الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن الكشف الكبير (1). وجاء في التقرير والتحبير: (المال ما يصان ويدخر لوقت الحاجة)(2).
وهذا - أعني اشتراط إمكان الادخار لثبوت صفة المالية - مما انفرد به الحنفية، ولأجل هذا الاشتراط أخرجوا المنافع من أن تكون أموالا؛ حيث لا يمكن ادخارها لأنها أعراض لا تبقى زمنين.
وخالفهم في هذا الاشتراط جماهير الفقهاء فلم يذكروا الادخار من العناصر المكونة للمالية؛ واعتبروا بالتالي المنافع أموالا. وسيأتي مزيد بحث في ذلك في مبحث مالية المنافع إن شاء الله تعالى.
(1) البحر الرائق (5/ 277).
(2)
التقرير والتحبير (3/ 173).
المبحث الثاني: عنصر (الانتفاع)
لقد خلق المال قواما للناس في معاشهم ومعادهم، كما قال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (1). أي تقوم بها معايشكم ويصلح أمر دنياكم من التجارات وغيرها.
(1) سورة النساء الآية 5
والانتفاع هو غرض الناس الأهم في المال، بل إنما جعلت الأعيان أموالا لما فيها من المنافع (1).
لأجل ذلك اتفقت كلمة الفقهاء على اعتبار الانتفاع من عناصر المالية، وأن ما لا منفعة فيه فليس بمال. وإن اختلفت أحيانا عباراتهم في ذلك واحترازاتهم منه:
فمن نصوص الحنفية: جاء في المبسوط: (والمال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به ولكن باعتبار صفة التمول والإحراز)(2)، وجاء فيه أيضا في معرض حديثه عن المال الضمار:(فليس عليه الزكاة لما مضى؛ لأن معنى المالية في النمو والانتفاع، وذلك منعدم)(3)، وفيه أيضا:(وبتخمر العصير لا تنعدم المالية، وإنما ينعدم التقوم شرعا؛ فإن المالية تكون بكون العين منتفعا بها. . .).
وعند المالكية: قال ابن العربي في تفسير المال الذي يقطع به في السرقة: (هو كل مال تمتد إليه الأطماع، ويصلح عادة وشرعا للانتفاع به)(4).
(1) تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص (225)
(2)
المبسوط (11/ 79).
(3)
المبسوط (2/ 171).
(4)
أحكام القرآن لابن العربي (2/ 607).
ومن نصوص الشافعية: قال الغزالي في شروط المبيع: (أن يكون منتفعا به فبه تتحقق المالية)(1)، وقال السيوطي:(وأما المتمول فذكر الإمام له في باب اللقطة ضابطين، أحدهما: أن كل ما يقدر له أثر في النفع فهو متمول وكل ما لا يظهر له أثر في الانتفاع فهو لقلته خارج عما يتمول)(2)، وقال النووي:(فما لا نفع فيه ليس بمال)(3)، وقال الزركشي:(المال ما كان منتفعا به أي مستعدا لأن ينتفع به)(4).
وفي مغني المحتاج: (فلا يصح بيع ما لا نفع فيه لأنه لا يعد مالا فأخذ المال في مقابلته ممتنع للنهي عن إضاعة المال)(5).
ومن نصوص الحنابلة: جاء في المبدع في شروط البيع: (أن يكون المبيع مالا وهو ما فيه منفعة مباحة)(6)، وفي أخصر المختصرات:(وكون مبيع مالا وهو ما فيه منفعة مباحة)(7).، وفي منتهى الإرادات:(وهو ما يباح نفعه مطلقا واقتناؤه بلا حاجة)(8).
(1) الوسيط (3/ 19).
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي ص (327).
(3)
روضة الطالبين (3/ 350).
(4)
المنثور للزركشي (3/ 222).
(5)
مغني المحتاج (2/ 11).
(6)
المبدع (4/ 9).
(7)
أخصر المختصرات لابن بلبان ص (163).
(8)
منتهى الإرادات (1/ 256).
وبهذا يتبين اتفاق كلمة المذاهب الأربعة على اعتبار الانتفاع عنصرا أساسيا في المالية.
وقبل بيان المحترزات من اشتراط الانتفاع في المال لا بد من أن نذكر أن هذا الانتفاع المعتبر في المالية ليس من شرطه كونه آنيا، بل المقصود كون المال مستعدا لأن ينتفع به ولو في المآل، وهنا يذكر الفقهاء أشياء تميل طباع الناس إليها لمنافع مرجوة فيها مستقبلا، لا توجد في الحال، فتكون أموالا بذلك، كدود القز وبزره، والأطفال الأرقاء، وجحوش الحمر، ومهور الأفراس، وبيض ما لا يؤكل، ونحوها مما يكون نفعه مرجوا في ثاني الحال، بل جاء في النكت والفوائد السنية في من أقر بشيء مجمل فأمره القاضي بتفسيره:(كما يقبل تفسيره من مسلم بجلد ميتة لم يدبغ يعني في أحد الوجهين؛ لأنه مما يؤول إلى التمول)(1).
