الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تطبيق الشريعة الإسلامية ومعوقاتها
لمعالي الدكتور / محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن الإنسان كائن حي يتأثر بما يحيط به وما يطرح أمامه، ولكن الله قد شرفه بين المخلوقات بحواس ليميز بها بين النافع والضار، وجعل له السمع والبصر والفؤاد لكي يعقل ما حوله، ويتبصر فيما يعود عليه بالنفع ليتبعه، وبالضار ليجتنبه؛ هبة من الله جلت قدرته؛ لينظر سبحانه ماذا يعمل هذا الإنسان في هذه المواهب عظيمة القدرة، عالية المسئولية؟ {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1).
وإنها لحكمة من الله جل وعلا أن يتمايز الناس في الإدراك والفهم، وليسعوا فيما يرونه مسيرا لأمورهم ومعاشهم، بحكم الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، والتي تقوم وتنظم اتجاه هذه
(1) سورة الإسراء الآية 36
الفطرة شريعة الله التي شرع لعباده، حيث يوفق سبحانه من يشاء إلى طريق الهداية، الذي هو فضل من الله:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (1).
ثم إنها رحمة من الله لعباده أن يبعث في كل أمة كلما انحدرت مفاهيمهم، وابتعدوا عن شرع الله باستبدال أهواء الناس بدل شرع الله، أن يبعث لهم رسولا ليجدد لقومه الشرائع التي تصلح بها أحوالهم، وتربطهم بخالقهم وجدانيا، وبشرائع الإسلام الذي هو دين الله عمليا ومحبة اتباعا لهذا النص الكريم من كتاب الله، والذي يبين السبب الأساسي للخلق في هذه الحياة:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2)، وقوله سبحانه:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (3).
وتطبيق شريعة الإسلام امتثالا لأمره سبحانه هو من العبادة المأمور بها الثقلان الإنس والجن، فحياة الإنسان لا تستقيم ولا تسير الأمور فيها إلا بتشريع ينظم متطلبات هذه الحياة ويسيرها، ومن ثم يحفظ التوازن، ويتم العدل في الحقوق والتعامل فيما بين الناس؛ حتى لا يتسلط قوي على ضعيف، ولا تضيع الحقوق، أو يدب التنازع، ويزداد الظلم بين
(1) سورة القصص الآية 56
(2)
سورة الذاريات الآية 56
(3)
سورة المؤمنون الآية 115
البشر.
مما بان للملائكة عليهم السلام في فهمهم المحدود بعدما أخبرهم رب العزة والجلال بخلق آدم، وأنه مستخلفه وذريته في الأرض، يقول سبحانه:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (1)، إخبار من الله سبحانه لهم، لا مشورة ولا استئذان، فقالوا بحسب معهودهم فيمن سكن الأرض قبل آدم وذريته، من الجن وما أحدثوه من فساد وتدمير وانتهاك؛ لأنهم جعلوا شرع الله وراء ظهورهم، واتبعوا أهواءهم، ليقيسوا شيئا مشاهدا بأمر مغيب عنهم؛ لأن لله الأمر وهو أحكم الحاكمين، ويستأثر جل وعلا بعلم الغيب:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (2).
فكان ردهم المتضمن لفهم ما يدور في معهودهم: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} (3)، فأسكتهم جواب عالم الغيب الذي يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، ولا راد لقضائه وقدره، عن هذه المقولة بما يبين عظمته سبحانه، وأن علم الخالق المبدع الأزلي لا ترقى إليه علوم
(1) سورة البقرة الآية 30
(2)
سورة الرعد الآية 9
(3)
سورة البقرة الآية 30
المخلوقين؛ لأن المخلوق سمته القصور: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1).
ذلك أن علم المخلوق قاصر مهما كان، وعلم الخالق سبحانه فيه الكمال والعز والاستمرارية قديما وحاضرا ومستقبلا؛ لأنه سبحانه عالم بعباده، وما تصلح به أمورهم في كل زمان ومكان.
وهذا ما يحسن بمن يقارن بين الشريعة التي هي من عند الله، والقانون أو القوانين الكثيرة التي أحدثتها البشرية، منذ خلق الله آدم واستخلفه وذريته في الأرض، وما سوف تتفتق عنه عقول البشر المتذبذبة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولقد تحدث كثير من علماء الإسلام في مقارنة بين الثرى والثريا، بين الشريعة والقوانين، لنأخذ منه دليلا محسوسا، وليدرك منه من ينبذ أحكام الشريعة؛ لأنه لا يطمئن إلا بما يقرب المعقول بالمحسوس عنده، وذلك من باب مخاطبة عقول الناس بما تدركه وتعقله، كما قال على بن أبي طالب رضي الله عنه:" حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ ".
وإن من علم الله ما تدل عليه إجابة الرب الكريم للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2)، علمه سبحانه بأحوال عباده، ما شرع في كل أمة من الأمم من الخير الذي فيه مصلحتهم ونفعهم ليعملوه، ومن
(1) سورة البقرة الآية 30
(2)
سورة البقرة الآية 30
الشر ما يضر بهم ليجتنبوه، حيث أرسل بذلك رسله وعلمه أنبياءه مما تستقيم به حياتهم، وتنتظم معايشهم، ولا يتجاوز قدراتهم:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1)، وهذا من رأفته بعباده.
وكلما ابتعدت أمة من الأمم عن شرع الله، وتطبيق أحكامه التي أرسل بها رسلا إليهم معاندة وتكذيبا، جاءتهم النذائر المتنوعة لعلهم يرجعون إلى جادة الصواب:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (2)، ثم يهلك سبحانه المعاندين لشرع الله بعقاب عاجل، أو يؤجله الحليم الرحيم سبحانه إلى يوم الوقت المعلوم، وينجي الطائعين المستجيبين.
وهذه سنة الله في الأمم السابقة كما يوضحه التمعن في كتاب الله الخالد القرآن الكريم، الذي تعهد الله بحفظه، وصانه عن عبث العابثين، وتعديل الكذابين؛ ليبقى تشريعا لخير أمة أخرجت للناس، وهاديا إلى الطريق المستقيم، ولكن الله حليم لينظر بعد التبليغ والنذائر كيف يعمل المخلوق؟
وقد بين الله سبحانه في كتابه الكريم القرآن العظيم أن شرع الله واحد في جميع الأمم، ومع أنبيائهم، فيما يتعلق بإفراد الله
(1) سورة البقرة الآية 286
(2)
سورة فصلت الآية 53
بالعبادة، واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} (1)، ويقول سبحانه:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2).
