الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والآخرة زمان المساءلة في القبر، وإلى هذا المعنى ذهب البراء بن عازب، وفيه أحاديث تعضده (1)، والثاني: أن الحياة الدنيا زمن السؤال في القبر، والآخرة السؤال في القيامة، وإلى هذا المعنى ذهب طاوس وقتادة) (2).
من خلال النص السابق يتبين ما رجحه الإمام ابن الجوزي وذهب إليه بقوله وفيه أحاديث تعضده فهو يذهب إلى أن الآخرة عذاب القبر والدنيا الحياة التي قبله.
(1) انظر ص 353.
(2)
زاد المسير / ابن الجوزي / 4/ 361.
المطلب الثالث: أنواع وموطن الثبات في الدنيا:
الدنيا دار بلاء وابتلاء، وامتحان، واختبار، فهي المحك الذي يتبين فيه حزب الله من حزب الشيطان، فهناك الأوامر من الله والنواهي كذلك؛ لكن هناك العوارض المعارضة لها، الداخلية من النفس الأمارة بالسوء، والخارجية من الشيطان والناس، منهم الوالدان ورفقاء السوء تزيينهم للإنسان سبل وطرق الشر، فالدنيا مزالقها كثيرة، فمن الناس من يثبت ومنهم من تهوي به هذه المزالق إلى قعر جهنم، لكن أرحم الراحمين البر اللطيف يثبت أولياءه في
المواطن التي فيها مزلة.
يقول المناوي: (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، أي الدوام على الدين والاستقامة؛ بدليل خبره صلى الله عليه وسلم، كان كثيرا ما يقول: «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك (1)» أراد الثبات عند الاحتضار أو السؤال. بدليل خبر أنه كان إذا دفن الميت قال: «سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل (2)» (3).
فمواطن الثبات في الدنيا هي:
الثبات على الدين:
لم يخلق الله عز وجل الثقلين إلا لعبادته سبحانه وتعالى قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4).
فالثبات على الدين أعظم ثبات فمن ثبت عليه ثبت على ما سواه، فقوله تعالى:{وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} (5) معناه ثبتنا على دينك فإن الثابت على دينه ثابت في حربه) (6).
لذلك شرع الدعاء بالثبات على الدين وبحسن الخاتمة (7)، فالدعاء
(1) سنن الترمذي القدر (2140)، سنن ابن ماجه الدعاء (3834).
(2)
أخرجه أبو داود: 3/ 215، والحاكم 1/ 526، وقال:" صحيح على شرط الإسناد ولم يخرجاه ".
(3)
فيض القدير / المناوي: 2/ 130.
(4)
سورة الذاريات الآية 56
(5)
سورة البقرة الآية 250
(6)
زاد المسير / ابن الجوزي: 1/ 473، وتفسير القرطبي: 16/ 232.
(7)
انظر فتح الباري / ابن حجر: 11/ 491.
بالثبات وحسن الخاتمة أمر مهم وهو سبب من الأسباب لجلب الخير ودفع الشر بل هو من أعظمها فقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من دعاء: «اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك (1)» (فإياه نسأل الثبات على السنة والإسلام وبه نتعوذ من البدع والآثام والسبب الموجب للانتقام إنه المعين لأوليائه)(2).
2 -
الثبات على الطاعة:
الطاعة هي التذلل لله عز وجل فهي العمل بأوامر الله، والوقوف عند نواهيه والطاعة هي الدين لكن الرسول صلى الله عليه وسلم خصها من الدين فقال:«يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك (3)» .
فالطاعة بمعنى: لان وانقاد ووافق، وهي نقيض الكره (4)، وهذا يشمل جميع الأوامر بالموافقة عليها والإتيان بها، والموافقة على ترك المحرمات وإطاعة من صدرت منه.
3 -
الثبات على الحق:
الحق نور أبلج لا ينكره إلا الفاقد للبصر والبصيرة معا، فهو طريق واحد نور واحد، عكس الظلمات وطرق الشر، فالمؤمن يراه
(1) سبق تخريجه.
(2)
صحيح ابن حبان: 1/ 104.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
انظر: لسان العرب، ابن منظور: 8/ 240، 241.
