الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: شرط صحة التورق المصرفي
.
وفيه مطالب:
المطب الأول: الشرط الأول: أن يكون المصرف مالكا للسلعة من المعدن
لا يجوز للمصرف بيع المعدن إلا بعد تملكه إذ اشتراط كون البائع مالكا للسلعة المباعة من شروط صحة البيع باتفاق الفقهاء.
والدليل على هذا الشرط:
1 -
ما رواه حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه قال: «يا رسول الله: يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي أفأبتاعه له من السوق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا تبع ما ليس عندك (1)»
2 -
ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع،
(1) رواه الإمام أحمد في المسند 3/ 402، وأبو داود في البيوع، باب في بيع الرحل ما ليس عنده (3503)، والترمذي في البيوع، باب ما جاء في كراهة بيع ما ليس عندك (1232)، والنسائي 7/ 289، وابن ماجه في التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك (2187)
ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك (1)».
فإن لم يكن المصرف مالكا للسلعة، وطلب منه العميل شراء السلعة فتحت ذلك أمران:
الأمر الأول: أن يشتري المصرف السلعة للعميل وذلك بأن يطلب العميل من المصرف كذا وكذا من المعدن فيقوم المصرف بشراء المعدن للعميل ويسدد المصرف للبائع، والعميل يسد للمصرف الثمن منجما.
فهذه الصورة محرمة؛ لأن حقيقتها قرض بفائدة، فهي من ربا النسيئة المجمع على تحريمه (2).
الأمر الثاني: أن يشتري المصرف السلعة لنفسه- أي المصرف- بناء على طلب العميل، وذلك بأن يطلب العميل من المصرف شراء كذا وكذا من معدن الحديد مثلا، فيقوم المصرف بتوفيرها، ثم بيعها على العميل بثمن مؤجل يربح فيه.
(1) أخرجه الإمام أحمد 2/ 179، وأبو داود في البيوع، باب الرجل يبيع ما ليس عنده (3503)، والترمذي في البيوع، باب ما جاء في كراهة بيع ما ليس عندك (1232)، والنسائي 7/ 288. وقال الترمذي: حسن صحيح.
(2)
الشرح الكبير مع الإنصاف 12/ 6
وقد سماها بعض المتأخرين (1) باسم: " بيع المرابحة للآمر بالشراء ".
وسماها الشيخ بكر أبو زيد بـ "بيع المواعدة" لأن الوعد أساس في صورها كافة (2).
ولهذه المسألة صور:
الصورة الأولى: أن يكون بين المصرف والعميل مواعدة ملزمة (3):
مثال ذلك: أن يلتزم العميل للمصرف أن يشتري منه سلعة كذا من المعدن بعد شراء المصرف لها.
فاختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز اشتراط كون المواعدة بالمعاوضة ملزمة للطرفين.
وهذا ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي (4)، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية (5)، وكثير من
(1) ينظر: رفيق المصري، بيع المرابحة (مجلة مجمع الفقه الإسلامي 5/ 1137)
(2)
الشيخ بكر أبو زيد، بيع المرابحة (مجلة مجمع الفقه الإسلامي 5/ 970)
(3)
وهذه جعلها بعض المتأخرين من المسائل المستجدة. (ينظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي 5/ 1103)
(4)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي 5/ 1599
(5)
مجلة البحوث الإسلامية 7/ 114
المتأخرين.
وحجته:
1 -
عموم الأحاديث التي نصت على النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده (1).
وجه الدلالة: أن حقيقة هذه الصورة عقد بيع على سلعة مقدرة التملك للمصرف بربح قبل أن يملك المصرف السلعة ملكا حقيقا (2)، إذ الإلزام أبرز خصائص العقد، والعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني.
ونوقش: بأن اعتبار الوعد بالبيع بيع غير مسلم بدليل: أنه يمكن تعديل الثمن أو شروط السداد في عقد البيع بعد ورود البضاعة والوقوف على تكلفتها (3)، ولأن الضمان قبل إجراء العقد على المصرف دون العميل.
وأجيب: بأن ما ذكر من دليل غير مؤثر إذ الإلزام من أبرز خصائص العقود.
(1) تقدم تخريجها ص 56
(2)
الشيخ بكر أبو زيد، المرابحة للآمر بالشراء (مجلة المجمع) 5/ 984
(3)
د / محمد عبد الحليم عمر، التفاصيل العلمية لعقد المرابحة (مجلة المجمع) 5/ 1312
2 -
عموم الأدلة التي نهت عن بيع الإنسان ما اشتراه قبل قبضه كحديث ابن عمر رضي الله عنهما رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (1)»
3 -
أن حقيقة هذا العقد بيع نقد بأكثر منه إلى أجل بينهما سلعة محللة، فغايته قرض بفائدة.
4 -
أن البيوع المنهي عنها ترجع إلى أمور ثلاثة: الربا، والغرر، وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا منها (2).
القول الثاني: جواز اشتراط كون المواعدة ملزمة للطرفين.
وهو قول بعض المتأخرين، وإليه ذهب مؤتمر المصرف الإسلامي الأول المنعقد بدبي، ومؤتمر المصرف الإسلامي الثاني المنعقد بالكويت (3).
وحجته:
1 -
حديث عبادة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار (4)»
(1) رواه البخاري في البيع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض (2136)، ومسلم في البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض (1526)
(2)
الشيخ بكر أبو زيد، بيع المرابحة (مجلة المجمع 5/ 986، 987)
(3)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي 5/ 1061، 1062
(4)
حديث عبادة أخرجه الإمام أحمد 5/ 327، وابن ماجه في الأحكام، باب من بنى بحقه ما يضر بجاره (2340)، وحديث أبي سعيد أخرجه الدارقطني 3/ 77، والحاكم 2/ 57، وصححه ووافقه الذهبي. والحديث له شواهد عن عائشة وأبي هريرة وجابر وابن عباس رضي الله عنهم، قال النووي في الأربعين النووية:"له طرق يقوي بعضها بعضا"(جامع العلوم والحكم 2/ 207)، وقال ابن الصلاح كما في جامع العلوم والحكم 2/ 211:"هذا حديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به"
وجه الدلالة: أن في الإلزام بالمواعدة منعا من الإضرار بالمصرف والعميل، فقد يأتي المصرف بالسلعة على الوصف المشترط ثم يبدو للعميل عدم أخذها، وقد يكون الحال على النقيض بأن يستغل المصرف حاجة العميل للسلعة مما يسبب في إيقاع الضرر له (1) ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أنه اجتهاد في مقابلة عموم النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده، وبيع السلعة قبل قبضها.
الثاني: أن رفع الضرر يمكن بطرق أخرى مشروعة كشرط الخيار مثلا فلا يتعين الإلزام بالمواعدة طريقا لرفع الضرر لما يترتب عليه من محذور شرعي (2).
2 -
قياس الإلزام بالوعد بالمعاوضة على الإلزام بالوعد بالمعروف والقضاء به كما هو عند المالكية (3).
(1) سامي محمود، بيع المرابحة (مجلة المجمع 5/ 1104)
(2)
ينظر: قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم (2، 3)، مجلة المجمع 5/ 1599
(3)
ينظر: مجلة المجمع 5/ 855، 942
ونوقش بالفرق: فعقود المعاوضات يقصد منها الكسب والتجارة بخلاف عقود التبرعات فيقصد منها الإرفاق والإحسان، ولهذا اغتفر في عقود التبرعات الجهالة وعدم القدرة على التسليم ونحو ذلك. وأيضا: الوعد بالمعروف صادر من جهة الواعد، بخلاف المواعدة في المعاوضات فهي صادرة من طرفين فهي بمنزلة العقد، ولا يعقد الإنسان على شيء غير مملوك له.
2 -
أن الحاجة داعية إلى مثل هذه المعاملة كما دعت إلى السلم والاستصناع، واغتفر ما يعتريهما من غرر تقديرا للحاجة، والحاجة هنا اتساع رقعة التعامل وتضخم رؤوس الأموال (1) ونوقش: مما نوقش به الدليل الأول من كونه اجتهادا في مقابلة النص.
فالمصلحة المترتبة على الإلزام بالمواعدة في عقد المعاوضة مصلحة ملغاة شرعا كالمصلحة الحاصلة من بيع الإنسان ما ليس عنده.
الترجيح:
يترجح والله أعلم ما ذهب إليه أهل القول الأول؟ لقوة دليلهم، وضعف دليل القول الآخر بمناقشته.
الصورة الثانية: أن يكون بين المصرف والعميل مواعدة غير
(1) الشيخ بكر أبو زيد، بيع المرابحة (مجلة المجمع 5/ 989)
ملزمة مع ذكر مقدار للربح:
مثال ذلك: أن يقول العميل للمصرف: اشتر لي معدن كذا بمائة وأشتريه منك بمائة وعشرين مؤجلة.
للعلماء في ذلك رأيان:
القول الأول: أن هذه المعاملة محرمة.