قال أبو السعود في تفسيره عليها: بالإلحاد في صفاته، والافتراء عليه كقولهم:{وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} (3).
وقال ابن الجوزي في تفسيره عليها: عام في تحريم القول في الدين من غير يقين (4).
وإن من القول على الله بغير علم نقض الميثاق الذي أخذ الله على الناس العهد للبيان بما أوجب الله، وعدم الحكم بغير ما أنزل الله، وحكم الله سبحانه وشرعه الذي شرعه لعباده قد جاء في القرآن الكريم، الذي به ختمت الرسالات، مثلما جاء من قبل في
(1) سورة النحل الآية 36
(2)
سورة الأعراف الآية 33
(3)
سورة الأعراف الآية 28
(4)
تفسيره: زاد المسير في علم التفسير، 3/ 192.
التوراة: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} (1)، وفي الإنجيل:{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} (2).
بل إن الله سبحانه وتعالى قد بين فيما أنزل على عباده بأن من لم يحكم بما أنزل من تشريع بأمور ثلاثة الكفر والظلم والفسق: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (3)، {هُمُ الظَّالِمُونَ} (4)، {هُمُ الْفَاسِقُونَ} (5).
وشرع الله الذي أنزل على عباده على لسان أنبيائه، فيما بلغوهم به لم يتغير، وإنما حرفته البشرية: تبعا للأهواء، وكذبا على الله بغير علم، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} (6).
ولحكمة الله البالغة، وعلمه الأزلي: فقد استحفظ سبحانه أهل الكتاب عليه، وجعل رعايته وصيانته موكولة إليهم أمانة في أعناقهم، فما رعوها حق رعايتها:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} (7).
(1) سورة المائدة الآية 43
(2)
سورة المائدة الآية 47
(3)
سورة المائدة الآية 44
(4)
سورة المائدة الآية 45
(5)
سورة المائدة الآية 47
(6)
سورة الزمر الآية 32
(7)
سورة المائدة الآية 44
قال المفسرون: {وَالرَّبَّانِيُّونَ} (1) هم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس، وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم وفق شرع الله، {وَالْأَحْبَارُ} (2) هم العلماء الذين يوضحون للناس، ما أنزل الله من حكم (3).
لكن هؤلاء المستحفظين لما في كتبهم، مع تباطؤ الزمن عليهم اتبعوا أهواءهم، وغيروا أحكام الله، بما تصف الألسن، وتهوى النفوس، يقول عنهم سبحانه:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (4).
وقد ذكر القرطبي في تفسيره عند مروره بآية استحفاظهم على كتاب الله حكاية ذات عبرة ودلالة، فقال ما ملخصه: إن المأمون العباسي بعدما أسس دار الحكمة، كان يأتي عنده رجل من علماء اليهود وقرائهم حسن الحديث، بليغ العبارة، جيد الخط، مطلعا على علوم الأمم، وكان المأمون معجبا به وبرجاحة عقله، فدعاه للإسلام مرارا، لكنه يقابل ذلك بالرفض ويقول: هو على دين آبائه وأجداده، وهو أفضل من دينكم، ولما عجز المأمون من تغيير مفهومه، تركه انطلاقا من عقيدة الإسلام بعدم الإكراه، بعدما تبين الرشد من الغي:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (5).
ثم إن هذا الرجل
(1) سورة المائدة الآية 44
(2)
سورة المائدة الآية 44
(3)
يراجع تفسير هذه الآية وخاصة عند الطبري في تفسيره 10/ 341.
(4)
سورة آل عمران الآية 75
(5)
سورة الكافرون الآية 6
غاب فترة طويلة عن مجلس المأمون، فحضر بعد ذلك فسأله المأمون عن حاله فقال: لقد أسلمت، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
وأن دينكم الإسلام هو الحق.
فسأله المأمون: كيف تم ذلك؟ قال: لما خرجت من عندك أردت أن أمتحن هذه الأديان، فأخذت نسخة من التوراة، فعدلت فيها بما شئت: زيادة ونقصا، حسب هواي وكتبت نسختين واعتنيت بالخط، ثم ذهبت إلى أحد المعابد، والتقيت بالحاخام وأهديت له النسختين، ففرح بهما، وضمهما إلى نوادر النسخ في معبده، وأمر لي بمائة دينار.
ثم عمدت إلى نسخة من الإنجيل، ففعلت فيها مثلما عملت في التوراة، ثم ذهبت إلى الكنيسة، وقابلت أكبر قساوستها فقدمت النسختين له هدية، ولما نظر فيهما أعجب بهما، وضمهما إلى النسخ النادرة عنده، في درج خاص، وشكرني وأمر لي بمائة دينار.
ثم اتجهت إلى نسخة من القرآن، وعملت نسختين معتنيا بخطي فيهما، وزدت ونقصت، وغيرت مثلما عملت في التوراة والإنجيل، فذهبت إلى أحد الوراقين ليبيعهما، أو يهديهما لنفاستهما فلما نظر في واحدة منهما، بان له ما دس فيهما، فرماهما بشدة، وقال ليس هذا قرآنا، بل مكذوب على الله، فأدركت بهذا أن القرآن هو الحق، وأن دين الإسلام هو شرع الله الذي حفظه من العبث والتعديل؛ لذا أسلمت.
فقال له المأمون: لقد استحفظ الله أهل الكتاب على ما نزل على أنبيائهم فضيعوا الأمانة، أما القرآن فقد تولى الله حفظه، فلا يتطرق إليه الشك يقول سبحانه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1)، وشيء حفظه الله لا يمكن أن تمتد إليه الأيدي الخائنة.
ولذا فإن أي مخلوق لا يمكن أن يدعي أن شريعة أحد من الناس، مهما بلغ علمه وعقله فاضلة أو مماثلة لشريعة الله، أو تسير الحياة في أي مجتمع بمثل ما فرض الله في شرعه؛ لأن القصور من لوازم المخلوق، والكمال لله سبحانه ولشرعه الذي شرع.
وهذا ما يجب أن يدركه علماء وقادة الإسلام، ليطبقوا شرعه بفهم وإدراك، كما أن هذا نداء عظيم للمسلمين الذين يجب عليهم الحذر وعدم تقليد الأمم الأخرى في قوانينهم البشرية، والاعتزاز بشرع الله الذي لا يتبدل مع تغير أحوال الناس في كل زمن، ومجادلة الآخرين الذين لا يرتضون شرع الله في تسيير أمورهم الدنيوية بالتي هي أحسن حتى ينفذ لقلب من أراد الله هدايته عن قناعة ورضا بأن ما شرعه الله سبحانه هو الأكمل الثابت ولا يتبدل.
