الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد (1)».
(1) رواه البخاري في كتاب المغازي، باب بعث علي بن أي طالب وخالد إلى اليمن قبل حجة الوداع، رقم الحديث 4004.
الفصل الثاني: التطبيقات العملية للوقاية من الانحراف الفكري في تاريخ المسلمين
المبحث الأول: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
يرى بعض الباحثين أن الانحراف الفكري بين المسلمين لم يظهر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لسببين رئيسين:
الأول: انعزال المسلمين في مبدأ الدعوة عن غيرهم من المجتمعات والشعوب غير العربية.
وثانيهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يزال بين ظهراني المسلمين، وله من الصلة بربه ومن قوة شخصيته الكريمة، ما يجعل كلمته القاطعة وقوله الفصل، فكان كلما رأى من بعض أصحابه ميلا إلى التعمق أو البحث في متشابه القرآن نهاهم عن ذلك وبين لهم أن الهلاك في الدين إنما هو السير وراء هذا النوع من الإيمان.
ومع ذلك فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب
ومظاهر الانحراف الفكري، ولا سيما في المناسبات التي تقتضي ذلك، ومن تلك المظاهر التي حذر منها:
أ- الغلو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (1)» ، وهذا النهي عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال (2).
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغلو فيه خاصة ورفعه فوق منزلته عليه الصلاة والسلام كما فعلت النصارى بعيسى عليه السلام، فقد روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (3)» .
قوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم " الإطراء: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه. قاله أبو السعادات وقال غيره: لا تطروني بضم التاء وسكون الطاء المهملة من الإطراء أي: لا تمدحوني بالباطل أو لا تجاوزوا الحد في مدحي.
قوله: «إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (4)» أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه
(1) رواه مسلم 2/ 944، والنسائي 5/ 268، وأبو داود 2/ 435.
(2)
ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 106.
(3)
الجامع الصحيح، كتاب الأنبياء، باب واذكر في الكتاب مريم، 4/ 142.
(4)
صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445).
الربوبية، وإنما أكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النهي في أكثر من موضع ومقام لما علمه في هذا الإطراء من وسيلة وطريق للغلو.
2 -
ونهى أن يصلى إلى القبر، أو يتخذ مسجدا، أو عيدا، أو يوقد عليه سراج.
3 -
نهيه صلى الله عليه وسلم عن طلب الحق من المصادر المخالفة:
ومن جهة أخرى فربما أمكن القول بأن نهي الرسول للصحابة عن النظر في كتب اليهود خاصة كان سببا في وحدة مصادر التلقي مما يؤدي إلى سلامة الفكر والثبات على الحق، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال:«أمتهوكون يا ابن الخطاب لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حيا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم (1)» .
ويمكن القول من جهة أخرى إن ضعف إسناد هذا الحديث يضعف النتيجة المستفادة منه، وأن صحة المعتقد وسلامة الفكر لدى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس مردها إلى منع الاطلاع على كتب الأديان الأخرى وغيرها من مصادر الفكر والثقافة، بقدر ما هو الحصانة الذاتية للصحابة رضي الله عنهم الناتجة عن قوة تربيتهم
(1) مسند الإمام أحمد بتحقيق شعيب الأرناؤوط وآخرين 23/ 349، وإسناده ضعيف لضعف مجالد بن سعيد راويه عن الشعبي.
على العقيدة الصحيحة وتمسكهم الثابت بها، بدليل وجود فئات أخرى في المجتمع المدني منحرفة الفكر فاسدة التدين، وهي فئة المنافقين، أظهرت الإسلام نفاقا وخوفا، وتقربت من الكفار ووالتهم وسمعت منهم الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى عن المنافقين ولائهم للكفار:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} (1) كما أن شبهات أهل الكتاب والمشركين كانت تتردد في مجتمع المدينة ولذا جاء الرد عليها في القرآن الكريم، وكان هناك من يستمع لها ويتلقاها، كما قال تعالى:{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} (2).
4 -
حرصه على قتل المرتد كما في قصة عبد الله بن أبي السرح. قال ابن القيم: وفيها من الفقه جواز قتل المرتد الذي تغلظت ردته من غير استتابة «فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد أسلم وهاجر وكان يكتب الوحي لرسول الله، ثم ارتد ولحق بمكة، فلما كان يوم الفتح أتى به عثمان بن عفان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعه فأمسك عنه طويلا ثم بايعه، وقال: إنما أمسكت عنه ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه، فقال له رجل: هلا أومأت إلي يا رسول الله، فقال: ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين (3)» . فهذا كان قد تغلظ كفره بردته بعد إيمانه وهجرته وكتابة الوحي،
(1) سورة المائدة الآية 52
(2)
سورة التوبة الآية 47
(3)
سنن النسائي تحريم الدم (4067)، سنن أبي داود الجهاد (2683).
