الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في رقبة العين، يصرف ريعه إلى جهة بر تقربا إلى الله تعالى) (1).
(1) ينظر: المغني 8/ 184، الإنصاف 7/ 3.
المبحث الثاني: أهمية الوقف وأدلة مشروعيته
الوقف جائز ومشروع بنصوص عامة من القرآن الكريم وأخرى مفصلة من السنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (1)، «وقوله تعالى:، ولما سمعها أبو طلحة رضي الله عنه قال: يا رسول الله إن الله يقول:، وإن أحب أموالي إلي (بيرحاء) وإنها صدقة لله تعالى، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله، فقال: بخ ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين (4)».
ومن السنة ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (5)» .
(1) سورة البقرة الآية 272
(2)
رواه البخاري في صحيحه كتاب الوصايا باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز 3/ 1019 برقم 2617، ومسلم في صحيحه كتاب الزكاة باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين 2/ 693 برقم 998.
(3)
سورة آل عمران الآية 92 (2){لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(4)
سورة آل عمران الآية 92 (3){لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(5)
رواه مسلم في صحيحه كتاب الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته 3/ 1255، برقم 1631.
والصدقة الجارية محمولة على الوقف عند العلماء، فإن غيره من الصدقات ليست جارية، بل يملك المتصدق عليه أعيانها ومنافعها.
وحديث وقف عمر بن الخطاب، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما «أن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر، فقال يا رسول الله: أصبت مالا بخيبر لم أصب قط مالا أنفس منه، فما تأمرني، فقال: (إن شئت حسبت أصلها وتصدقت بها) قال: فتصدق بها عمر على ألا تباع ولا توهب ولا تورث، في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول (1)» رواه الجماعة، قال الحافظ ابن حجر:(وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف)(2).
(1) صحيح البخاري الشروط (2737)، صحيح مسلم الوصية (1633)، سنن الترمذي الأحكام (1375)، سنن النسائي الأحباس (3597)، سنن أبي داود الوصايا (2878)، سنن ابن ماجه الأحكام (2396)، مسند أحمد (2/ 55).
(2)
فتح الباري 5/ 402.
(3)
سنن الترمذي المناقب (3703)، سنن النسائي الأحباس (3608).
(4)
في صحيحه كتاب الوصايا باب إذا أوقف أرضا أو بئرا واشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين 3/ 1021 برقم 2626.
ومن الأدلة العملية ما رواه عمرو بن الحارث قال: «ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما، ولا دينارا، ولا عبدا ولا أمة، ولا شيئا إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضا جعلها صدقة (1)» (2).
قال ابن حجر رحمه الله (إنه تصدق بمنفعة الأرض صار حكمها حكم الوقف)(3).
وقد ذكر العلماء رحمهم الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوقف أموالا متعددة من أراض ومزارع مما أفاء الله عليه (4).
وبعد ذلك تتابع الصحابة رضوان الله عليهم في الوقف حتى إن جابرا رضي الله عنه قال: (لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف)(5)، وهذا إجماع منهم، فإن الذي قدر منهم على الوقف وقف، واشتهر ذلك فلم ينكره أحد فكان إجماعا.
ونظام الوقف باعتباره نظاما خيريا موجود منذ القدم بصور شتى، إلا أنه من المؤكد أن نظام الوقف في الإسلام بشكله الحالي
(1) صحيح البخاري المغازي (4461)، سنن النسائي الأحباس (3595)، مسند أحمد (4/ 279).
(2)
رواه البخاري في صحيحه كتاب الوصايا باب الوصايا 3/ 1005 برقم 2588.
(3)
فتح الباري 5/ 360.
(4)
الأحكام السلطانية لأبي يعلى 199 - 202، الأحكام السلطانية للماوردي 213، 214.
(5)
المغني 8/ 185.
يبقى خصوصية إسلامية لا يمكن مقارنتها بصور البر في الحضارات أو الشعوب الأخرى وهذا عائد إلى عدة أمور:
1 -
التعلق الشعبي به وامتداد رواقه ومظلته إلى أمور تشف عن حس إنساني رفيع.
2 -
عدم اقتصار الوقف على أماكن العبادة كما هو في الأديان السابقة، بل امتد في نفعه إلى عموم أوجه الخير في المجتمع.
3 -
شمول منافع الوقف حتى على غير المسلمين من أهل الذمة، فيجوز أن يقف المسلم على الذمي لما روي أن صفية بنت حيي رضي الله عنها وقفت على أخ لها يهودي. ويتميز الوقف بخصائص وميزات متعددة قد لا توجد في المشاريع الخيرية الأخرى، وهذه المزايا أكسبته تلك الحيوية التي استمر أثرها في الأمة على مدى قرون طويلة؛ لأجل ذلك لا عجب أن نرى ذلك الإقبال الكبير من لدن أفراد المجتمع المسلم على الوقف وتحبيس جزء كبير من أملاكهم لأعمال الخير، وقدوتهم في ذلك نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام ثم صحبه الكرام، فقد وقف مجموعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير بن العوام ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة وصفية زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وأسماء بنت أبي بكر وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وجابر
بن عبد الله وغيرهم، رضي الله عنهم أجمعين، ومن بعدهم من التابعين وتابع التابعين.