(1) سورة الحجر الآية 9
ذلك أن الإسلام يعني نظاما للحياة كلها متكاملا لا نقص فيه ولا قصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مهما تبدلت الأمم، أو تغيرت متطلبات حياة البشر على وجهها، ألم يقل سبحانه:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1)؟ وهذا في إرادة الله الأزلية، ويقول تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2).
فهو عز وجل عالم بأحوال عباده وما يطرأ على تعاملهم فيما بينهم ومع من يخالفهم في كل أمر وإلى أن تقوم الساعة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عما يكون بعد نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان بأنه يملأ الأرض عدلا، ويقيم شرع الله على هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يبقى على وجه الأرض دين غير دين الإسلام، الذي هو دين الله الحق، ويؤصل هذا ما جاء في قصة عمر لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده صحيفة من التوراة فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " «أفي شك يا ابن الخطاب مما جئت به؟ والله لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباع ما جئت به (3)» ، وأن من يضع العراقيل، ويسوف بالمعاذير، ليتعلل بعدم قدرة الشريعة الإسلامية على المسايرة وتنظيم أحوال المجتمعات وما طرأ عليها، فهو متعد وجائر.
(1) سورة الأنعام الآية 38
(2)
سورة النحل الآية 89
(3)
سيرة عمر بن الخطاب عند الذهبي: سير أعلام النبلاء.
ولئن كان القصور من بعض المسلمين في الفهم، والعجز عن التطبيق، فإن هذا لا يضير الشريعة ولا يعيبها، وإنما العيب في منهج التطبيق، والقصور جاء من حب التقليد، وضعف الشخصية:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (1).
فأهل الكتاب لو أنهم اهتموا بما أنزل الله عليهم في كتبهم، ولم يكذبوا على الله قي تحريفهم الكلم عن مواضعه، لكانوا من المطبقين لشرع الله، ولم يحتاجوا لقوانين من وضع البشر يكتنفها النقص ليغيروا فيها بين وقت وآخر، ولكان في وعي الربانيين منهم عن الحكم وعند الأحبار والعلماء ما يسير حياتهم، وتنتظم به أمورهم، وما يكفل العدل لمن ظلموا في بيئاتهم، وذلك في كل شأن من شئون الحياة، ولعم الرخاء واستتب الأمن عندهم، وينتهي الخوف والضجر، ألم يخبر عن ذلك جل وعلا بقوله الكريم:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (2){وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (3).
وكذلك المسلمون إذا تقيدوا بهذا الشرط: التقوى والإيمان،
(1) سورة هود الآية 113
(2)
سورة المائدة الآية 65
(3)
سورة المائدة الآية 66
وتحكيم شرع الله في أمورهم كلها، وفق ما جاء في كتاب الله القرآن الكريم، وما بلغهم رسوله المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وسلم، كما فهمه الرعيل الأول من هذه الأمة: الصحابة ومن بعدهم في القرون الثلاثة المفضلة، حيث رفع الله قدرهم، ومكنهم في الأرض، فأقاموا العدل الذي تيسرت به الأحوال، واستقامت به دولة الإسلام الواسعة الأرجاء.
بل وجدت كثير من أمم الأرض في دين الإسلام، الذي به تطبيق شريعة الله، ما تشرئب له الأعناق، وتطمئن الأفئدة، فتركوا أعراف الجاهلية وقوانينها، واتبعوا القواعد الأساسية التي جاءت في كتاب الله - من لدن رب كريم -، وسنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، ومكنوا ما خفي عليهم دليله، بنظرة الرعيل الأول، من فروع جدت مع اتساع دولة الإسلام، والاختلاط بشعوب الأرض بطرق تعين على تخطي العقبات: كالاجتهاد والقياس، واستصحاب الحال، والفهم اللغوي لقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حثه على الاهتمام باللغة العربية: فإنها وعاء الدين، بعد الأخذ بقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1)، وقوله سبحانه:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2).
فالإسلام ناسخ لغيره من الأديان الكتابية، وأقرهم على ما هم
(1) سورة التغابن الآية 16
(2)
سورة البقرة الآية 286
عليه: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (1)، وأتاح لهم الفرصة للمساهمة في بناء المجتمع، كما حصل من يهود ونصارى شاركوا في الحضارة الإسلامية في ديار الإسلام الواسعة.
لكنهم جميعا ملزمون بشرع الله؛ لأن تشريعه سبحانه لعباده لا يتبدل ولا يعتريه نقص {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (2).
وإن مما يعين في تأصيل موضوعنا: أن نقارن بين حالين: الشريعة التي يجب أن يتحمس لها المسلمون، حكاما قبل المحكومين، وبين القانون الذي تحمس له الغربيون وتبعهم فيه تأثرا أو تأثيرا بعض من درس في بلاد الغرب.
فقد استقامت بشرع الله أمور المسلمين وتبعتهم الأمم بقناعة ورضا، كما شهد بذلك مفكرون من الغرب والشرق، فهذه: انجريد أندكه الألمانية في كتابها شمس الإسلام تسطع على الغرب، وهذا بول ديورانت في كتابه: قصة الحضارة الذي ترجمه: محمد بدران، وغيرهما كثيرون.
وقد توسع ديورانت في الإشادة بدور القرآن الكريم في تيسير العدالة، وتمكين الحضارة في المجتمع حيث خصص لهذا مجلدا كاملا أبان فيه عن مكانة القرآن الكريم، وعظمة المسلمين في تنظيم أحوال
(1) سورة الكافرون الآية 6
(2)
سورة يونس الآية 64
البلاد الإسلامية، والتي استفاد منها الغرب قي عصر النهضة.
وقد تعرض للمقارنة بين شرع الله، والقوانين الوضعية: عبد القادر عودة في كتابه: التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون البشري الوضعي، حيث قال: وحين أقارن بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، لن أتتبع القانون في أطواره الأولى بالمقارنة والموازنة، ولن أقارن بين القانون في القرن السابع عشر الميلادي وبين الشريعة التي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم في أول هذا القرن، فإن القانون في هذه العهود لم يكن في مستوى يسمح له أن يقارن بالشريعة الإسلامية.