وهو مذهب المالكية (1)، وبه قال من المتأخرين الشيخ محمد بن صالح العثيمين (2).
وحجة هذا القول:
1 -
أن في هذا تحايلا على الربا، فالمصرف يشتري السلعة ليبيعها بأكثر إلى العميل، وليس له قصد في اشترائها ابتداء (3)"كأنه سلفه عشرة ثمن السلعة يأخذ عنها بعد الأجل اثني عشرا"(4).
ونوقش هذا الدليل: بأن المصرف يشتري حقيقة وليس من شرط الشراء الاستهلاك أو الاقتناء، بل من مقاصده الربح كما هو عمل التجارة.
(1) الشرح الكبير للدردير 3/ 88، والشرح الصغير 2/ 44
(2)
الشرح الممتع 8/ 224
(3)
ينظر: المصدر السابق
(4)
الشرح الصغير 2/ 44
وأجيب عنه: بأن هذا مسلم، وأن المصرف يشتري حقيقة، لكن لما كان مصيره دراهم بدراهم منع.
2 -
أن كثيرا من المتعاملين بهذا البيع لا ينوون التحايل على الربا، بل يقصدون البعد عن الربا.
وأجيب: أن حسن القصد لا يكفي إذا ترتب عليه محذور شرعي.
القول الثاني: الجواز.
وبه قال جمهور أهل العلم من الحنفية (1)، والشافعية (2)، وإليه ذهب مجمع الفقه الإسلامي (3)، والشيخ عبد العزيز بن باز (4) رحمه الله.
وحجته:
1 -
قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (5).
وجه الدلالة: أن هذه المعاملة داخلة في عموم ما أحل الله من البيع.
2 -
أن الأصل في المعاملات الحل، إلا ما قام الدليل على تحريمه (6).
(1) المخارج في الحيل ص 37
(2)
الأم 3/ 33
(3)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي 5/ 1599
(4)
مجلة البحوث الإسلامية 7/ 53
(5)
سورة البقرة الآية 275
(6)
ينظر: مجلة البحوث الإسلامية 7/ 53
ونوقش هذان الدليلان: باستثناء هذه المعاملة من هذا الأصل، وهذا العموم بقيام الدليل على منعها.
3 -
أنه ليس في هذه الصورة التزام بالوعد بالعقد، أو بالتعويض عن الضرر لو هلكت السلعة فلا ضمان على العميل، فالمصرف يخاطر بشراء السلعة لنفسه، وهو على غير يقين من شراء العميل لها بربح، فلو عدل أحدهما عن رغبته فلا إلزام، ولا يترتب عليه أي أثر، فهذه الدرجة من المخاطرة هي التي جعلتها في حيز الجواز (1).
ونوقش: أن ملخص هذا الدليل أن المصرف يشتري شراء حقيقيا، وتقدم مناقشة هذا الدليل.
الترجيح: الراجح- والله أعلم- هو القول الأول؛ لقوة دليله، ومناقشة دليل القول الآخر، ولما في ذلك من البعد عن الشبهات.
الصورة الثالثة: أن يكون بين المصرف والعميل مواعدة غير ملزمة مع عدم ذكر مقدار للربح.
مثال: أن يقول العميل للمصرف اشتر معدن كذا بكذا، وسأربحك فيها.
(1) محمد الأشقر، بيع المرابحة ص 47، والشيخ بكر أبو زيد، بيع المرابحة (مجلة المجمع 5/ 983).
للعلماء في هذه الصورة قولان:
القول الأول: الجواز.
وهو قول جمهور أهل العلم من الحنفية، والمالكية، والشافعية، ونص المالكية على الكراهة.
وهو قول أكثر المتأخرين كالشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (1).
وحجته:
1 -
ما تقدم من أدلة جواز الصورة السابقة، وقد تقدم مناقشتها.
2 -
أن محذور القرض بفائدة الذي ذكره المالكية غير موجود هنا؛ لعدم التنصيص على قدر الربح.
وأجيب: أن محذور القرض بفائدة موجود حتى مع عدم التنصيص على قدر الربح.
القول الثاني: تحريم هذه المعاملة.
وهو قول الشيخ محمد العثيمين رحمه الله (2).
وحجته: أن في هذا تحيلا على الربا؛ لأن حقيقة الأمر أنه أقرضه من السلعة الحاضرة بزيادة؛ لأنه لولا طلب العميل لم يشتر
(1) المصادر السابقة برقم (80، 81)، والمقدمات الممهدات 2/ 56، وحاشية الدسوقي 3/ 88
(2)
الشرح الممتع 8/ 224.
المصرف السلعة (1).
الترجيح:
الراجح- والله أعلم- القول بتحريم هذه الصورة لما استدلوا به، ودفعا للشبهات.
وقد ذكر المجد ضمن أبواب الربا باب ما جاء في الشبهات (2).
ثم أورد حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام. . . . (3)» .
وقد تقدم قوة دليل من حرم بيع التورق، فإذا انضاف إلى ذلك ما احتج به من منع هذه الصورة من صور المرابحة توجه المنع.
(1) المصدر السابق.
(2)
المنتقى مع نيل الأوطار 5/ 208.
(3)
أخرجه البخاري في البيوع، باب الحلال بين والحرام بين (2051)، ومسلم المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (1599).
المطلب الثاني: الشرط الثاني: ألا يبيع المشتري السلعة- المعدن- إلا بعد قبضه
وفيه أمور:
الأمر الأول: اشتراط القبض لصحة البيع.
اختلف العلماء رحمهم الله في صحة بيع المشتري قبل قبض السلعة على أقوال:
القول الأول: أنه لا يصح بيع المبيع إلا بعد قبضه.
وهذا مذهب الحنفية (1)، ومذهب الشافعية (2)، ورواية عند الحنابلة (3) لكن استثنى الحنفية العقار، فيصح بيعه قبل قبضه.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 -
حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه (4)» .
وفي رواية: «إذا بعتم طعاما فلا تبيعوه حتى تقبضوه (5)» .
2 -
حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: «قلت يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال صلى الله عليه وسلم: إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه (6)» .
(1) بدائع الصنائع 5/ 180، 181.
(2)
الأم 3/ 69، والمجموع 9/ 319، 326.
(3)
الإنصاف مع الشرح الكبير 11/ 463.
(4)
رواه مسلم في البيوع، باب بطلان المبيع قبل القبض رقم (1529).
(5)
رواه أحمد 3/ 327.
(6)
أخرجه عبد الرزاق 8/ 39 رقم (14214)، وأحمد 3/ 402، وابن حبان رقم (4983)، والبيهقي في السنن 5/ 313، والحديث صححه ابن حبان وقال عنه البيهقي: هذا إسناد حسن متصل.
3 -
حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «ابتعت زيتا من السوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحا حسنا، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت فإذا زيد بن ثابت، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (1)» .
وجه الاستدلال من هذه الأحاديث:
أن هذه الأحاديث دلت على منع بيع السلع قبل قبضها، والنهي يقتضي الفساد (2).
4 -
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك (3)» .
(1) أخرجه أحمد 5/ 191، وأبو داود في البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يستوفى، رقم (3499)، وابن حبان رقم (4984) وصححه.
(2)
بدائع الصنائع 5/ 180.
(3)
أخرجه أحمد 2/ 179، وأبو داود في البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده رقم (3504)، والترمذي في البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عند الإنسان رقم (1234)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع رقم (4316)، وابن ماجه في التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن رقم (2188)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وجه الاستدلال:
أن المبيع قبل قبضه من ضمان البائع، فإذا باع المشتري السلعة قبل قبضها فقد ربح في شيء ليس من ضمانه وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
ونوقش:
بأن الاستدلال بهذا الحديث إنما يصح، لو كان الضمان لا ينتقل إلى المشتري إلا بمجرد القبض. أما وأن الضمان ينتقل إلى المشتري بمجرد العقد فلا يصح الاستدلال به؛ لأنه باع وربح فيما هو من ضمانه (1).
5 -
قول ابن عباس رضي الله عنهما: "ولا أحسب كل شيء إلا مثله" يعني أن غير الطعام ينبغي أن يقاس على الطعام الثابت فيه النهي عن بيعه قبل قبضه بالسنة، وهذا من تفقه ابن عباس، وابن عباس هو راوي الحديث فهو حينئذ أعرف بمرماه (2).
6 -
أن علة النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، سواء كانت الربا أو الغرر موجودة في بيع غير الطعام قبل قبضه، فوجب أن يسوى بينهما في الحكم (3).
(1) الفروق 3/ 233.
(2)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السادس 1/ 473.
(3)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السادس، الجزء الأول ص (473).
وأما دليل جواز بيع العقار قبل قبضه:
فلأن المعنى الذي كان من أجله النهي عن بيع المبيع قبل قبضه هو: الغرر الناشئ من احتمال انفساخ العقد بهلاك المعقود عليه قبل قبضه، مما يعود بالانفساخ على العقد الثاني وذلك مورث للغرر، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر (1).
