الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: العقوبات الرادعة في الدنيا والآخرة
تمهيد: عن العقوبات الإلهية في الدنيا والآخرة لأهل الضلال
من منهج القرآن الكريم والسنة المطهرة في وقاية المجتمع من الانحراف الفكري بيان العقوبات الإلهية لأهل الضلال في الدنيا والآخرة، حيث بين الله عز وجل للناس مؤمنهم وكافرهم عقوباته لمن انحرف عن الحق وآثر الضلال على الهدى، واتبع الباطل وأعرض عن الحق، حيث ذكرهم بأنواع العقوبات التي حاقت بالأمم التي تنكبت طريق الحق، وانحرفت نحو الباطل، وكانت تلك العقوبات أليمة شديدة كما وصفها سبحانه بذلك قي قوله:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (1).
إن عقوبات الله عز وجل لأهل الضلال كثيرة متنوعة في الدنيا والآخرة، ولقد قص الله علينا في كتابه الكريم ما عاقب به أهل الضلال والانحراف عن الحق من العقوبات العظيمة في الدنيا، ومن ذلك إغراقه لقوم نوح بسبب ضلالهم وتكذيبهم لنبيهم، قال تعالى:{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} (2)، وأرسل على عاد ريحا صرصرا عاتية بسبب ضلالهم قال تعالى:{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} (3).
(1) سورة هود الآية 102
(2)
سورة الفرقان الآية 37
(3)
سورة الحاقة الآية 6
وإنما ذكر الله تبارك وتعالى ذلك لخلقه ليتعظوا ويأخذوا العبرة من تلك العقوبات فيجتنبوا أسبابها، ومن أهم أسبابها الإصرار على المعتقدات الخاطئة المنحرفة، وذلك أن تلك الأمم التي أهلكها، جمعت في معتقداتها الباطلة صنوفا من الانحراف، فمن ذلك الإشراك بالله، وإنكار الرسالات الإلهية، والتكذيب بالبعث، ودعوى الربوبية في المخلوقات، كما أن بعض الأمم التي آمنت برسالات بعض الأنبياء قد وقعت في بعض صور الانحراف الفكري فعوقبت أيضا، كما حصل من بني إسرائيل حين اتخذوا العجل إلها، وطلبوا رؤية الرب تعالى في الدنيا جهرة، وطلبهم من موسى أن يجعل لهم إلها غير الله، ووصف الله عز وجل بما لا يليق كقولهم إن الله فقير، وقولهم يد الله مغلولة، فسلط الله تعالى عليهم من أزال ملكهم وشردهم من أوطانهم وسبى ذراريهم، كما هي عادته سبحانه وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحي وتعوضوا عنه بكلام الملاحدة والمشركين.
وحصل أيضا عند المنتسبين للإسلام بعض صور الانحراف الفكري، من جنس التعلق بكلام الفلاسفة في الإلهيات، وظهور التعلق بالقبور من دون الله في كشف الخطوب وشفاء الأمراض وغير ذلك، فعوقبوا بتسلط الأعداء وقهرهم، وفي هذا يقول ابن القيم: كما سلط النصارى على بلاد المغرب لما ظهرت فيها الفلسفة والمنطق واشتغلوا بها، فاستولت النصارى على أكثر بلادهم وأصاروهم رعية لهم،
وكذلك في أواخر المائة الثالثة وأول الرابعة لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد سلط عليهم القرامطة الباطنية فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات، واستولوا على الحاج واستعرضوهم قتلا وأسرا، واشتدت شوكتهم، واتهم بموافقتهم في الباطن كثير من الأعيان من الوزراء والكتاب والأدباء وغيرهم، واستولى أهل دعوتهم على بلاد المغرب، واستقرت دار مملكتهم بمصر، وبنيت في أيامهم القاهرة، واستولوا على الشام والحجاز واليمن والمغرب وخطب لهم على منبر بغداد (1).