ولكن أقارن حين أقارن: بين القانون في عصرنا الحاضر، وبين الشريعة الإسلامية، وحين أفعل هذا إنما أقارن بين قانون متغير متطور يسير حثيثا نحو الكمال حتى يكاد يبلغه كما يقال، وبين شريعة نزلت منذ ثلاثة عشر قرنا لم تتغير ولم تتبدل فيما مضى، ولن تتغير أو تتبدل في المستقبل؛ لأنها من عند الله ولا تبديل لكلمات الله.
إذا المقارنة بين أحدث الآراء والنظريات البشرية في القانون، وبين أقدمها في الشريعة (1).
(1) التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة 1/ 5.
ثم قال: نحن نقارن بين الحديث القابل للتحديث والتبديل، وبين القديم المستعصي على التبديل والتغيير، وسنرى من هذه المقارنة ونلمس أن القديم الثابت خير من الحديث المتغير، وأن الشريعة على قدمها أجل من أن تقارن بالقوانين الوضعية الحديثة، وأن القوانين الوضعية بالرغم مما انطوت عليه من الآراء، واستحدث لها من المبادئ والنظريات التي لا تزال في مستوى أدنى من مستوى الشريعة، ثم يقول: وإذا استساغت عقول البشر أن تصنع ما يصنعه المخلوق في مستوى ما صنعه الخالق؛ لأنها تدرك الفرق بين الصناعتين، وتحس المدى الواسع بين الصانعين، فلا شك أن العقول التي تدرك هذا جديرة بأن تدرك الفرق بين الشريعة الإسلامية وهي من صنع الله، وبين القوانين الوضعية وهي من صنع البشر.
وفى هذه المقارنة غير المتكافئة يظهر الفارق جليا بين حكم الله في شريعته، وما يجب على كل مسلم الاهتمام والدفاع عنه والدعوة إليه، وبين القوانين الوضعية في كثير من موادها البعيدة عن الفطرة السليمة:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1)، وأهمية السعي الحثيث في الاستقلال بشرع الله عنها.
(1) سورة المائدة الآية 50
كما يبين في المقارنة بين حقوق الإنسان بمواده الثلاثين " 30 "، وما فيها من ثغرات؛ لأنها من وضع البشر الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة، ونشر في 10 ديسمبر في 1948 م، واستغرقت صياغتها عدة سنوات بين أخذ ورد، وبين الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان الذي تمت الموافقة عليه في مؤتمر وزراء الخارجية لدول منظمة المؤتمر الإسلامي: المؤتمر التاسع عشر المنعقد بالقاهرة عام 1410 هـ؛ لأنه مستمد من الشريعة الإسلامية التي جاءت عن الله سبحانه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمواده الخمسة وعشرين " 25 "(1).
وما ذلك إلا أن حكمة شرائع الله - كما قال صاحب الظلال - لا تنكشف كلها للناس في جيل من الأجيال، والبعض الذي ينكشف يصعب التوسع في عرضه، ومن بعض اللمسات فإن شريعة الله تمثل منهجا شاملا متكاملا للحياة البشرية، يتناول التنظيم والتوجيه والتطور لكل جوانب الإنسانية في جميع حالاتها، وفي كل صورها وأشكالها.
وهذا منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني، والحاجات الإنسانية، وحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان، ومن
(1) يراجع نص النظامين بكتاب حقوق الإنسان في القرآن والسنة، للدكتور محمد الصالح ص 396 - 412.
ثم لا يفرط في شيء من أمور هذه الحياة، ولا يقع فيه، ولا ينشأ عنه تصادم مدمر بين أنواع النشاط الإنساني ولا النواميس الكونية، وإنما يقع التوازن والاعتدال والتوافق والتناسق.
الأمر الذي لا يتوافر أبدا لمنهج من صنع الإنسان الذي لا يعلم إلا ظاهرا من الأمر، والمكشوف في فترة زمنية معينة (1).
ومن هنا يدرك الإنسان الاختلافات والتعديلات والتفسير المتجدد في مواد القوانين الوضعية، إلى جانب الاعتراضات والاستدراكات؛ لأنها آراء بشرية، أما الشريعة فمع وفائها فإنها لا تتغير ولم تتبدل:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (2).
وصدق الله العظيم في قوله العزيز: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (3).
ذلك أن حكم الإسلام في شريعة الله لعباده من أوامر تطاع، وزواجر تجتنب، هو طريق الاستقلال، ولا يعجبن أحد أن يكون حكم الإسلام متفقا مع حكم العقل وطبائع الأشياء، فإن الإسلام هو بنص القرآن:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (4)، وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)" في ظلال القرآن " لسيد قطب ج 6 الطبعة 4، لبنان، ص 146.
(2)
سورة الروم الآية 30
(3)
سورة النساء الآية 82
(4)
سورة الروم الآية 30
«كل مولود يولد على الفطرة (1)» .
وإذا أردنا أن نعرف شيئا عن القوانين الغربية، وما يجري عليها من تغييرات حسب طبائع البشر في أحوالهم كلها، وعدم الاستقرار على حال ثابتة، فإن القانون الفرنسي الذي يعتبر أبا القوانين الوضعية كلها، ومن أصوله تستمد تنظيماتها، نرى عبد القادر عودة يقول عنه: وبعد الثورة الفرنسية أخذ المتشرعون الأوربيون في تجريد القوانين الوضعية من كل ما له مساس بالدين والعقائد، والأخلاق والفضائل الإنسانية، حتى تم لهم ذلك إلى حد كبير، وأصبحت هذه القوانين قائمة على تنظيم علاقات الأفراد المادية، وعلى ما يمس الأمن ونظام الحكم أو النظام الاجتماعي، بذلك انعدم العنصر الروحي في القانون، فانعدم سلطانه على الأفراد والشعوب.
وقد أدى إهمال الدين والعقائد وإبعاد الأخلاق والفضائل عن دائرة القانون إلى نتائجه الحتمية، ففسدت الأخلاق، وشاعت الفوضى، ونبتت في الجماهير روح التمرد والاستهانة بالقانون، وكثرت الثورات، وتعددت الانقلابات، وتغيرت النظم طبقا للأهواء، وانتفى الاطمئنان والاستقرار من حياة الشعوب.
(1) الإسلام وأوضاعنا لعبد القادر عودة ص 80، وانظر: كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للعجلوني 2/ 125، والمراد قوله:" كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " رواه البخاري عن أبي هريرة.
