الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: نماذج من التطبيقات العملية من قبل الأئمة المجددين من السلف
المطلب الأول: الأئمة الأربعة
تفاوت النقل عن الأئمة الأربعة في مجال تصديهم لمظاهر الانحراف الفكري، تبعا لدرجة الانحراف الذي عايشه كل إمام، ونوعه واستمراره أو عدم استمراره، ولذا نجد الآثار المنقولة عنهم في هذا المجال متفاوتة. ولهذا سيكون الحديث في هذا المبحث عن الإمامين مالك والشافعي.
ولتكن البداية بإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله: فقد اشتهر عن هذا الإمام حزمه وإنكاره الشديد لأي انحراف في العقيدة، حتى لو ظهر بمظهر السؤال البريء، وربما كان سبب ذلك معرفة الإمام بأن إثارة مثل هذه الأسئلة ينبئ عن انحراف عقدي، أو أن السؤال إنما قصد به التشكيك.
فقد تحدث يحيى بن خلف بن الربيع الطرسوسي قال: كنت عند مالك بن أنس ودخل عليه رجل فقال: يا أبا عبد الله: ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق؟ فقال مالك: زنديق اقتلوه! فقال: يا أبا عبد الله إنما أحكي كلاما سمعته، فقال: لم أسمعه من أحد إنما سمعته منك، وعظم هذا القول، وفي موقف آخر حكاه جعفر بن عبد الله قال: كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1)
(1) سورة طه الآية 5
كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء يعني العرق، ثم رفع رأسه ورمى بالعود، وقال: الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة وأمر به فأخرج (1).
وكان كثير التأكيد على المسائل الفكرية التي يظهر انحراف عن الاعتقاد الصحيح فيها، فحين كثر خوض الرافضة في حق الصحابة رضي الله عنهم قال مالك: من تنقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين ثم تلا قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (2)، حتى أتى قوله:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} (3)، فمن تنقصهم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له في الفيء حق (4).
وفي موقف آخر ذكر عنده رجل ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك هذه الآية:
(1) أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء 6/ 325.
(2)
سورة الحشر الآية 7
(3)
سورة الحشر الآية 10
(4)
المصدر نفسه 6/ 326.
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} (1) وقال: من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته الآية (2).
(1) سورة الفتح الآية 29
(2)
المصدر نفسه 6/ 326.
الإمام الشافعي وجهوده في حماية المجتمع من الانحراف الفكري:
فقد كان موقف الشافعي رحمه الله كغيره من أئمة السنة قويا تجاه مظاهر الانحراف الفكري مهما كانت درجتها، مع التعامل مع كل حالة بما يناسبها، فكان رحمه الله شديدا على أهل الكلام لما يرى من أثرهم السيئ على الأمة في اعتقادها، قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: المراء في الدين يقسي القلب ويورث الضغائن.
وقال صالح جزرة: سمعت الربيع يقول: قال الشافعي: يا ربيع، اقبل مني ثلاثة: لا تخوضن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خصمك النبي صلى الله عليه وسلم غدا، ولا تشتغل بالكلام فإني قد اطلعت من أهل الكلام على التعطيل، وزاد المزني: ولا تشتغل بالنجوم.
وعن الشافعي: حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ.
وقال الزعفراني وغيره: سمعنا الشافعي يقول: حكمي في أهلي الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر ينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام. وقال أبو عبد الرحمن الأشعري صاحب الشافعي: قال الشافعي: مذهبي في أهل الكلام تقنيع رؤوسهم بالسياط وتشريدهم في البلاد (1).
(1) سير أعلام النبلاء 10/ 29.
شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في حماية المجتمع المسلم من الانحراف الفكري:
وبعد أن استعرضت جانبا من جهود الأئمة الأربعة في مواجهة الانحراف الفكري وحماية المجتمع منه، أتحدث عن علم آخر في فترة بعيدة عن عصر أولئك الأئمة فترة تتسم بظهور مكثف للعديد من مظاهر الانحراف الفكري وهو القرن الثامن الهجري، وعن علم بارز في هذا المجال هو شيخ الإسلام: أحمد بن عبد السلام بن تيمية، الذي ظهرت جهوده بارزة في مواجهة الانحراف الفكري نظرا لسعة مجال هذا الانحراف وتعدد صوره، وبعد الفترة الزمنية بين عصره وعصر النبوة، مما أدى إلى فشو كثير من مظاهر الانحراف، لهذا كانت جهود شيخ الإسلام في مكافحة مظاهر الانحراف واسعة متعددة بتعدد تلك المظاهر.
