الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتعددت أبوابها، وتكاثرت وسائلها، ففي زمن البث الفضائي الهادر وتعدد مصادر التلقي لا بد من الاجتهاد في تربية الوازع الإيماني، وغرس روح الاعتزاز بالحق، وإيجاد الحصانة الذاتية في النفوس.
المبحث الثاني: في عهد الخلافة الراشدة
سار الخلفاء الراشدون على النهج النبوي في العناية بحماية المجتمع المسلم من أسباب ومظاهر الانحراف الفكري، وقد تجلى ذلك بصور خاصة في بعض الفترات والوقائع التي يحدث فيها شيء من ذلك، وسوف أستعرض بعض النماذج في عهد الخلافة الراشدة باعتبارها أمثلة دالة على غيرها.
في عهد أبى بكر الصديق رضي الله عنه: تعتبر حروب الردة نموذجا عمليا ظاهرا على عناية الخليفة الراشد الأول بمحاربة ظواهر الانحراف الفكري، حيث تصدى لهذه الظاهرة الخطيرة التي هي الردة بكل حزم وحسم، ولم يتردد في الأمر بالرغم من المخاطر التي كانت تحيط بدولة الإسلام آنذاك.
قال محمد بن إسحاق: ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم حتى جمعهم الله على أبي بكر رضي الله عنه (1).
(1) السيرة النبوية، لابن هشام 2/ 665.
فإنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت أحياء كثيرة من الأعراب، ونجم النفاق بالمدينة، وانحاز إلى مسيلمة الكذاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة، والتفت على طليحة الأسدي بنو أسد وطيئ، وادعى النبوة أيضا كما ادعاها مسيلمة الكذاب، وعظم الخطب واشتدت الحال، ونفذ الصديق جيش أسامة فقل الجند عند الصديق، فطمعت كثير من الأعراب في المدينة وراموا أن يهجموا عليها، فجعل الصديق على أنقاب المدينة حراسا يبيتون بالجيوش حولها، فمن أمراء الحرس علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود. وجعلت وفود العرب تقدم المدينة يقرون بالصلاة ويمتنعون من أداء الزكاة، ومنهم من امتنع من دفعها إلى الصديق، وذكر أن منهم من احتج بقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (1) قالوا فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا، وأنشد بعضهم:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا
…
فواعجبا ما بال ملك أبي بكر
وقد تكلم الصحابة مع الصديق في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يزكون فامتنع الصديق من ذلك وأباه (2).
(1) سورة التوبة الآية 103
(2)
ابن كثير، البداية والنهاية 6/ 311.
كما حرص أبو بكر رضي الله عنه أن يقاوم أي انحراف فكري ولو لم يصل حد الردة، فحين رأى بعض الأعراب أن أداء الركن الثالث من أركان الإسلام (الزكاة) لا يلزمهم، عزم على ردهم للحق وقتالهم إن أبوا، وكان للصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأي آخر فناقش أبا بكر في ذلك قائلا لأبي بكر: علام تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها (1)» ؟ فقال أبو بكر: والله لو منعوني عناقا وفي رواية عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعها، إن الزكاة حق المال، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبو بكر للقتال فعرفت أنه الحق) (2).
في عهد عمر رضي الله عنه: وقد سار الخليفة الثاني على منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه في الاهتمام بحماية المجتمع المسلم من الانحراف الفكري، وأسبابه، ومن صور عنايته بذلك قصته مع صبيغ بن عسل الذي كان يثير بعض الشبهات بأسئلته عن متشابه القرآن، إذ قدم المدينة وأخذ يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر فأعد له عراجين النخل فقال من أنت؟
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2946)، صحيح مسلم الإيمان (21)، سنن الترمذي الإيمان (2606)، سنن النسائي تحريم الدم (3978)، سنن أبي داود الجهاد (2640)، سنن ابن ماجه الفتن (3927)، مسند أحمد (2/ 529).
(2)
صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب أخذ العناق في الصدقة رقم الحديث 1364.