والخلاصة أن العقوبات الإلهية لأهل الضلال منها عقوبات كونية كما تبين ومنها عقوبات شرعية دنيوية وعقوبات أخروية، ومن هذه العقوبات ما سيتم بيانه في المطالب التالية:
العقوبات الدنيوية:
(1) ابن القيم، إغاثة اللهفان 2/ 269.
لمطلب الأول: عقوبة الردة
من أعظم مظاهر الانحراف الفكري الردة عن دين الإسلام أعاذنا الله من ذلك، ولذلك حذر الله سبحانه وتعالى منها وبين عظيم عقوباته للمرتدين والتي منها:
حبوط العمل في الدنيا والآخرة، والخلود في النار - أعاذنا الله منها - قال تعالى:
وقد تنازع العلماء في التائب من الكفر إذا ارتد بعد إسلامه ثم تاب بعد الردة وأسلم هل يعود عمله الأول على قولين مبناهما أن الردة هل تحبط العمل مطلقا أو تحبطه بشرط الموت عليها فمذهب أبي حنيفة ومالك أنها تحبطه مطلقا ومذهب الشافعي أنها تحبطه بشرط الموت عليها (2).
ومنها اسوداد الوجوه واستحقاق العذاب يوم القيامة قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (3).
ومنها حرمان المغفرة وعدم الهداية للطريق المستقيم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} (4)
ومنها ضرب الملائكة لهم على الوجوه والأدبار حال الموت، قال تعالى:
(1) سورة البقرة الآية 217
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 700.
(3)
سورة آل عمران الآية 106
(4)
سورة النساء الآية 137
{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} (1){ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} (2){فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} (3).
هذا بعض ما يتصل من صور العقوبة الأخروية، نسأل الله الثبات على الحق وأن لا يزيغ قلوبنا.
عقوبة المرتد في الدنيا: أما العقوبة الدنيوية التي شرعها الله في حق المرتد فهي القتل حدا كما أجمع على ذلك أهل العلم استنادا إلى السنة الصريحة الدالة على ذلك، وإلى فعل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، قال ابن قدامة: " أجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد (4)، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم، ولم ينكر ذلك فكان إجماعا في حق الرجل المرتد، وأما المرأة ففيها خلاف فقد قيل إنه لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتل، روي ذلك عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، وبه قال الحسن والزهري والنخعي ومكحول وحماد ومالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق.
(1) سورة محمد الآية 25
(2)
سورة محمد الآية 26
(3)
سورة محمد الآية 27
(4)
ينظر: المغني ج 9 ص 16، بدائع الصنائع ج 7 ص 134، الأم ج 1 ص 257.
وروي عن علي والحسن وقتادة أنها تسترق ولا تقتل، لأن أبا بكر استرق نساء بني حنيفة وذراريهم وأعطى عليا منهم امرأة فولدت له محمد بن الحنفية وكان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا.
وقال أبو حنيفة: تجبر على الإسلام بالحبس والضرب، ولا تقتل لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان، ولأنها لا تقتل بالكفر الأصلي فلا تقتل بالطارئ كالصبي.
وقد استدل القائلون بقتل المرتدة بقوله عليه السلام: «من بدل دينه فاقتلوه (1)» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة (2)» ولأنها شخص مكلف بدل دين الحق بالباطل فيقتل كالرجل، وأما نهي النبي عن قتل المرأة فالمراد به الأصلية، فإنه قال ذلك حين رأى امرأة مقتولة وكانت كافرة أصلية، ولذلك نهى الذين بعثهم إلى ابن أبي الحقيق عن قتل النساء، ولم يكن فيهم مرتد، ويخالف الكفر الأصلي الطارئ بدليل أن الرجل يقر عليه، ولا يقتل أهل الصوامع والشيوخ والمكافيف،
(1) رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب استتابة المرتد والمرتدة، رقم الحديث 6411.
(2)
رواه البخاري في كتاب الديات باب قول الله تعالى أن النفس بالنفس رقم الحديث 6270.
