الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(د)
الأصول والمبادئ:
إن أصول الماتريدية ومبادئهم قد وافقوا أهل السنة في بعضها وخالفوهم في البعض الآخر، وسنحاول بإذن الله استعراض هذه الأصول بغير إسهاب:
أولا: الأصول التي وافقوا فيها أهل السنة والجماعة:
(1)
الصحابة: وافق الماتريدية أهل السنة والجماعة في شأن الصحابة رضي الله عنهم جميعا، فهم يرون تفضيل أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه-، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم-، وذلك على ترتيبهم في الخلافة، ويرون أن الحروب التي وقعت بين الصحابة كانت عن اجتهاد، منهم من أصاب، ومنهم من أخطأ، وكلهم مأجور، ولا يجوز القدح فيهم، ويجب الكف عنهم، ويرون أن الطعن في الصحابة إما أن يكون كفرا أو بدعة أو فسقا.
(2)
الخلافة والإمامة: وهذا كذلك من الأصول التي وافق الماتريدية فيها أهل السنة والجماعة، فهم يرون أن الخلافة الراشدة كانت ثلاثين سنة، ويرون أن الخليفة ينبغي أن يكون من قريش، ويرون ضرورة تنصيب خليفة على الناس، وإمام لهم، يقيم الحدود، ويسد الثغور، ويجيش الجيوش، ويأخذ الصدقات، ويرد المتسلطة وقطاع الطرق، ويقطع المنازعات، وأن
يكون ظاهرا لا مختفيا، ولا يشترط أن يكون معصوما، ويرون الصلاة خلف كل بر وفاجر من الأئمة، ويمنعون الخروج على الإمام ولو كان جائرا (1).
(3)
القدر: وافق الماتريدية أهل السنة كذلك في إثبات القدر، وهم يقولون: إن أفعال العباد كلها من الخير والشر مخلوقة لله تعالى، وإن الله عز وجل هو خالق أفعال الخير والشر وليس كما يزعم المعتزلة أن العبد خالق فعل نفسه. وهم يقولون: إن أفعال العباد خلق لله، وكسب من العباد واختيار منهم. وهم يرون أن هناك فرقا بين الحركات الاختيارية الإرادية كالبطش ونحوه، وبين الحركات اللاإرادية كالارتعاش ونحوه، والعبد يثاب على الطاعات الاختيارية، ويعاقب على المعاصي الاختيارية كذلك (2).
(4)
النبوات: يرى الماتريدية أن النبوة تثبت للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بطرق، منها:
(أ) ما تواتر من أحواله صلى الله عليه وسلم وسيرته وكرم أخلاقه وبعده عن الشر والظلم مع قدرته عليه، فكل ذلك يصدقه في دعوى النبوة.
(ب) ما ثبت له صلى الله عليه وسلم من المعجزات الكثيرة البالغة حد التواتر، مثل: شق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام والشراب، ونحوها كثير.
(1) نفس المصادر والمواضع السابقة.
(2)
العقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني ص (75 - 83).
(ج) أنه أتى بالقرآن المعجز وتحدى به الفصحاء البلغاء مع أنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، وعجزوا على أن يأتوا بمثله، أو معارضته ولو بأقصر سورة (1). غير أن الكثيرين منهم يرون أن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة فقط؛ لأنها الدليل اليقيني القاطع الذي لا يقبل الشك. وأكثرهم يقولون بعصمة الأنبياء من الصغائر، وأن ما صدر منهم كان من قبيل فعل خلاف الأولى (2).
(5)
اليوم الآخر: وافق الماتريدية أهل السنة والجماعة في الإيمان بالآخرة، وما فيها من الحشر والنشر وأحوال البرزخ والجنة والنار والصراط والميزان والشفاعة وغيرها، وقالوا: إنها من الأمور الممكنة التي أخبر بها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ونطق بها الكتاب والسنة؟ فتحمل على ظاهرها (3).
ثانيا: الأصول التي خالف فيها الماتريدية أهل السنة والجماعة:
(1)
التوحيد: يقسم أهل السنة التوحيد من خلال استقرائهم للنصوص الشرعية إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، فيثبتون هذه الأنواع الثلاثة لله عز وجل.
(1) العقائد النسفية مع شرحها (134 - 137)، والتوحيد للماتريدي (302، 303)، والبداية للصابوني (89 - 93).
(2)
مدارك التنزيل (1/ 43)، كتاب التوحيد للماتريدي (202).
(3)
العقائد النسفية مع شرحها (148 - 163،، والبداية للصابوني (ـ 105)، وأصول الدين للبزدوي (178، 198).
أما الماتريدية فإن التوحيد عندهم ثلاثة أنواع: توحيد في الذات، فالله تعالى لا قسيم له بمعنى أنه لا يتبعض ولا يتجزأ (1). وتوحيد في الصفات، فالله تعالى لا شبيه له. وتوحيد في الأفعال، فالله تعالى لا شريك له في أفعاله.