ثم قال: ولقد أوقع المتشرعين في هذا الخطأ الفاحش أنهم أرادوا أن يحققوا مبدأ المساواة بين الأفراد، وأن يطبقوا مبدأ حرية الاعتقاد، فلم يروا وسيلة لتطبيق هذين المبدأين معا إلا أن يجردوا القانون من كل ما يمس العقائد والأخلاق، فأدى بهم هذا التطبيق السيئ إلى تلك النتائج المحزنة، ولو أنهم أخذوا بطريقة الشريعة الإسلامية لضمنوا تحقيق ما شاءوا من مبادئ، ولمنعوا من وقوع تلك المساوئ (1).
(1) الإسلام وأوضاعنا القانونية ص 45، 46.
المعوقات:
ومع هذا العرض وما وضح في شرع الله سبحانه من أهمية ذات عمق لتطبيق شرع الله في عباده، ومسئولية ذلك على كل فرد من المسلمين، مهما كان موقعه، حتى لا يتشبهوا بأهل الكتاب الذين عاندوا وكذبوا، واستبدلوا شريعة الله بأهواء البشر، وشريعة رب السماء والأرض الذي أحاط علمه بكل شيء بقوانين وضعية من ابتكارات البشر، في علمهم القاصر، بدليل ما يكتنف أعمالهم من نقص، وما تستدعيه الحاجة لتعديل فقرات من قوانينهم بين حين وحين.
فإن التعامل الاقتصادي، والاتصال الاجتماعي والاحتكاك في الشئون المختلفة، وتقدم دول الغرب، وتطورهم علميا وحضاريا،
وشعور بعض الدول الإسلامية بالتخلف عنهم في الظواهر الدنيوية، كما قال سبحانه في مثل حالهم:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (1).
دعا هذا الأمر بعضا من الدول الإسلامية إلى تقليدهم ومحاكاة من يتصدر للقدرة والأسبقية لوضع أنظمة وقوانين تسير حياتهم، وقصرت ببعضهم الهمم وإن لم يتراخوا في الحماسة حول تطبيق الشريعة الإسلامية؛ لأن الحماسة وحدها إذا لم تحمها الشجاعة والاعتداد بالشريعة، كمصدر يسير أمورهم، وينظم حياة الشعوب؛ لأنها جاءت من الله العالم سبحانه بما يصلح المجتمعات، ويقضي على النزعات المختلفة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فإنها لا بد أن تقف دونها العراقيل عن تحقيق الهدف، الذي وضحه للأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونجمل المعوقات في النقاط التالية، دون التوسع فيها، وإيفائها ما تستحق من الإبانة والتوضيح، ومقارنة الآثار بين كثير من مواد القانون والشريعة: في الزواجر والأوامر، وتأثر الحكم بين الحالين إيجابا وسلبا، في الأمن والحقوق، والمصالح والمفاسد، وغير ذلك؛ لأن هذا مما يطول البحث فيه، ويحوله إلى كتاب، فنقول بإيجاز:
(1) سورة الروم الآية 7
- هناك العديد من المعوقات التي قد تكون حائلا عن تطبيق الأحكام الشرعية في القضاء، سواء ما كان مدنيا أو جنائيا، وبغض النظر عن صحة بعض هذه المعوقات إلا أنه يمكن لم أغلبها في النقاط التالية:
1 -
هناك معوقات دولية: فإن مما يمنع من تطبيق أحكام الشريعة ويحول بينها أسباب تتعلق بالمجتمع الدولي، باعتباره الأقوى في التنديد والتحمس ضد الشريعة، وفرض قوانينه في المحافل والمعاهدات وغيرهما.
2 -
المواثيق والاتفاقات الدولية: حيث يوجد العديد من الاتفاقيات الدولية التي تصطبغ بالصبغة العامة، والتي يوجد فيها العديد من البنود في الجانب المدني، والتي تتعارض مع بعض الأحكام الشرعية الداخلية كإباحة البيوع المحرمة والربا وما يتعلق بالمرأة ونحو ذلك، وعدم تجريم هذه الأمور حتى لا يتوسع ضررها صحيا أو اجتماعيا، مع حمايتهم لهذه الأمور بمظلة الحرية الشخصية.
3 -
وهناك أمور في جانب الإنسان: حيث تتداعى جمعيات ومنظمات حقوق الإنسان الدولية لأجل المنع من تطبيق بعض الحدود الشرعية، بدعوى مناهضتها لحقوق الإنسان أو حقوق الحيوان، كعقوبة القصاص بالجنايات والجلد والرجم، وقطع يد السارق، والقتل أحيانا، مما يسبب حرجا على الدول الإسلامية التي
تريد تطبيق الشريعة في هذا الجانب؛ لأنها جاءت في مصدر التشريع عند المسلمين عن الله سبحانه بأمر جازم، وهم يريدون رحمة المجرم، ومعالجة سلوكه بالرأفة في نظرهم أو رأيهم.
4 -
وهناك معوقات تنظيمية: حيث لم يزل العديد من الأحكام الشرعية، وخصوصا في الجانب التعزيري، دون الهدف المرجو من حيث التدوين والتجارب العصرية في التقاضي.
5 -
وهناك أيضا معوقات اجتماعية " داخلية ": فإن الناس أعداء ما لم يألفوا، وقد حرص الاستعمار العسكري ثم الفكري على تثبيت قوانينه الوضعية في جميع الدول التي ارتبط بها وارتبطت به، ولم يكن لديهم الجرأة أو القدرة باستبدالها أو مسحها بمسحات شرعية إسلامية.
6 -
إضافة إلى ذلك: فإن هناك أعدادا كبيرة في المجتمعات الإسلامية يأكلون لقمة عيشهم من طريق أو بآخر بسبب هذه القوانين الوضعية، فالأعداد الغفيرة من خريجي كليات القانون والحقوق يمثلون ورقة ضغط داخلي ضد الشريعة.
لكن يمكن التغلب على هذا المعوق بالتربية والتوجيه، وتحسين البدائل وتيسيرها، مثلما هيئت الأسباب القانونية ليكون البديل الأسباب الشرعية.
7 -
وهناك معوقات بشرية ومالية حيث يحتاج إعادة وتغيير
القوانين فيما يتعلق بتطبيق الشريعة إلى جهود وأموال ضخمة، إضافة إلى أنه جهد تراكمي يحتاج إلى سنوات متعددة.