ويرشده إلى طريق الجنة لكن عليه الثبات على الحق حتى وقت الشدة؛ لأنه لا يتعدد ولا يتغير عكس سبل الشيطان، فالمسلم مأمور بالثبات على الدين عند تواتر البلايا عليه، فقد أخرج ابن حبان «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر بريح طيبة فقال: يا جبريل ما هذه الريح؟ قال: هذه ريح ماشطة بنت فرعون وأولادها، بينما هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المدري من يدها فقالت: بسم الله، فقالت بنت فرعون: أبي، قالت: بل ربي وربك الله، قالت: فأخبر بذلك أبي، قالت: نعم، فأخبرته، فأرسل إليها فقال: ألك رب غيري، قالت: نعم ربي وربك الله، فأمر بنقرة من نحاس فأحميت فقالت له: إن لي إليك حاجة قال: نعم قال فجعل يلقي ولدها واحدا واحدا حتى انتهوا إلى ولد لها رضيع فقال: يا أمتاه اثبتي فإنك على الحق (1)» إن الطفل الرضيع الصغير الضعيف قد يجعل الأم تتراجع وتتخاذل لكن الله قد جعل ثباتها على الحق عن طريقه، فسبحان من لا يترك أولياءه في المضايق. يقول ابن تيمية:(يقول الله: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} (2)، وذلك بإلقاء ما يثبته من التصديق بالحق والوعد بالخير) (3).
(1) أخرجه ابن حبان: 7/ 163.
(2)
سورة الإسراء الآية 74
(3)
فتاوى ابن تيمية: 17/ 5240،
فالمقصود في هذه الآية هو التثبيت على الحق، فلا يميل عنه ولا يحيد (1).
4 -
الثبات عند القتال قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (2).
الثبات في المعركة أمر مطلوب؛ لأنها موطن الفرار والتراجع والتخاذل، لهول ما يرى فيها ويسمع، ولغريزة حب الحياة، لذلك أمر بالثبات في المعركة عند قتال الكفار (3) فقال: فلا تنهزموا عنهم ولا تولوهم الأدبار هاربين إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة منكم، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} (4) يقول: وادعوا الله بالنصر عليهم والظفر بهم وأشعروا قلوبكم وألسنتكم ذكره {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5) يقول: كيما تنجحوا فتظفروا بعدوكم ويرزقكم الله النصر والظفر) (6).
(لعلكم تفلحون: أي كونوا على رجاء الفلاح)(7).
فهذا (تعليم من الله لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء)(8)؛ ولأنه موطن يعز فيه الثبات، فلا
(1) انظر تفسير البغوي: 3/ 127، وتفسير القرطبي: 10/ 300.
(2)
سورة الأنفال الآية 45
(3)
انظر تفسير القرطبي 8/ 23، وتفسير أبي السعود: 4/ 25.
(4)
سورة الأنفال الآية 45
(5)
سورة الأنفال الآية 45
(6)
تفسير الطبري: 10/ 14.
(7)
تفسير البغوي: 2/ 253.
(8)
تفسير ابن كثير: 2/ 317.
ملجأ ولا منجا إلا إليه؛ لذلك يطلب من القوي - سبحانه - تثبيت عباده الضعفاء الذين اشتدت حاجتهم إليه من عباده الراجين تثبيته ونصره.
فهم في موطن الشدة والمعركة وتلاحم الصفوف يطلبون تثبيت الأقدام في القتال (1){قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (2)، لكن وقت اندفاع البلاء قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، وإذا لقيتموهم فاثبتوا وأكثروا ذكر الله واصبروا وإن جلبوا وصيحوا فعليكم بالصمت (3)» .
فنهى عن تمني لقاء العدو؛ لأن العبد قد لا يصبر في ذلك الموطن.
5 -
الثبات في الكلام والقول:
إن بعض الحديث ليأخذ بمجامع القلوب سواء وقت الدعوة إلى سبيل الله عز وجل أو دفع ظلم أو أخذ حق، فهذه مواضع شائكة لا يستطيع التخلص منها والنجاح فيها إلا من ألهمه الله
(1) انظر: زاد المسير، ابن الجوزي: 1/ 472.
(2)
سورة البقرة الآية 250
(3)
أخرجه الدارمي: 2/ 285، والبيهقي في الكبرى 9/ 153، وابن أبي شيبة في مصنفه: 6/ 513، وأخرجه البخاري بلفظ:"يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا ": 3/ 1082.
الثبات، وقد قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما، فقال صلى الله عليه وسلم:«إن من البيان لسحرا (1)» .
ويقال (رجل ثبت الغدر: أي ثابت في قتال أو كلام، وأصل الغدر الموضع الكثير الحجارة والصعب المسلك لا تكاد الدابة تتخلص منه؛ فكأن قولك: غادره أي تركه في الغدر، فاستعمل ذلك حتى يقال: غادرته أي خلفته " (2).
6 -
الثبات في الأمر والرأي:
الرأي: هو التدبير أو ما يذهب إليه الشخص (3).
وقد بين ابن منظور التثبيت فيه فقال: " وتثبت في الأمر والرأي واستثبت تأنى فيه ولم يعجل "(4)، و "استثبت في أمره إذا شاور وفحص عنه "(5) والمؤمن يتبرى من الحول والقوة إلا بالله، ويسأله السداد والثبات في الرأي لذلك.