وهذا المعنى غير موجود في العقار؛ لأنه لا يتصور هلاكه غالبا (2).
ونوقش:
بأنه لو سلم انحصار المعنى الذي كان لأجله النهي بغرر الانفساخ، فلا يسلم انحصار ما لا يخشى هلاكه بالعقار؛ إذ قد يوجد من المنقولات ما لا يتصور فيه الهلاك، كالحديد الكثير، وقد يوجد من العقار ما يمكن أن يتصور فيه الهلاك، فصار تقييده بالعقار غرر مطرد ولا منعكس فلا يصح تعليق الحكم به لما ذكر (3).
القول الثاني: أنه يصح بيع المعدن قبل قبضه؛ إذ لا يشترط قبض المبيع لصحة بيعه إلا في الطعام المكيل أو الموزون.
(1) أخرجه مسلم في البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر (1153) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
بدائع الصنائع 5/ 180، 181.
(3)
المجموع 4/ 328.
وهذا مذهب المالكية (1)، ورواية عند الحنابلة (2).
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 -
الأحاديث الواردة في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وقد تقدم شيء منها.
وجه الاستدلال من هذه الأحاديث:
أن الأحاديث الواردة بالنهي عن التصرف في المبيع قبل قبضه، جاءت بالتنصيص على الطعام دون سواه، وهذا يدل بمفهومه: أن ما عدا الطعام بخلافه في الحكم (3).
ونوقش بما يلي:
1 -
أن هذا المفهوم معارض بما هو أقوى منه في الدلالة وهو مفهوم الموافقة المأخوذ من هذه الأحاديث ووجه ذلك:
أنه إذا نهى عن بيع الطعام قبل قبضه مع كثرة الحاجة إليه، فغير الطعام مما هو أقل حاجة منه أولى بالمنع منه وأحرى (4).
2 -
أن هذا المفهوم معارض بمنطوق الأحاديث التي عمت بالنهي جميع السلع، كحديث حكيم بن حزام، وحديث زيد بن ثابت رضي الله عنهما (5).
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/ 246، الكافي في فقه أهل المدينة ص 319.
(2)
الإنصاف مع الشرح الكبير 11/ 493.
(3)
ينظر: المغني 6/ 190.
(4)
المجموع 9/ 271، تهذيب السنن 5/ 133.
(5)
المجموع 9/ 271، وسبق تخريج الحديثين.
3 -
أن تخصيص الطعام بالذكر لا يدل على أن غيره بخلافه؛ لأن التنصيص على الطعام خرج مخرج الغالب، إذ الطعام أكثر ما يتعامل به الناس في ذلك الزمن، ومما يلغي دلالة المفهوم أن يخرج اللفظ مخرج الغالب (1).
القول الثالث: أنه لا يشترط القبض في المبيع لصحة البيع، إلا في المكيل، والموزون، والمعدود، والمذروع، سواء كان مطعوما أو غير مطعوم.
وهذا هو المذهب عند الحنابلة (2) إذ لا يشترط القبض عندهم لصحة بيع المبيع إلا في المكيل أو الموزون أو المعدود أو المذروع إذا بيع بتقدير.
واستدلوا على ذلك:
أولا: دليلهم على أن المعدن إذا بيع بتقدير لا يصح بيعه إلا بعد قبضه.
1 -
عموم الأحاديث الواردة في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه (3).
وجه الدلالة: أن قبض الطعام إنما يتحقق بكيله أو وزنه، فدل
(1) تهذيب السنن 5/ 133.
(2)
المغني 6/ 188، كشاف القناع 3/ 241.
(3)
سبق تخريجه.
على أن كل ما كان قبضه بكيله أو وزنه لا يجوز بيعه قبل قبضه.
2 -
اتفاق أهل العلم على أن المكيل والموزون لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري، إلا بالكيل أو الوزن، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يضمن (1)(2).
ثانيا: دليلهم على أن ما بيع بغير تقدير لا يشترط القبض لصحة بيعه ما تقدم من دليل القول الثاني.
وقد سبقت مناقشته.
الترجيح:
الذي يظهر لي رجحانه- والعلم عند الله- هو ما ذهب إليه من اشترط القبض لصحة البيع في كل مبيع؛ لقوة دليله.
ولأن العلة التي علل فيها النهي عن بيع الطعام قبل قبضه موجودة في غير الطعام.
الأمر الثاني: توكيل البائع بالقبض. المعدن الذي يبيعه المصرف للعميل يكون غائبا عن البلد، فيوكل المشتري المصرف في قبض المعدن.
اختلف العلماء في توكيل المشتري البائع في قبض المبيع على قولين:
القول الأول: أنه يصح توكيل المشتري البائع في قبض المبيع.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
بداية المجتهد 3/ 279.
وهو ظاهر قول المالكية (1)، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة (2).
جاء في حاشية الدسوقي: ". . . إلا أن يكون القابض من نفسه ممن يتولى طرفي العقد كوصي ليتيميه ووالد لولديه الصغيرين، وسيد لعبديه، فيجوز بيع طعام أحدهما للآخر، ثم بيعه عليه لأجنبي قبل قبضه لمن اشتراه له فتأمله. . . "(3).
وفي المبدع: ". . . فلو اشترى منه مكيلا بعينه، ودفع إليه الوعاء، وقال: كله فإنه يصير مقبوضا. . . "(4).
وفي الإنصاف: " الثانية: الصحيح من المذهب: صحة استنابة من عليه الحق للمستحق في القبض، قال في التلخيص صح في أظهر الوجهين، وقدمه في الفروع "(5).
وحجته:
1 -
(1) حاشية الدسوقي 3/ 152.
(2)
المغني 6/ 453، والمبدع 4/ 121، وكشاف القناع 3/ 246.
(3)
حاشية الدسوقي 3/ 152.
(4)
المبدع 4/ 121.
(5)
4/ 469، وينظر: الفروع 4/ 140.
(6)
سورة الكهف الآية 19
2 -
ما رواه عروة بن الجعد رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه (1)» وجه الدلالة من الآية والحديث: أنهما دلا على جواز الوكالة في البيع والشراء، ويلحق بذلك توكيل البائع في قبض المبيع.
3 -
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ، فهم به أصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا أعطوه سنا مثل سنه (2)» .
وجه الدلالة: دل على جواز الوكالة في إيفاء الحق، فكذا في استيفائه ولو من جهة البائع للمشتري.
4 -
أن الأصل في المعاملات الحل حتى يقوم دليل المنع.
القول الثاني: أنه لا يصح توكيل البائع في القبض.
وهو مذهب الحنفية، والشافعية (3)، ووجه عند الحنابلة (4).
(1) أخرجه البخاري في المناقب، باب حدثنا محمد بن المثنى (3642).
(2)
أخرجه البخاري في الوكالة، باب الوكالة في قضاء الديون (2306)، ومسلم في المساقاة، باب جواز اقتراض الحيوان .. (1601).
(3)
الأم 3/ 71، وفتح العزيز 8/ 447، وروضة الطالبين 3/ 177.
(4)
الإنصاف 4/ 469.
جاء في درر الحكام في شرح مجلة الأحكام: " يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها. . . مثال ذلك: لو وكل المشتري البائع في قبض المبيع فالوكالة لا تصح، أما لو أعطى المشتري البائع كيسا ليضع فيه المبيع اعتبر ذلك قبضا من المشتري "(1).
وقال الشافعي: "ومن ابتاع من رجل طعاما فكتب إليه المشتري أن يقبضه له من نفسه، فلا يكون الرجل قابضا له من نفسه، وهو ضامن عليه حتى يقبضه المبتاع أو وكيل المبتاع غير البائع، وسواء أشهد على ذلك أو لم يشهد"(2).
وفي المجموع: فرع: قال أصحابنا للمشتري أن يوكل في القبض، وللبائع أن يوكل في الإقباض ويشترط لذلك أمران: أحدهما: ألا يوكل المشتري من يده يد البائع كعبده ومستولدته. الثاني: ألا يكون القابض والمقبوض منه واحدا، فلا يجوز أن يوكل البائع رجلا في الإقباض ويوكله المشتري في القبض. . . (3)
وحجته:
1 -
حديث جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع
(1) 1/ 55، 56.
(2)
الأم 3/ 71.
(3)
المجموع شرح المهذب 9/ 338، 339.
البائع وصاع المشتري (1)».
وجه الدلالة: دل قوله صلى الله عليه وسلم: «حتى يجري فيه الصاعان. . .» أنه لا يكفي قبض البائع نيابة، بل لا بد من جريان صاع المشتري حقيقة.
ونوقش هذا من وجوه:
الأول: أن الحديث ضعيف لا يحتج به.
الثاني: أن قوله صلى الله عليه وسلم:. . . «صاع المشتري» عام يشمل صاع المشتري أصالة ونيابة.
الثالث: أنه مبني على الأغلب، وأن الغالب أن المشتري يقبض لنفسه، وما كان قيدا أغلبيا لا مفهوم له.