انحراف القبوريين، انحراف الفلاسفة، انحراف أهل الحلول والاتحاد، انحراف الصوفية، انحراف أهل الكلام.
فقد كشف رحمه الله جوانب الانحراف لدى الفلاسفة المنتسبين للإسلام، وبين أخطاءهم وحذر من معتقداتهم المخالفة.
وكان له كتب ورسائل في هذا المقام منها: درء تعارض العقل والنقل، ومنها: الرسالة التدمرية، وتجربة شيخ الإسلام في مواجهة الانحراف الفكري جديرة بالتدبر والاعتبار فهي تقارب هذا الزمن من جهة السماح لكل مبتدع ومبطل بالحديث عن العقيدة والطعن بما يريد، ومن العبر التي يمكن استخلاصها:
1 -
أنه مهما كان بذل العالم المصلح في مجال وقاية المجتمع من الانحرافات الفكرية فإن قرب المبطلين وأصحاب الأهواء من الولاة والسلاطين يجعل أثر العالم ضعيفا غير مؤثر في أهل عصره على نحو يوازي الجهد المبذول، فإن شيخ الإسلام بالرغم من قوة حجته وتمكنه من نقد كثير من الفرق المنحرفة والآراء الشاذة فإن أثاره العلمية الغزيرة لم يكتب لها التأثير العام في وقته على النحو الذي حدث في عصور تالية حين تبنت هذه الآثار جهات لها سلطة في مكانها، وكان فقهه ونتاجه الفكري محل التهمة والتضييق في وقته إلى أن توطدت أواصر العلاقة بينه وبين السلطان الناصر، مما كان له أثره في تبني السلطان لبعض أراء الشيخ ومقترحاته بشأن مواجهة
بعض الفرق المنحرفة ومنعها مما كانت تعاطاه من أعمال الخرافة والشعوذة، وغير ذلك.
وهذا يؤكد أهمية الصلة بالولاة والأمراء والتواصي معهم بالحق ما أمكن ذلك.
وقد قل تداول رسائل الشيخ وكتبه وآرائه فترة طويلة بعد موته. وقلت الإفادة منها، وبقيت الأفكار والمذاهب التي كان الشيخ يكافحها مستمرة مؤثرة في المجتمع.
2 -
أن العالم وإن تميز بالقدرة الفائقة على نقد الفكر المخالف، وبيان الخطأ والانحراف بالدليل والبرهان، فإنه إذا لم تكن سلطة تدعمه وتسانده لن يكون لقدراته ومواهبه الأثر المرجو في إحداث التغيير المنشود.
الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
واجه الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب واقعا فيه انحراف عقدي تتفاوت درجاته من بلد لآخر، وقد كان جهده المشكور وعمله المشهود في حماية المجتمع من مظاهر الانحراف الفكري واضحا ملموسا، إذ أدرك رحمه الله أهمية النصرة السياسية للدين وأهله، فحرص على أن يكون معه في الدعوة صاحب ولاية ينصره للقيام بالدعوة وما تتطلبه.
ونجح أول الأمر في العيينة وقام بأعمال ملموسة لحماية المجتمع
من مظاهر الانحراف الفكري ومن ذلك إزالة المشاهد التي يحدث عندها صور من الغلو.
وبعد تخلي ابن معمر أمير العيينة عن نصرته وطلبه من الشيخ مغادرة العيينة، توجه للدرعية، ويسر الله له أميرا آخر نصره وثبت على نصرته وهو الإمام محمد بن سعود رحمه الله مما أدى إلى قيام دولة للدعوة امتدت إلى ما بعد وفاته رحمه الله.
والمتأمل في منهج الإمام المجدد تتضح له حكمة الإمام وبعد نظره حيث حرص على وجود سلطة تدعم الدعوة وتؤيدها.
وأما جهود الشيخ في مواجهة الانحراف الفكري فأشهر من أن تذكر ولكن سألخص طرفا منها فمن ذلك:
أ- اعتناؤه بتأليف كتاب يعنى بتصحيح تلك الانحرافات السائدة في البيئة التي وجه الدعوة إليها.
ب- عنايته في التعليم والدعوة بالتوحيد وتصحيح العقيدة.
ج- حرصه الشديد على إيجاد طلبة علم، يقومون بتبليغ العلم والدعوة.
د- عنايته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هـ- إزالته للمشاهد الشركية.
ومواجهته الحازمة لأي انحراف فكري وتصديه له، وكشفه، ورد شبهات أهله.