ثم ارتد ولحق بالمشركين يطعن على الإسلام ويعيبه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله، فلما جاء به عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة لم يأمر النبي بقتله حياء من عثمان، ولم يبايعه ليقوم إليه بعض أصحابه فيقتله، فهابوا رسول الله أن يقدموا على قتله بغير إذنه واستحيا رسول الله فبايعه (1).
ولعنايته عليه الصلاة والسلام بحماية جناب التوحيد، وسد أبواب الشرك، فإنه كان أحرص الخلق على قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، حتى في الأقوال والألفاظ وصور ذلك كثيرة معلومة من سيرته عليه الصلاة والسلام، ومنها:
أ- نهيه صلى الله عليه وسلم عن الألفاظ الموهمة لتسوية غير الله به، مثل قول الإنسان ما شاء الله وشئت، فقد روى النسائي بإسناده عن قتيلة «أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت (2)» (3)
2 -
ونهى أن يحلف بغير الله وأخبر أن ذلك شرك، فعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف
(1) زاد المعاد: 3/ 464 مؤسسة الرسالة 1407 هـ تحقيق الأرناؤوط.
(2)
سنن النسائي الأيمان والنذور (3773)، مسند أحمد (6/ 372).
(3)
رواه النسائي في كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بالكعبة، وصححه رقم الحديث 3712.
بغير الله فقد كفر أو أشرك (1)».
وكان بعض حدثاء العهد بالإسلام تجري على ألسنتهم بعض الألفاظ الشركية كالحلف باللات والعزى ونحوهما، وربما لم تكن مقصودة، ومع ذلك أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد الشهادة إذا صدر عنهم مثل هذا الحلف، ففي الحديث الذي رواه البخاري وغيره أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف منكم فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق (2)» .
ولم يقتصر جهد النبي صلى الله عليه وسلم في وقاية المجتمع المسلم على العلاج أو العقوبات للحماية من الانحراف الفكري، بل كان معظم جهده متوجها نحو بناء العقيدة الصحيحة، وبيان فضائلها، والحث على التمسك بها ونبذ الانحرافات الجاهلية، وضرب الأمثلة بانحراف الأمم السابقة والتحذير من مسلكهم.
العهد النبوي بين حرية الفكر وحماية العقيدة:
بالرغم من أن العهد النبوي اتسم بحرية تعبير واسعة، تجلت فيما أتيح لليهود والمنافقين من حرية الكلمة والتعبير عن الرأي، إلا أن المؤمنين قد اكتسبوا حصانة إيمانية أدت إلى مناعة ذاتية تجاه
(1) رواه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب كراهية الحلف بغير الله رقم الحديث 1455.
(2)
الجامع الصحيح كتاب الأيمان والنذور رقم الحديث 5836.
الفكر اليهودي، ودعوات المنافقين وتشكيكاتهم، ويؤكد وجود مساحة الحرية تلك، ما حكاه القرآن الكريم من أقوال اليهود والمنافقين المتضمنة لطعنهم في دين الإسلام وبعض أحكام الشريعة، واستهزائهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فما زاد ذلك المؤمنين إلا شدة في الدين وثباتا عليه، وتصديا للفكر اليهودي وشبهات المنافقين وضلالاتهم.
ومع أن عهد النبي صلى الله عليه وسلم اتسم بانفتاح كبير على الفكر المخالف، إلا أن موقف الصحابة رضي الله عنهم من هذا الفكر على اختلاف مذاهبه وتنوع اتجاهاته، كان يتسم بالنظر إليه على أنه فكر بشري قاصر، ينظر إليه من خلال الرؤية الإسلامية متمثلة في القرآن الكريم وأقوال النبي الأمين. إذ كانوا يرون الوحي هو مصدر الحق الذي توزن به الأفكار ويميز به الحق من الباطل، ويتضح به الصواب من الخطأ.
وكان هذا الموقف القوي من الفكر الآخر بالرغم من أن بعضه كانت له مكانته العالية في المدينة باعتباره فكرا مرتبطا بديانة سماوية وأهله أهل كتاب إلهي كالفكر اليهودي، ناتجا عن الأساس الفكري الذي نشأ عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وقوة اقتناعهم به، وجزمهم بأن اليقين والحقيقة إنما هي في وحي الله الذي أوحى به إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهذا ما نحتاجه في هذا الزمن الذي فشت فيه فتن الشبهات وتنوعت فيه مضلات الفتن،