ولا تجبر المرأة على تركه بضرب ولا حبس، والكفر الطارئ بخلافه والصبي غير مكلف بخلاف المرأة، وأما بنو حنيفة فلم يثبت أن من استرق منهم تقدم له إسلام، ولم يكن بنو حنيفة أسلموا كلهم وإنما أسلم بعضهم، والظاهر أن الذين أسلموا كانوا رجالا، فمنهم من ثبت على إسلامه منهم ثمامة بن أثال، ومنهم من ارتد مثل الدجال الحنفي.
2 -
عقوبة الساحر:
تعريف السحر: السحر عمل تقرب فيه إلى الشيطان وبمعونة منه. ومن السحر الأخذة التي تأخذ العين حتى يظن أن الأمر كما يرى وليس الأصل على ما يرى، والسحر: الأخذة وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر ورجل ساحر من قوم سحرة (1).
وهو عقد ورقى وكلام يتكلم به أو يكتبه أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له، وله حقيقة، فمنه ما يقتل، وما يمرض، وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه وما يبغض أحدهما إلى الآخر، أو يحبب بين اثنين (2).
والسحر من أشد صور الانحراف الفكري التي قرر لها الشارع الحكيم عقوبة رادعة في الدنيا ووعيدا شديدا في الآخرة، نظرا لخطره
(1) لسان العرب 4/ 348.
(2)
ابن قدامة، المغني 9/ 34.
وشدة ضرره وكثرة أنواعه وتلبيس أهله على الناس الحق بالباطل وخفاء أمره على الناس حتى اعتقد كثير من الناس أن من صدرت عنه هذه الأمور فهو ممن لهم التصرف التام المطلق في الكون، وعبد بعضهم السحرة من دون الله.
ومن هذه العقوبات في الدنيا الحكم بقتل الساحر حدا كما جاءت بذلك الأحاديث والآثار.
فعن جندب مرفوعا: «حد الساحر ضربه بالسيف (1)» وفي رواية: «ضربة بالسيف (2)» روي بالهاء وبالتاء وكلاهما صحيح، وبهذا الحديث أخذ أحمد ومالك وأبو حنيفة فقالوا يقتل الساحر، وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبد الله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبد العزيز.
(1) سنن الترمذي الحدود (1460).
(2)
سنن الترمذي الحدود (1460).
ولم ير الشافعي عليه القتل بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر، وبه قال ابن المنذر وهو رواية عن أحمد والأول أولى (1)، للحديث ولأثر عمر الذي رواه بجالة بن عبدة قال: " كنت كاتبا لجزء من معاوية فأتانا كتاب عمر رضي الله تعالى عنه قبل موته بسنة اقتلوا كل ساحر وساحرة
…
الخ "، وعمل به الناس في خلافته من غير نكير فكان إجماعا، وهو من حجج الجمهور القائلين بأنه يقتل.
(1) ابن قدامة، المغني 12/ 302.
3 -
عقوبة الذهاب إلى الكهان:
والكهانة بفتح الكاف ويجوز كسرها: ادعاء علم الغيب كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب، والأصل فيه استراق الجن السمع من كلام الملائكة، فيلقيه في أذن الكاهن، والكاهن: لفظ يطلق على العراف، والذي يضرب بالحصى، والمنجم، ويطلق على من يقوم بأمر آخر ويسعى في قضاء حوائجه، والكاهن: القاضي بالغيب، والكهنة: قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطباع نارية فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الأمور وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه.
وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية خصوصا في العرب لانقطاع النبوة فيهم، وهي على أصناف منها: ما يتلقونه من الجن فإن الجن كانوا يصعدون إلى جهة السماء فيركب بعضهم بعضا إلى أن يدنو الأعلى بحيث يسمع الكلام فيلقيه إلى الذي يليه، إلى أن يتلقاه من يلقيه في أذن الكاهن فيزيد فيه، فلما جاء الإسلام ونزل القرآن حرست السماء من الشياطين، وأرسلت عليهم الشهب، فبقي من استراقهم ما يتخطفه الأعلى فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (1) وكانت إصابة الكهان قبل الإسلام كثيرة جدا كما جاء في أخبار شق وسطيح ونحوهما، وأما في الإسلام فقد ندر ذلك جدا حتى كاد يضمحل ولله الحمد (2)
وقد جاء تحريم عمل الكهان وتحريم الذهاب إليهم في السنة المطهرة فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى امرأة حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد (3)» .
وروى مسلم بإسناده عن صفية عن بعض أزواج النبي عن
(1) سورة الصافات الآية 10
(2)
فتح الباري 10/ 227.
(3)
رواه النسائي 5/ 323 وقال المنذري في الترغيب والترهيب إسناده حسن.
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (1)» .
(1) صحيح مسلم 4/ 1751.
4 -
عقوبة الخوض في المتشابه: سبق الحديث عن الخوض في المتشابه باعتباره من أسباب الانحراف الفكري التي ورد النهي عنها في الكتاب والسنة بالتفصيل، ولذا أقتصر هنا على الحديث عن العقوبة، وأقوى الأدلة في عقوبة الخوض في المتشابه فعل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع صبيغ بن عسل " فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن حتى رآه عمر فسأل عمر عن الذاريات ذروا فقال: ما اسمك قال: عبد الله صبيغ فقال: وأنا عبد الله عمر وضربه الضرب الشديد " وكانت هذه العقوبة مثار إعجاب الصحابة رضي الله عنهم " فكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول: ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ.
وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:«إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم (1)» . وكما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (2)
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4547)، صحيح مسلم العلم (2665)، سنن الترمذي تفسير القرآن (2994)، سنن أبي داود السنة (4598)، مسند أحمد (6/ 256)، سنن الدارمي المقدمة (145).
(2)
سورة آل عمران الآية 7
ومثله الذي يعارض بين آيات القرآن، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال:«لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض (1)» فإن ذلك يوقع الشك في قلوبهم، أو مع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله فكان مقصدهم مذموما ومطلبهم متعذرا مثل أغلوطات المسائل التي نهى رسول الله عنها (2)
وقد يثير بعض الناس هنا موضوع الحرية الفكرية، وحرية إبداء الرأي فنقول: إن هذا متاح فيما للإنسان فيه مصلحة ومعرفة تامة، كالقضايا التي تهمه في معاشه، وما كان ممكنا له فهمه وعلمه كالمسائل الفقهية ونحوها، أما المسائل التي من متشابه القرآن والتي لا يفهمها إلا الراسخون في العلم على قول، فليس لكل أحد أن يخوض فيها بحجة حرية الفكر.
(1) سنن ابن ماجه المقدمة (85)، مسند أحمد (2/ 196).
(2)
مجموع الفتاوى 13/ 311.
التعزير لدعاة الانحراف:
التعزير في اصطلاح الفقهاء: تأديب دون الحد على معصية لا حد فيها ولا كفارة من العزر وهو الزجر والمنع (1)
ويعد التعزير من أوسع أبواب السياسة الشرعية لولي الأمر المسلم لتحقيق مصالح المسلمين، ومن صوره، تقرير بعض العقوبات على المخالفات والجنح التي لا نص في العقوبة عليها في الدنيا، مثل.
(1) ينظر: التوقيف على مهمات التعاريف، محمد المناوي 2/ 186، التعريفات، الجرجاني 85.
عقوبة المبتدع، والداعي إلى الضلال.