8 -
ولا ننسى المعوق الإعلامي حيث إن دور الإعلام في الأمور كلها إيجابيا أو سلبيا دور مهم يجب أخذه بالحسبان، فمع الإعلام من قبل من يريد تطبيق الشريعة ويتحمس لها هناك إعلام معاكس من قبل القانونيين وغيرهم سوف يتصدى للفكرة، مثلما تصدى من قبل لفكرة البنوك الإسلامية، والتي بدأت تثبت وجودها بالصمود، وإبراز النتائج الموثقة بالأرقام، مما دفع بالفكرة إلى أن يرتفع ميزانها في البنوك عندهم رغبة في كسب المغانم البارزة.
9 -
القضاء على المعوقات تدريجيا بالحوار والمؤتمرات والتعميم، وتوضيح الجوانب الإيجابية ودورها على الحياة، والاستشهاد بآراء ونظرات المختصين في كل مجال بما قاله المنصفون الدارسون من الغربيين للشريعة الإسلامية بتجرد من باب رد الشبهات بأقلام وآراء معروفة في بيئاتهم، وبسمعتهم الدولية عندهم شهرة وتأليفا.
الدور الإيجابي:
أخبر صلى الله عليه وسلم عن تداعي الأمم على أمته آخر الزمان، ولما قالوا: يا رسول الله: أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل (1)» ، ثم أخبر صلى الله عليه
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند باقي مسند الأنصار، ومن حديث ثوبان رضي الله عنه رقم 21891، وأبو داود في كتاب الملاحم، باب تداعي الأمم على الإسلام برقم 4297.
وسلم أن السبب " هو الوهن " ونزع المهابة من القلوب.
وإن من اعتداد المسلمين بشريعتهم عبادة وتطبيقا:
أولا: معرفة المشكلات عندهم ومعالجتها بما ظهر في شريعة الله، ثم إبراز ذلك الأثر بما هو محسوس لتأثير ذلك في نفوس المخاطبين مقرونا بالمصالح، نموذج ذلك ما أوردته في كتابي: تطبيق الشريعة طريق الأمن والعزة، بهذا الخصوص:
1 -
وقبل أن أدخل في موضوع الحدود الشرعية، ونماذج لما في سجون أمريكا، ففي رمضان عام 1401 هـ أدركتني الأيام الأولى منه في مدينة " مونتجمري " بولاية (الباما) بالولايات المتحدة الأمريكية، وكان عدد المسلمين بها لا يزيد عن 35 نسمة من الرجال والنساء والأطفال، يضاف لهذا العدد الطلاب المسلمون الذين وفدوا للدراسة من أنحاء العالم الإسلامي.
وفي أول يوم أقمنا في المسجد الوحيد المستأجر صلاة التراويح وصلاة العشاء، ثم كان لنا حديث مع كل واحد من مسلمي هذه المدينة؛ ليخبرنا عن وقت إسلامه وسببه، فقد كان أغلبهم من الذين أسلموا في السجن؛ لأنهم أصحاب سوابق متعددة، ولكنهم صلحت أحوالهم، واستقامت أمورهم بالإسلام، وكان إمام المسجد الشيخ " حبيب الرحمن " مشرفا اجتماعيا وداعية إسلاميا.
وكان السجن العمومي في هذه المدينة وفي المدن المجاورة يدعوه دائما للزيارة وإلقاء المحاضرات، وقد أسلم على يديه عدد كبير، ودعانا الشيخ لزيارة السجن ويكون يوم غد، وأن نأخذ معنا إفطارنا لنتناوله مع المسلمين الذين لم يخرجوا من السجن، وكان إسلامهم في داخل السجن؛ لنواسيهم وإشعارهم برابطة الإسلام.
وعند وصولنا بوابة السجن سبقنا الشيخ " حبيب الرحمن "؛ لأنه يحمل بطاقة من حاكم الولاية بدخول السجن في أي وقت، وليطلب من إدارة السجن أن تحضر له السجناء في مكان معين، فكانت كنيسة السجن لعدم وجود مسجد فيه؛ ليلقي فيهم الموعظة، ويجيب على الأسئلة.
دخلنا بطعامنا السجن ثم الكنيسة التي سرنا ما رأينا، فجدرانها التي غشيت داخلية وخارجية بآيات قرآنية وأدعية إسلامية، ولوحات ترحب بشهر رمضان، مما جعلنا نعتقد في البداية أن المكان مخصص للمسلمين، وأنه مسجد قد بني لهم، فقد فرح بنا مسلمو السجن، وبعد الإفطار وصلاة المغرب بدأ الحديث والإجابة على الأسئلة.
ولقد حضر مدير السجن ومعه معاونوه، ونقل لنا تحيات وتقدير حاكم الولاية، وأخبرنا بما يلي:
- أن التقارير الأمنية عندنا أجمعت على أنه لا ينقذ " أمريكا " من الجرائم التي تزداد يوما بعد يوم إلا الإسلام، ولهذا
فإننا وبتوجيه من حاكم الولاية نشجع الدعاة للإسلام في داخل السجون؛ لأثرهم الواضح في إصلاح المجرمين.
- أن من أسلموا في السجن حسنت حالهم، وانتظم سلوكهم.
- أن من أسلم تخفف عنه مدة العقوبة لحسن أخلاقه وتأدبه وهدوئه.
- أن من أسلم لا يرجع إلى السجن أبدا، فقد أصلحه الإسلام ومنعه من العودة إلى ارتكاب الجريمة.
- أن عرض تعاليم الإسلام من الدعاة أسلوبه ساحر، ومؤثر في قلوب المجرمين القساة، فتلين ويستجيبون للإسلام.
- أنني ألاحظ على كل من أسلم الهدوء وحب النظافة، وحسن المظهر والوقار، وحسن الخلق واحترام الأنظمة.
- بينما من يتعهدهم القساوسة لا تتغير طباعهم، وقد يهدءون فترة في السجن حتى يخفف عنهم الحكم، ولكنهم بعد خروجهم لا يلبثون إلا أياما قليلة حتى يعودوا للسجن في جرائم أخرى.