(1) أخرجه البخاري: 5/ 1976.
(2)
العين / الفراهيدي: 4/ 390.
(3)
انظر المصباح المنير / الفيومي: 1/ 247.
(4)
لسان العرب / ابن منظور: 2/ 19.
(5)
المصدر السابق نفس الصفحات
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، وأسألك العزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك لسانا صادقا وقلبا سليما وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأسألك من خير ما تعلم، وأستغفرك مما تعلم إنك أنت علام الغيوب» .
فمن دعائه: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر (1)» أي الدوام على الدين والاستقامة بدليل خبره صلى الله عليه وسلم كان كثيرا ما يقول: «ثبت قلبي على دينك (2)» أراد الثبات عند الاحتضار أو السؤال بدليل خبره صلى الله عليه وسلم أنه «كان إذا دفن الميت قال: سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل (3)» ولا مانع من إرادة الكل ولهذا قال الوالي الثبات التمكن في الموضع الذي شأنه الاستزلال (4).
7 -
الثبات على كلمة التوحيد:
وهي القول الثابت يثبت الله عليها المزمن في الدنيا والآخرة فيعتقدها في قلبه وتصدقها جوارحه وينطقه الله بها عند السؤال عنها في قبره
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك
(1) سنن الترمذي الدعوات (3407)، سنن النسائي السهو (1304)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 123).
(2)
سنن الترمذي القدر (2140)، سنن ابن ماجه الدعاء (3834).
(3)
سنن أبو داود الجنائز (3221).
(4)
فيض القدير: المناوي: 2/ 130.
قوله (2)».
وعن البراء بن عازب أنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: قال: عذاب القبر (4)» .
ويبين النسفي معنى التثبيت في الموقفين فيقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} (5) أي: يديمهم عليه {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} (6) هو قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (7) حتى إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا؛ كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود وغير ذلك {وَفِي الْآخِرَةِ} (8) الجمهور على أن المراد به في القبر بتلقين الجواب وتمكين الصواب " (9).
8 -
الثابت في الحجة:
(الحجة: البرهان، وحاجه فحجه من باب رد أي: غلبه بالحجة)(10).
(1) سبق تخريجه.
(2)
سورة إبراهيم الآية 27 (1){يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}
(3)
سبق تخريجه.
(4)
سورة إبراهيم الآية 27 (3){يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}
(5)
سورة إبراهيم الآية 27
(6)
سورة إبراهيم الآية 27
(7)
سورة إبراهيم الآية 27
(8)
سورة إبراهيم الآية 27
(9)
تفسير النسفي: 2/ 230.
(10)
مختار الصحاح: 1/ 52.
(11)
أخرجه أبو داود 2/ 83، والترمذي: 5/ 554 وقال: حسن صحيح وابن حبان 3/ 229 ونص الحديث كاملا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو يقول: " رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي، رب اجعلني لك شكارا لك ذكارا لك رهابا مطواعا لك مخبتا إليك أواها منيبا، رب تقبل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي وثبت حجتي وسدد لساني واهد قلبي واسلل سخيمة صدري "
(وثبت حجتي أي على أعدائك في الدنيا والعقبى وثبت قولي وتصديقي في الدنيا وعند جواب الملكين)(1).
قال ابن الأثير: (ثبت حجتي في الدنيا والآخرة أي قولي وإيماني في الدنيا وعند جواب الملكين في القبر)(2).
9 -
الثبات عند الفتن:
لا تسير حياة الناس على وتيرة واحدة وليسوا دائما في رخاء، فقد تحدث فتن تذهل العبد عن عبادته، وعن الفرائض التي افترضت عليه، فهي تجعل الحليم حيران.
و (الفتنة: الاختبار والامتحان تقول: فتن الذهب يفتنه بالكسر فتنة ومفتونا أيضا إذا: أدخله النار لينظر ما جودته، ودينار مفتون أي: ممتحن.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (3).
أي: حرقوهم، ويسمى الصائغ: الفتان وكذا الشيطان. . . . الفتان يروى بفتح الفاء على أنه واحد، وبضمها على أنه جمع،
(1) تحفة الأحوذي: 9/ 378.
(2)
النهاية في غريب الحديث: 1/ 341
(3)
سورة البروج الآية 10
و. . . الفتن الإحراق.
قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} (1).
وافتتن الرجل وفتن فهو مفتون إذا أصابته فتنة فذهب ماله أو عقله وكذا إذا اختبر، قال الله تعالى:{وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} (2).
والفتون أيضا الافتتان يتعدى ويلزم، وفتنته المرأة دلهته. . . والفاتن المضل عن الحق) (3).