ثم سار من بعدهم الأغنياء والموسرون من المسلمين فأوقفوا الأوقاف وأشادوا الصروح، بنوا المساجد، وأنشئوا المدارس وأقاموا الأربطة، وهؤلاء الأخيار والأغنياء الأبرار لم يدفعهم إلى التبرع بأنفس ما يجدون وأحب ما يملكون، ولم يتنازلوا عن هذه الأموال الضخمة والثروات الهائلة إلا لعظم ما يرجون من ربهم ويأملون من عظيم ثواب مولاهم، ثم الشعور بالمسئولية تجاه الجماعة والأقربين، دفعهم ذلك كله إلى أن يرصدوا الجزيل من أموالهم ليستفيد إخوانهم أفرادا وجماعات، جمعيات وهيئات، أقرباء وغرباء.
قال بعض أهل العلم: الوقف شرع لمصالح لا توجد في سائر الصدقات، فإن الإنسان ربما صرف مالا كثيرا ثم يفنى هذا المال، ثم يحتاج الفقراء مرة أخرى أو يأتي فقراء آخرون فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء وقفا للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم من منافعه ويبقى أصله.
ففي الوقف تطويل لمدة الاستفادة من المال، فقد تهيأ السبل لجيل من الأجيال لجمع ثروة طائلة، ولكنها قد لا تتهيأ للأجيال التي بعدها، فبالوقف يمكن إفادة الأجيال اللاحقة. مما لا يضر الأجيال السابقة.
الوقف الخيري أحد أبرز سمات المجتمع المسلم، ارتبط بالوجود الإسلامي في المدينة، ومارسه المسلمون تلبية لأوامر الإسلام العقدية والتعبدية والخلقية ولحاجات الناس، حيث شمل الوقف كل جوانب الحياة وأوجه الإنفاق على دور العبادة والتعليم والخير.
وقد كثرت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحث على الإنفاق في سبيل الله بوجه عام، وحددت الشريعة عدة صور لهذا الإنفاق؛ منها الزكاة والصدقات التطوعية بشكل عام، ومنها الصدقات الجارية التي عمادها الوقف، ومن حكمة الله عز وجل أنه جعل الصدقات الجارية امتدادا لعمل الإنسان الخيري وزيادة حسناته بعد وفاته وانقطاع عمله، وإلى جانب ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته الشريفة وتعليما للمسلمين قام بأول وقف في الإسلام، وتبعه في ذلك الصحابة حتى إنه ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلا وقف.
وإذا كان المسلم حريصا على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويرجو الثواب في الدنيا والآخرة، فإن الله سبحانه فتح أمامه أبواب الخير العديدة ومنها الوقف، إضافة إلى أن الوقف في الإسلام من أهم المؤسسات التي كان لها دور فعال في الحضارة الإسلامية لكافة جوانبها الدينية والاقتصادية والاجتماعية وحراسة الدين، ومن أهم آليات حراسة الدين بناء المساجد وعمارتها لإقامة
الصلوات التي تعد عماد الدين، وكان الوقف وما يزال المصدر الرئيس لتوفير التمويل اللازم لذلك، هذا إلى جانب أن وقف الكتب وإقامة المكتبات وإقامة حلقات التعليم في المساجد تعمل في مجال حراسة الدين كما تعمل في مجال التنمية البشرية.
ويلعب الوقف دورا في مكافحة الفقر وإنشاء المدارس والمستشفيات والطرق والجسور، ومصادر المياه الصالحة للشرب، وغيرها من مؤسسات التنمية الاجتماعية والحضارية، وظهر للوقف قديما دور في النشاط الزراعي بوقف الأراضي الزراعية واستغلالها لحساب مستحقي الوقف.
ومما يبرز أهمية الوقف أن بعض الدول غير الإسلامية والمتقدمة منها مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ينتشر الوقف بها رغم أنه ليس وراء ذلك دافع ديني إسلامي، ورغم كثرة المبتكرات لديهم من أساليب تمويل الخدمات الاجتماعية إلا أنهم أخذوا صيغة الوقف كما جاء بها الإسلام وطبقوها في مجالات عديدة مثل المستشفيات والجامعات، ومواجهة الكوارث وتقديم الإعانات للفقراء، كل ذلك يؤكد لنا أن مؤسسة الوقف ليست عملا تراثيا من الماضي ولم يعد له حاجة في الوقت الحاضر، بل على العكس دوره مطلوب بشدة الآن، وله ما يبرره ويجب العمل على إحيائه بكل السبل.