إذا كانت هذه نظرتهم بالتجربة عن دور الشريعة في القضاء على الجريمة في بلد اتسعت فيه الجريمة وتعددت مشاربها، فما دور
المسلمين والحل بين أيديهم، ومبسوط في كتاب ربهم، وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، وسار في تطبيق هذا الرعيل الأول من هذه الأمة، فاتسعت دولة الإسلام، وانجذب العالم لعدالتهم، وحرصهم على رفع المظالم؟
2 -
لقد كان مما حرص عليه المهتمون بتطبيق الشريعة، والمتحمسون لشرع الله من المسلمين، إقامة مؤتمرات حول تهيئة الأجواء التربوية لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، حيث أقيم مؤتمر في دولة الكويت في شهر ذي القعدة 1413 هـ / 1993 م، تحت مسمى: مؤتمر تهيئة الأجواء التربوية لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، بمحاوره الثلاثة:
أ - التربية في صدر الإسلام.
ب - واقع التربية في المجتمع الكويتي.
ج - أساليب تهيئة الأجواء التربوية لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية.
وخرج المؤتمر بتوصيات جيدة بلغت ثلاثة مجلدات، تنظر التطبيق العملي.
3 -
وساهمت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في
مؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقدته الجامعة بالرياض عام 1396 هـ / بعنوان: وجوب تطبيق الشريعة والشبهات التي تثار حول تطبيقها، وقد نشرها بحوثا وتوصيات المجلس العلمي بجامعة الإمام عام 1404 هـ / 1984 م، برقم 19، وخرجت في 384 صفحة، وهي جيدة العرض، والتوصيات من كبار العلماء المسلمين، وجاهزة للتنفيذ العملي، إلا أنها لم تتعد مكانها الذي أودعت فيه في المكتبات الخاصة، بل أكثر المقتنين لم يكلفوا أنفسهم عناء القراءة، فضلا عن الدعوة للتنفيذ؛ لأن القاعدة كما يقال: بأن ما يهدى لا يقرأ (1).
4 -
كما ألف في الموضوع كتب كثيرة، بذل مؤلفوها - أثابهم الله - جهودا وردودا على من يثير الشبهات بقصور الشريعة الإسلامية في مزاحمة القوانين الوضعية، والتأقلم مع القضايا المختلفة ماليا واقتصاديا وإداريا، وتغلبا على الجريمة، ومسايرة لحقوق الإنسان وحقوق المرأة، وتعدد الزوجات، والمضاربة في البورصة والتأمين، وغيرها من أمور كثيرة تعرض لها المؤلفون، وأبانوا معالجة الشريعة لكل أمر بما يريح النفوس ويؤمن المجتمعات، نذكر منها على سبيل المثال فقط دون الاستقصاء للاستئناس وبتعريف موجز:
أ - كتاب النظم الإسلامية والمذاهب المعاصرة: " دراسة مقارنة " تأليف الدكتور: حسن عبد الحميد عويضة، الذي نشرته في
(1) لراغب الفائدة يراجع هذا المؤتمر وما فيه من بحوث جيدة وتوصيات.
طبعته الثانية دار الرشيد بالرياض، عام 1451 هـ / 1981 م، وجاء في 234 صفحة من القطع الكبير.
ب - المبادئ الشرعية في أحكام العقوبات في الفقه الإسلامي، بحث فقهي مقارن للدكتور: عبد السلام محمد الشريف، ونشرته دار الغرب الإسلامي ببيروت: لبنان عام 1406 هـ / 1986 م، ويقع في 507 صفحة من القطع الكبير.
ج - كتاب الاستفتاء الشعبي بين الأنظمة الوضعية والشريعة الإسلامية للدكتور: ماجد راغب الحلو، أستاذ القانون العام المساعد بكلية الحقوق، بجامعتي الإسكندرية والكويت، نشرته مكتبة دار المنار الإسلامية في الكويت، في طبعته الأولى عام 1400 هـ / 1980 م، ويقع في 478 صفحة من القطع الكبير.
د - كتاب عن: ندوة العرف العشائري بين الشريعة والقانون، المقامة في المركز الثقافي الإسلامي بالجامعة الأردنية ما بين 19 - 21 ربيع الثاني عام 1410 هـ ص 18 - 20 / تشرين الثاني 1989 م، وحرره ثلاثة من الباحثين، وطبع في 525 صفحة من القطع الكبير في عمان عام 1990 م مع التوصيات.
هـ - كتاب الإجراءات الجنائية في جرائم الحدود في المملكة العربية السعودية، وأثرها في استتباب الأمن للدكتور: سعد بن محمد بن ظفير، ويقع في جزءين، وقد طبع في عام 1415 هـ / 1994 م،
وهو دراسة فقهية للنظام السعودي الجنائي.
وومن المؤلفين القدامى يأتي الإمام بدر الدين بن جماعة المتوفى عام 733 هـ في كتابه تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، الذي حققه ودرسه وعلق عليه الدكتور: فؤاد عبد المنعم أحمد، وقدم له فضيلة رئيس محاكم قطر الشرعية الشيخ: عبد الله بن زيد بن محمود، وطبعه فضيلته رحمه الله، والحقوق محفوظة له، ويقع في 358 صفحة؛ ليسهم المؤلف في إزالة الشبهات حول استيعاب شرع الله في تنظيم حياة البشر، وعدم قصوره عن حل كل جديد يمر بالإنسان، وينظم أحوال البشر الدينية والدنيوية.
وهذه نماذج فقط، وإلا فالكتب كثيرة والحلول مطروحة، والحماسة من الباحثين متوفرة، وما ينقص إلا الهمة في التنفيذ، ولو على خطوات، وفي مراحل زمنية.
ز - ثم كانت المصارف الإسلامية، وما اكتنف عملها من تحديات وانتقادات، لكن القائمين على الفكرة وبصمودهم حققوا نجاحات لا يستهان بها، حتى أن كثيرا من البنوك التقليدية أقدمت على فتح نوافذ وفروع إسلامية لما ظهر أمام القائمين عليها من نجاح مدعم بالأرقام تعامليا وربحيا، وكل شهر تبرز الدور الذي تحقق في الودائع بالمصارف الإسلامية حيث وصل 45 مليار دولار، وحجم التمويل 60 مليار دولار، وبلغت البنوك المتجهة لهذا العمل
(300)
بنك في أنحاء العالم.
وتحقق نموا سنويا يزيد عن 10%.
هـ - ولقد سبق هذا محاولتان عمليتان، وسبب ذلك شبيه بسبب اليوم، وهو احتكاك البلاد الإسلامية بالأمم الغربية، وصحب ذلك نشاط تجاري، وتعامل دولي، ومشاركة اقتصادية.