فالمتأمل فيما ذكره الفقهاء في باب التعزير يجد مجالا واسعا لولي الأمر لمعاقبة دعاة الضلال والانحراف، ومن تلك العقوبات المنع من التواصل الإعلامي بالكتابة والحديث بأي وسيلة. وقد يرى البعض أن هذا مما يتنافى مع حرية الرأي، والتعددية الفكرية، ويرون في هذا إرهابا فكريا وغير ذلك من وجوه الذم. وفي الجواب عن هذا يقال: إن هؤلاء المنادين بحرية الرأي سرعان ما يكذبون أنفسهم إذا تعلق الأمر بغيرهم ممن يخالفهم الرأي، فهم في وسائلهم لا ينشرون إلا لمن يوافقهم. ويسكتون على كل قضية تتصل بوأد الحريات إذا كان ذلك يمس الدين ودعاته. بل ربما نادى بعضهم بمنع مخالفيهم من كل وسيلة نشر.
ومن صور التعزير في هذا المجال أيضا: رد الشهادة أو عدم قبول الرواية، فمن العقوبات التي قررها أهل العلم تجاه أصحاب الفكر المنحرف والاعتقاد البدعي أن المبتدع لا تقبل شهادته تأديبا وعقوبة له، غير أن أهل العلم لم يعمموا الحكم، وإنما نظروا بعين البصيرة والعدل للأشخاص ودرجة انحرافهم وأسباب ذلك، ومدى قدرتهم على معرفة الحق " فمن كفر بمذهبه كمن ينكر حدوث العالم وحشر الأجساد وعلم الرب تعالى بجميع الكائنات وأنه فاعل بمشيئته وإرادته فلا تقبل شهادته لأنه على غير الإسلام.
وأما أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام ولكنهم مخالفون في بعض الأصول كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم فهؤلاء أقسام:
أحدها: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له فهذا لا يكفر ولا يفسق، لا ترد شهادته إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين كما قال تعالى:{مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (1){فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (2)
القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق، ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ورياسته ولذته ومعاشه وغير ذلك، فهذا مفرط مستحق للوعيد آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، وحكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات، فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى قبلت شهادته.
القسم الثالث: أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى ويتركه تقليدا وتعصبا أو بغضا أو معاداة لأصحابه، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقا، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل، فإن كان معلنا داعية ردت شهادته وفتاويه وأحكامه مع القدرة على ذلك ولم تقبل له
(1) سورة النساء الآية 98
(2)
سورة النساء الآية 99
شهادة ولا فتوى ولا حكم إلا عند الضرورة، كحال غلبة هؤلاء واستيلائهم وكون القضاة والمفتين والشهود منهم ففي رد شهادتهم وأحكامهم إذ ذاك فساد كثير ولا يمكن ذلك فتقبل للضرورة.
وقد نص مالك رحمه الله على أن شهادة أهل البدع كالقدرية والرافضة ونحوهم لا تقبل وإن صلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا.
وإنما منع الأئمة كالإمام أحمد بن حنبل وأمثاله قبول رواية الداعي المعلن ببدعته وشهادته والصلاة خلفه، هجرا له وزجرا، لينكف ضرر بدعته عن المسلمين، ففي قبول شهادته وروايته والصلاة خلفه واستقضائه، وتنفيذ أحكامه رضى ببدعته وإقرار له عليها.
وقال إسحاق بن منصور قلت لأحمد كان ابن أبي ليلى يجيز شهادة كل صاحب بدعة إذا كان فيهم عدلا لا يستحل شهادة الزور، قال أحمد ما تعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدرية والمعلنة.
وقال الميموني: سمعت أبا عبد الله يقول من أخاف عليه الكفر مثل الروافض والجهمية لا تقبل شهادتهم ولا كرامة لهم (1)
الأمر بقتال الخوارج: ومن العقوبات الدنيوية لأهل الانحراف الفكري المتمثل في الخوارج الأمر بقتالهم، إذ جاء في السنة الحث على قتالهم من قبل الأئمة، قال صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي اعترض على قسمة الغنائم: «إن من هذا أو في عقب هذا
(1) ابن القيم، الطرق الحكمية، ص 173، 174.