشاء وقت الاستراحة فخفف أيضًا. وأما المغرب فإنها تأتي عند إعياء الناس من العمل وحاجتهم إلى العشاء ولاسيما الصوام، وقال الحنابلة: يقرأ في الصبح من طوال المفصل وفي المغرب من قصاره وفي الباقي من أوساطه، ومحل سنية الطوال والأوساط إذا كان المصلى منفردًا إلى آخر ما مرَّ مستوفى في باب إذا صلّى لنفسه فليطول ما شاء من أبواب الجماعة، وفي باب الغضب في الموعظة من كتاب العلم ومرّت حقيقة المفصل وتفصيله من بيان الطوال والأوساط والقصار عند الأئمة في باب إذا طول الإِمام وكان للرجل حاجة من الجماعة.
وأجاب القائلون بالاقتصار على المفصل عمّا ثبت من قراءته عليه الصلاة والسلام بطولى الطوليين في المغرب بأن قراءته صلى الله عليه وسلم ليست كقراءة غيره. ألا تسمع قول الصحابي: ما صليت خلف أحدٍ أخف صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقرأ بالستين إلى المئة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إن داود عليه الصلاة والسلام كان يأمر بدوابه أن تسرج فيقرأ الزبور قبل إسراجها"، فإذا كان داود بهذه المثابة فسيدنا صلى الله عليه وسلم أحرى بذلك وأولى.
وإما إنكاره على معاذ فظاهر؛ لأنه غيره، واستدلوا بما أخرجه النَّسائيّ وصححه ابن خزيمة وغيره عن أبي هريرة أنه قال: ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان، قال سليمان بن يسار: فكان يقرأ في الصبح بطوال المفصل وفي المغرب بقصار المفصل الحديث. وهذا يشعر بالمواظبة على ذلك. وفي حديث رافع المتقدم في المواقيت وما معه من الأحاديث أنهم كانوا ينتضلون بعد صلاة المغرب دلالة على تخفيف القراءة فيها وعند ابن ماجه بسند صحيح عن ابن عمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، وكان الحسن يقرأ فيها إذا زلزلت والعاديات، ولا يدعهما، وروى ابن حِبّان عن جابر بن سمع أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة قل يا أيها الكافرون، وقيل هو الله أحد.
وروى البزار في مسنده بسند صحيح عن بريدة: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب والعشاء والضحى، وكان يقرأ في الظهر، والعصر بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك. وروى الطحاوي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالتين والزيتون. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" وفي سنده. فقال وقال التِّرمِذِيّ: ذكر عن مالك أنه كره أن يقرأ في المغرب بالسور الطوال نحو الطور والمرسلات. وقال الشافعي: لا أكره ذلك بل استحب وكذا نقله البغوي في شرح السنة عن الشافعي. والمعروف عند الشافعية أنه لا كراهة في ذلك ولا استحباب، وأما مالك فاعتمد عمل أهل المدينة بل وغيرها. قال ابن دقيق العيد: استمر العمل على تطويل القراءة في الصبح وتقصيرها في المغرب والحق عندنا أن ما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وثبتت مواظبته عليه فهو وما لا تثبت مواظبته عليه فلا كراهة فيه، وقد مرّ تحقيق مذهب الشافعي، وقد وردت آثار
كثيرة عن الصحابة فيها ما كانوا يقرؤون به من قِصار المفصل منها ما أخرجه الطحاوي عن زرارة بن أوفى قال: أقرأني أبو موسى في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما إليه أقرأ في المغرب آخر المفصل وآخر المفصل من لم يكن إلى آخر القرآن، ومنها ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي عثمان النهدي قال: صلّى بنا ابن مسعود المغرب فقرأ: قل هو الله أحد فوددت أنه قرأ سورة البقرة من حسن صوته.
وأخرجه أبو داود والبَيْهقيّ أيضًا ومنها ما أخرجه ابن أبي شيبة أيضًا عن أبي نوفل بن أبي عقرب عن ابن عباس قال: سمعته يقرأ في المغرب: إذا جاء نصر الله والفتح، ومنها ما أخرجه ابن أبي شيبة أيضًا عن الحسن قال: كان عمران بن حصين يقرأ في المغرب إذا زلزلت والعاديات، ومنها ما أخرجه عبد الرزاق عن أبي عبد الله الصنابحي أنه صلّى وراء أبي بكر الصديق في المغرب قرأ في الركعتين الأوليين بأُم القرآن وسورتين من قِصار المفصل، ثم قرأ في الثالثة قال: فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد أن تمس ثيابه فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا إلى الوهاب. وعن مكحول أن قراءة هذه الآية كانت على سبيل الدعاء، ومرّت أحاديث صحاح من هذا المعنى في باب إذا طول الإِمام وكان للرجل حاجة.
وروى أيضًا نحو هذا عن التابعين روى ابن أبي شيبة في مصنفه أن سعيد بن جبير كان يقرأ في المغرب مرّة بتنبىء أخبارها ومرّة تحدّث أخبارها.
وروي عن الضحاك بن عثمان قال: رأيت عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه يقرأ في المغرب بقصار المفصل، وروي أيضًا عن محل قال: سمعت إبراهيم يقرأ في الركعة الأولى من المغرب لإيلاف قريش. وأخرج البيْهَقيّ في سننه عن هشام بن عروة أن أباه كان يقرأ في المغرب بنحو مما يقرؤون والعاديات ونحوها من السور. فهذه أحاديث وآثار كثيرة تدل على قراءة المفصل دون الطوال، والذي ذكره البخاري هنا في القراءة ثلاثة مختلفة المقادير؛ لأن الأعراف من السبع الطوال، والطور من طوال المفصل، والمرسلات من أوساطه. وفي ابن حِبّان عن ابن عمر أنه قرأ بهم في المغرب بالذين كفروا وصدوا عن سبيل الله. وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان أحيانًا يطيل القراءة في المغرب. إما لبيان الجواز وإما لعلمه رضا المأمومين وليس في حديث جُبير بن مطعم الآتي قريبًا دليلٌ على أن ذلك تكرر منه.
وأما حديث زيد بن ثابت ففيه اشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل ولو كان مروان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك لاحتج على زيد، لكن لم يرد زيد منه فيما يظهر المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حديث أُم الفضل إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصحة بأطول من المرسلات لكونه كان في شدة مرضه، وهو مظنة التخفيف، وهو يرد على أبي داود إدعاء نسخ التطويل؛ لأنه روى عقيب حديث زيد بن ثابت عن عروة أنه كان يقرأ في المغرب بالقصار قال: وهذا يدل على نسخ حديث زيد، ولم