يقول ملا علي القاري: واحد في ذاته، واحد في صفاته، وخالق لمصنوعاته (2).
ويتضح من هذا أنهم جعلوا توحيد الربوبية هو الغاية العظمى، مع أنه أمر فطري لا يخالف فيه أحد، وكذلك أنهم أهملوا توحيد الألوهية تماما ولم يتطرقوا إليه بكلمة، مع أنه الغاية العظمى من بعثة الرسل.
وأما الاستدلال على وجود الله تعالى فإنهم يستدلون على وجود الله تعالى بطريقة الحدوث، وهي إثبات حدوث العالم أولا؛ وذلك أن العالم عندهم جواهر وأعراض، والجواهر لا تنفك عن الأعراض، والأعراض حادثة، وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث (3). فالعالم إذن حادث، وإذا ثبت حدوث العالم، فإن الأجسام في العالم لا تجتمع ولا تفترق بنفسها ولا هي قادرة على إصلاح ما فسد منها في حال قوتها وكمالها، وإذا كانت الطبائع المتنافرة لا تجتمع بنفسها فلا بد من قاهر يقهرها على غير طبعها
(1) العقائد النسفية مع شرحها (39).
(2)
ضوء المعاني (ص 13).
(3)
كتاب التوحيد للماتريدي (11 - 13).
وهو الله تعالى (1).
وهذه الطريقة في الاستدلال مخالفة لطريقة السلف أهل السنة والجماعة الذين يستدلون على وجود الله بدلالة الفطرة وغيرها؛ وذلك لأن طريقة المتكلمين فيها تعقيد شديد، وتكلف قد يخفى على كثير من الناس، وكذلك فإن هذه الطرق توقع في الشبهات التي قد تؤدي إلى زعزعة الإيمان في النفس، ولا سيما في نفوس العوام، إضافة إلى أنه قد يطرأ عليها شبهات كثيرة طويلة تحتاج إلى إبطال لها.
(2)
الصفات: ضيق الماتريدية دائرة الإثبات، وتظاهروا بإثبات ثماني صفات هي: الحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والتكوين (2).
والحقيقة أنهم لم يثبتوا حتى تلك الصفات الثماني، بل أثبتوا بعضها. أما صفتا السمع والبصر فأكثرهم يثبتهما، وبعضهم يرجعهما إلى غيرهما (3). وإثباتهم للإرادة يختلف عن إثبات بقية السلف.
وأما صفة الكلام فإنهم يقولون بالكلام النفسي الذي لا يسمع، وليس بحرف ولا بصوت. وصفة التكوين عندهم هي
(1) كتاب التوحيد للماتريدي (17 - 19) بتصرف.
(2)
إشارات المرام (107 - 114).
(3)
كما صنع ابن الهمام في المسايرة (69) فإنه أرجعهما إلى العلم.
مرجع لجميع الصفات الفعلية المتعدية، كالإحياء والإماتة والتخليد، ولكنها في الواقع ليست صفة حقيقية عندهم؛ لأنهم يزعمون أن الصفات الفعلية ليست قائمة بالله، فرارا من حلول الحوادث به (1). وهم يعطلون ما سوى ذلك من الصفات، كصفة الوجه واليدين والاستواء والنزول والغضب والرضا والمجيء والمحبة والعلو والكلام الحقيقي وغير ذلك. فهم قد صرفوا نصوص إثبات الوجه إلى الذات (2) والوجود (3)، وصرفوا نصوص إثبات اليدين إلى إثبات كمال القدرة (4) أو الملك والمنة (5)، وصرفوا نصوص إثبات صفة الاستواء إلى الاستيلاء (6)، وعطلوا صفة النزول وصرفوا نصوصها إلى اللطف والرحمة (7) وغيرها
(1) المواقف (293)، والإنصاف (96، 97)، والإرشاد (128 - 137).
(2)
مدارك التنزيل للنسفي (2/ 670)، وتفسير أبي السعود (7/ 28).
(3)
إشارات المرام (189).
(4)
إشارات المرام (189).
(5)
بحر الكلام ص (20).
(6)
التوحيد للماتريدي (72).
(7)
شرح المواقف (8/ 25)
(3)
الإيمان: اتفق الماتريدية مع أهل السنة في عدم تكفير مرتكب الكبيرة التوحيد للماتريدي (333، 334)، والعقائد النسفية مع شرحها (106 - 108)، وبحر الكلام (43، 44).، لكنهم خالفوهم في أكثر مباحث الإيمان، فمن ذلك:
(أ) قالوا بخروج الأعمال عن مسمى الإيمان، وذلك
خلافا لمذهب السلف.
(ب) قالوا بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وهذا مخالف لمذهب السلف.
(ج) حرموا الاستثناء في الأيمان، وهذا كذلك خلاف مذهب السلف.
(د) ذهب أكثرهم إلى مذهب الماتريدي في تعريف الإيمان، وأنه هو التصديق لا غير، وأما الإقرار فهو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية، وهذا غلو في الإرجاء، وهو خلاف