2 -
حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل (2)» .
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المشتري بالقبض.
(1) أخرجه ابن ماجه في التجارات، باب النهي عن بيع الطعام ما لم يقبض (2228)، والبيهقي 5/ 89. قال في الزوائد:"في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أبو عبد الرحمن الأنصاري، وهو ضعيف".
(2)
أخرجه البخاري معلقا بصيغة التمريض في البيوع، باب الكيل على البائع والمعطي قبل حديث (3126).
ونوقش: بأنه مسلم، لكن لا دلالة فيه على منع البائع من القبض، نيابة عن المشتري.
الترجيح: الراجح- والله أعلم- القول الأول؛ لقوة دليله في مقابل مناقشة دليل القول الثاني.
الأمر الثالث: توكيل البائع في البيع تقدم في المسألة السابقة خلاف أهل العلم في توكيل البائع في قبض المبيع، وأنهم اختلفوا في ذلك على قولين.
فإذا تم قبض المشتري للمبيع بنفسه أصالة، أو بالبائع نيابة جاز له أن يوكل البائع في بيعه.
وهو قول الحنفية، جاء في حاشية ابن عابدين:" ولو اشترى ثوبا أو حنطة فقال للبائع: بعه قال الإمام الفضلي: إن كان قبل القبض والرؤية كان فسخا، فما لم يقبل البائع لا يكون فسخا، وكذا لو بعد القبض والرؤية، لكن يكون وكيلا بالبيع سواء قال: بعه أو بعه لي "(1).
وهو قول المالكية والحنابلة؛ لأنهم يرون صحة توكيل البائع في القبض، فالبيع من باب أولى.
وهو قول الشافعية؛ لأن الشافعية لم يصححوا توكيل البائع في القبض فقط، وأما البيع فيصح توكيل البائع فيه.
(1) حاشية ابن عابدين 7/ 72 ط: دار إحياء التراث العربي.
والدليل على هذا: عموم أدلة صحة الوكالة المتقدمة.
الأمر الرابع: قبض المعدن
بيع المعدن لا يخلو من أمرين:
الأول: أن يباع جزافا بلا تقدير كأن يبيع المصرف صبرة من الحديد بسعر كذا وبهذا.
الثاني: أن يباع بتقدير؛ كأن يبيع المصرف العميل مائة طن من الحديد، كل طن بكذا وكذا.
وبيع المصارف من هذا القسم.
فاختلف العلماء رحمهم الله في قبض ذلك على أقوال:
القول الأول: أن قبض المعدن مطلقا يتحقق بالتخلية بينه وبين المشتري على وجه يتمكن معه من الانتفاع فيه والتصرف في المبيع. وهذا القول هو مذهب الحنفية (1)، وقول للشافعية (2)، ورواية عن الإمام أحمد (3).
واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
1 -
حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على بكر صعب
(1) بدائع الصنائع 5/ 244.
(2)
المجموع 9/ 276، روضة الطالبين 3/ 515.
(3)
المغني 6/ 186، 187.
لعمر، فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر ويرده، ثم يتقدم فيزجره عمر ويرده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: بعنيه. قال: هو لك يا رسول الله، فاشتراه ثم قال: هو لك يا عبد الله، فاصنع به ما شئت (1)».
وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم تصرف في المبيع دون سوق أو تحويل للحمل، فلو كان النقل والتحويل شرطا لأخذه النبي صلى الله عليه وسلم أولا، ثم وهبه بعد ذلك، فدل ذلك على أن تحقق القبض يحصل بمجرد التخلية (2) والمعدن يلحق بالجمل؛ إذ كل منهما منقول.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن الحديث يحتمل غير ما ذكر في وجه الاستدلال، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال. ومما يحتمله الحديث:
1 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الجمل مما يتحقق به القبض، ولكن ذلك لم ينقل، وعدم النقل ليس نقلا للعدم (3).
(1) رواه البخاري، كتاب الهبة، باب من أهدي له هدية وعنده جلساؤه فهو أحق به، رقم (2610).
(2)
فتح الباري 4/ 351.
(3)
المرجع السابق.
2 -
أن ابن عمر رضي الله عنه كان وكيلا في القبض للنبي صلى الله عليه وسلم مما يغني عن مباشرته صلى الله عليه وسلم للقبض.
وأجيب عن ذلك:
بأن ما ذكره مجرد احتمال بعيد، لا ينبغي أن يلغي ظاهر دلالة الحديث، والعبرة إنما هي بالاحتمال الناشئ عن دليل.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعقد على الجمل عقد معاوضة، وإنما عقد عليه عقد تبرع، وفرق بين عقد المعاوضة وعقد التبرع؛ إذ يتوسع في عقود التبرعات ما لا يتوسع في عقود المعاوضات؛ ولهذا جاز هبة المجهول والمعدوم وغير المقدور عليه ونحو ذلك (1).
2 -
حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الهجرة وفيه: «أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج، فخذ إحداهما، قال: قد أخذتها بالثمن. . . (2)» .
وجه الاستدلال:
أن قوله صلى الله عليه وسلم: «قد أخذتها بالثمن» لم
(1) الاختيارات ص264 ط. دار العاصمة.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب إذا اشترى متاعا أو دابة فوضعه عند البائع أو مات قبل أن يقبض، رقم (2138).
يكن أخذا باليد، وإنما كان التزاما منه لابتياعها وإخراجها عن ملك أبي بكر رضي الله عنه إذ من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يسقها بل أبقاها عند أبي بكر (1).
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أن القصة ما سيقت لبيان ذلك، فلذلك اختصر فيها قدر الثمن وصفة العقد، وصفة القبض؛ لأن الراوي ليس من غرضه بيان ذلك، وحينئذ لا يكون فيه حجة في عدم اشتراط القبض (2).
الثاني: أن المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أخذتها بالثمن (3)» إتمام عقد الشراء دون ما يتعلق بالقبض.
3 -
أن التسليم في اللغة عبارة عن جعل الشيء سالما خالصا، كما قال تعالى:{وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} (4) أي سالما لا يشاركه فيه أحد. فتسليم المبيع إلى المشتري هو جعله سالما له، أي: خالصا لا ينازعه فيه غيره، وهذا يحصل بالتخلية (5).
4 -
أن من وجب عليه التسليم لا بد أن يكون له سبيل إلى تحقيق ما وجب عليه، والذي في وسعه هو التخلية ورفع الموانع، أما
(1) ينظر: فتح الباري 4/ 351.
(2)
المصدر السابق.
(3)
صحيح البخاري البيوع (2138)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 212).
(4)
سورة الزمر الآية 29
(5)
بدائع الصنائع 5/ 244.
الإقباض فليس في وسعه؛ لأن القبض بالبراجم فعل اختياري للقابض. فلو تعلق وجوب التسليم به لتعذر الوفاء بالواجب، وهو لا يجوز (1).
القول الثاني: أن قبض المعدن إن بيع بغير تقدير فقبضه بنقله وتحويله، وإن بيع بتقدير فقبضه بتقديره، عند جمهور العلماء: من المالكية (2)، والشافعية (3)، والحنابلة (4).
وحجتهم على ذلك:
أولا: الدليل على أن ما بيع بغير تقدير: أن قبضه بنقله وتحويله:
1 -
حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله أن نبيعه حتى ننقله من مكانه (5)» .
وجه الاستدلال:
أن الحديث قد بين أن النقل والتحويل هو الطريق الذي يتم بها قبض ما بيع بطريق الجزاف، ويقاس على الطعام غيره من
(1) ينظر: بدائع الصنائع 35/ 244.
(2)
حاشية الدسوقي 3/ 145.
(3)
المجموع 9/ 277.
(4)
المغني 6/ 187.
(5)
أخرجه مسلم في البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض (1527).
المنقولات (1).
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن ما ذكر في الحديث من النقل والإيواء لا يعدو أن يكون صورة من صور القبض- التي تعتبر التخلية أحدها- وليس فيه دلالة على حصر القبض في ذلك، وإنما ذكر النقل والإيواء؛ لأنه هو الغالب في قبض هذه الأشياء في زمانهم (2).
الوجه الثاني: أن الحديث إنما يدل على النهي عن التصرف في المبيع بالبيع قبل قبضه، وليس فيه بيان ما يتحقق به القبض (3).
2 -
أن العرف جار على أن قبض مثل هذه الأشياء يكون بنقلها وتحويلها؛ لأن أهل العرف لا يعدون حيازتها من غير تحويل، وقد سبق أن المرجع في تحديد القبض هو: العرف، والعرف ما ذكر (4) ونوقش: بأن العرف يختلف باختلاف الزمان والمكان، فقد يكون القبض في عرف قوم مجرد التخلية مع الوثيقة، ونحو ذلك.
ثانيا: الدليل على أن ما بيع بتقدير يكون بتقديره:
1 -
حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله
(1) المغني 6/ 187.