وإن الانتفاع بالمال ليس جنسا واحدا بل هو في كل شيء بما يصلح له (2)،
لكنه في كل أحواله مقيد بالحل. فكل انتفاع محرم غير معتبر
(1) النكت والفوائد السنية (2/ 475).
(2)
(انظر: رد المحتار (4/ 502).
في المالية ولا أثر له فيها بل هو ملغى كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وأما عن المحترزات: فإن اشتراط الانتفاع في المالية يخرج به كل ما لا نفع فيه فلا يعتبر مالا ولا تنطبق عليه أحكام المال. وهذا يشمل ما يلي:
أولا: ما لا نفع فيه أصلا فليس بمال.
ثانيا: ما سقطت منفعته لقلته بألا يكون له منفعة محسوسة إلا بضم غيره إليه، كالحبة والحبتين من الحنطة والزبيب ونحوها، فلا يعد هذا القدر مالا، ولا ينظر إلى ظهور النفع إذا ضم غيره إليه.
ولا فرق في ذلك بين زمن الرخص والغلاء؛ حيث يحدثان نتيجة كثرة الشيء وتوفره. ولذا يجوز بيع الماء على شاطئ البحر وبيع الصخرة على الجبال لوجود المنفعة، وإنما الاستغناء عنها للكثرة (1).
ويدخل في ذلك ما يطرحه الناس عادة من حقير المال، كالفلس ونحوه فلا يعد مالا (2).
(1) روضة الطالبين (3/ 350)، والوسيط (3/ 20).
(2)
الأم (5/ 63 و171)، والأشباه والنظائر للسيوطي ص (327).
- قد يشكل على هذا ما يذكره الشافعية في كتاب الإقرار بالمجهول أنه لو أقر بمال قبل تفسيره بما قل منه وإن لم يتمول؛ كحبة حنطة ونحوها، وقد أجاب الشربيني عن ذلك بقوله:(ولا يخالف ما ذكروه هنا من أن حبة البر ونحوها مال ما قالوه في باب البيع من أنها لا تعد مالا؛ فإن كونها لا تعد مالا لعدم تمولها لا ينفي كونها مالا، كما يقال: زيد لا يعد من الرجال وإن كان رجلا، فكل متمول مال، ولا ينعكس)(1).
ثالثا: ما سقطت منفعته لخسته: كحشرات الأرض من الخنافس والعقارب والحيات، والفئران والنمل ونحوها (2)، قال النووي:(ولا نظر إلى منافعها المعدودة من خواصها)(3).
ولكن ينبغي أن ندرك أن تمثيل الفقهاء بالحشرات هنا إنما هو باعتبار زمنهم وما جرت عادة الناس به فيها وإلا فإن للحشرات أنواعا من المنافع في الوقت الحاضر؛ إذ أصبح كثير منها يتم الانتفاع بها داخل المختبرات العملية، إما يجعلها محلا للتجربة العلمية للتوصل بها إلى النظريات العلمية المساعدة في تطوير العمل الطبي، وإيجاد الحلول لكثير من الإشكالات الطبية، وإما باستخلاص المضادات
(1) مغني المحتاج (2/ 248).
(2)
الوسيط (3/ 20)، وروضة الطالبين (3/ 350).
(3)
روضة الطالبين (3/ 351)، ومغني المحتاج (2/ 11، 12).
الحيوية والعلاجات منها مباشرة، من السموم وغيرها، وهذه منافع معتبرة بلا شك تؤهلها لأن تكون أموالا.
والفقهاء قد استثنوا بعض الحشرات فأباحوا بيعها لما فيها من المنافع كدود القز وبزره والنحل والعلق. (وفيه منفعة المص للدم) وعللوا ذلك بما فيها من المنافع للناس، فدل ذلك على أن المنفعة هي المناط. وقد جاء هذا مصرحا به في الدر المختار حيث قال بعد ذكره بيع الحشرات وما يستثنى منها:(والحاصل أن جواز البيع يدور مع حل الانتفاع) وجاء في التلقين في سياق ما لا يجوز بيعه: (وما لا منفعة فيه؛ كخشاش الأرض، والكلاب، واختلف فيما يجوز الانتفاع به منها)، وجاء في روضة الطالبين:(ونقل أبو الحسن العبادي وجها آخر أنه يجوز بيع النمل في (عسكر مكرم) وهي المدينة المشهورة بخراسان لأنه يعالج به السكر و (نصيبين) لأنه تعالج به العقارب الطيارة، والوجهان شاذان ضعيفان، كما أنهم حين نصوا على عدم مالية الحشرات أو عدم جواز بيعها لم يعللوا المنع إلا بعدم النفع فيها. فدل هذا كله على أن الأمر يدور مع الانتفاع