فالسعيد من وقي الفتن؛ لأن الثبات فيها عزيز، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يسأل الله عز وجل الثبات وقت الفتن بل أمر بالتعوذ من جميع الفتن، فقال:«إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال (4)» والفتن التي ترد على الإنسان عديدة منها:
1 -
الفتن العامة:
هناك فتن تعم حياة الإنسان وكذلك عند احتضاره وفي قبره.
فالله عز وجل يثبت عباده في الأوقات العصيبة فإنه لا يكلهم لأنفسهم في المواقف التي تحتاج تثبيتا، يقول النسفي: (يثبت الله الذين
(1) سورة الذاريات الآية 13
(2)
سورة طه الآية 40
(3)
مختار الصحاح الرازي: 1/ 205.
(4)
أخرجه مسلم: 1/ 412.
آمنوا أي: يديمهم عليه، بالقول الثابت هو قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله في الحياة الدنيا، حتى إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود وغير ذلك. . . ويضل الله الظالمين فلا يثبتهم على القول الثابت في مواقف الفتن تنزل أقدامهم أول شيء وهم في الآخرة أضل) (1).
ب - الفتن الخاصة كفتنة الدجال:
تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم من فتن المحيا والممات إلا أنه خص بعد ذلك التعوذ من فتنة المسيح الدجال؛ لشدتها على من تقع له؛ لذلك وصفه لنا وحذرنا منه فكان من قوله: «لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم عليه السلام أعظم من فتنة الدجال، وإن الله لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم وهو خارج فيكم لا محالة، فإن خرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج كل مسلم، وإن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه، وإن الله خليفتي على كل مسلم، وإنه يخرج من خلة بين الشام والعراق فيبعث يمينا ويبعث شمالا ألا يا عباد الله أيها الناس فاثبتوا وإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي، إنه يبدأ فيقول أنا نبي فلا نبي بعدي، ثم يثني فيقول، أنا ربكم، ولا ترون ربكم حتى تموتوا، وإنه أعور وإن ربكم عز وجل ليس
(1) تفسير النسفي: 2/ 230.
بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب، وإن من فتنته أن معه جنة ونارا فناره جنة وجنته نار، فمن ابتلي بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه بردا وسلاما كما كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم (1)».
10 -
الثبات عند المصائب:
لقد أمر الله تعالى بالصبر والثبات عند المصائب، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2).
فأمرهم بالصبر وهو حال الصابر في نفسه، والمصابرة وهي حاله في الصبر مع خصمه، والمرابطة وهي الثبات واللزوم والإقامة على الصبر والمصابرة، فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط، وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى، فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى، وأن الفلاح موقوف عليها، فقال:{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3).
والله عز وجل يصبر ويثبت عباده في مواقف يزل بها كثير من الخلق، فقد توفي ابن لأم عطية رضي الله عنها فلما
(1) أخرجه الترمذي: 4/ 90، الحاكم: 4/ 580، وقال: حسن صحيح غريب. وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذه السياقة. وابن كثير في التفسير: 1/ 581.
(2)
سورة آل عمران الآية 200
(3)
سورة آل عمران الآية 200
كان اليوم الثالث دعت بصفرة فتمسحت به وقالت: (نهينا أن نحد أكثر من ثلاث إلا بزوج)(1).
ولما جاء نعي أبي سفيان من الشام دعت أم حبيبة رضي الله عنها بصفرة في اليوم الثالث فمسحت عارضيها وذراعيها وقالت: «إني كنت عن هذا لغنية لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا (2)» . وأن زينب بنت جحش حين توفي أخوها دعت بطيب فمسته ثم قالت: ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا (3)» .
(1) أخرجه البخاري: 1/ 430.
(2)
أخرجه البخاري: 1/ 430.
(3)
أخرجه البخاري: 1/ 430.
فهذه مواقف قد لا يصبر فيها العبد ولا يثبت فقد «مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري. قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم: فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى (1)» .
أما العبد المؤمن فإن الله عز وجل يثبته فور وقوع المصيبة عليه، يقول ابن حجر:(والمعنى إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب) من مقتضيات الجزع فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر، وأصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله فاستعير للمصيبة الواردة على القلب والصبر والثبات في الدين على ثلاثة أنواع: صبر على الأوامر، وصبر عند الحدود والمحارم فلا يتعداها، وصبر على المصائب.
يقول ابن القيم: (والصبر من الإيمان. بمنزلة الرأس من الجسد وهو ثلاثة أنواع: صبر على فرائض الله فلا يضيعها، وصبر عن محارمه فلا يرتكبها: وصبر على أقضيته وأقداره فلا يتسخطها، ومن استكمل هذه المراتب الثلاث استكمل الصبر ولذة الدنيا والآخرة ونعيمها، والفوز والظفر فيهما لا يصل إليه أحد إلا على جسر الصبر
(1) أخرجه البخاري 1/ 430