الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: ضوابط إنماء المال
كل ما ذكرناه في طرق اكتساب المال وآدابه - من حيث المنع والإباحة - معاد في إنماء المال؛ ذلك أن اكتساب المال وإنماءه كليهما طلب للرزق، وهما متداخلان، فبينهما علاقة العموم والخصوص، فالاكتساب أعم من الإنماء؛ حيث إن الاكتساب هو طلب المال، سواء كان بتنمية مال موجود أم بالعمل بغير مال كمن يعمل بأجرة، أما الإنماء فهو العمل على زيادة المال الموجود (1).
فإنماء المال هو ما نسميه الاستثمار، إلا أن الفقهاء لا يستعملون لفظ الاستثمار في مدوناتهم، بل يستعملون كلمة التثمير بالمعنى ذاته، فيقولون: ثمر الرجل ماله أي أحسن القيام عليه ونماه (2).
وكذلك يستعملون لفظ التجارة، وقد عرفها النووي - رحمه الله تعالى - بأنها تقليب المال وتصريفه لطلب النماء (3)، وعرفها آخرون بأنها: تقليب المال بالتصرف فيه لغرض الربح (4).
(1) راجع: الموسوعة الفقهية الكويتية (7/ 63).
(2)
راجع: معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء ص (55)، والموسوعة الفقهية الكويتية (3/ 182).
(3)
تهذيب الأسماء واللغات (3/ 40).
(4)
راجع: معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء ص (108)، والموسوعة الفقهية الكويتية (10/ 151).
ويأتي ضد الإنماء عدة ألفاظ لدى الفقهاء منها:
1 -
الكنز: ويعرفونه بأنه ضد الإنماء، ويعنون به المال المحرز المصون في وعاء أو بالدفن، وقيل: هو المال المدفون، وقد صار هذا اللفظ ديانة علما على كل ما لم تخرج زكاته والفروض الواجبة فيه وإن لم يكن مدفونا قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1)، وفي الأثر:(كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز)، فالكنز ضد الإنماء (2).
2 -
التعطيل: وهو في الأراضي غالبا وذلك بترك عمارتها وذلك ضد الإنماء.
وقد قال الفقهاء: من تحجر أرضا وترك عمارتها قيل له: إما أن تعمر، وإما أن ترفع يدك، فإن استمر تعطيلها فمن عمرها فهو أحق بها، لقول عمر رضي الله عنه:(من كانت له أرض - يعني من تحجر أرضا - فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها).
(1) سورة التوبة الآية 34
(2)
راجع: المصباح المنير ص (207)، ومعجم المصطلحات الاقتصادية لنزيه حماد ص 289.
3 -
الادخار: وهو إعداد الشيء وإمساكه لاستعماله عند الحاجة. فهو في حال ادخاره معطل عن الإنماء.
4 -
الاقتناء: وهو مصدر: اقتنى الشيء، يقتنيه، إذا اتخذه قنية لنفسه لا للتجارة. وهذا ضد الإنماء، وكثيرا ما ورد هذا اللفظ عند الفقهاء في الزكاة؛ حيث يفرقون في العروض بين ما اتخذ قنية كثياب اللبس وأثاث البيت ودابة الركوب، وبين ما أرصد للتجارة فيوجبون الزكاة في الثاني دون الأول (1).
وأما عن حكم إنماء المال: فإن الأصل فيه الإباحة، وهذا بإجماع المسلمين؛ لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2)، وقال تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (3)، وقال تعالى عن التجارة في مواسم الحج:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (4)، وإنماء المال سبيل لحفظه الذي هو مقصد من مقاصد
(1) معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء ص (75)، والموسوعة الفقهية الكويتية (7/ 64).
(2)
سورة النساء الآية 29
(3)
سورة المزمل الآية 20
(4)
سورة البقرة الآية 198
الشريعة، ولأجله شرعت العقود المالية من البيع والشركة والمضاربة وغيرها (1).
ولكن هذه الإباحة مقيدة بمشروعية الطريق الذي تستثمر به الأموال وتنمى، كما أنها تتأثر بنية الشخص وغرضه، كما بينت ذلك في مبحث الاكتساب (2).
كما أن من آداب إنماء المال - إضافة إلى ما ذكرته في الكسب - ما يلي:
1 -
السماحة في المعاملة، وترك المشاحة والتضييق على الناس بالمطالبة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى (3)» .
2 -
ترك الشبهات؛ كالاتجار في سوق تختلط فيه الحلال بالحرام، وكالتعامل مع من أكثر ماله حرام، ونحو ذلك. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل
(1) راجع: الموسوعة الفقهية الكويتية (7/ 65، 66) و (10/ 151).
(2)
وراجع الموسوعة الفقهية الكويتية (7/ 66) و (3/ 183).
(3)
صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع (4/ 206) برقم (2076) من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه (1)». قال النووي - رحمه الله تعالى -: " وأما المشتبهات فمعناه أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة؛ فلهذا لا يعرفها كثير من الناس، ولا يعلمون حكمها، وأما العلماء فيعرفون حكمها، بنص، أو قياس، أو استصحاب، أو غير ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة؛ ولم يكن فيه نص ولا إجماع؛ اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا ألحقه به صار حلالا، وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال البين، فيكون الورع تركه، ويكون داخلا في قوله صلى الله عليه وسلم:«فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. . . (2)» (3).
3 -
تحري الصدق والأمانة. وهو من أسباب البركة في التجارة وضده من أسباب محقها قال صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما (4)» .
(1) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب الحلال بين والحرام بين (4/ 290) برقم (2051)، وصحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (11/ 26) برقم (1599) مع شرح النووي.
(2)
صحيح البخاري الإيمان (52)، صحيح مسلم المساقاة (1599)، سنن الترمذي البيوع (1205)، سنن النسائي البيوع (4453)، سنن أبو داود البيوع (3329)، سنن ابن ماجه الفتن (3984)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 270)، سنن الدارمي البيوع (2531).
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 27 - 28).
(4)
متفق عليه من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا (4/ 309) برقم (2079)، وصحيح مسلم، كتاب البيوع، باب الصدق في البيوع (10/ 176) برقم (1532).
كما أنهما سبب في الثواب والعقاب الأخروي فقد أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء (1)» لكنه من مراسيل الحسن عن أبي سعيد، وقد قال عنه الترمذي:(هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه) وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: «التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة (2)» . وفيهما أيضا من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن التجار يبعثون يوم القيام فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق (3)» .
4 -
التصدق من مال التجارة: وقد جاء هذا فيما أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث قيس بن أبي غرزة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر التجار: إن البيع يحضره الحلف واللغو، فشوبوه بالصدقة (4)» قال الترمذي: حديث قيس بن أبي
(1) سنن الترمذي البيوع (1209)، سنن الدارمي البيوع (2539).
(2)
سنن الترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في التجارة (4/ 399) برقم (1224) مع تحفة الأحوذي شرح الترمذي للمباركفورى، وسنن ابن ماجه، كتاب التجارات، باب الحث على المكاسب (2/ 724) برقم (2139).
(3)
سنن الترمذي، الباب السابق، (4/ 400) برقم (1125)، وقال الترمذي:((هذا حديث حسن صحيح))، وسنن ابن ماجه، كتاب التجارات، باب التوقي في التجارة (2/ 726) برقم (2146).
(4)
سنن الترمذي، الباب السابق (4/ 398) برقم (1222)، وسنن ابن ماجه، الباب السابق، (2/ 726) برقم (2145).