المحاولة الأولى: تعود إلى 26 شعبان عام 1293 هـ عندما أصدرت الخلافة العثمانية كتابا مشتملا على المعاملات الفقهية ومسائل الدعاوى وأحكام القضاء معنونا بـ " مجلة الأحكام العدلية " على الفقه الحنفي - المذهب الحنفي -، وجاءت هذه المجلة في مائة قاعدة.
المحاولة الثانية: كانت في المملكة العربية السعودية عندما قام الشيخ القاضي أحمد بن عبد الله القارئ رئيس المحكمة الشرعية الكبرى بمكة بتأليف مجلة فقهية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، فقد نشرت جريدة أم القرى خبرا في العدد 141 في 28 صفر عام 1346 هـ، خلاصته أن الملك عبد العزيز - حفظه الله - يفكر في وضع مجلة للأحكام الشرعية، يعهد إلى لجنة من خيار الفقهاء المسلمين الاختصاصين استنباطها من كتب المذاهب الأربعة المعتبرة.
وهذه المجلة ستكون مشابهة لمجلة الأحكام التي وضعتها الدولة
العثمانية عام 1293 هـ، ولكنها تختلف عنها بأمور، أهمها عدم التقيد حين الاستنباط بمذهب دون آخر، بل تأخذ ما تراه في صالح المسلمين من أقوى المذاهب حجة ودليلا من الكتاب والسنة.
وقد رتبها الشيخ القاري على أبواب الفقه عند الحنابلة، ووضعها على هيئة مواد بلغت " 2382 " مادة، وقد قام بالتحقيق والدراسة الدكتوران: عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، ومحمد إبراهيم أحمد علي، وخرجت الطبعة الأولى عام 1401 هـ / 1981 م، في (679) صفحة عن دار النشر تهامة بجدة.
- هذا مع محاولات أخرى في مصر والشام وغيرهما، لكن لم يقدر لتلك الأعمال مثل غيرها من المؤلفات التي حاول المهتمون بها أن يكون لها دور في تلبية الحاجة.
وقد جاء في مقدمة مجلة الأحكام الشرعية للمحققين وجهة نظر حول الموضوع، هو قولهما في ص 28: بناء على ذلك لم يزل الأمل معلقا، بتأليف كتاب في المعاملات الفقهية، يكون مضبوطا سهل المأخذ عاريا من الاختلاف حاويا للأقوال المختارة سهل المطالعة على كل أحد؛ لأنه إذا وجد كتاب على هذا الشكل حصل منه فائدة عظيمة عامة لكل نواب الشرع، ومن أعضاء المحاكم النظامية والمأمورين بالإدارة إلى آخر ما ذكر (1).
(1) مجلة الأحكام الشرعية ص 28 الطبعة الأولى.
وأزيد على وجهة النظر هذه عن أهمية تتابع الدراسات والمؤتمرات على مستوى القيادات التنفيذية إداريا وشرعيا ومشاركة قانونيين من بلاد الغرب، لتتقارب الآراء بالمناقشة والمحاررة الهادفة.
وقد ضرب الملك عبد العزيز رحمه الله مثلا يجب أن يحتذي عندما تأسست هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية وقدمت الأمم المشاركة قوانينها ودساتيرها وقدم هو نسخة من القرآن موضحا أن هذا هو دستورنا الذي تسير الدولة بموجبه.
ولذلك وضعت الأنظمة الكثيرة على منهج الشريعة الإسلامية، ويطبق مقتضاها لتسير أحوال الناس في المرور وشؤون الموظفين والمحاسبة والمستودعات وأنظمة القضاء وغيرها.
والأصل في هذا حديث تأبير النخل الذي جاء فيه: «إن كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإن كان شيئا من أمر دينكم فإلي (1)» .
- وأختم هذا الموضوع الذي يحتاج حيزا أكبر ومقارنات أشمل بواقعة حصلت منذ أربعين عاما يكفي سردها باختصار عن
(1) يراجع حديث تأبير النخل عند ابن ماجه في سننه 2/ 68 برقم 2496.
التعليق.
فقد كان أحد التجار بالمملكة قد أخذ وكالة إحدى شركات الساعات اليابانية، وقد بعثوا له إرسالية كبيرة، بواسطة واحدة من شركات الطيران التي حولتها من شركة إلى شركة وآخر المطاف مطار الظهران الدولي، وقيمة هذه الإرسالية كبيرة جدا.
فالشركة تعقب برقيا وخطابيا وتلكس، يريدون الإفادة بالوصول وتحويل المتبقي من الثمن، والتاجر ينفي الوصول، ولم يعلم شيئا عن هذه الإرسالية مما دفع الشركة لبعث مندوب قائلا بعد المتابعة: إن الشحنة وصلت مطار الظهران، والمطار يثبت عدم وصول شيء.
فجاء محامي الشركة إلى الرياض حيث أقيمت الدعوى في بلد المدعى عليه، وبالجلسات المتعددة كاد الحكم يصدر لصالح شركة الساعات ويتحمل المسئولية التاجر؛ لأنه لم يؤمن.
ثم هددته الشركة إذا لم يؤمن بأن تسحب الوكالة منه، لكنه قدم اعتراضه بواسطة من يدافع عنه برفضه التأمين لأنه لم يجز شرعا، وأرفق فتوى من إحدى الجهات الشرعية، فما كان من محامي الشركة إلا أن طلب تأجيل الجلسة ليتفاهم مع شركته ثم عاد في الوقت المحدد ومعه مدير الشركة التنفيذي ليحضر الجلسة ومناقشة هذا الوكيل، وطلب من محامي الشركة أمام القاضي مناقشة فكرة
التأمين، ولماذا يرفضه بإصرار هذا الوكيل؟ وكان جوابه: إن أهم ما علي في التعامل تعاليم شرع الله، ولا يمكن أن أتعامل بكل أمر ممنوع في الإسلام كالربا والتأمين الذي فيه الغرر والكذب والتحايل، وطلب مدير الشركة من القاضي رأيه فيما قال المدعي، فأيده.
وفي الجلسة التالية: قدم مدير الشركة لهذا المندوب خطاب شكر وأخبره في مجلس القضاء بأن شركته تقدر له تمسكه بتعاليم دينه، وأن الشركة تتحمل قيمة هذه الإرسالية التي لم تصله، وتتحمل عنه مستقبلا التأمين على الإرساليات، وتبقيه وكيلا تعتز به الشركة لحرصه على دينه، وتمسكه بما شرع له فيه.
وينطبق على هذه وأمثالها قول الشاعر:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
…
ولو عظموه في النفوس لعظما
والله ولي التوفيق.