الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا حكمها من حيث الأصل، وقد ذكر بعض المالكية (1) أن الأصل فيها الندب لذاتها، وقد يعرض لها الوجوب كالهبة لمضطر، والحرمة كأن يهب لمن يستعين بها على المعاصي، والكراهة في الهبة لمن يستعين بها على مكروه.
(1) انظر: الخرشي على مختصر خليل 7/ 101.
المبحث الثاني: في حكم عقد الهبة من حيث اللزوم
المطلب الأول: نوع الالتزام في عقد الهبة
سبق في أقسام الهبة وأنواعها أن الهبة تعد من عقود الالتزام (1)، وأنه التزام ناشئ من تصرف قولي في الغالب أو فعلي، وهو صادر من طرف واحد وهو الواهب، حيث ألزم نفسه بالقول الصادر منه ما لم يكن لازما عليه، ولا يعني هذا الالتزام اللزوم؛ لأن اللزوم يعني الوجوب، وهو ناشئ عما يترتب على الالتزام متى توفرت شروطه كالنذر، وعلى ما يقرره الشرع، أما الالتزام فهو أمر يقرره الإنسان باختياره ابتداء (2).
والفقهاء- رحمهم الله عبروا في التصرفات الناشئة عن إرادة الإنسان بأنها التزام، أما ما كان بغير إرادته فالتعبير فيها
(1) انظر: ص (95، 96).
(2)
انظر: الموسوعة الفقهية 6/ 145.
بالإلزام أو اللزوم، ذلك أن الالتزام الحقيقي هو ما أوجبه الإنسان على نفسه والتزم به (1).
ولكن الالتزام ليس بالحتم حتى تؤثر فيه الجهالة والغرر؛ لأنه التزام لا ضرر فيه على الملتزم له، وقد أشار إلى هذه الدقيقة الإمام القرافي رحمه الله حيث قال (2): الفرق الرابع والعشرون بين قاعدة ما تؤثر فيه الجهالات والغرر وقاعدة ما لا يؤثر فيه ذلك من التصرفات، وردت الأحاديث الصحيحة في نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر، وعن بيع المجهول، واختلف العلماء في ذلك، فمنهم من عممه في التصرفات وهو الشافعي رحمه الله فمنع من الجهالة في الهبة والصدقة والإبراء والخلع والصلح وغير ذلك، ومنهم من فصل وهو مالك بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة، وهو باب المماكسات والتصرفات الموجبة لتنمية الأموال، وما يقصد به تحصيلها، وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة وهو
(1) المرجع السابق 6/ 149.
(2)
الفروق: 1/ 150، 151.
ما لا يقصد لذلك، وانقسمت التصرفات عنده ثلاثة أقسام: طرفان وواسطة، فالطرفان:
أحدهما: معاوضة صرفة، فيجتنب فيها ذلك إلا ما دعت الضرورة إليه عادة.
وثانيهما: ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال كالصدقة والهبة والإبراء، فإن هذه التصرفات لا يقصد بها تنمية المال، بل إن فاتت على من أحسن إليه بها ولا ضرر عليه، فإنه لم يبذل شيئا بخلاف القسم الأول إذا فات بالغرر والجهالات ضاع المبذول في مقابلته، فاقتضت حكمة الشرع منع الجهالة فيه، أما الإحسان الصرف فلا ضرر، فاقتضت حكمة الشرع وصفه على الإحسان والتوسعة فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول، فإن ذلك أيسر؛ لكثرة وقوعه قطعا، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله، فإذا وهب له عبده الآبق جاز أن يجده فيحصل له ما ينتفع به، ولا ضرر عليه إن لم يجده؛ لأنه لم يبذل شيئا، وهذا فيما ينتفع به، ولا ضرر عليه إن لم يجده؛ لأنه لم يبذل شيئا، وهذا فقه جميل، ثم إن الأحاديث لم يرد فيها ما يعم هذه الأقسام حتى نقول يلزم منه مخالفة نصوص صاحب الشرع بل إنما وردت في البيع ونحوه.
ونخلص من هذا كله: أن عقد الهبة لا لزوم فيه إنما مجرد التزام، وهذا التعبير (الالتزام) قد لا نجده في تعبير الفقهاء، وإنما هو لفظ استعير من القانون (1)، ولكن لا مانع من استعماله؛ لأن هذا اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح.
وأما اللزوم المترتب على الالتزام فإن الفقهاء- رحمهم الله يقسمون العقود من هذه الحيثية إلى ثلاثة أقسام، وبعضهم يزيد أقساما أخرى، لكن كما قال الزركشي رحمه الله:(إن القسمة ثلاثية في الحقيقة) وهذه الأقسام:
1 -
عقود لازمة من الطرفين قطعا كالبيع والإجارة والصرف والسلم وغيرها، وعد منها العلماء: الهبة لأجنبي بعد القبض، ويستثنى من ذلك هبة الوالد لولده، وسيأتي بيان حكمها (2).
2 -
عقود جائزة من الطرفين قطعا كالشركة والوكالة والمضاربة وغيرها، ومنها الهبة قبل القبض.
3 -
عقود لازمة من أحد الطرفين جائزة من الطرف الآخر، وذلك كالرهن بعد القبض، لازم من قبل الراهن، جائز من قبل
(1) انظر: مصادر الحق للسنهوري 1/ 14.
(2)
انظر: ص (138).
المرتهن.
ويتضح من هذا التقسيم: أن الأصل في عقد الهبة عدم اللزوم، وأنه من العقود التي تقتضي طبيعتها عدم اللزوم في حق الطرفين، ولكن قد يتطرق اللزوم إليها من أمر خارج يقتضي ذلك، فيمنع من الرجوع فيها أو يوجد سبب يوجب الرجوع فيها (1)، وهذا ما سيتبين خلال هذا البحث بإذن الله، وهذا من حيث طبيعة عقد الهبة، أما من حيث حكم الوفاء بهذا الالتزام فإنه ينبغي أن نفرق بين الوعد والالتزام بهذا الاصطلاح؛ لأنه قد يلتبس الأمر فيظن أن مفهوم الالتزام يلحق هذا العقد بالوعد، ولكن بينهما فرقا ظاهرا؛ لأن الالتزام الناشئ عن الإرادة المنفردة تنفيذ وإنجاز لعطاء وهو تبرع، والتبرع غير ملزم، وأما الوعد فليس فيه إلزام بشيء في الحال، وإنما هو ما يفرضه الشخص على نفسه لغيره بالإضافة إلى المستقبل (2).
والفرق بين ما يدل على الالتزام وما يدل على الوعد هو ما
(1) انظر: المدخل للفقه الإسلامي / 390 - 392.
(2)
انظر: مصادر الحق 1/ 45، والموسوعة الفقهية 6/ 144 - 146.