(2)
ينظر: فتح الباري 4/ 350، ود / سعود الثبيتي ص 40.
(3)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السادس 1/ 569.
(4)
ينظر: المجموع 9/ 282، المغني 6/ 188.
عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله (1)» .
وجه الاستدلال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالكيل فيما يقدر بالكيل، فدل على أن قبض المكيل إنما يتحقق بالكيل، ويقاس على المكيل غيره من المقدرات (2).
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن الأمر بالكيل لا يدل على تقييد قبض الطعام المكيل بالكيل، بل المراد بالاكتيال: القبض والاستيفاء، كما في بعض الروايات (3)، ولكن لما كان الغالب في الطعام الكيل صرح به، وإذا لم يفسر الحديث بهذا فإن ظاهره يدل على وجوب الكيل في كل بيع وهذا لم يقل به أحد؛ لجواز البيع جزافا، وبالعد، والوزن (4).
الوجه الثاني: أن المراد من الحديث ألا يشتري ولا يبيع مجهولا، فإذا اشترى طعاما وأراد بيعه بتقدير فلا بد من معرفة قدره.
الترجيح:
مما تقدم عرضه يترجح- والله أعلم- أن قبض المنقولات
(1) أخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب بطلان المبيع قبل قبضه رقم (1525).
(2)
المغني 6/ 187.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السادس 1/ 567.
راجع إلى عرف الناس في الزمن المعين، فإذا تعارفوا على أن القبض يتحقق بالتخلية فإنه يتم بها، وإن كان في عرفهم أنه لا يتحقق إلا بالحيازة والنقل لم يتم إلا بذلك.
أما تحديد ما هو العرف فإنه يختلف باختلاف السلع.
وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: القبض يرجع في تحديده إلى عرف الناس، فما عده الناس قبضا فهو قبض، وما لم يعده قبضا فليس كذلك (1).
وهو مما انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي. حيث حاء في قرار المجمع ما نصه ". . . وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضا لها"(2).
وأيضا: فإن المعدن المباع بكميات كبيرة يلحق بالعقار الذي يكون قبضه بالتخلية (3).
فرع: اشترط الحنفية رحمهم الله الذين قالوا بالاكتفاء بالتخلية للتخلية شروطا:
الشرط الأول: الإذن بالقبض:
جاء في فتاوى قاضي خان: " قال أبو حنيفة رحمه الله
(1) ينظر: مجموع الفتاوى 29/ 16، 30/ 275.
(2)
ينظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد (6) 1/ 771.
(3)
ينظر: المغني 6/ 187.
تعالى: التخلية بين البائع والمشتري تكون قبضا بشرائط ثلاثة: أحدها: أن يقول البائع: خليت بينك وبين المبيع فاقبضه، ويقول المشتري: قد قبضت " (1).
وقال ابن عابدين: "الظاهر أن المراد به الإذن بالقبض لا خصوص لفظ التخلية"(2).
الشرط الثاني: أن يكون المبيع بحضرة المشتري بحيث يصل إلى أخذه بلا مانع. وهذا هو القول الأول.
وهو ظاهر الرواية عند الحنفية (3).
وعلته: أنه إذا كان قريبا فإن القبض الحقيقي في الحال يتصور فيه، فتقوم التخلية مقام القبض (4).
القول الثاني: أنه تصح التخلية ولو كان المبيع بعيدا.
وبه قال أبو حنيفة (5).
ويمكن أن يحتج له: بعمومات الأدلة الدالة على أن التخلية قبض، وهذه تشمل القريب والبعيد.
الشرط الثالث: أن يكون المبيع مفرزا غير مشغول بحق الغير،
(1) فتاوى قاضي خان 2/ 258.
(2)
حاشية ابن عابدين 7/ 73، ط. دار إحياء التراث العربي.
(3)
المصادر السابقة.
(4)
حاشية ابن عابدين 7/ 73.
(5)
المصادر السابقة.
فإن كان شاغلا حق الغير كالحنطة في جوالق البائع وما أشبه ذلك، فذلك لا يمنع التخلية (1).
فرع ثان:
تقدم أن جمهور أهل العلم يرون أن ما بيع بتقدير أن قبضه بتقديره من كيل أو وزن أو عد أو ذرع، لكن اختلف العلماء رحمهم الله، هل يكتفى بتقديره السابق أو لا بد من تقدير المشتري له على قولين:
القول الأول: أن يكتفى بالتقدير السابق ولا حاجة إلى إعادة التقدير.
وهذا المذهب عند الحنابلة.
ففي الشرح الكبير: " وإن قال: أنا أقبضه لنفسي وخذه بالكيل الذي تشاهده جاز في إحدى الروايتين ".
وفي الإنصاف: "وهو المذهب"(2).
وفي المقنع: " وإن اكتاله وتركه في المكيال وسلمه إلى غريمه فقبضه صح القبض لهما ".
وفي الإنصاف: "وهو المذهب"(3).
(1) فتاوى قاضي خان 2/ 258.
(2)
الشرح الكبير مع الإنصاف 12/ 307.
(3)
المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 12/ 308، والفروع وتصحيحه 4/ 135.
وحجته:
أن استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه، فلا معنى لابتداء الكيل ههنا؛ لأنه لا يحصل به زيادة علم (1).
القول الثاني: أنه لا يجزئ التقدير السابق، بل لا بد من تقدير المشتري.
وهو ظاهر قول المالكية (2)، ومذهب الشافعية (3)، ورواية عند الحنابلة (4).
وقال الدسوقي: ". . . أي كما أن ضمان الموزون والمعدود من البائع حتى يقبضه المشتري بوزن أو عد".
وقال النووي: "ولو قال البائع: خذه فإنه كذا فأخذه مصدقا له فالقبض فاسد حتى يقع اكتيال صحيح".
وحجته:
ما رواه جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع والمشتري (5)» .
وجه الدلالة: دل قوله صلى الله عليه وسلم: «حتى يجري
(1) الشرح الكبير مع الإنصاف 12/ 308.
(2)
حاشية الدسوقي 3/ 144.
(3)
روضة الطالبين 3/ 518.
(4)
الشرح الكبير مع الإنصاف 12/ 308.
(5)
سنن ابن ماجه التجارات (2228).
فيه الصاعان (1)». . . .
أنه لا يكتفى بكيل البائع، بل لا بد من كيل المشتري، وقيس الموزون والمزروع والمعدود على المكيل.
وقد سبقت مناقشة هذا الحديث.
الترجيح:
الراجح- والله أعلم- ما ذهب إليه أهل القول الأول؛ لقوة دليلهم في مقابل ضعف دليل القول الثاني بمناقشته.
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2228).
المطلب الثالث: الشرط الثالث: ألا يبيع المشتري السلعة على المصرف.
وهو قول جمهور أهل العلم.
وحجته:
1 -
حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (1)» .
(1) أخرجه أبو داود في البيوع، باب في النهي عن العينة (3462)، وابن عدي في الكامل 15/ 998، والبيهقي في السنن 5/ 316 من طريق حيوة بن شريح المصري عن إسحاق أبي عبد الرحمن عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا. وفي إسناده عطاء الخراساني لا يحتج بحديثه (مختصر سنن أبي داود للمنذري 5/ 102). وأخرجه الإمام أحمد في المسند 2/ 28 من طريق الأعمش عن عطاء بن أبي رباح، لكنه منقطع، عطاء بن أبي رباح لم يسمع من ابن عمر رضي الله عنه (تهذيب التهذيب 7/ 182).
ونوقش: بأنه ضعيف.
2 -
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (1)» .
وجه الدلالة: قال ابن القيم: ". . . فإنه إذا باعه السلعة بمائة مؤجلة، ثم اشتراها منه بثمانين حالة فقد باع بيعتين في بيعة، فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما، وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا، وأبعد كل البعد من حمل الحديث على البيع بمائة مؤجلة، أو خمسين حالة، وليس ههنا ربا ولا جهالة، ولا غرر ولا قمار ولا شيء من المفاسد"(2).
ونوقش: هذا الاستدلال: أنه اختلف في تفسير البيعتين في بيعة على أقوال:
منها: أن يقول بعتك هذا الثوب نقدا بعشرة، أو بعشرين نسيئة.
(1) أخرجه أبو داود في البيوع، باب فيمن باع بيعتين في بيعة (3461)، والحاكم في المستدرك 2/ 45، والبيهقي في السنن 5/ 343، وصححه الحاكم على شرط مسلم، وصححه الحاكم.
(2)
إعلام الموقعين 3/ 150.
ومنها: اشتراط عقد في عقد آخر.
ومنها: بيع العينة (1).
وأجيب: بأن أقرب هذه التفاسير حمله على بيع العينة. قال ابن القيم: "فإنه - أي بيع العينة - قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة ومبيع واحد، وهو قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها، ولا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين، فإن أبى إلا الأكثر كان قد أخذ بالربا"(2).
3 -
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك (3)» .