تقوم فكرة الوقف نفسها على تنمية قطاع ثالث متميز عن كل من القطاع الخاص، والقطاع الحكومي، وتحميل هذا القطاع مسؤولية النهوض. بمجموعة من الأنشطة هي - بطبيعتها - تدخل في إطار البر والإحسان والرحمة والتعاون، لا في قصد الربح الفردي، ولا ممارسة قوة النظام وسطوته؛ لأن هذا النوع من الأنشطة قائم على المودة والمرحمة.
فالوقف إخراج لجزء من الثروة الإنتاجية في المجتمع من دائرة المنفعة الشخصية ودائرة القرار الحكومي معا، وتخصيص لذلك الجزء لأنشطة الخدمة الاجتماعية العامة، وقد قررت الشريعة الإسلامية أن هذه الأنشطة والخدمات هي حاجة بشرية، لا تقتصر على المجتمع الإسلامي فقط بل هي لغير المسلمين أيضا.
لقد فتح الإسلام منابع عديدة لنفع الآخرين، منها ما هو واجب كالزكاة والكفارات والنذور، وهذه لا حديث عنها باعتبارها واجبا لازما على المسلم، ومن المنابع ما هو ذو طابع تطوعي بحت، مثل الصدقات التطوعية والوقف، فالمسلم حين يتنازل عن حر ماله طواعية فهو يتمثل الرحمة المهداة في الإسلام للبشر أجمع نبينا عليه الصلاة والسلام، ويتحرر به من ضيق الفردية والأنانية متجاوزا الأنا إلى الكل، شاملا المجتمع بخيرية الفرد، وبانيا الجسد الواحد بكرم العضو، وهذا التفاعل تحقيق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل
المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (1)» متفق عليه (2).
ويعد الوقف بمفهومه الواسع أصدق تعبيرا وأوضح صورة للصدقة التطوعية الدائمة، بل له من الخصائص والمواصفات ما يميزه عن غيره، وذلك لعدم محدوديته واتساع آفاق مجالاته، والقدرة على تطوير أساليب التعامل معه، وكل هذا كفل للمجتمع المسلم التراحم والتواد بين أفراده على مر العصور بمختلف مستوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها الأمة الإسلامية خلال الأربعة عشر قرنا الماضية، فنظام الوقف مصدر مهم لحيوية المجتمع وفاعليته، وتجسيد حي لقيم التكافل الاجتماعي التي تنتقل من جيل إلى آخر حاملة مضموناتها العميقة في إطار عملي يجسده وعي الفرد بمسؤولياته الاجتماعية، ويزيد إحساسه بقضايا إخوانه المسلمين، ويجعله في حركة تفاعلية مستمرة مع همومهم الجزئية والكلية.
إن الدارس للوقف في الحضارة الإسلامية ليعجب من التنوع الكبير في مصارف الأوقاف، فكان هناك تلمس حقيقي لمواطن الحاجة في المجتمع، لتسد هذه الحاجة عن طريق الوقف، فالوقف من حيث بعده الاجتماعي يبرهن على الحس التراحمي الذي يمتلكه
(1) صحيح البخاري الأدب (6011)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586)، مسند أحمد (4/ 375).
(2)
رواه البخاري في صحيحه 10/ 367، ومسلم في صحيحه برقم 2615 عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
المسلم ويترجمه بشكل عملي في تفاعله مع هموم مجتمعه الكبير، ويظهر هذا جليا في رصد التطور النوعي للوقف على امتداد القرون الأربعة عشر، فقد كان المسجد أهم الأوقاف التي عني بها المسلمون، بل هو أول وقف في الإسلام، كما هو معلوم في قصة بناء مسجد قباء أول مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ولعل من أبرز شواهد اهتمام المسلمين بذلك الجانب في الوقف: الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، والجامع الأزهر بالقاهرة، والمسجد الأموي بدمشق والقرويين بالمغرب، والزيتونة بتونس وغيرها كثير، ثم يأتي في المرتبة الثانية من حيث الكثرة العددية والأهمية النوعية المدارس، فقد بلغت الآلاف على امتداد العالم الإسلامي، وكان لها أثر واضح في نشر العلم بين المسلمين، وقد أدى توافد طلاب العلم من جميع أنحاء العالم إلى مراكز الحضارة الإسلامية والعواصم الإسلامية إلى إنشاء الحانات الوقفية التي تؤويهم، مع تهيئة الطرق، وإقامة السقايات والأسبلة في هذه الطرق للمسافرين، وكذا دوابهم. وصاحب ذلك إنشاء الأربطة ودور العلم للطلاب الغرباء لإيوائهم، واستتبع ذلك ظهور الوقف للصرف على هؤلاء الطلاب باعتبارهم من طلاب العلم المستحقين للمساعدة في دار الغربة، ولا تخلو كل هذه المراحل والأنواع من جوانب اجتماعية للوقف، إلا دلالتها وأهميتها وأثرها في المجتمع بشكل عام. كما أن