قال: أنا عبد الله صبيغ قال: وأنا عبد الله عمر، فضربه حتى آدمى رأسه فقال حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي. أخرجه ابن الأنباري من وجه آخر عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد عن عمر بسند صحيح وفيه فلم يزل صبيغ وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم، قلت وهذا يدل على أنه كان في زمن عمر رجلا كبيرا، قال أبو أحمد العسكري اتهمه عمر برأي الخوارج (1).
وقد علق شيخ الإسلام ابن تيمية على قصة عمر رضي الله عنه مع صبيغ بقوله: " وقصة صبيغ بن عسل مع عمر بن الخطاب من أشهر القضايا فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن حتى رآه عمر فسأل عمر عن الذاريات ذروا فقال له عمر ما اسمك؟ قال: عبد الله صبيغ فقال: وأنا عبد الله عمر، وضربه الضرب الشديد، وكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول: ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ، وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام (2).
ويمكن أن يستفاد من فعل هذا الخليفة الراشد الذي أمرنا باتباع سنته شأنه شأن الخلفاء الراشدين الثلاثة، أن لولي الأمر المسلم الحق أن يمنع من يخشى أن يحدث قوله وفكره انحرافا فكريا على
(1) ينظر: ابن حجر الإصابة 3/ 459، الدارس، السنن 1/ 66.
(2)
مجموع الفتاوى 13/ 311.
المسلمين وربما كان من أسباب استقرار المجتمع المسلم في عهد هذا الخليفة الراشد وعدم وجود حركات الخروج والتمرد والانحراف الفكري، هو شدة عمر رضي الله عنه في الحق وتلافيه لبوادر هذه الشرور من بداياتها.
وأما في عهد عثمان رضي الله عنه: فقد كان يعاقب من يظهر شيئا من المخالفة أو الانحراف عن المنهج السوي، بالنفي عن المكان الذي حصل فيه الخطأ فيه، ولم يذكر في عهده رضي الله عنه من الحوادث ما يلفت النظر من جهة الانحراف الفكري، كالردة أو البحث عن المتشابه والتشكيك في القرآن، لكن كانت بدايات الانحراف عن السنة في الموقف من الأمراء، حيث أثار السبئيون بعض الناس على عثمان رضي الله عنه فكان يعالج الموقف بحكمته وصبره وعفوه، ولم يبدأ في عقاب أحد ممن عرف بشيء من ذلك قبل أن يظهر منه فعل يوجب العقوبة.
في عهد علي رضي الله عنه: برز في واقع المسلمين انحرافان عقديان بارزان هما:
انحراف الخوارج وانحراف الشيعة، فواجه علي رضي الله عنه هذين الانحرافين بما يليق بهما من المواجهة المناسبة، إذ واجه الخوارج أول الأمر بالحوار والجدال بالتي هي أحسن، حين أرسل ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنه لمناقشة شبهات الخوارج في
خروجهم على أمير المؤمنين وتكفيرهم له، فكان نتيجة هذا الحوار رجوع أربعة آلاف منهم إلى جادة الحق. ويعد مثل هذا العمل إنجازا عظيما في مكافحة الغلو، وكان لقدرة عبد الله بن عباس، وعلمه الغزير، وذكائه، الأثر الكبير في هذا التحول من الغلو إلى الاعتدال وجادة الصواب.
معالجة غلو الشيعة:
وأما انحراف الشيعة فكان متفاوتا في درجاته، فعالج علي رضي الله عنه كل انحراف منها بما يناسبه، فعالج دعوى بعضهم في تفضيله على أبى بكر وعمر بجلد من يقول بذلك، وأعلن بهذه العقوبة في الناس فقال:(لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته الحد).
وأما الذين زعموا أنه ربهم فقد قتلهم حرقا بالنار بعد إصرارهم على هذا الانحراف.
فقد ذكر ابن حجر في الفتح عن أيوب عن عكرمة قال: أتي علي بزنادقة فأحرقهم.
ولأحمد من هذا الوجه أن عليا أتي بقوم من هؤلاء الزنادقة ومعهم كتب فأمر بنار فأججت ثم أحرقهم وكتبهم (1).
(1) فتح الباري 6/ 156.