وجه الدلالة من وجهين:
الأول: أن المراد بالشرطين في البيوع المنهي عنهما بيع العينة، قال ابن القيم: " لا يحتمل الحديث غير هذا المعنى- أي بيع العينة- وهذا هو بعينه الشرطان في بيع، فإن الشرط يطلق على العقد نفسه؟
(1) ينظر: معالم السنن للخطابي 5/ 98، والمجموع 9/ 329، والإنصاف مع الشرح الكبير 11/ 231.
(2)
تهذيب السنن 5/ 106.
(3)
أخرجه الإمام أحمد 2/ 179، وأبو داود في البيوع، باب الرجل يبيع ما ليس عنده (3503)، والترمذي في البيوع، باب ما جاء في كراهة بيع ما ليس عندك (1232)، والنسائي 7/ 288. وقال الترمذي: حسن صحيح.
لأنهما تشارطا على الوفاء به فهو مشروط، والشرط يطلق على المشروط كثيرا كالضرب يطلق على المضروب، والحلق على المحلوق. . . فالشرطان كالصفقتين وإن سواء، فالشرطان في بيع كصفقتين في صفقة" (1)، والسنة يفسر بعضها بعضا.
ونوقش: بأن الشرطين المنهي عنهما اختلف فيهما:
فقيل: إن المراد الحلول والأجل، أو الأجلان (2).
نحو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة نقدا، أو بمائة وعشرين إلى شهر، أو يقول: بمائة إلى شهر، أو بمائة وعشرين إلى شهرين. وأجيب: بأن العقد على هذا التفسير لم يشتمل على شرطين، وإنما اشتمل على شرط واحد وهو التأجيل، وجعل الثمن مختلفا تبعا لذلك.
وقيل: إن المراد أن يجمع بين شرطين صحيحين ليسا من مصلحة العقد كأن يشتري طعاما ويشترط على البائع حمله وطحنه (3) وأجيب: أن اشتراط منفعة البائع في المبيع إن كان فاسدا فسد الشرط والشرطان، وإن كان صحيحا فأي فرق بين منفعة أو منفعتين أو منافع؟ لا سيما والمصححون لهذا الشرط قالوا: هو عقد
(1) تهذيب السنن 5/ 148.
(2)
المبسوط 13/ 28، والمدونة 14/ 151.
(3)
المغني 6/ 165.
جمع بيعا وإجارة وهما معلومان لم يتضمنا غررا فكانا صحيحين، وإذا كان كذلك فما الموجب لفساد الإجارة على منفعتين وصحتها على منفعة؟ (1).
وقيل: إن المراد أن يجمع شرطين فاسدين (2).
وأجيب: أن الشرط الواحد الفاسد منهي عنه فلا فائدة في التقييد بشرطين في بيع وهو يتضمن زيادة في اللفظ وإيهاما لجواز الواحد، وهذا ممتنع على الشارع مثله (3).
الوجه الثاني: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن (4)» .
وجه الدلالة: أن الثمن لا يدخل في ضمانه قبل القبض فإذا عاد إليه الملك الذي زال عنه بعينه، وبقي له بعض الثمن فهو ربح حصل لا على ضمانه من جهة من باعه (5).
4 -
أن هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله عنهم.
أ- روى أبو إسحاق السبيعي عن امرأته «أنها دخلت على عائشة رضي الله عنها فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم رضي الله عنه،
(1) تهذيب السنن 5/ 146.
(2)
الشرح الكبير مع الإنصاف 11/ 228.
(3)
تهذيب السنن 5/ 147.
(4)
سنن الترمذي البيوع (1234)، سنن النسائي البيوع (4631)، سنن أبو داود البيوع (3504)، سنن ابن ماجه التجارات (2188)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 175)، سنن الدارمي البيوع (2560).
(5)
فتح القدير لابن الهمام 6/ 435.
فقالت: يا أم المؤمنين: إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة وإني ابتعته منه بستمائة درهم نقدا فقالت عائشة رضي الله عنها: بئس ما اشتريت، وبئس ما شريت وإن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إلا أن يتوب (1)».
ونوقش من وجهين:
الأول: أن العالية امرأة مجهولة لا يحتج بها (2).
وأجيب: قال ابن التركماني: " العالية معروفة روى عنها زوجها وابنها، وهما إمامان، وذكرهما ابن حبان في الثقات من التابعين، وذهب إلى حديثهما"(3).
الثاني: أن العقوبة التي ذكرتها جزاء هذا العمل لا تتناسب مع هذا الفعل.
إذ العمل لا يبطل إلا بالشرك (4).
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 8/ 84، والدارقطني 3/ 52، والبيهقي 5/ 330، وفي نصب الراية 4/ 16:"قال في التنقيح إسناده حيد". وقال ابن القيم في إعلام الموقعين 3/ 167: "وهذا حديث فيه شعبة، وإذا كان شعبة في حديث فاشدد يديك به فمن جعل شعبة بينه وبين الله فقد استوثق لدينه".
(2)
سنن الدارقطني 3/ 52، والمحلى 9/ 49.
(3)
الجوهر النقي مع سنن البيهقي 5/ 330.
(4)
المحلى 9/ 49.
ونوقش من وجهين:
الأول: أن يكون مراد عائشة رضي الله عنها أن العمل يبطل بالردة؛ إذ استحلال الربا- ومن ذلك العينة- ردة، لكن زيد بن أرقم رضي الله عنه معذور حيث لم يعلم التحريم.
الثاني: أن يكون مرادها أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد، ويكون بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئا (1).
ب- ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل باع من رجل حريرة بمائة ثم اشتراها بخمسين؟ فقال: "دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة".
ج- ما ورد أن أنسا رضي الله عنه سئل عن العينة، فقال:"إن الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله".
5 -
أن العينة وسيلة إلى الربا، والوسيلة إلى الحرام حرام (2) القول الثاني: أنه يجوز للمشتري أن يبيع على البائع
(1) إعلام الموقعين 3/ 168.
(2)
تهذيب السنن 5/ 100.
- المصرف- ما لم يكن هناك شرط على أن يشتريها البائع بأقل من ثمنها نقدا.
وهو مذهب الشافعية (1).
وحجته:
1 -
قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2).
وجه الدلالة: أن بيع العينة يدخل في عموم الآية.
ونوقش: بأن الآية خصصت بأدلة تحريم العينة السابقة.
2 -
وجه الدلالة: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم اشتر بالدراهم جنيبا (5)» وهو يشمل الشراء من المشتري ومن غيره (6).
(1) الأم 3/ 78، وروضة الطالبين 6/ 413، وفتح الباري 4/ 401.
(2)
سورة البقرة الآية 275
(3)
أخرجه البخاري في الوكالة، باب الوكالة في الصرف (2303)، ومسلم في المساقاة، باب بيع الطعام مثلا بمثل (1593).
(4)
في المصباح 1/ 111: "الجنيب من أجود التمر". (3)
(5)
صحيح البخاري البيوع (2202)، صحيح مسلم المساقاة (1593)، سنن النسائي البيوع (4553)، موطأ مالك البيوع (1314).
(6)
شرح النووي على صحيح مسلم 11/ 21، وفتح الباري 4/ 401.
ونوقش: بأنه "حجة في هذا الحديث؛ لأنه لم ينص على جواز شراء التمر الثاني ممن باعه الأول، ولا يتناوله ظاهر السياق بعمومه، بل بإطلاقه والمطلق يحتمل التقييد إجمالا فوجب الاستفسار، وإذا كان كذلك فتقييده بأدنى دليل كاف، وقد دل الدليل على سد الذرائع فلتكن هذه الصورة ممنوعة) (1).
3 -
أن زيد بن أرقم رضي الله عنه فعل هذا البيوع (2)(3).
ونوقش من وجهين:
الأول: أنه رجع (4).
الثاني: أنه لو سلم أنه لم يرجع فإن قوله مقابل بالنص، وخالفه غيره من الصحابة.
4 -
أنه ممن يجوز بيع السلعة به من غير بائعها فيجوز منه كما لو اشتراها بسلعة، أو بمثل ذلك الثمن، أو أكثر (5).
ونوقش: أنه قياس مع الفارق؛ لأن علة تحريم بيع العينة هي شبهة الربا؟ إذ حقيقة العينة بيع مائة إلى أجل بثمانين نقدا، وهذه العلة غير موجودة فيما لو بيعت على غير بائعها، أو بسلعة، أو بمثل
(1) فتح الباري 4/ 401.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
الأم 3/ 78، وسنن البيهقي 5/ 331.
(4)
المبسوط 13/ 132.
(5)
فتح العزيز مع المجموع 8/ 232.
ذلك الثمن أو أكثر.
الترجيح: الراجح - والله أعلم - هو القول الأول؛ لقوة دليله في مقابل ضعف القول الثاني بمناقشة دليله؛ ولقاعدة سد الذرائع؛ إذ بيع العينة ذريعة إلى الربا.
المطلب الرابع: الشرط الرابع: أن يكون المعدن المباع حالا: فإن كان مؤجلا بثمن مؤجل فهو بيع الدين بالدين ابتداء، وهو محرم بالإجماع.
وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن بيع الدين بالدين لا يجوز"(1).
قال ابن قدامة: "قال الإمام أحمد: إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع الدين بالدين"(2).
وقال شيخ الإسلام: "الكالئ بالكالئ هو المؤخر الذي يقبض بالمؤخر الذي لم يقبض، وهذا كما لو أسلم شيئا في شيء في الذمة كلاهما مؤخر فهذا لا يجوز بالاتفاق، وهو بيع كالئ بكالئ"(3).
والدليل على هذا:
1 -
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه
(1) الإجماع ص 117.
(2)
المغني 6/ 106.
(3)
مجموع الفتاوى 20/ 512.
وسلم نهى عن بيع الغرر (1)».
وجه الدلالة: أن تأخير أحد العوضين وجعله دينا في الذمة مشتمل على نوع من الغرر، لكنه معفو عنه؛ لأنه يسير، فإذا أضيف إليه تأخير العوض الآخر، فإن الغرر يتفاحش فينهى عنه (2).
2 -
ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم (3)» .
وجه الدلالة: أن السلف تقديم الثمن، فأمر به صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه لا يجمع بين تأجيل الثمن والمثمن.
3 -
الإجماع على تحريم بيع الدين بالدين ابتداء.
4 -
أن في ذلك شغل الذمتين بما لا فائدة من ورائه، فالبائع لم يأخذ الثمن حتى ينتفع به، والمشتري لم يتسلم المبيع حتى يقضي وطره (4).
(1) أخرجه مسلم في البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر (1153).
(2)
إعلام الموقعين 1/ 389.
(3)
أخرجه البخاري في السلم، باب السلم في وزن معلوم (2240)، ومسلم في المساقاة، باب السلم (1604).
(4)
ينظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 29/ 472، وإعلام الموقعين 1/ 480.
المطلب الخامس: الشرط الخامس: ألا يكون المعدن ذهبا أو فضة:
وهذا بناء على أن علة ربا الفضل في الذهب والفضة مطلق
الثمنية، وعليه فلا يصح مبادلة الذهب أو الفضة بالأوراق النقدية مع التأجيل.
وهو قول عند المالكية (1)، ورواية عن الإمام أحمد (2)، واختاره شيخ الإسلام (3) وابن القيم (4).
وحجتهم:
أن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال فيجب أن يكون محدودا مضبوطا لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن ثمن نعتبر به المبيعات بل الجميع سلع وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة (5).
القول الثاني: أن العلة في الذهب والفضة الوزن مع اتحاد الجنس.
وعليه فيصح مبادلة الذهب أو الفضة بالأوراق النقدية مع
(1) ينظر: شرح الخرشي على مختصر خليل 3/ 412.
(2)
ينظر: الفروع 4/ 148.
(3)
مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 29/ 473.
(4)
إعلام الموقعين 2/ 156.
(5)
إعلام الموقعين لابن القيم 2/ 156، وانظر أيضا مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 29/ 472.
التأجيل.
وهو قول الحنفية (1)، والحنابلة (2).
وحجتهم:
1 -
حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . . مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد (3)» .
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب المماثلة في قوله صلى الله عليه وسلم: «مثلا بمثل سواء بسواء» ، ولا تعلم المماثلة بين شيئين إلا باتحاد المعيار الشرعي وهو الوزن.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أن التعليل بالوزن ليس تعليلا بوصف مؤثر، بل الوزن وصف طردي، وتحريم الربا في هذه الأشياء إنما هو لوصف ذاتي لها، لا لكونها توزن.
الثاني: أن التعليل بالوزن ينتقض بالإجماع على جواز إسلام النقدين في الموزونات من الحديد والنحاس ونحوهما، ولو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا، والعلة
(1) المبسوط 12/ 113، وبدائع الصنائع 5/ 183.
(2)
المغني 6/ 55، والفروع 4/ 148.
(3)
أخرجه مسلم في المساقاة، باب الصرف (2303)، وبيع الذهب بالورق نقدا (1587).
إذا انتقضت من غير مؤثر دل على بطلانها (1).
2 -
ما رواه أبو سعيد وأبو هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «استعمل رجلا على خيبر فجاءهم بتمر جنيب، فقال صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: إنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تفعل بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا (3)» ، وقال في الميزان مثل ذلك.
وجه الدلالة: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «وكذلك الميزان (4)» أي الموزون فدل على أن كل موزون لا يجوز التفاضل فيه.
ونوقش من وجهين:
الأول: أن قوله: «وكذلك الميزان (5)» موقوف على أبي سعيد رضي الله عنه، وليس مرفوعا للنبي صلى الله عليه وسلم (6).
الثاني: أن قوله: «وكذلك الميزان (7)» مجمل لا يمكن أن يستدل به إلا بعد بيانه بنصوص أخرى، وقد بين في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه لا يحل الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن، فيكون المقصود أن يتساوى النقدان لحل
(1) المغني 6/ 56، ومجموع الفتاوى 29/ 471، وإعلام الموقعين 2/ 156.
(2)
صحيح البخاري البيوع (2202)، صحيح مسلم المساقاة (1593)، سنن النسائي البيوع (4553)، موطأ مالك البيوع (1314).
(3)
في المصباح 1/ 111: "الجنيب من أجود التمر". (2)
(4)
صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7351)، صحيح مسلم المساقاة (1593)، سنن الدارمي البيوع (2577).
(5)
صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7351)، صحيح مسلم المساقاة (1593)، سنن الدارمي البيوع (2577).
(6)
ينظر: السنن الكبرى للبيهقي 5/ 286، ونصب الراية 4/ 26.
(7)
صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7351)، صحيح مسلم المساقاة (1593)، سنن الدارمي البيوع (2577).
مبادلتهما مع اتحاد الجنس (1).
3 -
حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا وما كيل مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا (2)» .
وجه الدلالة: أنه حكم فيه على كل موزون مع اتحاد نوعه بأنه مثل بمثل.
ونوقش: بأنه ضعيف كما في تخريجه، وعلى فرض ثبوته فيحمل على ما دل عليه دليل الرأي الأول.
القول الثالث: أن العلة في الذهب والفضة غلبة الثمنية، فالعلة قاصرة على الذهب والفضة.
وبه قال الإمام مالك (3)، والشافعي (4).
وحجته:
1 -
حديث عبادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . . مثلا بمثل سواء بسواء (5)» .
(1) ينظر: شرح النووي لصحيح مسلم 11/ 21، 22.
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه 3/ 18، وفي نيل الأوطار 15/ 93:"وفي إسناده الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وضعفه جماعة".
(3)
ينظر: شرح الخرشي 3/ 412.
(4)
المجموع 9/ 445.
(5)
سبق تخريجه.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الذهب والفضة فدل على أن العلة قاصرة عليهما.
يمكن أن يناقش هذا الاستدلال: بأن تخصيصهما بالذكر من باب التغليب؛ إذ ليس فيهما معنى ينفردان به إلا كونهما أثمانا في عصر النبوة، وهذا يوجد فيما اتخذه الناس سكة، وراج رواج النقدين.
2 -
أن النقدين جوهران نفيسان بهما تقدر الأموال، ويتوصل بهما إلى سائر الأشياء فهما أثمان المبيعات غالبا، وقيم المتلفات (1).
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أن التعليل بعلة الثمنية تعليل بعلة قاصرة على النقدين والعلة القاصرة لا يصح التعليل بها حيث لا تتعدى الذهب والفضة، وحكم الذهب والفضة قد عرف بالنص فلا فائدة من التعليل بها.
ورد هذا: بأن العلة ليست إلا أمارة نصبها الله تعالى للأحكام فمنها متعدية، ومنها قاصرة، والقول بعدم فائدتها غير مسلم؛ فإن من فوائدها أنه ربما حدث ما يشارك الأصل في العلة فيلحق به (2).
الثاني: أن حكمة التحريم ليست مقصورة على النقدين، بل
(1) المجموع شرح المهذب 9/ 393، 394.
(2)
المصدر السابق.
تتعداهما إلى غيرهما من الأثمان كالفلوس والورق النقدي؛ لأن الظلم المراعى إبعاده في تحريم الربا في النقدين حاصل فيها ولا فرق.
الترجيح: الراجح- والله أعلم- هو القول الأول؛ لقوة دليله في مقابل مناقشة دليل الرأي المخالف.
المطلب السادس: الشرط السادس: أن يكون الأجل معلوما:
وفيه أمور:
الأمر الأول: دليله يشترط أن يكون الأجل في البيع معلوما باتفاق الفقهاء في الجملة (1).
والدليل على ذلك:
1 -
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2)، فقوله تعالى "مسمى" أي معلوم (3) قال الشيخ عبد الرحمن السعدي:"احتوت هذه الآيات على إرشاد عباده في معاملاتهم. . . ومنها وجوب تسمية الأجل في جميع المداينات وحلول الإجارات"(4).
(1) بدائع الصنائع 5/ 178، وقوانين الأحكام ص 283، والأم 3/ 96، والمغني 6/ 403
(2)
سورة البقرة الآية 282
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/ 334.
(4)
تيسير الكريم الرحمن 1/ 201.
2 -
حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم (1)» .
3 -
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الغرر (2)» .
وجه الدلالة: أن جهالة الأجل تؤدي إلى الغرر المنهي عنه.
4 -
ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لا تبايعوا إلى العطاء، ولا إلى الأندر، ولا إلى العصير» .
الأمر الثاني: أثر جهالة الأجل على العقد
إذا شرط أجل مجهول، فاختلف العلماء رحمهم الله في أثر ذلك على العقد على أقوال:
القول الأول: أن العقد صحيح، والشرط باطل، وعليه فيكون البيع بثمن حال، ولمن فات غرضه من التأجيل حق الفسخ، وهو مذهب الحنابلة (3).
(1) سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
المغني 6/ 44، وكشاف القناع 3/ 194.
واحتجوا:
1 -
وجه الاستدلال: أن شرط الولاء لغير المعتق شرط باطل، ولم يعد ذلك البطلان للشرط بالفساد على العقد، بل تم عقد البيع صحيحا، مع إلغاء الشرط الباطل.
2 -
أن العقد قد تم بأركانه، والشرط زائد، فإذا فسد وزال سقط الفاسد، وبقي العقد بركنيه فصح كما لو لم يشترط (2).
القول الثاني: أن العقد لا يبطل بجهالة الأجل، بل فاسد يمكن تصحيحه بإزالة ما يقتضي الفساد بالاتفاق على أجل معلوم، أو إسقاط الأجل المجهول.
وهو مذهب الحنفية (3).
(1) أخرجه البخاري في البيوع، باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل (2168)، ومسلم في العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (1504).
(2)
المغني 6/ 44.
(3)
ينظر: فتح القدير مع العناية على الهداية 6/ 454، 455، وتبيين الحقائق 4/ 60.
وحجته: أن الفساد أصاب وصفا من أوصافه، وذلك لا يعود بالبطلان على الأصل فيكون فاسدا لا باطلا يمكن تصحيحه بإسقاط الأجل أو تحديده في مجلس العقد (1).
ونوقش: بأن البائع إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرطه، والمشتري كذلك إذا كان الشرط له فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير رضاه، والبيع من شروطه التراضي (2).
القول الثالث: أن تأجيل الثمن إلى أجل مجهول يبطل العقد. وبه قال مالك (3)، والشافعي (4).
وحجته:
1 -
ما تقدم من الأدلة على اشتراط كون الأجل معلوما؛ فيؤخذ منها النهي عن كونه مجهولا، والنهي يقتضي الفساد.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن النهي لا يعود إلى ذات العقد ولا إلى شرطها الذي يختص بالعقد، وإنما إلى شرط لا يختص بالعقد (5)؛ لأدلة الرأي الأول.
2 -
أن الأجل له قسط من الثمن، فإذا كان مجهولا فإن
(1) المصدر السابق.
(2)
الشرح الكبير مع الإنصاف 11/ 233.
(3)
شرح الخرشي على مختصر خليل 5/ 210.
(4)
روضة الطالبين 3/ 399، وأسنى المطالب 2/ 32.
(5)
قواعد ابن رجب ص 12.
ذلك يعود بالجهالة على الثمن فيفسد العقد (1).
ونوقش: بعدم التسليم، فإن جهالة الثمن لا تفسد العقد، وإنما تفسد شرط الأجل فقط.
الترجيح: الراجح- والله أعلم- هو القول الأول لقوة دليله في مقابل ضعف دليل المخالف بمناقشته.
الأمر الثالث: تحديد الأجل بغير الأشهر الهجرية.
المشروع للمسلم أن يؤقت بالأشهر الهلالية؛ لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (2) لكن لو حدد الأجل بغير الأشهر الهجرية، مثل: أن يحدد الأجل في شهر يناير، أو شهر فبراير، ونحو ذلك.
فللعلماء في صحة هذا التأجيل قولان:
القول الأول: صحة التأجيل إلى هذه الأوقات.
وهو قول عند الحنفية (3)، ومذهب المالكية (4)، والشافعية (5)، والحنابلة (6).
(1) المغني 6/ 44.
(2)
سورة البقرة الآية 189
(3)
فتح القدير 6/ 452، والفتاوى الهندية 3/ 142.
(4)
المدونة 4/ 158.
(5)
روضة الطالبين 4/ 8.
(6)
المغني 6/ 405، وكشاف القناع 3/ 301.
وحجته:
1 -
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1).
وجه الدلالة: أن هذه الأوقات معلومة، فتدخل في عموم الآية.
2 -
حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:«من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (2)» .
وهذه آجال معلومة عند المسلمين (3).
القول الثاني: أنه لا يصح التأجيل إلى هذه الأوقات.
وهو قول للحنفية (4)، وظاهر قول الخرقي وابن أبي موسى من الحنابلة (5).
وحجته: أنه تأجيل إلى غير الشهور الهلالية أشبه ما لو أجل إلى الشعانين (6).
(1) سورة البقرة الآية 282
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
ينظر: المغني 6/ 405.
(4)
بدائع الصنائع 5/ 178.
(5)
المغني 6/ 455.
(6)
المغني 6/ 405.
ونوقش: بالفرق لأن عيد الشعانين لا يعرفه المسلمون، فالنصارى يقدمونه ويؤخرونه على حساب لهم لا يعرفه المسلمون (1).
الترجيح: الراجح- والله أعلم- صحة التأجيل إلى الأشهر غير الهجرية، لكونها معلومة عند المسلمين، ولعدم الغرر.
(1) المصدر السابق.
المطلب السابع: الشرط السابع: أن تكون السلعة معلومة
يشترط أن يكون المعدن المباع معلوما باتفاق الفقهاء في الجملة.
والدليل على ذلك:
1 -
وجه الدلالة: أن السلعة إذا كانت مجهولة؛ فإن العاقد يدخل في هذه المعاملة وهو إما غانم أو غارم، وهذا من الميسر.
2 -
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الغرر (2)» وإذا كانت السلعة مجهولة فهو
(1) سورة المائدة الآية 90
(2)
سبق تخريجه.
داخل في بيع الغرر.
وطريق العلم بالسلعة يختلف باختلاف السلع، واختلاف الأزمنة والأمكنة والأعراف.
والمعدن المباع عن طريق المصرف يباع عن طريق الوصف؛ لكونه غائبا عن مجلس العقد.
والبيع عن طريق الوصف اختلف أهل العلم في صحته على قولين:
القول الأول: جوازه.
وهو قول جمهور أهل العلم من الحنفية (1)، والمالكية (2)، وقول للشافعية (3)، وهو مذهب الحنابلة (4).
واستدلوا على ذلك بأدلة:
1 -
حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (5)» .
وجه الدلالة: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كيل
(1) فتح القدير 6/ 335.
(2)
الشرح الكبير للدردير 3/ 24.
(3)
مغني المحتاج 2/ 20.
(4)
الشرح الكبير مع الإنصاف 12/ 100.
(5)
سبق تخريجه.
معلوم، ووزن معلوم (1)»، دليل على صحة البيع بالصفة؛ إذ السلم من أنواع البيع.
2 -
أنه بيع بالصفة فصح كالسلم (2).
القول الثاني: عدم صحة البيع عن طريق الوصف.
وهو الأصح عند الشافعية (3)، ورواية عند الحنابلة (4)، وعلى هذا فلا يصح بيع الغائب (5).
وحجته:
1 -
أن الصفة لا يحصل بها معرفة المبيع، فلم يصح البيع بها كالذي لا يحصل السلم فيه (6).
ونوقش: أنه لا يسلم أن الصفة لا يحصل بها المعرفة فإنها تحصل بالصفات الظاهرة التي لا يختلف بها الثمن ظاهرا، ولهذا اكتفي به في السلم، وأما ما لا يصح السلم فيه فلا يصح بيعه بالصفة؛ لأنه لا يمكن ضبطه بها (7).
2 -
أن الرؤية تفيد أمورا تقصر عنها العبارة (8)، فلم يصح
(1) صحيح البخاري السلم (2239)، صحيح مسلم المساقاة (1604)، سنن الترمذي البيوع (1311)، سنن النسائي البيوع (4616)، سنن أبو داود البيوع (3463)، سنن ابن ماجه التجارات (2280)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 358)، سنن الدارمي البيوع (2583).
(2)
الشرح الكبير مع الإنصاف 12/ 100.
(3)
مغني المحتاج 2/ 20.
(4)
الشرح الكبير مع الإنصاف 12/ 100.
(5)
المنهاج مع مغني المحتاج 2/ 18.
(6)
الشرح الكبير مع الإنصاف 11/ 100.
(7)
المصدر السابق.
(8)
مغني المحتاج 2/ 20.